حصاد العاصفة
بدأت الأيامُ تنسلُّ سريعًا. وحين أصبح جيمي أكثرَ درايةً بالعمل الذي عليه القيامُ به وجد أنه كثيرًا ما يستطيع أن يرى من تلقاءِ نفسه أشياءَ لم يُخبره أحدٌ بها، لكنها أشياءُ زادت نشاطَ النحل، أشياءُ أضافت إلى جمال الحديقة، أشياء أدَّت إلى إنتاج كمياتٍ أكبر من مختلِف أنواع الخضراوات. كذلك اكتشف أنَّ هناك أكشاكَ فاكهةٍ وخضراواتٍ في موقعٍ غير بعيد عنه على استعداد لشراء أيِّ شيء لم يمكنه استخدامُه هو ومارجريت كاميرون من هذه الأصناف مقابلَ أسعارٍ مجزية. وبعد ذلك بدأ يملأ سِلالًا من أجل الكشافة الصغير ليحملَها إلى منزله حتى لا تُثار تساؤلاتٌ بشأن عدم العدالة في التقسيم.
مرَّت عشَرة أيام كان نادرًا ما يرى فيها الكشافة الصغير، ثم جاء يومٌ بهيج إذ جاء الصغير إلى الحديقة صاخبًا يتبعه بيل السمين الطيبُ والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي. فأشاعوا جوًّا من المرح، وملأت ثرثرتُهم الأجواءَ، وضحك جيمي حتى استلقى على قفاه. حيث كانوا يحتفلون بنهاية الدراسة. فأخذوا يُخططون لصيف طويل سيشمل المزيد من الشغب أكثرَ ربما مما كانوا يَملَئون به المدةَ الزمنية نفسَها فيما قبل.
وجَد جيمي نفسَه في غاية الامتنان لوجود الكشَّافة الصغير في الحديقة. لم يكن حصولُه على الكثير من المساعدة المفيدة في رعاية النحل وتقليم الزرع وريِّه هو السببَ الوحيد؛ وإنما لأنه أصبح يحبُّ الصغيرَ حبًّا جمًّا. ولما ترسَّخ في نفسه اهتمامُه بالطفل أكثر، انتابه القلقُ وأصبح مشغولًا بإحساسه بأن الأمور ليست كما ينبغي لها أن تكون؛ إذ إن قائد الكشافة لم يكن طولُه يزيد، ولا يكتسب القوةَ البدنية التي يُفترض أن تؤديَ إليها التمارينُ التي كان جميع فتيان الكشافة يؤدُّونها. وقد فكر جيمي جِديًّا عدة مرات في زيارة أمِّ قائد الكشافة وسؤالها إن كانت لا ترى أن جين يُجهد نفسه للغاية في التمارين، ويُرهق ذهنه لأقصى درجة، جاعلًا من كل يوم سلسلةً من نشاط لا ينتهي. وقد أدرك جيمي من بعض الأخبار هنا وهناك أن الطفل لم يكن ينام جيدًا البتة في الليل. إذ كان الكشافةُ الصغير يتسلل إلى حجرة المعيشة أحيانًا ويتمدَّد في الشرفة، أو إلى حجرة جيمي، وينام بضعَ ساعات كما قد ينام الموتى، عند نهاية الفراش.
ومع تنامي قوةِ جيمي، وازدياد سُمك الجلد المغطِّي لصدره وزوال لونِه، ومع تحقيق المواظبة على النظام الغذائي الدقيق وحمامات الملح والعلاج بالشمس وعصير الطماطم والبرتقال أهدافَها، أصبح ذهنُ جيمي صافيًا بالتناسب مع قوته بدَنيًّا. وجعل ينمو لديه شعورٌ بالقوة، والقدرة على تحمل المسئولية. فكاد يتوقف تمامًا عن التفكير في نفسه. وأصبح كلُّ تفكيره مُنصبًّا على عمله، والكشافة الصغير، ومارجريت كاميرون، ووجد أنه لم تمرَّ ساعةٌ من يومه وإلا وكان ذهنه في صراعٍ يَكِرُّ فيه ويَفِر، ويُقبِل ويُدبِر، فيما يخصُّ الفتاةَ التي تزوجَها.
ومِن ثَم تساءل إن كان لا بد أن يبدأ بحثًا منظَّمًا عنها، وإن كانت ستُسرُّ أم تبتعد عنه في غضب، إذا عثَر عليها. وتساءل إن كان ثَمة مساعدة يستطيع أن يُقدِّمها لها. وتساءل إن كانت ثَمة ظروفٌ تشفع لها. لم يستطِعْ جيمي أن يَحمل نفسه على رؤيةِ فتاة العاصفة بصفتها فتاةً خالفَت القوانين؛ قوانينَ الخالق وقوانينَ الإنسان.
