رؤية ما وراء الحجُب
أمضى جيمي ما تبقَّى من ذلك الأسبوع، بخلاف الوقت المستغرَق في تنفيذ النظام الذي وضَعه لنفسه، في الحديقة ومع الكتب. وأصبح في رعايتِه الأشجارَ والزهور ماهرًا وخبيرًا. إذ كان قد تعلَّم كيف يجعل الزهور مزدهرةً وصحيحة في مناخ نيو إنجلاند الفقير. لكن مع وجود المياه بوفرة، وشمسٍ لا تكاد أشعتُها تنقطع، ونهاراتٍ دافئة وليالٍ باردة، ضبابية في أحيانٍ كثيرة جدًّا، وجد جيمي نفسَه يواجهُ وجهًا مناقضًا لكلِّ ما عرَفه عن البستنة. ومِن ثَم تعلم سريعًا جدًّا أن مهمته في الأرض شديدة الثراء بأشعة الشمس والمياه، لا أن يُحفز الزهور على النمو، وإنما أن يُشذبها حتى يوجِّه طاقة النبات نحو إنتاج الزهور مباشرةً. كذلك تراكمَ لديه الكثيرُ من المعرفة بالحدائق من مارجريت كاميرون، أشياء عملية كانت قد تعلَّمتْها بالتجارِب: كيف يُفكك التربة، وكيف يُسمدها، وكيف يَرْويها بحرصٍ وبالقدر اللازم. وتعلَّم جيمي بالفعل كيف يُشذب النباتات محقِّقًا الهدفَ المرجوَّ. وسريعًا ما تعلم ماذا يفعل للحفاظ على الزهور بدلًا من الأوراق.
ظل طَوال الأسبوع يتطلع إلى يوم السبت، ويخطط لليوم الذي سيذهب فيه هو والكشافة الصغير لزيارة سيد النحل. وقد حدد ميعاد ذَهابهما عند الساعة الثانية. وفي الساعة الثانية وخمس عشرة دقيقةً تدلَّى الصغير من فوق سياج الأوتاد الخشبية العالي وجاء يَعْدو في الممشى. وكان جيمي مندهشًا بعضَ الشيء. إذ توقع، من السلوك السلسِ العملي الذي أدار به الكشافةُ الصغير المعركة مع الهنود، أن يُبديَ القدر نفسَه من اليقظة والمسئولية في الحفاظ على مواعيده.
كان منتظرًا على المقعد تحت شجرة الجاكرندا حين طار الجسد الصغير من فوق السياج. وحين تأمَّل الكشافة الصغير عن قرب، خال لجيمي أنه اكتشف آثار دموع سالت حديثًا. كانت أشفارُ عينيه فيها شبهة احمرار، ووجنتاه يَشوبهما أثرٌ لا ريب فيه لحزنٍ طفولي. في الحال انتفض قلبُ جيمي احتجاجًا. من ذا الذي سوَّلَت له نفسُه إيذاء الكشافة الصغير؟ ماذا، غير قرصة نحلة، يمكنه أن يدفع للبكاء روحًا صغيرة غايةً في الشجاعة؟ من دون التمهُّل للتفكير، مد جيمي ذراعَيه. ومن دون التردد لحظةً سار الكشافة الصغير إلى ذراعيه مباشرةً ووضع رأسه مطمئنًّا على صدره، فضمَّ جيمي ذراعيه حوله بإحكام.
«هل سقطت وأصابك أذًى؟»
استطاع جيمي أن يشعر بهزة النفي في كتفَيه والغصَّة في حلقه.
قال جيمي: «معذرة، لكن لكي لا نتأخر على سيد النحل؛ لا بد أن نغسل وجهك ونمضي.»
وفي الحال وقف الكشافة الصغير منتصبَ القامة.
«نغسله! نغسله! ألا تستطيع أن ترى من نظرةٍ واحدة لي أنني قد تحمَّمتُ بماء ساخن وفُركت وتمشَّطتُ تمشيطًا عنيفًا؟»
قال جيمي: «يبدو عليك فعلًا أنك قد تحمَّمت جيدًا.» وتابع: «إنها منطقة عينيك فقط التي بحاجةٍ إلى اهتمام بسيط.»
فقال الكشافة الصغير: «أوه، حسنًا، ما دمتَ تقول إنني بحاجةٍ إلى ذلك فأظن أنني بحاجةٍ إليه. لقد واجهتُ مشكلة طالت كثيرًا جدًّا مع أمي والأميرةِ حتى إنني ظننتُ أنني لن أخرج أبدًا. تُتعبني النساء أشدَّ التعب!»
«ماذا حدث مع السيدات؟» سأله بينما يتقدمه إلى الحمام، ثم بلَّل قطعة قماش، وبدأ العمل ليتأكدَ من إجرائه على نحوٍ صحيح. وقد فوجئ بأن الصغير وقف ساكنًا ورفع إليه وجهَه راضخًا، وبينما راح جيمي يعمل، واصل الطفلُ الكلام فقال:
«أوه، أمي دائمة التذمُّر بشأن تنظيف أظفاري وإخراج الشمع من أذنيَّ، والشعر الهائش في رموشي وأظافر قدَمي المغروسة في اللحم! إنك لتُرهق نفسك إذا حاولتَ أن تُعطي أي اهتمام لكل الأشياء التي تريدها النساء. أما بخصوص الأميرة، فإنني سأتنازل عن أفضل مِطْواة جيب لديَّ إذا وافق أبي على رَفْتها.»
قال جيمي: «يَرفُتُ أميرةً؟» وتابع: «إنك تقترح إجراءً غيرَ لائق. من المفترض أن تعُامَل الأميرات بقدرٍ كبير جدًّا من الاحترام.»
هز الصغير كتفَيه النحيفتَين وأصدر صوتًا من أنفه.
«حسنًا، هذه الأميرة التي تعمل في مطبخنا منحدرةٌ من مكانٍ ضئيل الأهمية في أوروبا، وهي معتادةٌ على أن تُخدَم هي نفسها، ومِن ثَم فإنها تعرف تمامَ المعرفة كيف تخدم الآخَرين. لكننا جميعًا نُضطرُّ إلى أن نتصرفَ بقدرٍ كبير جدًّا من الموارَبة. ومن المعتاد جدًّا أن تُناديَنا هي بأسمائنا وتقولَ أي شيء بأسلوبٍ سافر. وعليك أن تُراوغ كأنك كشافةٌ هندي لتنقلَ لها أنك تريد كميةً أخرى قليلة من الزُّبْد على خُبزك المحمَّص، أو أن مربى الفراولة ليست طيِّبة. ما الجدوى من كلِّ هذا العناء؟ أما عن الملابس، فكلاهما تُثير حنقي! كان ذلك سببَ هذه المشاجرة! لقد أردتُ أن أرتديَ ملابسي، بحيث أستطيع عند عودتي أن ألتقيَ برفاقي لننزلَ إلى الشاطئ لتمثيل معركة. بينما أصرَّت أمي أنه لا يمكن الذَّهابُ معك ولا يمكن الذهاب إلى المستشفى من دون التأنُّق مثل …» أمسك الكشافة الصغير عن الكلام ودب إصبع قدم غاضبًا في البساط المسجَّى أمام الحوض، ثم ختم حديثه «حتى أبدوَ مثل مخنَّث فلا يتعرف سيدُ النحل عليَّ! ولأقصَّ عليك الأمر بإيجاز مثل الإعلانات المبوبة، لقد اضطُرِرت إلى ارتداء الملابس التي أرادَتاها واضطُرِرت في الوقت نفسِه إلى الخروج خِلسةً بالأشياء التي أردتُ ارتداءها وإخفاءها في سياج من الأشجار على بُعد بيت أو بيتين في الشارع، وكان عليَّ بعد ذلك الاختباءِ عند السياج وإحضار الملابس والعثور على مكان أستطيع تبديل ملابسي فيه، ولست متأكدًا بالمرة إن كنتُ سأجد أشيائي حيث تركتُها عندما أعود. هكذا أضطرُّ دائمًا إلى إهدار الكثير من الوقت والانزعاج بكثرة!»
قال جيمي بتأنٍّ: «فهمتُك، لكن ألم تُرد أن ترتديَ أفضل ملابسك وأنت في زيارةٍ لسيدٍ كريم جدًّا، وأنت تُحبه حسَبما أخبرتني عن محبتك لسيد النحل؟»
شد الكشافة الصغير قامته وتنهد تنهيدة عميقة. وأتى الحركةَ التي صارت جزءًا لا يتجزأ من شخصية قائد الكشافة.
«أما محبة سيد النحل؛ فإنها ليست من الأشياء التي أودُّ الحديث عنها. فهي من المشاعر التي يجدرُ بالمرء التكتمُ عليها، حيث إنها لا تخص أيَّ أحد. لو كان في الأمر أيُّ منفعة لسيد النحل، لكنت تحملتُ أي مشقة للقيام به؛ لكن ما دام محضَ هُراء، فما الجدوى منه؟ إن سيد النحل يُحبني وإلا ما كان سيطلب رؤيتي، وهو لم يرَني قط متأنقًا كما أنا الآن!»
تلوَّى قائد الكشافة، ومدَّ ساقًا غطاها جوربٌ وحذاءٌ من جلد لامع.
«فلتنظر إليها! ألا تُثير اشمئزازَك؟ ما فائدة السيقان إذا كنت لا تستطيع أن تستخدمَها وحدها؟ مَن الذي اخترع الجوارب من الأساس؟ إنها أشياءُ شائكة وتُسبب حكَّة، وفي بلدٍ لن تحتاج إليها فيه! لتعلم أنني كنتُ سأخلع جواربي أيضًا، لكنني أدركتُ أنني تأخرت. هيا بنا، لنذهب!»
