الكشافة الصغير يستعد للحرب
ظل الكشافة الصغير حتى الساعة العاشرة يؤدي مهام الطاهي والوصيفة وخادمة المنزل والمرسال، وأيَّ شيء تطلبُه الدخيلة. وفيما بعدُ أُرسلت كومةٌ من الأوراق غير المهمَّة إلى فرن النُّفايات القائمِ في منتصف الجزء الأسفل من جانب جيمي من الحديقة، في منتصف الطريق بين قفائر النحل الأسود الألمانيِّ والصفِّ الطويل لقفائر النحل الإيطالي. وحين أشعلَ قائدُ الكشافة عودَ الثقاب وأشعل النارَ في الأوراق ووقف بضعَ دقائق ليُشاهدها وهي تحترق، بلَغَه دويٌّ مشئوم من مكانٍ ما في اتجاه النحل الإيطالي حتى بات ملحوظًا.
فقال الكشافة الصغير: «هممم. لا أدري سوى أنه من الأفضل استدعاءُ جيمي. فسوف يُهاجر بعضٌ من نحله.»
وبينما كان يسير في الممشى راجعًا توقَّف برهةً بجانب صنبور المياه. فقد أراد قائدُ الكشافة رشَّ بِضع قطراتٍ للحفاظ على انتعاش حوض النَّعْناع، لكن كان الخرطومُ الأثقلُ وزنًا هو المتصلَ به وممتدًّا في الممشى. حيث يمكن رؤيةُ فُوَّهته فوق إحدى أشجار الجاكرندا، مفتوحةً بالحد الذي يسمح بخروج سيلٍ ضعيف من القطرات بسرعةٍ مناسبة لتمتصَّه الأرضُ وترويَ الأشجار. بدا أن شجرة الجاكرندا تلك ذاتُ معزَّة خاصة، فتحتَ ظلِّها الرقيق الأزرق الهادئ أمضى سيدُ النحل بعضًا من أفضل الساعات التي عاشَها في حياته وهو يُسلي الكشافة الصغير. مِن ثَم غادر قائدُ الكشافة الممشى الخلفيَّ ودار حول المنزل، وفتح الفُوَّهة أكثرَ بدرجة صغيرة، وأنزلها في موضعٍ جديد كتعبير صغير على اهتمامِه بتلك الجاكرندا المميزة.
حين لمسَت الفوهةُ الأرضَ بلَغَه من داخلِ المنزل صوتُ شيء يتحطَّم. فانتصبَ الكشافةُ الصغيرُ بقامته بغتةً، واتَّسعَت عيناه، وانقبضَت عضلاته، وبخطوةٍ أخفَّ من خطوته وهو يؤدي أفضلَ دورانٍ أدَّاه يومًا، عبَرَ نحو النافذة الجانبية. وبحذرٍ، جعل الكشافةُ الصغير يشبُّ حتى أطلَّ من خلال النافذة المفتوحة في الوقت المناسب ليرى غِطاء الصندوق العتيق مفتوحًا عن آخره. وكانت المطرقة، التي لا بد أنها أُخِذَت وخُبِّئت في مكانٍ ما في المنزل قبل أن يُحكِم جيمي إغلاقه، ملقاةً على الأرض.
بأنفاسٍ لاهثة تشبَّث قائد الكشافة بالنافذة وجعل يُمعِن النظر. لقد فات أوانُ الدبلوماسية. وأُعلِنَت الحرب. فقد غزا العدوُّ أقدسَ حِصن لسيد النحل والكشافةِ الصغير ومربِّي النحل. وحان وقتُ التصرف. متشبثًا بحافَةِ النافذة، بعينَين متسعتين وفمٍ فاقَهما اتساعًا بكثير، جعل الكشافةُ الصغير يُشاهد سلة المهملات التي كانت بجوار طاولةِ كتابةِ سيد النحل، سلَّة الطهي الهندية الكبيرة، وهي تُملأ عشوائيًّا بكل ما يمكن التقاطُه من الصندوق من صورةٍ أو ورقة بدا أنها قد تحتوي على أقلِّ تسجيل لأي معاملة. لم يترك سوى لعب ومجوهرات وحليٍّ وأشرطة وأوشحة. كانت السلةُ مكدَّسة عن آخرِها. بعد ذلك نهضَت الآنسة ورذينجتون، وأخذَت حفنةً من عيدان الثقاب من صحنٍ فوق رف المدفأة، والتقطَت السلة، ومضت نحو الباب الخلفي.