في تلك الأيام كان لديه قلقٌ دائم بخصوص مارجريت كاميرون. كان قد ألِفَ أن يحترم جارته غاية الاحترام. وكان قد ألِف أن يُقدر أفعالها الكريمة الطيبة العديدة بالغَ التقدير. وقد شعر بأنه لو كان العالم كلُّه مليئًا بأمهات مقبلاتٍ على البقاء في المنزل، وتحمُّل واجبات رعاية البيت، والتمسكِ بالمنطق السليم والآراء السديدة كما فعلَت مارجريت كاميرون، لكان هناك المزيدُ من الفتيان والفتيات المقبِلين على البقاء بالمنزل، والمقبلين على البحث عن التسلية فيه بدلًا من البحث عنها في الشواطئ والوِدْيان وقاعات الرقص الرخيصة. ثم تصوَّر أن مشكلة مارجريت كاميرون في تلك اللحظة، حسَب تخيله، هي أن ابنتها الوحيدةَ قد غادرت المنزل وستظلُّ بعيدةً عنه عن عمد. كانت مارجريت قد أخبرته لتوِّها ذلك الصباحَ أن لولي قد حسمت قرارها بالذَّهاب مع مجموعةٍ من الشباب إلى يوسيميتي وغابات موير. وقد قالت في خطابها إنها ستُحاول إن أمكنَ أن تعود إلى المنزل لقضاء بضعة أيام قبل بدءِ الدراسة في الخريف، وبذلك كان أمام مارجريت كاميرون صيفٌ طويل موحش، وقد اعترفَت لجيمي بأن ثَمة قلقًا، وخوفًا يتملَّكُها حتى إنه يستحيلُ عليها تمامًا صرفُه.
لذلك كان جيمي حين يُفكِّر في مارجريت، يُفكِّر متعاطفًا ومتعجبًا، وفي كثيرٍ من الأحيان بكثير من السخط. فلم يملك سوى الشعور بأنه ثمة واجبٌ تجاه الآباء والأمهات الذين حافظوا على بيوتهم، وصمَدوا في وجه السنوات، وطبَّبوا أبناءهم وتعهَّدوهم بالرعاية وصلَّوْا من أجلهم، الذين بذلوا أقصى ما في طاقتهم وأحبُّوا من أعماق قلوبهم، الذين أعطَوْا بلا مقابل، ومنَحوا كل ما يملكونه، لكنهم لم يَجْنوا من ذلك أيَّ شيء مطلقًا فيما يبدو، ولا حتى الامتنان. لم يستطِعْ جيمي تصديقَ أن الاهتمام الذي كانت مارجريت توليه إياه كان متأثرًا بعُمق التفاني ومَشوبًا بنوعية الاهتمام والحبِّ الذي منَحَته أيًّا من الثلاثة الصغار الذين أحبَّتهم وتفانَت من أجلهم حتى بلَغوا السنَّ التي استطاعوا فيها إعالةَ أنفسهم. فقد حلَّت الإجازة. وحان وقت رجوع الأطفال الآخَرين إلى منازلهم، لكن لم تكن أيٌّ من ابنتَي مارجريت كاميرون قادمة؛ لا الفتاة التي أنجبَتها، ولا الفتاة التي منحَتها المأوى. لماذا لم تأتِ كلتاهما لقضاء بضعة أسابيع؟ لماذا لم تُخطِّطا للحضور واحدةً تِلو الأخرى بحيث تحظى مارجريت بإجازتها كما سيَحظى بها الآخَرون؟ لماذا لم تضَعا من أجلها بعضَ الخُطط؟ لماذا لم تفعَلا شيئًا لكسر وتيرة الضجَر والتضحيات والعمل الشاق في حياتها؟
ومِن ثَم قرَّر أن يجتهد جدًّا في العمل. ثم يأخذ بضعةَ أيام إجازةً ويطلب من مارجريت كاميرون أن تذهبَ معه لالتماس بعض البهجة. فيذهبان حيث يستجمُّ الناس على الشواطئ. وقد يذهبان إلى مكانٍ ما على متن مركب. وربما يذهبان إلى المدينة ويستمعان لبعض الحفلات الموسيقية الرائعة، أو يُشاهدان بعض الأفلام الجيدة، أو مسرحية مسلِّية. فسوف يُحاول أن يردَّ فعليًّا بعضًا مما كانت تفعله لتُضفي على حياته معنًى. وقد عزم على ذلك عزمًا لا رجوع فيه.
وذاتَ يوم ذكَر جيمي موضوع أولاد مارجريت أمام الكشافة الصغير، فوجد أن الطفل كان ساخطًا بقدر سخطه.
إذ قال الكشافة الصغير: «لا يعلم أحدٌ متى ستأتي لولي. إنها لا تُفكِّر إلا في نفسها وغالبًا تفعل ما يحلو لها، أما مولي فسوف تأتي. فإنها تعمل عملًا صعبًا وربما تُضطَرُّ إلى الراحة بضعة أيام. قد تكون مضطرةً إلى إغلاق مسكنِها وتسكين شخصٍ آخر فيه، أما إذا لم تأتِ فسيكون لديها سببٌ وجيه جدًّا، لكن عندما تأتي ستبدأ المعسكراتُ والنزهات، وسيكون هناك أشياءُ لنقومَ بها في هذه الأنحاء. حين تأتي مولي ستكون مستعدَّةً للانطلاق بكلِّ همة، وعندئذٍ ننطلق!»
استخدم الكشافةُ الصغير يدَيه ليُمثل كيف يمرحون حين تعود مولي للديار.
«إنها مرحةٌ حتى النخاع! إذ ترتسمُ على وجهها ابتسامةٌ طفولية عريضة كما أنها لا تخشى الأوساخ. ولا تخشى المياه، ولا تخشى الجهد، ولا تخشى إنفاق النقود. إنها مبهجةٌ كالفاكهة الناضجة! هذه هي مولي!»
قال جيمي: «أنتظر بلهفة، لرؤية مولي.»
فقال الصغير: «حسنًا، فلتظلَّ منتظرًا.» وتابع: «لتَبْقَ على موقفك، وما دمت تهتم بالتعرف إلى الفتيات، فبالقطع، ستجد فيها فتاةً ذات جاذبية، حين تأتي!»
فقال له جيمي: «أصدق ما تقول. أعتقد أنك أعلمُ بالأمر، وإنني أثق تمامًا في آرائك.»