علَّق جيمي قطعةَ القماش، واستخدم المنشفة، وشرَع يستخدم المشط. فتراجع قائدُ الكشافة بيدَين ممدودتين.
وصاح: «لا، لا تفعل ذلك!» وتابع: «ليس مسموحًا لي باستخدام أمشاطِ أناسٍ آخرين. فقد يكون بها رتيلاء (نوع من العناكب) أو هيلية (عَظاءة أمريكية ضخمة) أو أُخطبوط!»
وضع جيمي المشط مكانه ومدَّ يده. فوضع قائدُ الكشافة يده القوية المليئة بالندوب النحيلة في يده وسار بجانبه برَزانةٍ حتى اجتازا البوابة الأمامية.
حينئذٍ نظر الطفلُ لأعلى وقال: «أعتقد أنه من الأفضل أن نُفلت يدي من يدك الآن. فربما أفقدُ عرشي، إذا رآنا أحدٌ من الرفاق. وفتيانُ الكشافة هم كل ما أستطيع السيطرة عليه هذه الأيام، على أي حال.»
وحين بلَغا الترام واتخذا مجلسهما، أحنى جيمي بصرَه إلى الجسد الجالس بجانبِه وخالَ له أنه نحيفٌ جدًّا، وأن حالته الجسدية لا ينبغي أن تكون هكذا.
فسأله: «هل تُمانع إخباري كم تبلغ من العمر؟»
فقال قائد الكشافة: «لا، لا أمانع. أبلغ من العمر عشرَ سنوات، ودعني أخبرك بأنني عشتُها بالتمام والكمال! لقد عشتها من المحيط الأطلنطيِّ إلى المحيط الهادئ، وعشت في مدن حيث عليك دائمًا التهربُ من الشرطة، وقطَّاع الطرق والخاطفين، في خيال أمِّي. لكن لا يمكن لخاطفٍ أن يلمسَني ولو من بعيد. فهم يرَون أنني شديدٌ تمامًا!»
ارتأى جيمي أن أفضلَ سبيلٍ للحصول على معلومات هو التزامُ الصمت، فلم ينبس بكلمة.
«لقد ركبتُ سفنًا وقواربَ وزوارقَ بُخارية وجدفتُ بزوارقَ وسافرت في قطارات من نيويورك ليميتد (قطار سريع كان مخصَّصًا للطبقة العليا من المسافرين) إلى قطار ميشنري، وصدِّقني لقد ظللتُ منتبهًا ومصغيًا طوال الطريق! حين سافرنا آخِرَ مرة فاتنا قطارُ ليميتد الذي حجزنا فيه فكان أمامنا إما ركوبُ قطار ميشنري أو البقاء خمسة أيام في شيكاغو، وما كان أحدٌ منَّا يستطيع البقاءَ فأخذنا قطارَ ميشنري. وقد ناموا جميعًا مثل الموتى، أما أنا فلهَوت كثيرًا، ودَعْني أُخبرك بشيء، لقد زادت نقودي للغاية. إذ كنتُ أتجول في العربات وأقول بأسلوبٍ لطيف ومهذب للناس الشاعرين بالحرِّ ومتَّسخين: «سأُحضر لكم شربةَ ماء طيبة باردة مقابل خمسة سنتات.» وإن بدَوْا في غاية الثراء أجعلها عشَرة؛ لأنهم ينخدعون أكثرَ منَّا. كان لا بد أن تراهم والخدعةُ تنطلي عليهم! لقد كسبت الكثير جدًّا من النقود فجمعتُها داخل حقيبتي في مقصورتنا الخاصة، وقد رأتني نانيت فصاحت منادية على أبي، فقلت لنفسي: «سأخسر كل شيء».»
«حسنًا، وهل حدث ذلك؟» سأله جيمي.
«ليس تمامًا. إذ لم يكن أبي وأمي موجودَين. في البداية بدَت جامعةُ التذاكر في حَيرةٍ من أمرها، لكنها في النهاية استغرقَت في الضحك حين أخبرتُها أن المال كان حصيلةَ استغلال الأغنياء العاطلين لعامة الشعب، فقد كانت شخصية طيبة. وقالت إن باستطاعتي الاحتفاظَ به إذا تقاسمتُه مع دار تقويم العظام. وكنتُ على استعداد لأن أفعل ذلك.» هنا توقف الكشافةُ الصغير عن الكلام. ثم تابع: «هل سبق وحمدتَ الرب لكونك سريعَ الحركة؟»
قال جيمي بحماس: «أجل!» فابتسم الكشافةُ الصغير وواصل كلامه: «لقد قمتُ بالكثير من العمليات الاستكشافية في الأنحاء مع فِتيان الكشافة، وقد لازمَتني بطبيعة الحال في المدرسة في بعض الأحيان. أما أمِّي فهي ليست بطيئة للغاية، لكن أبي يمكنك أن تتعلم منه بضعة أشياء! قد تظن أنه رجلٌ غير نشيط! لكن على العكس؛ إنه يعمل محرِّرَ أخبار محلية في جريدة كبيرة، وقد ظل طَوال عامين يُحلق في طائرة استكشاف فوق ألمانيا، ويعلم كيف تصوَّر الأفلام. إن أبي شخصٌ شديد النشاط!»
قال جيمي: «سوف أقابله ذاتَ يوم قريبًا.»
رفع الكشافة الصغير عينَيه سريعًا.
«أين؟»
كان الاستفسار مقتضَبًا وحادًّا.
«حين اتصلت بهاتفك لأخبرك بشأن اليوم، دعتني أمُّك للعشاء.»
بدا الامتعاض على وجه الكشافة الصغير.
«أف!» جاءت الصيحة مفعَمة بقدرٍ بالغ من الاستنكار لا يَخفى عن الملاحظة.
«بالطبع إذا كنتَ لا تريدني أن آتيَ …»
هنا قال الصغير: «ها هو أمرٌ آخر من تلك الأمور المزعجة. أريد بالطبع أن تأكل! يمكنك أن تأكل ما شئت من الشمام والكركند والمشروبات المعدَّة في البيت؛ فإنني لا أبالي البتة. لكن ما فائدة إقحام أمي وأبي ونانيت وجيمي والعائلة المالكة للدنمارك في علاقتنا؟ لماذا لا نكتفي بالاستمرار في صداقتنا كما نحن؟»
قال جيمي: «حسنًا.» وتابع: «لن أفكر في القدوم إذا كنتَ لا تريدني.»
قال الصغير: «ها أنت تُكررها مرةً أخرى!» وأضاف: «هل قلتُ مطلقًا إنني لا أريدك؟ هل قلتُ قط إنني لست منجذبًا إليك غايةَ الانجذاب؟ هل قلت مطلقًا إنني لا أصبح في أحسن حالاتي في كل مرة أراك فيها؟ لا، لم أفعل قط! لكن لمجرد أنني أقول إنه ثمة أماكنُ أريد أن أراك فيها وأماكنُ أخرى لا، تتسرَّع وتجعل الأمرَ يبدو كأنني لا أريد أن أراك في أيِّ وقت ولا أي مكان! ظننتُ من وجهك أنك ستكون شخصًا منصفًا!»
فقال جيمي: «حسنًا، إنني أحاول أن أكون منصفًا.»
قال الصغير: «حسنًا، لقد خانك الحظ، وحِدْتَ تمامًا عن الحق! ما دمت تعتقد أنك منصفٌ حين تخبرني أنني لا أريدك لمجرد أنني لا أريد أن أراك في أماكنَ معينة! ألا يمكن لأي شخص أن يكون لديه أسباب؟ ألا يمكن أن يكون للمرء بعضُ الأشياء التي لا يريد أن يجهر بها على الملأ؟»
مدَّ جيمي ذراعه ووضعها حول الصغير وجذَب جسده الضئيل إليه فوجد أن الجسد الذي ضمه إليه كان يرتعدُ من رأسه إلى قدميه.
فسأله جيمي: «هذه المرحلة شاقةٌ عليك، أليس كذلك؟»
فأجابه الكشافة الصغير: «أعتقد أنها لا بأس بها.» وتابع: «إنها المرحلة نفسُها التي يمرُّ بها الأطفال الآخرون، والكثير منهم يزدادون سِمنةً فيها. فلتنظر إلى بيل السمين الطيب إن كنت غيرَ مصدِّق. كل ما في الأمر أنني أحيانًا أكاد أُدرك أن عملي هو كلُّ ما أستطيع القيام به.»
فسأله جيمي: «ما المشكلة؟»
«حسنًا، أعتقد أنك تعرف كيف يتأتَّى لك أن تُصبح قائد كشافة، أليس كذلك؟»
ولأن جيمي كان يريد معلومات، فقد قال إنه ليس متأكدًا.
فهز الكشافة الصغير كتفَين ساخطين.