بخفةٍ هبط قائد الكشافة من حافة النافذة، وأسرع إلى شجرة الجاكرندا، والتقط الخرطوم، وانطلق بجانب العريشة المحملة بالكروم حتى وصل إلى الصنبور. توقَّف ليُغلق الخرطوم ويفتحَ الصنبور حتى انتفخ الخرطوم وتلوى مثل الثعبان. جثَم الكشافة الصغير وراء جدار الكروم شديدِ السُّمْك وتشبثَ بالخرطوم، موجِّهًا عينَيه نحو فرن النُّفايات، وما زال ينبعثُ منه دخان الأوراق التي كانت تحترق بداخله. حين اختلس النظر من خلال كروم العريشة وجد قائدُ الكشافة أن الفتاة لم تأتِ بعد، ومرةً أخرى استرعى الطنينُ الرقيق انتباهَه للمنطقة المجاورة للفرن. انحنى الكشافةُ الصغير وجعل يختلسُ النظر ذاتَ اليمين وذات اليسار، وبينما هو يخطو بخفَّة، مع بقائه مستترًا ليحصلَ على رؤيةٍ واضحة، شاهد الفتاةَ وهي تقترب. ثم جاء من قفيرَين للنحل الإيطاليِّ في الوقت نفسِه تقريبًا، مع هديرٍ مشئوم، أسراب متدفِّقة من النحل مغادرة قفائرها، التي امتلأَت بأقراص العسل واكتظَّت بالنحل، باحثةً عن منازلَ جديدة بأمرٍ من الملكة القديمة.
زاد اتساعُ عينَي الكشافة الصغير. وسقط الخرطومُ من أصابعه الصغيرة. وانتقل بقفزةٍ واحدة إلى فتحةٍ في العريشة. فخرَج منها، وركَض مسرعًا بقدمَيه الصغيرتين في الممشى الخلفيِّ ومنه إلى الرواق الخلفيِّ والتقطت يداه المرتعشتان طبلةَ النحل. حين رَنا إلى المطبخ كانت الآنسة ورذينجتون جاثيةً على رُكبتَيها بجانب السلة تَفرُز بأصابعَ متوترةٍ الأوراقَ والأشياءَ التي دسَّتها فيها بقليلٍ من التمييز.
فقال قائدُ الكشافة وهو يلتقطُ الطبل: «لا شك أنني سأحظى بوقتٍ قصير.» ثم بدأ يَعْدو سريعًا نحو منطقة الفرن، ليتصاعدَ في نسيم الصباح برفقٍ الإيقاعُ البطيء: «دوم دوم دوم»، فبدأ يتجمَّع النحل الذي كان سارحًا في الهواء. قادَهم الطبلُ في البدء إلى شجرةِ برتقال على بُعد ثلاثِ ياردات من الفرن، ثم غيَّر اتجاه مجموعةٍ أخرى ووجَّههم نحو فرعِ شجرة تين على الجانب المقابل. «دوم، دوم»، وقف الكشافةُ الصغير بعينَين جاحظتَين وشفتَين مُفترَّتَين في سحابة من النحل، يُشاهد سربًا ومن بعده سربًا آخَر. كان الجوُّ ما زال ممتلئًا به، لكن كان واضحًا للعين الخبيرة أن مَلِكة كلِّ سرب قد استقرَّت وكان ذلك كلَّ ما يلزم.
«دوم، دوم، دوم دوم دوم.» تنقلَت عيناه بين النحل والرِّواق الخلفي. حتى جاءت؛ بالسلة ممتلئةً حتى فاضت، وقد أحاطت بها بيدٍ ممتلئة بعيدان الثقاب، بينما امتلأت اليدُ الأخرى بالأوراق التي وجَب إتلافها. مستترًا بستارِ الأشجار والزهور والعريشة، منحنيًا، من دون إحداث جلَبة، تسلَّل الكشافة الصغير عائدًا إلى الصنبور، فتأكدَ من أنه مفتوحٌ إلى آخرِه، ورمى الطبل، والتقطَ فوهة الخرطوم الذي كان في اندفاعه بضغط المياه الجارية بتلك القوة مثلَ تيارٍ جارٍ في أنابيبَ كبيرة لدرجة الانطلاق بسيارة صغيرة والانتقال إلى أماكنَ عدةٍ هابطًا سفوحَ الجبال.
ظل الخرطوم يتلوى كأنه كائنٌ حي، فأغلق الكشافةُ الصغير الصنبورَ قليلًا؛ خوفًا من احتمال انفجار الخرطوم.