راح الكشافة الصغير يُفتِّت خبزًا على امتداد حافَة الممشى الخلفي من أجل أنثى طير محاكي عشَّشَت على نخلة تمرُّ بجانب العريشة. ووُضع بجانب الخبز قطعةٌ كبيرة من تفاحة جعل يلتهمُها من دون مضغ. وفي ثلاث قضماتٍ أخرى اختفَت التفاحة، بلُبِّها وبكل ما فيها. مسح الكشافة الصغير أصابعَه المبللة في مَقْعدةِ سرواله القصير بالغِ الاتساخ، ووضع يده فوق يدَيْ جيمي اللتين قبَض بهما على فروع بعض زهور السَّوسن التي كان يستزرعها. أدت القوة الإضافية التي هبَّت للمساعدة إلى خلع الجذور من الأرض، فتدحرج كلٌّ من قائد الكشافة ومربِّي النحل فوق الآخر عشوائيًّا هابطَين جانب الجبل حتى اصطدما صدمةً قوية بشجرة كريفون. فنهضا يضحكان، والتقط جيمي السوسن. ووقف قائد الكشافة رابطَ الجأش برشاقة. ثم أخذ نفَسًا عميقًا، وسحب شفَته العليا، ومد شفتَه السفلى، لينفثَ الغبار عن عينيه الرماديتين الداكنتَين. وكان المفترض أن الاهتزاز مثلَ كلب خرج من الماء كافٍ لطرح الأوساخ المتراكمة. واستقرَّ على الوجه الصغير تعبيرٌ مغتبط أقربُ إلى العذوبة الساذَجة. وبإبهام اليد اليُمنى والسبابة نفَض بدقةٍ قطعةً كبيرة من الأوساخ عن الكتف اليسرى. ثم راح بالإيماءات يتفحَّص حالة جيمي من خلال نظارةٍ تظاهر بمهارةٍ بأنه يرتديها حتى إن جيمي رآها جيدًا رغم أنها لم تكن موجودة.
قال الكشافة الصغير: «أرجو حقًّا ألا يكونَ قد أصابك ضررٌ دائم.»
فقال جيمي: «لا، لم يُصِبني، وأرجو لك الأمنية الطيبة نفسَها.»
قال الكشافة الصغير: «شكرًا جزيلًا!» وبالحماس نفسِه استأنف كلامَه قائلًا: «أراهنك …» ودفع يده في جيبه، وأخرج عملة صغيرة وتفحَّصها جيدًا. ثم وضع جانبًا قيمةَ شطيرة سجق وزجاجة مياه غازية بنكهة الفراولة وحسَب المتبقِّي. وتابع: «أراهنُك بسبعة سنتات أنني أستطيع التدلِّيَ بقدم واحدة من عمود العريشة القائمة هناك!»
جعل جيمي يتأمَّل الموقف.
وقال: «لن أُجاريك في رهانك. إذا انسلَّت قدمُك وسقطت فسينكسر رأسك.»
فقال قائد الكشافة: «لن ينكسر إن وقعت على التربة.»
«سينكسر إن وقعتَ على الصخور الواقعة على بُعد ستِّ بوصات من التربة.»
فقال الصغير: «نعم، وهذا المثير في الأمر، مجرد ترقُّب أين سأسقط!» وفي الحال بدأ يتسلَّق العريشة.
قال جيمي: «انتبه، فلْتعدلْ عن ذلك! لن تتدلَّى من قدم واحدة من ذلك الجزء المتقاطع. لا أعلم كم مضى على بناء تلك العريشة، وقد أُلقي عليها الكثيرُ من المياه لغسلِ الكروم. فقد يكون خشَبُها تحلَّل تمامًا.»
واصل قائدُ الكشافة التسلُّقَ بتمكُّن وسريعًا ما جلس على العمود الثاني، وجعل يقفزُ عليه للتحقُّق من ثباته.
عندئذٍ بدا جيمي حادًّا.
وحثَّه قائلًا: «قلتُ لك ألَّا تفعل ذلك!»
فأجابه قائدُ الكشافة بهدوء: «لن أفعل. لقد سمعتك. فلستُ أصمَّ. أستطيع أن أؤديَ حركة أخرى لها الجودة نفسُها، وإذا نجم عنها كسرٌ فلن يصيب سوى ساقي. سوف أتدلَّى من إصبَعي الصغير!»
قبل أن يتسنَّى لجيمي الوقتُ ليقول أو يفعل أيَّ شيء، كان جسم قائد الكشافة متدليًا لا يُمسكه سوى إصبَعِ يده اليمنى الصغيرة فحسب.
صاح الصغير وهو يتأرجح: «لقد تعبت!» وأضاف: «انتبه! فسأهبط! سأستهدفُ النزول على التربة. اتصل بجرايسون إن هبطت على الحجر!»
وهبط قائد الكشافة، فحطَّ برشاقةٍ وبمنتهى الدقة على تربة الحديقة التي كانت مرويَّةً حديثًا، على بُعد أربع بوصات تقريبًا من الأحجار التي كانت من الممكن أن تكسر ساقَه بمنتهى السهولة.
فقال له جيمي: «فلتُنصِت لي. لقد أخبرتُك أنني لم أكن على ما يُرام في وقتٍ من الأوقات، أليس كذلك؟»
أجابه قائد الكشافة: «نعم، ولم تكن بحاجة إلى إخباري!» ثم أردف قائلًا: «كان بإمكاني أن أرى ذلك وحدي، لكن أرى الآن أنك في غاية البأس. تستطيع قيادةَ محراث بخاريٍّ أو تشغيلَ كسارة أحجار أو ضرب أحد اللصوص إن أردتَ. لن أفعل ذلك مجددًا.»