«حسنًا، أما أنا فمتأكد! متأكد تمامًا أنك تُصبح قائد كشافة من خلال السيطرة على فتيان الكشافة، تلك هي الطريقة! إذا قفزوا، قفزتَ أبعدَ منهم. وإذا وثبوا، وثبتَ أعلى منهم. وإذا ركَضوا، بسَطتَ جَناحَين أبيضين وسبقتَهم. وإذا ركبوا دراجات، استلقيتَ فوق المقوَدِ ونهَبتَ الأرض كمن يفرُّ بحياته تاركًا الباقين يتأخرون خلفك. وإذا جدفوا بزوارقهم، قلبَت أمواجُ زورقك زوارقَ الباقين. وإذا كانت مباراة ملاكمة، فعليك أن تتمرَّن جيدًا جدًّا على الجوجوتسو بحيث تستطيع أن تُطوِّح أي واحد في المجموعة في أي اتجاه تريده أن يندفعَ فيه. أن تكون قائدَ كشافة هو أن تُسيطر على الجماعة، وإن بيل السمين الطيب يتطلَّب مني أن أبذل بعض جهدي لأسيطر عليه! أما الطفل المطيع فأمرُه أسهل، لكن دعني أقُلْ لك إن ذا الوجهِ الملائكي بدأت تنمو له عضلاتٌ حديثًا! وهو لم يكن في حالة جيدة قبل ذلك. إذ كان يشكو من التهابِ الزائدة الدودية. كان حسبُك أن تتغلب عليه بضربة خفيفة في أيِّ مكان في نطاق جانبه الأيمن فتجعلَه في جهد شديد. لكن تبدَّل حاله الآن وصار سليم الجسد. وسوف يُصبح رجلًا ضخمًا كبيرًا قويًّا. وخلال عام آخرَ فقط سيكتشف الأشياء التي أعرفُها الآن، وإذا صار لديه ما لديَّ من معلومات، فسوف يعلم أن سيطرتي عليه الآن ليست إلا من قبيل الحظ. ومتى يكتشفون ذلك فسيتمرَّدون عليَّ، وسيحقُّ للشخص الذي يستطيع السيطرةَ على المجموعة أن يستوليَ على العرش. لقد عرَفت ذلك من كتاب تاريخ، وإنها معلوماتٌ قيمة. تبدو مزعجة، لكنها بيانٌ واضح بالحقائق. إن قائد الكشافة والمزعج هما الشيء نفسُه.»
قال جيمي: «بعبارة أخرى، أنت تُبالغ في العمل الشاق. لقد تدرَّبتَ حتى بالغتَ في إنقاص وزنك لأقصى حد، وبينما ازداد الباقون قوة، فقدتَ أنت قوتَك. أليس ذلك هو جوهرَ الأمر؟»
استغرق قائدُ الكشافة في التفكير.
«أعتقد أن المسألة الحقيقية على وجه التحديد أنني واحدٌ وهم ثلاثة، وفي بعض الأحيان يُلحُّون إلحاحًا شديدًا حتى نضمَّ اثنين أو ثلاثةً آخرين فلا أستطيع أن أُخضِعَهم؛ عليَّ إما أن أبسطَ سيطرتي عليهم أو أتركَهم. تكاد تنفدُ مني طاقتي تلك الأيام. وتقول نانيت إنني أظل أتشاجر وأتقلب في الفراش وأركل حتى أتطفلَ على منطقتها أحيانًا، لكنها لا تعرف عني شيئًا تُعايرني به. فإنني لم أُصَب قط بحالةٍ هيستيرية وصرختُ حتى أيقظتُ أُسرتنا لمجرد أن السلاحف لم تأكل جثةَ الغريق بالكامل!»
شد جيمي ذراعه حول قائد الكشافة ومال بجسده فجعله كنفًا مريحًا، وخلال ثلاث دقائق كان يضمُّ إليه الصغيرَ المتعب لحدِّ الإنهاك في منتصف اليوم والذي استغرق في نومٍ عميق.
حين وصلا إلى المستشفى هز جيمي قائدَ الكشافة برفق، فاستيقظ الصغيرُ في الحال بعينين تطرفان وابتسامةِ تودُّد، استعدادًا لإثبات أنه لم يكن الشخصَ الذي استغرق في النوم؛ فذلك الشخص دون الكل منتبهٌ دائمًا وطالما كان كذلك. وبمجرد دخولهما المستشفى مدَّ قائد الكشافة يدَه إلى يد جيمي، وتزاحمَ معه، وسار إلى المصعد وراح يخطو مثل القِطة في الأروقة الطويلة.
من الواضح أن قُدومهما كان متوقَّعًا. فقد كان بابُ سيد النحل مفتوحًا؛ بينما مُدَّ ستار ليحجبَ الفراشَ عن أعين العابرين. أرسل قائدُ الكشافة نظرَه في أنحاء الحجرة ونحو النافذة المفتوحة، ثم لكزَ جيمي بمرفقه لكزةً حادَّة.
«هل لاحظتَ أن ورود مارجريت كاميرون تتناقصُ تفتحًا مؤخرًا؟»
كان الصوت هامسًا؛ لكن سمعه جيمي وابتسم حين لاحظَ الزهور، ثم سمع همسًا آخر.
«إنها دائمةُ التقرب إليه. فهي تعتقد أنه من ممتلكاتها الخاصة. لقد أوشكَت أكثرَ من مرة أن تُضحيَ بأغلى ما لديها مقابلَ أن أرحل لمنزلي، لكن ما دام سيد النحل يقول «ابقَ»، فسأبقى!»
دار جيمي حول الستار وتبعه قائدُ الكشافة وظل واقفًا في الخلف حتى صافحَ جيمي سيدَ النحل وتنحَّى جانبًا. عندئذٍ تقدم الكشافة الصغير قبالةَ فراش سيد النحل، بعينين متسعتين، وألقى نظرةً متملية فتبدَّل لونه، تبدل رويدًا من شفتَين حمراوَين ووجنتين مضرَّجتَين حمرةً إلى اللون الأبيض. لكنه ضمَّ كعبيه محدِثًا صوتًا. ووقف الجسد مستقيمًا بشدة. كانت التحية حسَب الأصول وسريعةً لأقصى درجة. وكانت الابتسامة المنبسطة على أساريره الصغيرة وَدودة. فمدَّ سيد النحل يدَين مرتعشتين وعلى نحوٍ مفاجئ — ظن جيمي أنه لم يرَ قط حركة سريعة جدًّا هكذا؛ فهو لم يعرف كيف قطعت المسافة التي بينهما — قفزَ الجسد الصغير وغاص في الفراش. وقد أحسنَ سيد النحل التقاطه، وإن كان قد التقط أنفاسه في الوقت نفسه؛ لأنه بُهِت من مفاجأة القفزة. لكنه ضمَّ الكشافة الصغير بشدةٍ بين ذراعيه، وتعلق الطفل تمامًا بصدر سيد النحل. أمسكتْ يدٌ صغيرة بالرأس العجوزِ الأبيض من الجانبَين، وانهال على وجه سيد النحل وابلٌ من القُبَل القصيرة الحارَّة من جبهته لذقنه. جلس الكشافة الصغير منتصبَ القامة على الفراش وإذ بغتةً تدفقَت دموعٌ كبيرة واحدةً تلوَ الأخرى على الوجه الطفولي، وانطلق نحيبٌ قصير حادٌّ جرحُه أنفذُ من السكين: «يا إلهي! أتمنى لو لم تُعانِ كلَّ ذلك العناء!»
كانت ذقن سيد النحل مرتفعةً إلى السقف. فرفع يده اليمنى وضمَّ شفته السفلى في ثنايا وأعطاها ضغطًا خارجيًّا ليدعمها.
وقال: «أجل يا صديقي، أنا نفسي فكَّرتُ في ذلك، وتمنيتُه نوعًا ما، لكن يبدو أن الأمر مقدَّرٌ في الخُطة الربانية، أو أنه نتيجةُ بعض الإهمال من جانبي في رعاية جسدي وأنا أتقدمُ في العمر، ومِن ثَم لا بد أن أتقبَّل العواقب. لكن لا تَشغَل بالك.»
قال الكشافة الصغير: «حسنًا، إنني منشغل!» ثم واندفعت يدُه إلى الخلف في اتجاه جيمي وقال: «إنه لا بأس به. إنه كشافةٌ بارع. فقد أحسن التصرفَ بالاختباء وراء الشجرة واستخدامِ ما وصلَت إليه يداه حين هاجمنا الهنود الحمر. إنه ماهر، ومن المؤكد أنه سيُفلح في العمل، لكنه يعلم أنه ليس مثلك.»
رمَق سيدُ النحل جيمي والتقت عيناهما واستقرَّت.
فقال لجيمي: «لتأخذ كرسيًّا. واقترب مني. أريد أن أخبرك بشيء، لكن أودُّ أن أسألك أمرًا أولًا.» ونظر إلى قائد الكشافة مباشرةً. وقال له: «هل أنت متأكد تمامًا أن الرجل الذي تركته ليرعى النحلَ هو الرجل المناسب؟»
فقال قائد الكشافة على الفور: «أجل، إنني متأكد.» ثم أضاف: «فلا يمكن لأحدٍ إقناعُه بالإقدام على خدعة حقيرة خسيسة لإنقاذك!»
فقال سيد النحل: «لا بأس إذن.» ثم اتجهَ نحو جيمي. وقال له: «وأنت؟ هل أصبحتَ إلى حدٍّ ما على معرفة بمساعدي الصغير هذا؟»
فقال جيمي: «أوه، لقد بدأنا.» وتابع: «لكن لم تسنَحْ لنا فرصٌ كثيرة. فالكشافة الصغير يذهب إلى المدرسة، كما تعلم.»
فقال سيد النحل: «حسنًا، ما يُهمني معرفته هو ما إن كنت ترى أن مساعدي الصغيرَ يتصرف بأمانة، ولا يأتي أيَّ حيلٍ وضيعة، وعلى استعدادٍ لمساعدة زميل آخر، ويعلم كيف يُحيِّي عَلَم بلدنا ويحترمُه، ويُبجل المُعطِيَ الأعظم على كل نعَمِه الطيبة الكاملة.»
جعل جيمي يُفكر لبرهة ثم هزَّ رأسه بالإيجاب.
وقال: «نعم، نعم، أعتقد أننا تقارَبْنا بعضَ الشيء بما يسمح على الأقل بالاطلاع على ذلك الجانب جيدًا. وأعتقد أنك إن بحثتَ في العالم بأسره فلن تستطيع أن تجد شخصًا صغيرًا أكثرَ منه أمانةً ليُصبح مساعدك في رعاية النحل.»