هُرِعَت الدخيلة في الممشى الخلفي سريعًا بقدرِ ما حمَلَتها قدماها في سبيله المتعرِّج المنحدر، ثم أسقطَت محتويات السلة في الفرن. وألقت فوقها الأوراقُ المهمة، ثم حكَّت عود الثقاب وحملَته للحظةٍ للتأكُّد من اشتعاله قبل أن تُشعل الأوراق من فوق. وعندما امتدَّت اليد الحاملةُ عودَ الثقاب نحو الأوراق، أصابها تيارٌ من المياه هزَّ قاعدة الفرن وراح يُغرق محتوياته كلَّها من فوره، ثم صاح صوتٌ حاد، علا لأقصى درجةٍ من فرط الهياج: «انتبهي! فأسرابُ نحل تُحيط بكِ من كل جانب! سوف يلدغكِ حتى الموت في غضون دقيقة، فرائحتُكِ حقًّا لن تَروق له!»
لم يكن قدرُ معرفة الآنسة ورذينجتون بالنحل أمرًا معلومًا. إلا أن الكشافة الصغير أدركَ شيئًا واحدًا؛ إنها تعرف ما يكفي ليجعلَها خائفة. فقد نظرَت عن يمينها وعن يسارها وقرَّرت المجازفة، حتى مع اقتراب النحل أكثر.
وصرخَت: «أغلِق ذلك الخرطوم! أغلق ذلك الخرطوم!»
أجابها الكشافةُ الصغير محتدًّا: «مستحيل!» وتابع: «فلن تحرقي تلك الأوراقَ! إنها لا تخصُّكِ. فلا تلمَسيها. لا تلمَسي واحدةً منها! إن لمَستِها فسأُصيبكِ بهذا الخرطوم حتى أُطيحَ بكِ مباشرةً عند النحل الذي وراءكِ! إنكِ لا تعرفين قوةَ ضغط مياه الجبال، لكنني أستطيعُ أن أفعل ذلك!»
صاحت الفتاة: «أغلِق ذلك الخرطوم!» بينما تتشبَّثُ بجانب الفرن وهي تنظر بعينَين جاحظتَين إلى سِربَي النحل الذي راح يحتشدُ مقتربًا لدرجةٍ تُثير الفزَع، وتنظر عاليًا إلى الجوِّ من فوقها وهو يمتلئُ رويدًا بأزيز أجنحةِ النحل الذي شمَّ شيئًا لم يَرُق له، نحل متوتر مسبقًا من ضغط مغادرة القفير الذي نشأ فيه، متَّبِعًا مَلِكتَه إلى موقع جديد.
صرخَت الآنسة ورذينجتون: «ما الذي تُحاول فِعله؟»
فهتف قائدُ الكشافة: «إنني لا أحاول». وتابع: «إنني أفعل! سوف أنتزعُ منكِ الحقيقة أو أطلِقُ عليكِ سِربَي النحل، فيَلْدغونكِ حتى تُصبحي جثةً هامدة، لتموتي الميتةَ الشنيعة التي تستحقِّينها جزاءً لكِ على ما فعَلتِه بماري الصغيرة. فإنني أعلمُ مَن أنتِ! لقد رأيتُ صورتَكِ! التي وضَعتِها هناك في ذلك الفرن. أنتِ لستِ ابنةَ سيد النحل مطلقًا! فقد أنجبَتْكِ أمُّكِ حين أغوَتْه حتى يتزوجَها. وأنتِ تُحاولين الادِّعاء بأنكِ ماري. تُحاولين الخداع حتى تحصلي على هذه الأرض. شاهِديه وهو يُحيط بكِ. شاهديه وهو يقتربُ أكثر! اسمعي أزيزَه!»