وبعد ذلك ثبَّتَ قائد الكشافة قدمَيه الصغيرتين أمام جيمي مباشرةً ونظر إليه وفي أعماق عينيه الداكنتين تتراقص الشقاوة نفسُها.
سأل الكشافة الصغير ساخرًا: «لقد أثَرتُ حنقَك، أليس كذلك؟» وتابع: «وجعلتُك تظن أنك ستُضطر إلى الذَّهاب إلى الهاتف وتتصلُ بأمي لتأتي بسيارة الإسعاف. عجبًا! ها هو هاتفك يرن!»
جاوز جيمي مرحلة حين كان رنينُ الهاتف حدثًا، فقد أصبح يرن كثيرًا تلك الأيام. قد يكون كاري هو المتصلَ ويريد مساعدة. وقد يكون جرايسون ليشرحَ تفصيلةً قانونية جديدة قابلَته. وقد يكون اتصالًا من البنك. وقد تكون أم قائد الكشافة تريد أن يعود طفلها إلى المنزل. مسح جيمي يديه في سرواله وسار إلى الهاتف ورفع السماعة. جلس قائدُ الكشافة على الصخور التي ابتعد عنها عند نزوله فلم تكسر عظامه، وبزهو شَغوف راح يتفحَّص النصف الغربي من الحديقة الذي كانا يعملان فيه والذي شكَّل أملاكه الشخصية المحبَّبة إلى نفسه.
وبينما كان يجول بنظره في أنحاء الفدان الممتدِّ حتى البحر، قال الكشافة الصغير: «بعد أن أفرُغَ من المدرسة الثانوية سآتي لأعيش هنا. فلْيَهنَئوا هم بكُلياتهم اللعينة ويفعلوا بها كيفَما شاءوا! أما أنا فسأتعلم من الكتب التي وضَعها سيد النحل في مكتبته. فكما كانت نافعةً له فستُصبح نافعة لي، وبينما أقرأ كتبَه سأظل أفكِّر فيه. من الأسباب التي ستجعلُني أحافظ على نقاء سيرتي وأسلك سلوكًا قويمًا وأصبح محترمًا مثلما كان هو رغبتي في الذَّهاب حيث ذهب، حتى نرى ما يمكننا الفوزُ به من الجنة معًا مثلما استمتَعْنا كثيرًا على الأرض. ويحي! ليتَه يعلم كم أشتاقُ إليه!»
بداخل المنزل، وقف جيمي أمام الهاتف بوجهٍ شاحب، متشبِّثًا بالهاتف التماسًا للدعم، بينما راح كلُّ جزء من جسده ينتفض، وقد فارقَته قوتُه التي استعادها منذ مدةٍ ليست بالبعيدة، متمزقًا حتى الأعماق. كان قد رفع السماعةَ وقال «مرحبًا!» بلا مبالاة كما قد يقولها أيُّ رجل آخر، وردَّ بعد ذلك بالإيجاب على استفسار: «هل أنت جيمس لويس ماكفارلين من منحل سييرا مادري!» فجاءه الصوتُ مستأنفًا: «أنت مطلوب حالًا وضروريًّا في مستشفى التوليد، الواقعة عند زاويةِ تقاطع شارعَي أيرولو وسفنتينث.»
فأجاب جيمي لاهثًا: «أجل.»
فواصل الصوتُ الحديث قائلًا: «لقد وضعَت زوجتُك طفلًا سليمًا ليلة أمس، لكنها لم تفق من التخدير كما ينبغي، مما أثار قلقنا. لقد وجَدْنا عُنوانك بين أغراضها. نرجو أن تصل إليها بأسرعِ ما تستطيع. فمن المحتمل أن تطلب رؤيتك قريبًا جدًّا.»
وضع جيمي السماعة، والتقط قلمًا وكتب: «شارعا أيرولو وسفنتينث»؛ حتى لا ينسى. ثم هُرِع إلى غرفة النوم وشرع يرى السرعة التي يستطيع بها ارتداء ملابسَ مناسبةٍ للخروج إلى الشارع. وبينما يفعل ذلك نادى الكشافة الصغير، وحين ظهر الطفل قال له: «أغلق الأبواب سريعًا. وجهز مفتاح الباب الأمامي من أجلي. جاءني استدعاءٌ لأجل مسألة طارئة في المدينة ولا أعلم متى سأعود.»
قال الكشافة الصغير بنبرات تبرُّم: «أوه!» وأضاف: «لقد جئت لأمكث طوال اليوم! ثَمة أشياء كثيرة أردتُ إنجازها في أرضي.»
فقال جيمي: «أجل، أعلم ذلك.» وتابع: «ربما نفعلها غدًا. من الأفضل أن تتصلَ بالرفاق وتلهوَ ما تبقى من اليوم على الشاطئ أو تنصرفَ إلى المنزل.»
خرج جيمي من الباب، وأوصده خلفه. واندفع مسرعًا في الممشى والشارع متجهًا صوبَ خط الترام.
وقف الكشافةُ الصغير يُراقبه.
وقال: ««مسألة طارئة!» حسنًا، سأخبر العالم بشأنها! لعل المنزل اشتعل أو عض الكلب أخي الصغير، أو ضاع صندوق مساحيق الزينة الخاصَّ بأمي، أو سقطت الحكومة. لقد انقلب الحال، ولم يعد ثمة أيُّ شيء صحيح في العالم كله! فلتسرع يا جيمي! عالج كل المشاكل! يا للعجب!»