قال سيد النحل: «لا بأس إذن، هذا كل ما أردتُ معرفته. إن كان كلٌّ منكما يُحب الآخَر فحسب. إذا كنتما منسجمَين معًا. أردت فقط أن أعرف إن كنتما ستُحافظان على ازدهار الحديقة وصحةِ النحل، إذا اضطُررتُ إلى البقاء هنا وقتًا طويلًا، أو إذا تحسَّنتُ وكان عليَّ الذَّهاب في رحلةٍ طويلة جدًّا. إذا كنتما تدرسان الكتبَ باهتمام فستعلمان أن الأمر أشبهُ بحيلة؛ ستعلمان أنه ليس بالشيء الذي يستطيع أيُّ أحد أن يفعله، الحفاظ على رَخاء فدَّانين من النحل؛ لتظلَّ الحياة فيهما مزدهرة.»
ثم اتجهَ بالحديث إلى جيمي مباشرةً.
فقال: «ستأتيك أوقاتٌ يجب أن تستعينَ خلالها بمساعدة. وقد أخبرتُك بالرجل المناسب حين جئتَني هنا. إذا اتصلت بالسيد كاري وأخبرته بالظروف حين تجدُ أثناء الفحص أن الخليةَ الأخيرة من أحد القفائر قد امتلأَت، وأن النحل صار مضطربًا، فسيأتي ويُساعدك في جمع العسل. سوف يُريك كيف تفعل ذلك. ويمكنك بعد ذلك أن تُؤدِّيَ له الخدمة نفسَها، وبذلك لن يُضطرَّ أيٌّ منكما إلى تكبُّد نفقات الاستعانة بطرَف قد يكون غيرَ منسجم مع النحل. سوف يُعلِّمك ما هي أول علامات تعفُّن الحضنة وكيف تتولَّى أمرها، أما بقية الأمور فإن مساعدي الصغير هذا يستطيعُ أن يخبرك بأي شيء تريد معرفته بخصوص رعاية النحل. أليس كذلك يا صديقي؟» سأله سيد النحل، وهو يشدُّ ذراعه حوله.
أجابه الصغير: «بالطبع أستطيع!» وتابع: «لقد أطلعتُه على كل شاردةٍ وواردة أخبرتَني بها يومًا عن النحل. فإنني لم أنسَ مبادئ أيِّ شيء أخبرتَني به، وأستطيع أن أذكرَ بدقةٍ أيَّ شيء قرأتَه لي من الكتب. ربما لا أتذكر كل الكلمات الفخمة الرنانة، لكنني أنقلُ المعنى الصحيح.»
فقال سيد النحل: «أجل، أعتقد أنك تستطيع.» وأضاف: «أُقر لك بذلك. فإنني لم أقرأ لك أيَّ شيء قط وأخفقتُ في فَهم المعنى الصحيح.»
فقال الكشافةُ الصغير: «وأنت أيضًا كما تعلم تقرأ بطريقةٍ رائعة للغاية! فإنك تقرأ بتأنٍّ شديد، وتنطق كلماتِك بطريقةٍ تجعل أيَّ شيء تقرؤه تقريبًا كأنه شِعر، وتُعطي شروحًا بسيطةً حين تكون اللغة صعبة. حتى إن أي شخص يستطيع أن يفهم ما تقرؤه.»
وبعدئذٍ بحركة مباغتة انسلَّ الكشافة الصغير من الفراش، وبينما هو يستدير، مهَّد الغطاء ودبَّ يده عميقًا في جيب السروال وأخرج زوجَين من النرد متسخًا، مستدير الزوايا. ووضعه بزهوِ انتصار أمام سيد النحل.
قال قائد الكشافة: «لن أزعجك بلعب النرد معك اليوم. هذه أكثرُ المجموعات التي لديَّ جلبًا للحظ. سأتركها معك بحيث تلعب بها في الأوقات التي تتمكَّن فيها من الحصول على وسادةٍ لتستند إليها. هل الممرضات حمقاواتٌ للغاية فلا يعرفن كيف يلعبنَ معك؟ هل تستطيع أن تعلمهن كيف يُلقين النرد بطريقة صحيحة؟ هل تستطيع تعليمهن؟» وفجأةً أمسك قائد الكشافة عن الكلام. ثم تابع: «ما دام لدى إحدى النساء القدرُ الكافي من العقل لرعاية أناسٍ مرضى وإعطائهم أدويتَهم وتحميمهم ودهنهم وإزالة آلامهم، فأعتقد أنها تستطيعُ إلقاء النرد. إذن بالطبع سيُصبح لديك شخصٌ ليلعب معك. لكن لديَّ شعورٌ ما أنه لا يمكن أن يكون هناك أيُّ شخص يفعل أي شيء تمامًا كما نفعله أنا وأنت.»
نظر قائد الكشافة إلى سيد النحل ونظر سيد النحل إلى قائد الكشافة وابتسمَ كلٌّ منهما ابتسامةً نادرة الجمال حتى تبدلَت بها ملامحُ وجهه كلها.
«حسنًا، سأخبرك بسرٍّ بيني وبينك، فلا ندعُ ذلك الرجل الاسكتلنديَّ طويلَ القامة النحيف هناك يسمع ما نقوله، بالطبع، فإننا أصدقاءُ قدامى، ظللنا معًا سنواتٍ عديدة، وبالتأكيد لدينا أمور لا يستطيع أحدٌ غيرنا أن يفهمَها. ويَقنَع كلٌّ منَّا بصحبة الآخر أكثرَ من صحبة أي شخص آخر. لديَّ ممرضة لطيفة للغاية. وسوف تلعب معي، ولا أستطيع إخبارك كم أراك كريمًا لتتركَ لي مجموعتك المفضَّلة. سوف أرعاها أشدَّ رعاية، وإن تبيَّن أن الممرضة في غاية الحماقة لدرجة أنها لا تستطيع رمي النرد بطريقةٍ صحيحة، فسأطلب من جيمي أن يُعيدها إليك يومًا.»
هزَّ قائد الكشافة رأسه. ثم أخرج من جيبه الخلفيِّ لفةً صغيرة من المناديل الورقية. ومِن ثَم بسَطها وفتحها، وأمام عينَي جيمي وسيد النحل المندهشة ترامَت فوق الفراش يارداتٌ وياردات من الشرائط المصنوعة من الحرير الفاقع والساتان، والمزخرفة بالورود وبنقوشٍ مربَّعة ومخطَّطة. وقد أجرى قائدُ الكشافة أصابعَه بمهارة على المجموعة المبهرَجة لينشرَها.
«لن تَحزُرَ قط كيف حصلت عليها. قبل بضع سنوات، قبل أن تُقبل كلُّ الفتيات على طِلاء شفاههن ووجوههن مثل الهنود، ويُصَبْن جميعًا بداء القوباء، كنَّ مولَعات بالشرائط. كانت الشرائط منتشرةً للغاية. وكنَّ يُحبِبنها زاهيةً للغاية، وعريضة للغاية، ويابسة للغاية. اعتادت نانيت أن تبدوَ مثل طاولة الشرائط في متاجر ووناميكرز أو مارشال فيلدز أو روبينسونز حين كانت تنزل لتناوُل الفطور. وبعد ذلك، على نحوٍ مفاجئ» طرقع قائدُ الكشافة بإبهامه وسبابته ليوضِّح كم كان ذلك الأمرُ فوريًّا «على نحوٍ مفاجئ اختفَت الشرائط، وكانت نانيت قد أنفقت كلَّ مصروفها على الشرائط حتى إنها كانت تبدو نحيلةً وجائعة كلما مرَّت بكشكٍ لبيع السجق أو عربة لبيع المثلجات. أليست بديعةً للغاية! كم أحب رؤية نانيت وهي ترتديها. كانت تحبها زاهية لكن ليس للدرجة التي تروق لي وعريضة للغاية ومنقوشة بالزهور. كان لديها درجٌ مليء بها. لكن حين أصيبَت بالقوباء سألتها إن كنت أستطيع الحصول عليها. لكن كم هي مادية! لقد غرَّمتْني ربع دولار، لكنني دفعتُه لأنني كنت أعرف أنها تستحق. بعد ذلك أخذتها إلى الأميرة في المطبخ وأخبرتها أنها تستطيع الحصول على أكثرِ اثنين يروقان لها لصُنع حقائبَ تضعُ فيها خيوطها الحريرية المستخدَمة في التطريز إذا غسلت المتبقِّيَ وكوَته لتخلِّصه من كسراته، وجعَلَته يبدو جميلًا من أجلي. لم أكن متكاسلًا عن فعلِ ذلك بنفسي، لكنني لم أكن متأكدًا تمامًا من كميةِ الصابون الواجبِ وضعُها عليها أو نوعِه، كما أن استخدام المكواة الكهربائية مهارةٌ يجب تعلمها. لا يمكن أن تزيل حِملًا عن كاهلك وتُلقيَه على كاهل شخصٍ آخر إلا إذا كان ثقيلًا عليك، وهذا ما كان في مسألة استخدام المكواة الكهربائية. لا بد أن تعرف كيف تستخدمها لتُحقق النتيجة المرجوَّة.»
هز قائد الكشافة الشرائط.
«حسنًا، من الأشياء التي يمكن أن تفعلَها بها أن تأخذ كلَّ شريط منها على حدةٍ وتُمرِّره بين أصابعك وتتأملَ كم هو ناعم، وكم هي بديعةٌ الزهور التي تُزينه وكم هي جميلة ألوانه وكم هي منسجمة معًا.»
وعندئذٍ حمَل شريطًا رقيقَ الألوان قبالة عينَي سيد النحل.