نظرَت الفتاةُ المرتعبة حولها. كان سبيلُ الهروب مقطوعًا من الخلف، والخرطوم الهادر يتهدَّدُها من الأمام. إن غادرَت الفرن بالأوراق التي أودَعَتها فيه دون أن تحرقها فلن يصبح ثمةَ أملٌ لإثبات ادِّعائها، ولا أي فرصة لأي برهانٍ أحضَرَته معها حتى يُؤتيَ أثرَه. لا بد أن تحصل على الأوراق أو تنهزم. لكنَّ العِفريت الصغيرَ الواقف عند طرَف الخرطوم الهادر … بعزمٍ انحنَت على الفرن وبدأَت تلتقطُ الأوراق بيدَين مرتجفتين. وفي تلك اللحظة صوَّب الكشافةُ الصغير الخرطوم، الذي انطلق بأقصى قوته، على ظهر قفائر النحل الألماني الأسودِ بالضبط، وظل مصوبًا وحاملًا إياه حتى اهتزَّت قوائم القفائر فتدفَّق منها في حشودٍ مبعثرة أشرسُ نحل شهِدَه تاريخُ تربية النحل يومًا. كان الهدف الأبرز أمامه هو الفرنَ وقد تصاعدَ منه الدخان، والتلوثُ الذي انتشر في الجو، أشدُّ أنواع التلوث التي عرَفَها إثارةً للسخط، تلوثٌ من إنسان ينفثُ عبر كلِّ مسامِّه رائحةَ حمض الفورميك؛ رائحة الخوف. بدأ النحل الألماني الأسودُ يرتفع في الجوِّ محدثًا هديرًا. فتح الكشافةُ الصغير صنبورَ المياه عن آخره وبلغ بفوهة الخرطوم أقصى قوتها وشاهدَها وهي تُحدِث ثقبًا في حوض زهور المخملية، وتقتلعُها من الأرض. وطغى على هدير النحل، وعلى تدفُّق المياه، الصوتُ الأنسبُ للوجه الذي كان جيمي قد رآه في الليلة السابقة، صوتُ إنسان وثنيٍّ صغير عازم على إقامة العدل، وهو يعلو ويُجلجل ويقول: «ها قد حُوصرتِ! ها قد أحاط بكِ من ثلاث جهات! ها هو يحيط بكِ تمامًا! الآن ستَنالين عقابَكِ! لكنني سأمنحُكِ فرصةً واحدة فقط! اترُكي تلك الأوراق!»
نظرت الفتاةُ لأعلى. فمن جانبها كان النحل الإيطاليُّ يهدر على بُعد بضع ياردات منها. ومن خلفها وأكثرَ اقترابًا سربٌ آخر، بينما جعل يهبط عليها من الأمام النحلُ الألماني الأسود.
فصرخَت: «وجِّه ذلك الخرطوم نحوي!» «احمِني بالمياه! صُدَّه عني بها!»
فخرج الكشافة الصغير حتى أصبح ظاهرًا تمامًا على أطراف أصابعه محتفظًا بالخرطوم حيث كان بالضبط.
«هل تريدين مني أن أُطلق ذلك الخرطوم على نحلِنا، نحلنا اللطيف البريء، الذي يؤدِّي عمله، ويصنع الأطيابَ ليُغذي بها العالَم؟ هذا النحل صديقي! إنني مساعدُ سيد النحل. وقد أعطاني نصفَ هذا المكان. تعتقدين أنكِ ستسرقينه! تعتقدين أنكِ ستحرقين أوراقه! اعترفي بالحقيقة الآن، وإلا نال منكِ النحلُ، وفي ظرف خمسِ دقائق ستُصبحين جثةً هامدة … ستَهلِكين مثل أيِّ كاذب بل أشدَّ هلاكًا! انتبِهي! إنه أمامكِ! اعترفي بالحقيقة! قولي إنكِ لستِ ابنةَ سيد النحل!»
وبينما هي متشبثةٌ بالفرن، ألقت الفتاةُ نظرةً مذعورة حولها. كانت في وسط دائرة من النحل وهي قد سمعَت عن النحل الألماني الأسود. وتعرفَت إليه بمجرد أن رأتْه. فقد رأت في طفولتها حدائقَ النحل حين كانت تسكن منزل سيد النحل. ومِن ثَم صرخَت بأعلى صوتها.
قال قائدُ الكشافة: «توقَّفي عن الصراخ!» وتابع: «اعترفي بالحقيقة، في رأيي، عليك أن تعترفي بالحقيقة! قولي: «مايكل ورذينجتون لم يكن أبي».»
وفي تلك اللحظة أصابت أولُ نحلة من النحل الألماني ضحيَّتَها في رأسها في مكانٍ غير بعيد عن أذنها اليمنى وواصل البقيةُ مهمته.
فصرَخَت الفتاة: «لا! لا! لم يكن أبي!»
قال الكشافة الصغير: «قولي إنكِ تُحاولين سرقةَ هذا المكان وإنكِ لا تملكين حقًّا فيه.»
اعتدَلَت الفتاة وحاولت أن تخطوَ خطوةً إلى الأمام. لكن أصابتها نحلةٌ ألمانية سوداء أخرى في جبهتها مباشرةً.
فاستمرَّت في الصراخ: «نعم! نعم! إنني أحاول سرقتَه! وليس لي حقٌّ فيه!»