دار الكشافة الصغير حول المنزل، ودخل متسلقًا النافذة الخلفية، وأوسع وسادة جيمي ضربًا، ثم استلقى عند نهاية الفراش.
انطلق جيمي إلى أقربِ عربة ترام واستقلَّها حتى المدينة، وفي الطريق سأل أين يجدُ شارعَيْ أيرولو وسفنتينث، وحين نزل بعيدًا بعض الشيء استقلَّ سيارة أجرة. وبمجرد أن جلس تحسس الدفترَ الذي دسه في جيبه وكل النقود المعدَّة للطوارئ التي كانت في صندوق صغير على الرف العلوي في الجانب الأيسر من المكتبة الذي يضمُّ كتب النحل العمَلية. كانت أفكاره تدور في فوضى. فتاة العاصفة. لقد بلَغَت ساعةَ الآلام، بشجاعة، من دون مساعدة، كما كان يجدر بها. فلم تطلب منه المساعدة. لقد جاءت بطفلٍ للعالم، صبي. «طفل سليم»، كما قال الصوت، لكن لم يبدُ أنها كانت على ما يرام. بدا الخبر منذرًا بالسوء لجيمي. لم يكن يعرف أن التخدير جزءٌ من ولادة الأطفال. لقد وقعَت خلال الستِّ السنوات الماضية أشياءُ كثيرة جدًّا لم يعلم جيمي بها. وفي البداية لم يكن يعلم شيئًا ذا بالٍ عن الطريقة التي يأتي بها البشَر إلى العالم، لكنه أُخبر بها، وفهم بنفسه أنها ليست رحلةً سهلة سواءٌ على الأم أو الطفل، وفي هذا المستشفى الذي كان ذاهبًا إليه ثمة صبي حي صغير، وكانت المراسم التي خضع لها جيمي من أجل إنقاذ الطفل باسمٍ يستمدُّ منه الاحترام. كان «الطفل الصغير الجميل» الذي أُعلم بشأنه هو جيمس لويس ماكفارلين، الابن، والفتاة الجميلة، فتاة العاصفة، الفتاة الناهدة ذات العينين الداكنتين، الفتاة ذات الوجه البارد المبلل واليدَين المتشبثتين، الفتاة ذات الشفتين المرتعدتين والعينين المحدقتين؛ ماذا حدث لها؟ لم تُفِق من التخدير؟ لم تستَعِد الوعي كما كان ينبغي لها، وبين أغراضها وجدوا عُنوانه؛ لذا هو في طريقه إليها. بعد دقيقة سيكون في الحجرة حيث تمكث. سوف يرى جبهتها، وشعرها الكثيف وهو مسترسل على الوسادة، وعنقها الأبيض.
عرَف جيمي ماذا سيفعل. لقد اتخذ قرارًا نهائيًّا. سوف يتناول يديها ويقبض عليهما بكل قوته. سوف يضم وجهها إلى وجهه كما أسْلمَته هي إياه طواعيةً ذات مرة. وسوف يغمره بسيلٍ من القبلات المتوجعة. سوف يخبرها أنه لا يأبَهُ البتة لما حدث أو كيف حدث. فإنه لا يمكن أن يُصدِّق أبدًا ولن يُصدِّق مطلقًا أن العار قد مسَّها أو قد يَمسُّها أبدًا. سوف يجعلها تتعافى، وسيأخذها إلى المنزل، وسوف يعتني بها. سوف يعيشان معًا ويتحابَّان معًا، وسيصنعان من الحياة شيئًا غايةً في الروعة. أخذت الدماء الجديدة، الدماء المنتعشة، الدماء النقية تتدفَّق في عروق جيمي حتى كاد شعر رأسه يقف. وقد أخذ يفرك يدَيه دون أن يُدرك ما الذي كان يفعله.
أخذ جيمي يتوعد قائلًا: «إنهم ليسوا أكْفاء! إنهم لا يقومون بواجبهم! سوف أقتل الطبيب وأخنق كلَّ ممرضة في ذلك المستشفى إن لم يتصرفوا. إن الولادة عملية طبيعية. لا تُخبروني أن فتاةً كبيرة قوية مثلها قد تتلقى الرعاية المناسبة ولا تنجو منها.»
هُرِع جيمي إلى المستشفى ثم إلى المكتب ومنه إلى الرِّواق فإلى المصعد، ومنه إلى حجرةٍ صغيرة. حيث وقف بجانب الفراش وألقى نظرةً طويلة. ثم حوَّل نظره من الطبيب المنتظر بجانب الفراش ممسكًا رسغ السيدة منقطعة النفس إلى الممرضة.
وقال: «لقد ارتكبتُ خطأً. لقد أعطوني رقمًا مغلوطًا. هذه ليست زوجتي.»
تقدَّمت الممرضة والتقطت من بين محتويات الدرج عقد زواج كان قد رآه من قبل.
وقرأت منه قائلة: «جيمس لويس ماكفارلين»، ثم وضَعته في الدرج.
تمسَّك جيمي بنهاية الفراش وانحنى عليه. لم تكن الفتاة الراقدة عليه تُشبه أي فتاة رآها من قبل، لم يكن من الممكن، حتى في أبعدِ الاحتمالات، أن تكون فتاةَ العاصفة. تشبَّث جيمي بالخشب عديم الحس أكثرَ وانحنى أكثر، وجعل يُحدق بعينين متَّسعتين. ما معنى ذلك؟ كيف لهذا أن يحدث؟ لماذا قد تحوزُ هذه الفتاة العقدَ الذي يُمثل زواجه من فتاة العاصفة؟
توجَّه إلى جانب الفراش ونظر بإمعان إلى اليد اليسرى المرتخية على الغطاء. كان الخاتم الذي اشتراه في الإصبع الثالثة، خاتم الزواج الصغير الرخيص. التقطَ اليد وتفحص الخاتم حتى تأكد. كان يعلم أن كلًّا من الطبيب والممرضة يُشاهدانه.