وقال الصغير: «أوَتعلم؟ إن الرجل الذي ابتكرَ ذلك — إن لم تكن امرأةً — أيًّا كان الذي ابتكَره؛ كان مهووسًا بقوس قزح. أترى البنفسَجي والبرتقالي والأرجواني؟ هل ترى كيف تختلطُ الألوان وتمتزج؟ يكاد يكون مثلَ قوس قزح الذي وضعه الله في السماء ليُعطيَ إشارةً للبشر بأنه سيحافظ على عهوده مع الإنسان. م. أ. أي مدرسة الأحد.»
بأصابعَ مشغولةٍ بالشرائط، سدد قائد الكشافة نظرةً في اتجاه جيمي.
«هل لديك معرفة جيدة بالإنجيل؟»
فقال جيمي: «كان أبي قَسًّا. إنني على دراية تامة به.»
سأله قائد الكشافة: «إذن هل تعرفُ بأمر أقواس قزح؟»
فقال جيمي: «أجل. أعرفها.»
فسأله قائد الكشافة: «وهل تعرف أيَّ شيء يفوقها جمالًا؟»
فقال جيمي: «لا. لم أرَ في أدب أيِّ لغة من اللغات التي تعلَّمتُ قراءتها شيئًا أكثرَ جمالًا من الوعد المتجسِّد في قوس قزح.»
وقف قائد الكشافة ساكنًا. وسقطت يداه النحيلتان المسمرتان بين الشرائط. وارتفعت عيناه العميقتان المعبِّرتان الرقيقتان إلى عينَي سيد النحل.
قال قائد الكشافة: «هل تعتقد أن العهد بين الله والإنسان يُشبه قليلًا العهدَ بيننا بشأن النحل وبشأن أسرارنا؟»
كانت عينا سيد النحل الطيبتان العجوزتان رقيقتَين ورصينتين وكان صوتُه يَشي بالحب وهو يقول للطفل الصغير: «حسنًا، إن العهد هو كما تعلم تفاهم؛ إنه عادةً اتفاقٌ بين شخصَين فقط، اتفاق بخصوص شيء مهم وشيء ذي شأن.»
فقال الكشافة الصغير: «حسنًا، هكذا كان العهد بيننا، وإنني ما زلت أحفظه، وسوف أظلُّ أحفظه. وهذا الشريط، الآن هذا الشريط كأنه حوضُ زهور منظَّم باقاتُه مصطنعة تمامًا، وهذا منقوش بخطوط رومانية مثل الذي ارتداه بن هور (شخصية في رواية تاريخية تدور أحداثها في زمن المسيح، عولِجَت في عدةِ أعمال مسرحية وسينمائية) حزامًا حين قاد النَّسْر الطائر وقلبَ العقرب والدبران ورجل الجبار (الخيول الأربعة التي تجرُّ عربته في أحداث الرواية وهي مسماة بأسماء نجوم). يا إلهي! ويحي! ألن يصبح شيئًا رائعًا إن كان فعلًا لدينا الآن حَلْبةٌ وخيولٌ تُدار بأمانة وصدق مثل تلك وسباقاتٌ مثلُ تلك؟ أما في تلك السباقات التافهة الصغيرة التي تجري هنا فالخيالة يأتون ويُقررون نتيجة السباق قبل أن يُجْروه، ويُجْرون قرعة في الصباح ليُقرروا من يفوز في ذلك اليوم، يا للقرف! ألا تُثير اشمئزازك؟ لقد أصبح العالم في غاية الفساد حتى إنهم لم يعودوا يُقيمون معرِضَ الخيول الصغيرة!»
فقال له سيد النحل: «يؤسفني أن أقول إنك محقٌّ في كلامك. وإن لم نتوقَّف وقفةً صارمة، وإن لم نرجع إلى طريق الصواب، وإن لم نَثُب لرشدنا قريبًا جدًّا، فلن يتبقى لدينا الكثيرُ من الشرف القديم، الذي كان سائدًا بين الرجال، في أي مكان من هذا العالم سواءٌ في الرياضة أو العمل.»
وحين لاحظَ اليد القابضة للكشافة الصغير ووجهَه الكالح، أردف قائلًا: «هل ما زلت باسطًا سيطرتَك على فِتيان الكشافة هذه الأيام؟»
كانت هناك لحظةُ تردد من جانب قائد الكشافة.
«الطفل المطيع لا بأس به، أما بيل السمين الطيب وذو الوجه الملائكي فقد اشتدَّت عَريكتُهما كثيرًا. إذا تمرَّدا عليَّ كلٌّ على حدةٍ فسأستطيع السيطرة عليهما. لكن إذا جاء اليوم وجعل اثنان أو ثلاثة منهم يشاغبون مجتمِعين» هنا استقام قائد الكشافة ورفع وجهًا التوت قسماته في عبوس منزعج «فالويل لي!»
لم يقْوَ جيمي وسيدُ النحل على كَبْت الضحك، رغم الاحترام البالغ الذي يُكنَّانه لعقلية رفيقهما الصغير.
استأنف الصغيرُ كلامه فقال: «حسنًا، كما كنت أقول لك، تستطيع أن تتأمَّل جمالها، وتستطيع أيضًا أن تجدلَها. فقط اجعل إحدى الممرضات تُعطيك دبوسًا وابدأ باثنين ثم واصِلْ في حِياكتها هكذا، وبذلك تستطيع صُنع غطاء يكفي ليُغطِّي كتفَيك ويَقِيَك من الهواء البارد، وتستطيع أن تُجرِيَها مثل الأمواج، وتستطيع أن تلفَّها في دوائر. لا أعرف شيئًا أسهلَ أن تلهوَ به أو تحصل منه على تشكيلاتٍ أكثرَ وأنت مريض ومضطرٌّ إلى البقاء في الفراش من مجموعةٍ من الشرائط الجميلة. إنها تُبقي ذهنك مشغولًا بما تفعله، لكنها ليست مثل السوليتير (لعبة من ألعاب الأوراق التي يلعبها الشخص بمفرده) أو بعض الأشياء التي تستطيع أن تلعبَها بمفردك، لكن تجعلك تجتهد في التفكير لدرجة أن تُصاب بوجع في الرأس إن لم تكن تؤلمك بالفعل. والآن أعتقد أنه من الأفضل أن نرحل. فإن سيد النحل سيعتريه التعب. وأمي قالت إنني لا ينبغي أن أبقى طويلًا حتى يحلَّ برجلٍ مريضٍ التعبُ، وإنني لا بد ألَّا أتكلَّم كثيرًا حتى أجعله أسوأَ حالًا، وماذا قالت غير ذلك؟ صحيح، تذكَّرت. إنني يجب ألَّا يبدوَ عليَّ أنني أريد أن آكُلَ أي شيء؛ لأنه لا يوجد أي شيء للأكل في المستشفى.»
وبحركة متلكِّئة أقصى قائدُ الكشافة الشرائطَ المبهرجة، ورمَقها لوهلة باشتهاء، ثم انحنى على سيد النحل وطبَع قُبلة رقيقة على جبينه، وقال:
«لتكن فتًى مطيعًا وتناوَلْ دواءك ونَمْ حين تؤمَر وتعالَ سريعًا للمنزل، بأسرعِ ما تستطيع!»
وبذلك دار قائدُ الكشافة وخرَج على الفور من الحجرة.
انتظر جيمي لتبادُل بضع كلمات ثم تَبِعَه. وبمجرد خروجهما من المستشفى وعودتِهما إلى الشارع مرةً أخرى، رفع قائد الكشافة وجهًا محيرًا.
«إن لك باعًا طويلًا مع المستشفيات، أليس كذلك؟»
فصدَّق جيمي على كلامه.
فقال قائد الكشافة: «أجل، تبدو شخصًا تنتمي للمستشفيات الآن، لكن ليس كما كنتَ تبدو حين رأيتك أولَ مرة. حين رأيتُك أول مرة بدوتَ كأنك وحدك مستشفًى. لكنك لا تبدو إلا كنصفِ مستشفًى الآن. تبدو كأنك تنتمي إلى الحدائق بقدرِ ما تنتمي للمستشفيات. أعلمُ أنها ضرورية، لكن، يا للهول! أليسَت قاسية؟ كل شيء زلق جدًّا وهادئ للغاية وفي غاية النظافة، والكل يسيرون بحذرٍ ويهمسون. لو كان لديَّ ثروة، لو كان معي تلالٌ وأكوام من المال، كنت سأبني مستشفًى تُطل كلُّ نوافذه على مِضمار سباق حيث تستطيع أن تُشاهد سباق خيل وسباقَ سيارات مرتين يوميًّا، وكنت سأضعُ فِرَقًا موسيقية وأجهزةَ راديو وشاشاتٍ لعرض الأفلام. ويحي! إن المستشفياتِ الموجودةَ حاليًّا تُصيبني بالمرض من دون أن تكون بي علَّة!»
ثم أمسك قائدُ الكشافة بيد جيمي على نحوٍ مفاجئ ورفع إليه ناظرَيه.