قال الكشافة الصغير: «آمم! والآن قولي إنكِ تُحاولين حرق تلك الأوراق للتخلصِ من كل الأدلة التي ستَحول دون ارتكاب السرقة التي تُحاولين ارتكابها! قولي ذلك، وقوليه بأقصى سرعة!»
قالت الفتاة المعذَّبة بأنفاسٍ متقطِّعة: «نعم! نعم! سأقول أيَّ شيء! أسرِع! أسرع، وإلا فات الأوان!»
فقال الكشافة الصغير: «ستقولين الحقيقة بشأن شيءٍ آخَر أولًا.»
كان الخرطوم الفائرُ في تلك اللحظة يُحدِث حفرةً في حوض زهور المخملية، حفرةً كبيرة حتى ليغرقَ فيها عِجل. جعل الكشافة الصغير يقفز من قدمٍ إلى الأخرى، متمسكًا به بكلِّ ما في ذراعَيه الفَتيَّتين بالِغتَي الصلابة من قوة.
«قولي حقيقةَ ما حدث لماري الصغيرة أيضًا! قولي إنكِ دفَعتِها! أعلمُ أنكِ فعلتِ ذلك. كان سيدُ النحل يعلم أنكِ فعلتِ ذلك، لكنه لم يستطِعْ إثباتَه. سأجعل النحل يلدغُك حتى ينفُذَ إلى أحشائكِ إن لم تقولي حقيقةَ ذلك الأمر!»
أحدثَت النحلةُ الألمانية الثالثة أثرَها في العضلات الرقيقة قرب إحدى العينين.
قالت الفتاة المنكمشة وهي تلهث: «أجل! أجل! أجل! الخرطوم بحقِّ الله! وجِّه الخرطوم نحوي!»
هتفَ قائد الكشافة: «خرِّي إلى الأرض ملاصقةً لها!» ثم أضاف: «ارقدي على بطنكِ وازحفي! ازحفي مثلَ الدود الذي تنتمين إليه! لن أحولَ الخرطومَ على نحلِنا. انبطِحي على الأرض، يا نبوخذ نصر، ألصِقي بطنَكِ بالأرض وكُلي الحشائش! كُلي الأوساخ، إنني لا أكترث! يمكنكِ بعد ذلك أن تبدَئي الزحف! يمكنكِ أن تبدئي الزحفَ مثل دودةٍ حقيرة! توجَّهي إليَّ وسوف أرشُّكِ بالمياه حتى لا يصلَ إليكِ! لن أوجِّه الخرطوم نحوَ أصدقائي! سُدِّي أنفَك! فسوف تنزل الثلوج.»
أصاب الخرطومُ ببالغ قوته الكائنَ البائس المنبطحَ على الأرض، أصابها وانطلق فوقها وأصاب بضعةً من النحل الذي كان يطير على ارتفاعٍ منخفض شاردًا. جاءت المخلوقة الجديرة بالرِّثاء تزحف مرتقيةً التلة، تلهثُ لالتقاط أنفاسها، وقد راحت إحدى عينَيها تنغلق ببُطء، وأصبح ألمُ القرصات الثلاث أشبهَ بعذابٍ لا يُحتمل، يزوم فوقها نحلٌ يصل عددُه إلى ألف. تراجعَ الكشافة الصغير على مهل صاعدًا التلةَ، يُجرجر الخرطوم الملتويَ، متوقفًا كلَّ بضع ثوانٍ ليُطلقه على الضحية مرةً أخرى. وأخيرًا وصل إلى مسافة كافيةٍ للسماح بإقامة هُدنة.
أمرَها قائدُ الكشافة، وهو يدور سريعًا ليُقلل من اندفاع المياه: «توقَّفي الآن حيث أنتِ!» وتابع: «توقَّفي حيث أنتِ بالضبط!»
صاحت الفتاة، وهي تنهض على رُكبتَيها بمشقَّة: «لا! لن أتوقفَ في مكاني! سأُمسك بك وأفصلُ رأسك عن عنقك! يا أيها الشيطان الصغير! أيها الشيطان الدنيءُ الصغير!»
انطلقَت الفوهة، فتدفقَت المياهُ على رأس الفتاة وكتفَيها بالضبط. فسقطَت.