ثم تحدث الطبيب. فقال: «كم مضى منذ رأيتَ زوجتَك؟»
افترَّت شفتا جيمي ليقول إنه طوال حياته لم يرَ قط المرأة الراقدة أمامه، لكنه توقف دون أن ينطق بالكلمات.
إن قال ما كان يجول في خاطره، إن أنكرها، إن تركها للحياة أو للموت وهو أشدُّ رحمةً معلنًا أنه لا يعرفها، أنه لم يرَها قط، فأين إذن رونقُ الفعل الذي حاول القيام به ليستر باسمه امرأةً كانت بحاجة إلى اسم؟ فلم يكن ليفرق معه، على أي حال، في ليلة العاصفة أي امرأة تحمل اسمه ما دامت كانت ستستعيد به الكبرياء وإرثًا لائقًا لطفل لم يولَد، الذي قال الطبيب إنه «طفل صغير معافًى.» لكنه إن نطق فلن يظل الطفلُ الصغير المعافى بخير. سيصبح طفلَ العار، مجردَ شيء يستدعي الشفقة، مَثارًا للسخرية، يُنقَل من منظمة خيرية إلى أخرى. سيُلقى به إلى العالم محرومًا من حقه في بيت أو محبة أو تربية لائقة. ولن يُصبح من المستغرب إن ابتلعته أيُّ موجة من موجات الجريمة أو العار مما لا يخطر على بال إنسان. والفتاة. أخذ جيمي يُحملق بشدة. وأدرك أنه لو كان ثمة دماء في ذلك الوجه الشاحب شحوبَ الخزف، ولو كان ثمة حُمرة في شفتَيها، ولو كان ثمة لمعة في شعرها، ولو كشف هذان الجفنان الرقيقان عن عينيها، متضرعتين يملؤهما الحزن، كانت ستبدو جميلة. ربما هناك في العالم رجلٌ استطاع أن يتبرَّأ منها. لكن جيمي لم يستطِعْ. ليس جيمي ماكفارلين مَن يفعل ذلك. لقد ماتت الكلماتُ دون أن ينطق بها.
قال بصوتٍ أجش: «هل تقصد أنه من الغريب أنني لم أتعرف عليها؟ ربما الألم هو السبب، لقد تزوَّجنا منذ شهور عديدة.»
فقال الطبيب: «لقد علمت أن في هذا العالم الكثيرَ جدًّا من الأشياء الغريبة وبعض الأشياء المستعصية على التفسير، لكنني لا أستطيع ألا أُعرب عن رأيي بأنك زوج سيئ ما دمتَ تركت زوجتك تمرُّ بشيء عصيب مثل الاقتراب من الوضع بما فيه من ألم عصبي وألم جسدي من دون أن تُبديَ أي تعاطف أو تُبادر بأي اهتمام. إنه تصرف لا يكاد يبدو إنسانيًّا.»
لعق جيمي شفتَيه وخضع للتوبيخ. لم يستطِعْ أن يقول أيَّ شيء يُدافع به عن نفسه من دون أن يُلقي بظلال الشك على الفتاة أمامه، وخلال الدقائق القليلة التي قضاها واقفًا يُحملق فيها أدرك أن أنفاسها تتلاحق. وصارت اليدُ التي كان يحملها ثقيلةً في أصابعه. فقبَض عليها وشرَع يفركها.
وهتف قائلًا: «بحقِّ الله! حاول أن تفعلَ شيئًا! دعك من وعظي الآن! افعل شيئًا! لا … لا تتركها تضيع هكذا!»
نظر الطبيب إلى جيمي وقال بهدوء: «لم يَترك ثلاثةٌ من أفضل الأطباء في المدينة شيئًا مما يعرفونه في علم الطب دون أن يفعلوه طَوال الليل، كذلك أدَّت بعض الممرضات الممتازات واجباتهن على أكمل وجه. يجدر بك أن تعيَ أن نهايتها وشيكةٌ جدًّا. اعتقدتُ أنها قد تتحسَّن. اعتقدتُ أنها ربما قد تريد إخبارك بشيء. اعتقدتُ أنك ينبغي أن تكون هنا حين تحتاج إليك، وقد أخبرتُك بالحقيقة حين قلت إن ابنك صبيٌّ صغير جميل. فإنه مثال على جمال الطفولة. وبداخله بذرةُ رجل محترم، ونحن بحاجة إلى الرجال في هذا البلد. إذ يبدو أن لدينا فائضًا من المنحطِّين في الوقت الحالي.»
مرةً أخرى تجرَّع التوبيخ. وكان مذاقه مُرًّا على لسانه؛ لأنه ليس «منحطًّا». ولم يكن كذلك قط. فلم يكن عليه أدنى التزامٍ تجاه السيدة الراقدةِ أمامه، بخلاف الالتزام الذي يَدينُ به أيُّ رجل لكل النساء؛ أن يُحبَّهن بإخلاص، ويهتمَّ بهن برفق، ويحترم أجسادهن باعتبارها الأوعيةَ التي يعمر من خلالها العالم. وقد غُرس فيه ذلك المبدأ منذ أصبح بالغًا كفاية ليفهمَ معناه ولو فهمًا طفيفًا. لا بد أن يكون مهذبًا مع النساء. لا بد أن يكون كريمًا معهن. لا بد أن يَلقين الرعاية لأن بهنَّ تكتمل الأسرة؛ فهُن من يُنجبن الأطفال الصغار. لا بد من احترامهن. إنهن الأوعية التي تحتوي بذورَ الحياة. ومن أرحامهن يخرج الرؤساءُ والساسة، والمحافظون ورجال الأعمال، والقباطنة والبحَّارة والجنود وفلَّاحو الأرض والقساوسة الذين يملَئون المنابر والمعلمون الذين يُشكلون عقول الصغار في مدارسنا.