«لتُخبرني، ما خطب السيدة كاميرون؟ ما الذي يجعلها تبكي كثيرًا جدًّا، ولماذا تبدو كأنها في جِنازة ولم يمُت أحد، ولماذا لم تَعُد لولي إلى المنزل؟»
فقال جيمي: «لتسمَعْني، إنك تسألُني أسئلةً لا أملك لها إجابة. أولًا: أنا لم أكن أعلمُ أن مارجريت كاميرون تبكي. ولم يخطر لي أنه يمكنُ لأي حدثٍ أن ينتزعَ الدموع من عينَي امرأةٍ رابطةِ الجأش للغاية مثلها. وثانيًا: ما أدراني أنا بأمر لولي؟»
فقال له قائد الكشافة: «حسنًا، عرفت أنها تبكي كثيرًا هذه الأيام لأني أجدُها عند نهاية خطِّ الترام حيث أنزل مع فتيانِ الكشافة لنلعبَ لعبة قاطعي الطريق في الوادي، ومغارة اللصوص في الجبال، ولنتعارَكَ بالرمال على الشاطئ، ولنسبَح. أجدها في المكان نفسِه الذي أراها فيه كل مرة حين أمرُّ، وفي كل مرة تقريبًا رأيتُها فيها مؤخرًا كانت تمسحُ دموعها. قد يكون بكاءً على سيد النحل، لكن لا جدوى من سكبِ دموعها في حينِ أنَّه من المحتمل أن يتحسَّن ويعودَ إلى المنزل. لو كانت على علم بأنه لن يعودَ أبدًا، كنت سأتفهَّم. أعتقد أنها تبكي من أجلِ لولي لأنها على ما يبدو لم تَعُد إلى المنزل، وحيث إنها ليست في المنزل، فإن السيدة كاميرون لا تعلم بالطبع إن كانت مريضةً أو بخير، وما دامت لا تعرف فلن يهدأَ لها بال.»
سكَت قائدُ الكشافة مستغرقًا في التفكير لدقيقة ثم واصلَ كلامه وقال: «أعتقد أنَّ ما قلته كان فيه بعضُ الحماقة. فإنَّ لولي تعمل بالتدريس في إحدى المدارس، وهي بالطبع لا تستطيع أن تأتيَ إلى المنزل حين تكون في المدرسة تعمل، إلى أن تأتيَ الإجازة على الأقل. إن كانت الإجازةُ بدأَت وكان باستطاعتها أن تأتيَ ولم تأتِ، فالأمر مختلف إذن، وعندئذٍ يُصبح هناك سببٌ للحزن.»
للاستمرار في المحادثة لا غيرَ؛ سأله جيمي: «هل لولي فتاةٌ جميلة؟»
وبينما كان قائد الكشافة يسير متخبطًا على الرصيف، متلفتًا يمينًا ويسارًا، متفاديًا المشاةَ، ومتفقدًا أرقامَ العربات المارة واتجاهاتها؛ ردَّ عليه قائلًا: «حسنًا! ربما تراها جميلة. إذا كنت تحبُّ الشَّعرَ بلون حلوى الدبس والعينين نَجلاوَين وزرقاوين والوجنتين متوردتين وابتسامةَ الأطفال وكنتَ مثل الموجة في البحر لا تُحسن التميز، بالقطع، عندئذٍ سترى لولي فتاةً جميلة. لكن إن سألتني رأيي، فسأقول إنك إن أردتَ أن ترى فتاةً جميلة، إن أردت أن ترى فتاة مخلصة وراقية وممتازة بحق، فلتلاحِقْ مولي بناظرَيك.»
فقال جيمي: «يبدو الأمر مثيرًا للاهتمام. هل تستطيع أن تدلَّني أين أذهبُ حتى «أُلاحق مولي بناظرَيَّ»؟»
فأجابه قائد الكشافة: «لا، لا أستطيع ذلك أثناء موسم الدراسة. الأمر يسير في العطلات، إلا إن كان الحال سيختلفُ في العطلة القادمة عن كلِّ العطلات الماضية. في كل العطلات الماضية، لبعض الوقت على الأقل، كانت مولي تعودُ إلى الديار ثم تذهب في نزهات وتتجوَّل معنا وتستكشف معنا، ونحظى بوقتٍ رائع حقًّا حين تكون مولي موجودة.»
«هل منزلها قريبٌ من هنا؟» سأله جيمي وقد بدأ يهتمُّ بالأمر.
فصاح قائد الكشافة: «حسنًا، يا للعجب! لقد عشت شهرًا بجوار السيدة كاميرون ولم تُحدثك قط عن مولي ولولي ودون؟»
فقال جيمي: «لقد تصادف أننا كلَّما تحدثنا معًا كان حديثُنا عن النحل والزهور والطعام. لكنها لم تُحدثني كثيرًا عن أبنائها.»
فقال له قائد الكشافة: «حسنًا، إنهم ليسوا أبناءها. أو على وجه الدقة مولي ودونالد ليسا كذلك. فإن مولي ودونالد توءمان وكان أبوهما والسيد كاميرون شقيقَين، وحين تحطم بهما كليهما القاربُ ليلةَ العاصفة الكبيرة، حسنًا، جاءت السيدة كاميرون بالطفلَين إلى منزلها وساعدَتهما في دراستهما، حتى استطاعت مولي أن تُصبح مدرِّسة وأمكنَ لدون الحصولُ على عمل. إنه كهربائي. يعلم الكثير عن أجهزة الراديو ويضع الأسلاك في مختلِف الأماكن. أعتقد أن تلك الأشياءَ تُسمَّى «تركيبات.» «تركيبات» هي الكلمة الصحيحة، أليس كذلك؟»
فقال جيمي: «تبدو صحيحة. ومن هي لولي؟»
«حسنًا، لولي ابنةُ مارجريت كاميرون قبل أن تتزوج. لا بد أنها كانت متزوجةً من أحد الرجال، في وقتٍ ما، في مكانٍ ما، ولا أعلم إن كان الموت الذي أقصاه أم قاضي الطلاق. يتراءى لي أحيانًا أنني أودُّ أن أصبحَ قاضيَ طلاق. سيكون من المسلِّي أن أسمع الناس وهم يحكون مُشكلاتهم ولماذا لا يستطيعون التوافق ومَن المسئول، فإنني أحيانًا أرى نساءً أودُّ لو أطلقهن تلقائيًّا من أي رجل. أرى الكثير من النساء اللواتي لا يَهتمِمْن بمنازلهن ولا يعتنين بأطفالهن ولا يكترثنَ بتاتًا إن كانت أظفار أقدام أطفالهن مقصوصةً أو كانت أذانهم نظيفة، وسائر تلك الأشياء، التي تُثير أمي ضجةً بشأنها دائمًا. وبطبيعة الحال، أرى بحقٍّ في الحياة أحيانًا من الرجال من يستحقُّون القمع.»
وعندئذٍ أنزل يديه وأرسلَهما بعيدًا. فكأن الرجال الذين يستحقون القمع قد قُمعوا في تلك اللحظة.
«هناك رجال، كما تعلم، تافهون للغاية ويُسرفون للغاية في احتساء المشروبات الكحولية المعدَّة في منزل، أو ربما في أي مكان آخر، حتى إنه لا يمكن لامرأة أن تعيش معهم وتحتفظ بكرامتها البتَّة. ربما لن يروقَ لي هذا الأمر. فقد تكون وظيفةً متعبة نوعًا ما. لست متأكدًا من أنني سأودُّ العمل بها. لكن دَعْني أخبرك بالأشياء التي أريدها بحق: سوف أموت محبطًا إن لم يتَسنَّ لي قط أن أجولَ في هذا البلد من المحيط إلى المحيط في سيارة! سيارة من النوع الذي به مقاعدُ أمامية تُردُّ إلى الوراء وتتحول إلى فراش، وخِزانة صغيرة وثلاجة ومطبخ، وحصائر للنوم وكل شيء. ربما أحصل على مقطورة. وقد ألتقط بعض الأشياء من الطريق وأعود بها من أجل حديقة أمي. لا أعلم ما الذي سأفعله على وجه التحديد، لكن تذكَّر قولي هذا؛ سوف أتحايل على الظروف بطريقةٍ ما حتى أستطيعَ أن أمضيَ في خُطتي في وقتٍ قريب! لا شك أن أفضل ما في الأمر هو التخييم على جانب الطريق والنومُ على الأرض، ومقابلة أناسٍ مختلفين ورؤية البلد، بينما لديك الوقت لرؤيته. فإنك لا تستطيع رؤيةَ الكثير وأنت منطلقٌ في قطار السكك الحديدية، وكل الأماكن التي ترى أنها قد تكون مثيرةً للاهتمام قليلًا أو ربما بها دبٌّ أو غَزال، أو قد يكون بها هنديٌّ أو قاطعُ طريق، هي الأماكن التي تنطلق فيها بأقصى سرعة.»
قال جيمي: «هذا حقيقي.» وأضاف: «حقيقي تمامًا.»
حينئذٍ جاء الترام فاتجه قائد الكشافة إلى رصيف المحطة قبل أن يتأكدَ جيمي تمامًا من أن الرقم والوجهة كانا صحيحَين وأن بإمكانه اتباعَه. ومرةً أخرى في طريقهما للعودة مال قائد الكشافة بحرِّية على جيمي وانتظر أن يُحيطه بذراعه، ثم غطَّ في سُبات عميق حتى جاءت اللحظة التي لم يكن فيها بدٌّ من الاستيقاظ.
وفي طريقهما بالقرب من كشك السجق عند أحد النواصي شعر جيمي باندفاع طفيف نحوَه حين نزل من الترام، فقال لقائد الكشافة: «أتعلم أيها الصغير، إنك «تحمل نفسك ما لا طاقة لك به مثل شمعةٍ تحترق من الناحيتَين» بلغة الكبار؟»
ومما أدهشه، أن قائد الكشافة أجابه ببيتِ شعرٍ ملائم إذ قال:
فقال جيمي: «قد يكون أسلوبًا لا بأس به، وقد يكون نوعًا من الفلسفة الملائمة للكبار، لكنها مؤذيةٌ للصغار. فلا يوجد أيُّ شيء مما تفعله يستحقُّ أن تُضعف نموَّك من أجله.»
«أضعف ماذا؟» تساءل قائد الكشافة.