«هل هذه نيَّتُكِ إذن؟ هكذا تشكُرينني على إنقاذِك، أيتها الكاذبةُ اللصَّة! لم تعرفي أن باستطاعتي سِحرَ النحل، أليس كذلك؟ لم تكوني على درايةٍ بأنني أستطيع الركض إلى الجانب الآخَر منه ورشَّه برفقٍ حتى أسوقَه نحوكِ، أليس كذلك؟ ولم تعلَمي أنه ما زال لديَّ في جعبتي حيلةٌ أفضل من تلك، أليس كذلك؟»
كادت الفتاة أن تنهض على ركبتَيها مرة أخرى، ومجددًا اقتربَ الخرطوم منها وهو يفور مهدِّدًا.
قال الكشافة الصغير: «توقَّفي الآن، توقفي عن اندفاعكِ الأهوج حيث أنتِ تمامًا إلى أن تُدركي مقصدي.»
من الحبلِ المتَّسخ حول عُنق الكشافة الصغير ظهرت صافرةُ الشرطة. واستجابةً للنَّغْمة الحادَّة انبثق من وراء شُجيرة الليلك، ومن وراء البلمباجو، ومن وراء بنت القنصل، ثلاثةُ عفاريتَ صغيرةٍ بعيون متَّسعة يتقافزون هائجين وقد جعلَهم ما شَهِدوه في انسجامٍ مع روح المعركة.
ثبَّت قائدُ الكشافة صافرةَ الشرطة أمام قميصه المتسخ.
«فتى الكشافة رقم واحد!» جاء الأمر مقتضبًا، فأمسك بيل السَّمين الطيب عن الحركة وأدى التحية.
«فتى الكشافة رقم اثنان!»
وهنا قفز الفتى المطيع في مكانه.
«فتى الكشافة رقم ثلاثة!»
فانتظمَ ذو الوجه الملائكي في الصف.
قال قائدُ الكشافة: «فلتُمسِك بهذا الخرطوم يا فتى الكشافة رقم ثلاثة! فقد أوشك أن يُنهِكَني في السيطرة عليه. ساعِدْني في تصويبه قريبًا من رأس السيدة الشابة التي راحت تُصلِّي أمامنا. لقد هدَّدَت بإيذائي.
صاح بيل السمينُ الطيب: «حسنًا، فلتُقدِمْ على إيذائك!» وتابع: «فلتُقدم على إيذائك! فلتُحاولْ ذلك! فلتحاول ذلك! فما الذي ستجدُه يا رفاق؟»
هتف فتيان الكشافة في نفَسٍ واحد: «المزعج!»
عندئذٍ أيقظَت جيمي صافرةُ الشرطة والصخب، ليدورَ حول منزل مارجريت كاميرون من الخلف بعدها بقليلٍ فيلتقيَ بجون كاري الذي كان يدور حوله من المقدمة.
إذ قال له: «شيء ما يدور في حديقة النحل. أعتقد أن فِتيان الكشافة يتعاركون في إحدى معاركهم التمثيليَّة. ابقَ خلف الشجيرات واتبَعْني. قد تجد ما يُثير اهتمامك فيما ستراه وستسمعُه. فأحيانًا يكون الأمر ممتعًا!»
ومِن ثَم مرَّ الرجلان من البوابة، وفي ستار الأشجار والشجيرات، اقتربا كثيرًا من سياج الزهور القائم خلفَ شجرة الجاكرندا، حيث توقَّفا.
قال قائد الكشافة آمرًا: «فتى الكشافة رقم واحد! فلتُخبر قاضيَ الوصايا بما سمعت. هل سمعتَ الشاهدة التي أمامك تقول إنها كاذبة؟»
«سأخبر العالم أجمعَ بذلك! وقالت إنها سرَقَت الأوراق، وإنها كانت تحاول حرقها حتى تتمكَّنَ من سرقة هذه الحديقة. لا شك أنني سأخبرُ القاضي!»
«فتى الكشافة رقم اثنان!» قال قائد الكشافة، بينما مال جيمي وجون كاري إلى الأمام يُحدقان من خلال الشجيرات، بعيون متسعة كعيون الصغار.
ردَّ عليه ذو الوجه الملائكي: «بالتأكيد! بالتأكيد سمعتُها!» وتابع: «لا شكَّ أنني سمعتها تقول إنها كذبت، وإنها حاولت سرقةَ هذا المكان وإنها دفعَت ماري الصغيرة كي تموت. سمعتُها بالتأكيد! ورأيناك وأنت تُطلِق عليها النحل فعلًا! ولا شك أننا رأيناه وهو يقرصها من رأسها! ولا شك أننا نعلم أنها نالت ما تستحق! ولا شك أننا سنُخبر القاضيَ بذلك!»