وأمامَه كانت تُحتضَر واحدةٌ من النساء؛ تُحتضَر في شبابها، تموت وهي جميلة، من خجَلِها من نفسها، في خزي، وكربٍ شديد؛ لأنَّ رجلًا ما، في مكانٍ ما، استخفَّ بجسدها واستباحه ليحكم عليها بشهورٍ من الوجع المعنويِّ، وساعاتٍ من الكرب المؤلم، ووحشة الموت من دون حبيب. ومِن ثَم ترنَّح جيمي فدفعَت الممرضةُ مقعدًا تحته.
ونظرَت إليه نظرةً نافذة ثم قالت بتروٍّ: «في الأمر شيءٌ لا أعيه أيها الطبيب، لكنني لن أشاركَك في الاعتقاد باقتران أيٍّ من صفات انعدام الرجولة بالسيد ماكفارلين. فخلال الأيام التي قضَتها السيدة ماكفارلين هنا قبل ولادة الطفل بدا لي أنها تعشقه. فهي لم تَبُح بأي كلمة خبيثة في حقه.»
«ماذا تقولين؟» سألها الطبيب محتدًّا.
فأجابته الممرضة: «أخبرك بالحقيقة. لقد قالت إنه أنبلُ الرجال، أرقى الرجال في العالم بأسره. قالت إنه أتى فعلًا غايةً في العظمة والسمو ما كان ليفعَلَه أيُّ رجل آخر. وقالت إنها تشعر أنها لن تعيشَ بعد ولادة الطفل. وحين أرتني عقد زواجها، اعتقدتُ أنها تريد مني استدعاءه. فبحثتُ عن عُنوانه. فقد قالت إنه إن كُتب لطفلها العيش، فقد أُعدت له السبل لذلك، لكنها أبدت لي أمنيتها في أن يذهب إلى رجلٍ شديد الفضل مثله. لا أدري كيف أفسِّر سببَ انفصالهما بعضهما عن بعض خلالَ هذه الشهور، لكنني أعلم يقينًا أن الخطأ ليس من ناحية السيد ماكفارلين.»
فقال الطبيب لجيمي: «في تلك الحالة، يبدو من المرجَّح أنني مدينٌ لك بالاعتذار. فإنني أرى هذه الأيام الكثيرَ من الأمور التي لا تصحُّ البتة حتى إنني صرتُ فظًّا بعض الشيء. أعتذر بحق إن كنت قد تفوَّهت بشيءٍ ما كان يجب أن أتفوَّهَ به. أما ابنك والاحتياطات التي اتُّخِذت من أجله، فأمره يعود إليك. إن كنتَ تريد الطفل، فسوف يُعطيك القانونُ إياه بموجب عقد الزواج هذا.»
تحوَّل جيمي نحو الممرضة.
«ما الذي قالته؟» سأل جيمي الممرضة.
فردَّت عليه الممرضة وقالت: «قالت ذاتَ مرة، إنه مستحيل، لكن لو كان ممكنًا، فهي ستُضحي بحياتها مسرورة إذا بلغها أنك ستأخذ الطفل وتجعله رجلًا من نفس عيِّنتك.»
فقال جيمي باقتضاب: «حسنًا. سوف آخذُ الطفل. بإمكانك أن تُجهزيه. لديَّ منزل مريح. ويمكنني تدبرُ طريقة لرعايته جيدًا. سوف أبذل قصارى جهدي لأجعل من الفتى الذي يحمل اسمي رجلًا من النوع الذي أرادَته أمُّه.»
عندئذٍ اندهش جيمي والطبيب والممرضة وبُهتوا. فقد صدرَت ضحكة خفيفة عن شفتَي الفتاة المستلقية على الوسادة، ضحكةٌ خفيضة متهلِّلة سعيدة، ضحكة مليئة بالاندهاش والبهجة وعدم التصديق، ومعها نَفِدَت الأنفاس الأخيرة الباقية من الجسد المعذَّب، فتراجع الرأس المبتهجُ على الوسادة وظل راقدًا بلا حَراك.
غطى جيمي وجهه وجلس صامتًا، وحين ألقى نظرةً أخرى رأى جسدًا تحت الملاءة. فنظر إلى الممرضة بعينين بائستين.
فسألها: «هل لديكم تعليمات بالترتيبات اللازمة؟»
هزَّت الممرضة رأسها بالإيجاب.
«لقد اتُّخِذت كلُّ الاحتياطات، والأغرب أن كل النفقات سُددت حين دخلت السيدة ماكفارلين المؤسسة. وقد أُمرنا في مثلِ هذه الحالة بإعداد الجثمان وإرساله إلى ذويها.»
فقال جيمي ناهضًا من مجلسه ومستجمعًا قوته: «حسنًا. أين الصبي؟»
بدا على الطبيب التردُّد.
سأل الطبيب جيمي: «هل لديك شخصٌ مؤهَّل لتولي مسئولية طفل حديث الولادة؟»
فرد عليه جيمي قائلًا: «لديَّ امرأة فاضلة منظَّمة ربَّت ثلاثة أطفال حتى بلغوا مرحلة النضج.»