فأجابه جيمي: «أقصد أنك تُجهد نفسك كثيرًا في التمرين وتنام قليلًا جدًّا، متَّبعًا نهجًا لا يَزيدك حجمًا ولا قوةً كما ينبغي لك. إنك تعاني إجهادًا كبيرًا للسيطرة على أولئك الصبية الضخام الثلاثة الذين تلعب معهم مما يجعلُك لا تكتسب في ساعدَيك وساقَيك قوةً مثل التي لديهم. إن لم تَرفُق بنفسك قليلًا وأكلتَ المزيد من الطعام المطهوِّ بطريقة صحية في المنزل وقلَّلت من تناول السجق أثناء جولات الكشافة، فسيُلمُّ بك ما تنبَّأت به بالضبط. ما دمت مزهوًّا للغاية لكونك قائدَ الكشافة، فمن الأفضل أن تتذكر أنك لا تستطيع الاحتفاظ بذلك المنصب إلَّا وأنت لائقٌ بدنيًّا. من المستحسَن أن تتوقف عن بعض الجولات وبعض المعارك والكثير من الأكل غير المنتظم.»
خاطبَه قائد الكشافة بسخرية: «يا للهول!» وتابع: «تتحدَّث كأنني مصابٌ بداء الفم والحافر.»
وعندئذٍ لقي جيمي وجهًا في غاية الجدِّية، ويدين مضمومتين وعينين مرتفعتين — خطر له لوهلة التعبير الذي كان معروفًا به في طفولته — حتى إنه لم يقْوَ على كبتِ الضحك.
قال جيمي برصانة شديدة: «أتعلم أنني أصبحت مؤخرًا أعتقد أن العمل واعظًا ليس بالعمل السيئ. فهناك أشياء كثيرة أسوأُ من محاولة نُصح رجال آخرين أن يتطهروا، ويسلكوا سلوكًا قويمًا، ويجتهدوا في العمل، وأن يكونوا رجالًا بحقٍّ معنويًّا وجسديًّا.»
تقدَّم قائد الكشافة في السير وسبقَ جيمي إلى كشك السجق. وكذلك أخرجَ من جيبه ثمن شطيرتين.
«سأدفع أنا اليوم! وإنه لمَعيبٌ نوعًا ما أن أجعلَك تدفعُ الحساب المرةَ الماضية حين كنا خمسةً وأدفعُه أنا اليوم ونحن اثنان فقط. لذلك سأدعوك أنا المرةَ القادمة ونصف مرة.»
ظل جيمي واقفًا يُحدق.
«هل تحسب نقودك حسابًا شديدَ الدقة؟»
فأجابه قائد الكشافة: «أجل.» وتابع: «فإن أسوأ المآزقِ التي قد تتورط فيها في هذا العالم هي تلك التي تقعُ فيها حين لا تُنظم أموالَك. يقول أبي إنه يعتقد أن كل المشكلات التي في العالم إن لم تكن بسبب النساء فهي بسبب المال، وفي أغلب الأحوال التي يكون فيها أحدهما هو المسئولَ عنها يكون الآخرُ ضالعًا فيها أيضًا.»
بعد تسوية الجزء النقديِّ من عملية الشراء، ولَّى قائد الكشافة كاملَ اهتمامه للسجق. بدا لجيمي في مزيجٍ الشطيرة ما كان يُريده هو الآخَر. لكن بدا له كذلك أنه لا يمكن له، في تلك المرحلة الحرجة، المشاركة في الوجبة التي فرضتها عليه رؤية قائد الكشافة للمكافأة المثالية. وقد تردد إزاءها للحظة، ثم حسَم أمره منتصرًا، وإن ساورَه قليلٌ من الخجل لفشله في أن يكون رفيقًا جيدًا.
فقال لقائد الكشافة: «أتعلم، لقد كنت عليلًا جدًّا، ولم أخرج من المستشفى وأبتعد عن رعاية الأطباء إلا منذ مدة قصيرة. وأعتقد أنه يجدرُ بي ألَّا أُعرِّض معدتي لتلك الوجبة الخاصة بك. سوف أذهب إلى المنزل وأتناول كوبًا من عصير البرتقال بدلًا منها.»
وقد لمس قلبَه بسحرٍ خاص أن قائد الكشافة قال من فوره: «حسنًا، سوف أذهب وأتناول معك عصير البرتقال، لكنني بدأتُ شراء الشطائر ولا يمكنني التراجع، مِن ثَم عليَّ دفع ثمنها وتناولها، لكن المرة القادمة سنحتسي عصيرَ البرتقال معًا، ما دام عصيرُ البرتقال هو المسموحَ لك حتى تستعيدَ عافيتك.»
بعد ذلك، وهو يسير هرولةً في الشارع بجانب جيمي، بعد أن أخذ قضمةً من الطعام المغري، قال قائد الكشافة: «يا إلهي! أليس من المزعج أن تكون مريضًا؟ لا أعلم ماذا كنت سأفعل إن لم أكن أستطيع تناول السجق متى أردتُه. فإنني لا أرى شيئًا يروق لي أكثرَ منه بين كل الأشياء المتاحة للأكل في العالم كله. أمي أيضًا تُحبه. أما أبي فلا يهواه كثيرًا لأن معدته تؤلمه بين الحين والآخَر. أظن أن ذلك بسبب عمله صحفيًّا محلِّيًّا وتغطيته لأخبار الحرب أيضًا. لكن حتى الآن، ولله الحمد، لم ينهَني أيٌّ منهما عن تناولها. وحين يأتي ذلك اليوم، سأقفز من فوق ذروة (لقد درست مصطلح «الذروة» في الجغرافيا) أعلى صخرة على الخليج وأرحل مع التيار.»
فقال جيمي: «ستكون فاجعةً مؤسفة. لماذا تريد أن تُسبب كل تلك التعاسة لأصدقائك وتحرمَ سيد النحل من مُساعده وتحرمَني أنا من الصديق الوحيد الذي لديَّ في العالم، إلا إذا كان سيد النحل قد قرَّر أن يصبح صديقي.»
قال الكشافة الصغير: «لقد أصبح سيدُ النحل صديقًا لك بلا شك.» وتابع: «لقد عرَفتُ أن سيد النحل صديقُك لحظةَ أن وقفتُ أمام شجرة الجاكرندا ورأيتُك جالسًا على مقعده الخاص. ألم تلحظ أنني واظبتُ على المجيء إليك؟»
فقال جيمي: «لاحظت بالتأكيد.» وأضاف: «بل إنني دوَّنت تلك الواقعةَ في ذاكرتي بفخرٍ وسعادة بالِغَين. سأظلُّ دائمًا أتذكر أنك منذ أبصرتني أولَ مرة ظللت تُواظب على زيارتي.»
فقال له قائد الكشافة: «لقد جرى الأمر نفسُه مع مولي». وتابع: «من بعدِ أول مرة لمحتها على الإطلاق ظللت أزورها. أقبلت عليها مباشرةً واقتربت منها بقدر ما يُمكنني الاقتراب في أول لقاء روحي. هل تعلم معنى «لقاء روحي»؟»
فقال جيمي إنه يعرفه.
«حسنًا، لا بأس. إنه مصطلح تافهٌ للغاية ظننتُ أنني لا بد أن أشرحَه لك مثل النحل وسائر الأشياء التي لا بد أن تَعِيَها. لكن لنعُد إلى مولي، إن بها شيئًا جذابًا. فكل واحد من الصِّبية أُولِع بها تمامًا كما تُولَع بكعكِ الحنطة السوداء وشراب القيقب أو فطائر الوافل التي تحصل عليها من بائع الوافل على الشاطئ، أو أيِّ شيء من تلك الأشياء التي تريد أن تحصلَ على أكبر قدرٍ ممكن منها كلما خطرَت لك وتريد العودةَ إليها بعد بضعة أيام لتحصل على المزيد. هكذا هي مولي. تهفو إليها بشدةٍ حين تراها وتشتاق إليها بالقدر نفسِه كلَّ بضعة أيام.»
قال جيمي: «احكِ لي عن مولي. فإنها تبدو مثيرةً للاهتمام.»
عندئذٍ كانا قد وصَلا إلى البوابة. ففتحها جيمي وتقدمَه قائدُ الكشافة إلى المقعد الموجود أسفلَ شجرة الجاكرندا.
«حسنًا، إن حكاية مولي حكايةٌ طويلة بعضَ الشيء. كان حظُّ مولي عَثِرًا. إذ تُوفِّيَت أمها وهي رضيعة، وبعد ذلك تُوفي أبوها. ثم ظلت مدةً طويلة تُعاني الأمَرَّين مع دون. فقد بدا كأنه مصرٌّ على أن يفعل أي شيء ما عدا ما تريده منه. حتى إنها ظنَّت عدم وجود أمل يُرجى منه أبدًا. بل إنها كانت على يقين قاطع بأنه سيسلكُ سبيلًا يَضِلُّ بعده ضلالًا شديدًا، ولا أدري إن كانت ستتمكَّن من إنقاذه أم لا لو لم تكن لولي موجودةً بجواره دائمًا. فلا أذكر مرةً منذ عرَفتُهم إلا وكان يراها كأنها فاكهة خوخ وكاكي وكمَّثرى عتيقة، وسائر تلك الأشياء الطرية. ولا أذكره إلا رافضًا أن يفعل شيئًا معينًا لأنه أمين وشريف ومستقيم، ولأنه الواجب فعلُه ولأن مولي تريد منه ذلك، في حين أنه قد يفعل الشيء نفسَه من أجل لولي إذا هي قبَّلتْه أو ربتَت عليه قليلًا أو ضحكت له أو استمالَته بالذَّهاب إلى حفلٍ للشباب. لكنني أحبُّ مولي لأنها ليست معسولةَ اللسان. إنها تدخل في صُلب الموضوع مباشرةً وتعرف هدفَها قبل أن تسعى إليه. فإن مولي لا تعرف اللفَّ والدوران بتاتًا!»
وضح قائد الكشافة بحركة سريعة من يده كيف تمضي مولي في أمورها.