قال قائدُ الكشافة: «فتى الكشافة رقم ثلاثة. ماذا عنك؟ فلتُرِني ما لديك!»
كان الخرطوم قد سُلِّم وسط المعمعة ليُسيطر عليه فتى الكشافة الثالثُ، الذي فعل كلَّ ما في استطاعته لكبحِه. أما الكشافة الصغير فقد ذهب ليُخفف من ضغطه.
«مثل الباقين. كل شيء. سمعتُ كلَّ شيء من البداية للنهاية. وأستطيع أن أحكيَ له بالتأكيد. كل شيء عن كذبها. وكل شيء عن سرقتها. وكل شيء عن الفتاة الصغيرة التي دفعَتْها كي تموت. بالتأكيد أستطيع أن أخبر أيَّ قاضٍ طيبٍ بالأمر!»
جعل قائدُ الكشافة يتراقص ويتمايل ويحيط ركبتيه النحيلتَين بكفَّيه مطلقًا صيحةَ حرب لعلها كانت ستصلُ إلى أجزاء كثيرة من الكرة الأرضية لو كانت بُثَّت بطريقةٍ مناسبة من جهاز لاسلكيٍّ أُحسِنَ ضبطُه.
«وأنا سأخبر العالم بما حكاه لي سيد النحل، كما أن الأوراق التي في الفرن آمنة ولم تتعرَّض للإتلاف، يحرسها ثلاثةُ أسراب من النحل، وإن لم نستطع نحن الأربعةُ السيطرةَ عليكِ، فإنني أعرف شخصًا يستطيع ذلك! انهضي أيتها الدودة! انهضي أيتها الكاذبة! انهضي أيتها اللصَّة! انهضي أيتها المخلوقةُ الكريهة! انهضي واقفة! اذهب إلى الهاتف يا فتى الكشافة الأولَ واتصل برقْم صفر صفر سبعة خمسة. اتصل بعرَبة الأجرة التي كنتُ أنا وسيدُ النحل نركبها دائمًا لتأتيَ إلى هنا سريعًا. كشافة رقم اثنان، ابقَ مع الكشافة رقم ثلاثة. كشافة رقم ثلاثة، احتفظ بالخرطوم حيث أنتَ تمامًا. فإن تحرَّكت فأمطِرْها به. لا تكن متهاونًا. لم تَرُق كاليفورنيا للسيدة؛ فهي قاسيةٌ عليها. لذلك تريدني أن أجهز صندوق أمتعتِها. أستمحيكم عذرًا!» واختفى قائد الكشافة في منزل سيد النحل.
بعد الانتهاء من الاتصال الهاتفي، جرَّ الكشافة الأولُ وقائد الكشافة صندوقَ الأمتعة بينهما إلى وسَط حجرة المعيشة وألقيا فيه بملابسِ الدخيلة. وأزاحا أغراضَ الزينة من فوق خِزانة الأدراج الخاصة بجيمي إلى صندوق الزينة. وانتزعا قبعةً ومعطفًا من خِزانة الملابس، وسحَبا لوازمَ السفر حتى الرِّواق الأمامي، بينما وقَف جيمي ماكفارلين وجون كاري وراء سِياج زَهْر العسل يُشاهدان الأحداث شِبهَ مشلولي الحركة.
وأسرَع مما توقَّعا، توقفَت عربةُ الأجرة لدى البوابة، بينما سار قائدُ الكشافة مثلَ شابٍّ متأنق شبه مخمور يؤدي رقصةَ ريل الأيرلندية، يتبخترُ ويتمايل يمينًا ويسارًا، واضعًا يدَيه على خاصِرَيه حين لا ينهمكُ في التلويح بهما في الهواء موزِّعًا حركاتٍ مستفيضة، ثم قال آمِرًا: «ضع ذلك الصندوقَ في المقعد بجوارك. وضع حقيبةَ السفر وحافظةَ الملابس في الخلف. سوف أُخرجُ هذا المشهد كما يُخرج أبي المشاهدَ في الاستديو الكبير. سيدي سائقَ سيارة الأجرة، خذ هذا المعطف وضَعْه على السيدة وخُذ هذه القبعة وألبِسْها إياها، وأحِطْها بذراعك، وإن لم تستطع المشي، فاحمِلها إلى الخارج وضَعْها في السيارة. اتجِه بسيارتك إلى محطة سانتا في مباشرة، وإن احتاجَت إلى مساعدة، فساعِدْها في الحصول على تذكرة إلى أيِّ مكان في بنسلفانيا تقول إنها ذاهبةٌ إليه، ولتفعل ذلك سريعًا جدًّا أيضًا!»