فقال الطبيب: «ليكن إذن. أعطيه الطفل.»
اختفت الممرضة وعادت بعد قليل. فوضعَت بين ذراعي جيمي قطعةً من قماش تفوح منه رائحة الصابون بزيت الزيتون وحمض البوريك المطهر، ملفوف على شيء دافئ وحيٍّ ويتحرك. ووضعت حقيبةَ سفر في متناوله، فاعتمر جيمي قُبعتَه، وضم ذراعَيه حول اللفة النابضة بالحياة، والتقط الحقيبة وخرَج من الحجرة.
نظرت الممرضة إلى الطبيب ونظر الطبيب إلى الممرضة، وقال كلٌّ منهما للآخر: «أيُعقل هذا؟»
سأل الطبيب: «ما الذي حدث بينهما في ظنك؟» ثم استأنف قائلًا: «إن كانت قد قالت أشياءَ كتلك عنه، فلماذا تركها، من دون أن يراها ثانيةً، من دون دمعة ندم، من دون لمسةِ حنان؟ لقد مررتُ بالعديد من التجارب الغريبة جدًّا خلال الثلاثين سنة التي مارستُ فيها الطب، لكن هذه الحالة تفوقها جميعًا. فإنني لا أفهمها!»
فقالت الممرضة: «ولا أنا، والأكثر من ذلك أنني لا أعتقد أنه يفعل. لا بد أن أذهب لأُجريَ اتصالات بالطرَف الذي طُلب مني استدعاؤه في حال موتها. أعتقد أنها كانت متوعكةً بشدة طوال الوقت. وأعتقد أنها جاءت شاعرةً أنها لن تنجو، وأعتقد أن ذلك الشعور انتابها لأنها لم تكترث بتاتًا سواءٌ عاشت أو لم تَعِش.»
التقطت الممرضةُ منشفةً وجعلت تمسح يديها بهمة.
وقالت: «يغيظني ذلك النوعُ من الأشياء أحيانًا، حتى إنني أودُّ أن أخرج وأقف على المنصات وفي المنابر، وأود أن أخبر الناس ببعضٍ من الأشياء التي رأيتُها وسمعتها. أودُّ أن أقضيَ يومًا بطوله أتحدث مع فتيات هذا البلد. أريد أن أُحدِّثهن عن الأسى وخيبة الرجاء والألم والخزي الذي يخترنَه لأنفسهن في حياتهن المستقبلية حين يُقرِّرن أن يَحِدن عن الطريق الضيق القويم ويسمحنَ لأنفسهن طواعيةً أن يُصبحن لعبة في أيادي الرجال؛ حين يتركن شرَفهن يُسلَب منهن، وحين يسمحن بمحو حسناتهن، وحين يتركن سنوات التربية والرعاية المكلَّلة بالحب التي أُنفِقت عليهن تذهب هباءً، ويجلبن الخزيَ والعار على أهاليهن، ويفعلنَ بأرواحهن وأجسادهن ما فعلَته هذه الفتاة الميتة المسكينة بروحها وجسدِها.»
فقال لها الطبيب: «من الواضح أنكِ من الناس التي ما زالت تؤمنُ بالجحيم والخطيئة.»
فقالت الممرضة: «أجل، إنني كذلك. وإنني مؤمنة بأن أعلى درجات جهنم وأقصى درجات اللعنة هي جزاء الرجال المسئولين عن مثلِ ذلك الكرب الذي رأينا هذه الفتاةَ تُكابده، وعن مثلِ تلك المِيتة التي رأيناها تُعانيها. أودُّ أن آخذ الرجال الذين لا يُطيقون الانتظار حتى يتزوجوا زواجًا شريفًا وحتى يُصبح بإمكانهم أن يَعولوا زوجةً ويوفِّروا لها البيت ويُمدُّوها بالوسيلة لتقوم بمهام الزوجة؛ من رعاية الأبناء وإنشاء منزل، الرجال الذين يَقلبون كلَّ الموازين ويُفسدون كل شيء من أجل إشباع رغباتهم الشخصية الوقتية، أودُّ أن آخذهم جميعًا وأشنقهم من على الارتفاع نفسِه الذي شُنق عليه هامان. أشعر أحيانًا أنني إنما أكرهُ الرجال فحسب!»
ومما أثار دهشتَه أن الممرضة أجهشت بالبكاء واستخدمت المنشفة في تجفيف دموعها.
قال لها الطبيب: «لكن رُويدك!» وتابع: «لقد دافعتِ عن السيد ماكفارلين. وقلتِ إنه ليس مسئولًا عمَّا حدث.»
قالت الممرضة: «وسأقولها ثانيةً!» ثم أضافت: «ألا ترى مما أخبرتني به، ومن الطريقة التي جاء بها، ومن الطريقة التي غادر بها، أنه لم يرَ الفتاةَ من قبل قط، وأنه لا يعلم من تكون؟ لكن لأنه كان هناك اتفاقٌ ما من أجل أن يحمل الطفل اسمه، فقد تحمَّل مسئوليته. لكن مهلًا، لن تستطيع إقناعي ولا بعد عشَرة أعوام أنه رأى تلك الفتاة التي على الفراش من قبلُ قط، أو أن عقد الزواج الذي عبَّأتْه بين أغراضها بحيث يصبح مع الطفل كان عقدًا رسميًّا! ألا تعتقد ذلك!»
بعد ذلك ذهبت الممرضة في سبيلها وذهب الطبيب في سبيله، وركب مربِّي النحل سيارةَ الأجرة وأمر السائقَ بإعادته إلى الحديقة الزرقاء.