«وأعتقد أنني حين أكبرُ وأرغب في عملٍ لأكسب منه قوتي، سأفضل العمل الذي اختارتْه مولي عن أي عملٍ آخر في العالم.»
فقال له جيمي: «لقد أدهشتَني.» وأضاف: «لقد حيرتني! كنتُ أعتقد أن التدريس في المدارس هي آخِر مهنةٍ قد تختارها في العالم.»
فقال له قائد الكشافة: «أجل، لكن يوجد حاليًّا أنواع مختلفة من التدريس.» وتابع: «إن التدريس الذي تُمارسه مولي ليس من النوع الذي في بالك. إنه ليس التزام الصمت في الفصل وملازمة مكان واحد وفعل الشيء نفسه مرارًا وتَكرارًا. يُسمى التعليم الذي تُمارسه مولي «تدريس التربية القومية الأمريكية». هل خطر لك قطُّ كم يمكن للفيفٍ كبير من الأطفال الصغار من حول العالم أن يكونوا ساحرين ومثيرين للاهتمام، الكثير من أطفال إيطاليا واليونان وإسبانيا والهند وهاواي واليابان والصين، كائنات صغيرة لطيفة للغاية وسمراء بعيون كبيرة مستديرة؟ لا بد أن تسمعهم وهم يُغنُّون نشيد «بك يا بلدي أتغنى!» لا بد أن تراهم وهم يُحيُّون العلم! لا بد أن تسمعهم وهم يتعلمون الكلمات التي تقول إنه لا يوجد في العالم بأسره بلدٌ كبير وجميل ويطيب العيشُ فيه مثل الولايات المتحدة. لا بد أن تراهم وهم يتعلَّمون أن أدمغتَهم خُلِقَت ليُفكروا بها، وأياديهم خُلقت ليعملوا بها، وأن أقدامهم خُلِقت ليسيروا بها، وأن عيونهم خُلقت ليرَوا بها؛ يرَوا ما أمامهم، ويرَوا كل ما حولهم. يا إلهي! كم أحب عمل مولي! أحب أن أساعدها حين تتنزَّه على الشاطئ معهم.»
قال له جيمي: «أنا نفسي أعتقد أن تلك المدرِّسة تبدو رائعةً للغاية.» وأضاف: «هلا اصطحبتَني ذلك اليوم حين تُدرس مولي مادةَ التربية القومية الأمريكية على الشاطئ؟»
قال قائد الكشافة: «سأفعل بالتأكيد!» وتابع: «ستُسرُّ مولي لرؤيتك. يسرُّ مولي دائمًا أن ترى أيَّ شخص مؤمن بأمريكا ومؤمن بالله. إن إيمانها بالاثنين قوي. وكذلك أي شخص يسلك سلوكًا قويمًا ويجدُّ في السعي ويتصرف بأمانة كما أخبرتك. لا بد أن تراها وهي تُصوِّب وتمتطي الخيل. لو كنتُ مليونيرًا وكان لديَّ فائضٌ من الأموال، كان أول شيء سأشتريه، بعد شراء حصان من النوع الذي أريده لنفسي، هو حصانًا من النوع الذي تريد مولي الحصولَ عليه.»
وإذا بقائد الكشافة ينهض.
ويقول: «لا بد أن أُهرَع حالًا إلى المنزل؛ فإني لا يكادُ يكون لديَّ وقتٌ لارتداء ملابسي الأخرى، في حالِ أنها لم تُسرق وتُصبح هناك كارثةٌ في انتظاري.»
«هل هناك أيُّ شيء أستطيع فعلَه لأجنبك المتاعب؟» سأله جيمي.
فأجابه قائدُ الكشافة: «ولا أي شيء يا عزيزي الطيب. ولا أي شيء. لكن شكرًا، أشكرك شكرًا جزيلًا على نواياك الطيبة.»
ضم قائد الكشافة كعبَيه محدِثًا صوتًا، ووضع كفَّه على بطنه، وانحنى. بعدئذٍ دار الصغير، ليمضيَ في الممشى. وبعد بضع خطوات استدار قائد الكشافة وهتفَ مجددًا قائلًا: «لم يتسنَّ لي الوقت اليوم، لكن ذكِّرني المرةَ القادمة حين آتي وسأؤدِّي لك حركتَي البطة العرجاء والدجاجة المبتلَّة. لقد ابتكرتُهما بنفسي. لا بد أن يكون معي ثوبُ السباحة ورصيفٌ للقفز لأؤدِّيَهما بشكل صحيح، لكن يُمكنني التظاهر بأنني ارتديتُ ثوب السباحة وأن الممشى هو الرصيف وتحته المياه، وأريك كيف تبدو. إنني بارعٌ في حركة الدجاجة المبتلَّة. أعتقد أنني أؤديها بأسلوب رائع.»
فقال له جيمي: «سوف أتذكر. سوف أتذكر بالتأكيد.»
انتظر جيمي قليلًا قبل أن يتَّجه إلى المنزل لأنه كان يحبُّ أن يرى الخفة، والانطلاق الحر، والرشاقة المطلَقة التي يَثِب بها الكشافة الصغير على السياج الفاصل بين أرض سيدِ النحل وأرض مارجريت كاميرون.
في الصباح التالي، قبل أن يمضيَ جيمي في سبيله إلى الشاطئ، دعا جارتَه لزيارته. وحيث إنها لم تَقُل شيئًا هي نفسها فقد تغافلَ عن أن عينَيها كانتا حمراوَين ويدَيها كانتا مرتعشتين، لكنه تساءل حقًّا. تساءل كثيرًا ما إن كانت لولي التي لم تَرُق له كثيرًا من وصف قائد الكشافة لها، أم مرض سيد النحل هو الذي أهمَّ امرأةً برقيِّ أخلاق مارجريت كاميرون.
تمدَّد جيمي على فراشه ووضع يديه على الضمادات التي غطَّت جانبه. ثم رفع ناظرَيه إلى جارته.
وقال: «مارجريت كاميرون، فلتحلفي يَمينًا!» وتابع: «ارفعي يدكِ اليمنى في الهواء وأقسِمي يمينًا مغلظة أنكِ ستُخبرينني ما إن كان شهرٌ من اتِّباع أفضلِ نظام استطَعْنا التوصلَ إليه قد أزال اللون والحرارة عن هذا الجرح ولو قليلًا. لم تُواتني الشجاعة لأراه بنفسي، فإنني لا أستطيع أن أواجهه جيدًا إلا في المرآة، وهي ليست كافية بالمرة. فهيا بنا!»
لم يدرِ جيمي، لم يدرِ حين أغمض عينَيه أن بشَرة وجهه كانت مشدودة بشدة على عظامه. ولم يدرك أن يدَيه كانتا ترتجفان وهو يرفعهما ليكشف عن الجانب الأيسر من صدره. ومِن ثَم جاءت مارجريت كاميرون إلى جانب الفراش وانحنت فوقه وأمعنت النظر.
«تحول تجاهي قليلًا!» نطقت الأمر بحدَّة.
تفتَّحت عينا جيمي فجأة، ومما رآه على وجهها راح قلبه يقفز، وقبل أن يعرف ما هو فاعلٌ قام وأمسك بيدَيها.
وصاح: «آه، يا مارجريت! هل أنتِ متأكدة؟ هل أنتِ متأكدة أنه تحسَّن لهذه الدرجة؟»
كانت مارجريت قابضةً على يدَيْه بقدر ما استطاعت.
فقالت له: «آه، يا عزيزي جيمي، إن اللون يتلاشى فيما يشبه المعجزة، ويبدو واضحًا وضوحَ الشمس أن الجرح بدأ يندمل من أسفل! إنه في سبيله لأن يَبْرأ، وكذلك اكتسَت ضلوعك وصدرك بمزيدٍ من اللحم! لم تَعُد هزيلًا جدًّا! كان قد خطَر لي أنني رأيت ذلك في يدَيك ووجهك، وإن كنا لم نهتمَّ كثيرًا بزيادة وزنك كما اهتممنا بمسألة تطهير الدم. لأننا إذا استطعنا تطهيرَ مجرى الدم، استطعنا في أي وقت البدء في اكتساب الوزن. أرى أنك سوف تنجو يا عزيزي جيمي. أرى أنك إذا ظللتَ متماسكًا واستمرَّ التحسن طَوال ستة أشهر، ستستطيع أن تقضيَ على تلك البقعة القبيحة. سوف تترك ندبةً بغيضة، لكن الندبات هي حصيلة أي حرب. إذا تطهر دمُك، وإذا تمكنتَ من الوصول لحالة تسمح بالعمل، فليس هناك ما يعوقك عن أن تُصبح الرجلَ الذي أراد الله أن تصير إليه حين وُلدت.»
وهنا ضمَّ جيمي مارجريت كاميرون بشدة بين ذراعيه وقبَّلَها مرةً تِلو الأخرى على أمِّ رأسها. ثم أطلقها ولاحقها بعينَيه متعجبًا، إذ كانت وهي تخرج من الباب الخلفي، يهتزُّ كتفاها ببكاءٍ أعمق وأطول من الذي قد تبكيه أشدُّ النساء حنانًا من فرحتهن بخطوة في الاتجاه الصحيح، حتى إن كان البكاء لجار عزيز جدًّا.
على مهلٍ تحول جيمي عن الباب الخلفي. وعلى مهلٍ عاد إلى الفراش الذي كان ممدَّدًا عليه. وعلى مهل جثا على ركبتيه وضم يدَيه المرتجفتين ووضع جبينه عليهما، وعندئذٍ، بخشوع، وبتأثر، من أعماق قلبه شكر الله.
ثم توجَّه إلى الثلاجة مباشرة واحتسى نصف لتر من عصير الطماطم.