وقف قائد الكشافة ساكنًا حتى اختفَت السيارة، ثم استدار وقال: «أشكرُكم أيها الفتيان! سأغيبُ اليوم. فلَديَّ عمل، لكنني لن أنسى مكافآتِكم، وسوف أُضاعفُها لكم! أؤكِّد لكم أنها ستكون رائعة. أفضل من سائر المكافآت. ولا ينسَ أحدٌ منكم كلمةً مما سمعتموه أو رأيتموه. ثَمة احتمالٌ أن تذهبوا إلى المحكمة وتُخبروا قاضيَ الوصايا به كما قلت، أما الآن فقد انتهَت حاجتي منكم وأريدُكم أن تتفرَّقوا سريعًا. سوف أُكافئكم غدًا ولترفَعوا رءوسكم عاليًا جدًّا؛ لأن ما حدث اليوم لم يكن تمثيليَّة. فقد كنتم فتيانَ كشافة، فتيانَ كشافةٍ بحق، وقمتم بمهمةٍ حقيقية، وقد أدَّيتُموها على أكملِ وجه! تبقَّى شيء واحد فقط. تذكَّروا عهودكم المغلَّظة. تذكَّروا واجباتكم وما إلى ذلك. تذكَّروا أنكم إن أخبرتُم أحدًا، فستُفصَلون وتُنبَذون. فلتتفرَّقوا تصحبكم السلامة. أما أنت يا فتى رقم ثلاثة، فأرجو أن تُهرَع لغلق الصنبور قبل ذَهابك، لأنني لا أُخفي عليكم يا رفاق أن هذه المناوشة كانت شاقَّة جدًّا وأنني في غاية التعب! والآن انطلِقوا في مسيرتكم معتزِّين بأنفسكم.»
وقف قائدُ الكشافة مستقيمًا، يُراقب البوابة بينما فِتْيان الكشافة رقم ثلاثة واثنَين، وبيل السمين الطيب وراءهم، يومِئُون جميعًا، ويتحدَّثون جميعًا في الوقت نفسِه، إلى أن اختفَوا عبر الطريق. وبعدَئذٍ، على الفور، هبط الكشافةُ الصغير بوجهه على الوحل وراح يصرخُ بأعلى صوته، وهو يبكي ويرتعش، صياح حادٌّ مقتضَب، صيحات مذعورة أوجعت فؤاد جيمي، فاخترق زهراتِ العسل وأخذ الكشافةَ الصغير بين ذراعيه، وجلس على المقعد أسفلَ شجرة الجاكرندا وقد ضمَّ إليه حمَلَه الصغير بشدة وراح يُمطر الوجهَ والرأس الصغيرَين بقُبلات لا حصرَ لها.
من شأن الرجل الاسكتلنديِّ أن يكون متحفظًا في كلامه، بيد أن لسانَ جيمي سبقه في تلك اللحظة المحمومة.
إذ قال: «أيها الصغير! أيها الصغير الشجاع! لقد نجحت. لقد أنقذتَ هديةَ سيد النحل لنا. كان جون كاري معي هناك في الخلف وشاهَدْنا وسمعنا ما يكفي لإرسال تلك المرأة إلى السجن. فلا تبكِ بعد الآن! دعني أضمَّك بشدة واسترِحْ قليلًا. كان جُهدًا كبيرًا. كان مجهودًا شاقًّا عليك يا أيها الصغير العزيز!»
لوهلةٍ ظن جيمي أن الحمَل الذي بين ذراعَيه سينطلقُ بعيدًا عنه تمامًا، فقد اشتدَّ عوده واستقام على حين غِرَّة.
قال قائدُ الكشافة مستهزئًا: ««الصغير العزيز»!» ثم أضاف: ««الصغير العزيز!» أظن أنك ستدعوني بعد ذلك ﺑ «الطفل»! فذلك هو الاسمُ الذي نادتني به تلك الفتاة. إن ناداني أيُّ شخص يومًا في العالم مرة أخرى ﺑ «الطفل» فسأحطم أسنانَه. حُسِم الأمر!»
جعل قائد الكشافة يبحث عن شيء مناسب ليُجفف به عينَيه، ولما لم يجد، جلس ساكنًا تمامًا أثناء استخدام جيمي منديلَه.
قال الكشافة الصغير مزدردًا لُعابَه: «لا أعلم ماذا ستفعل بي. أعتقد أنني كدتُ أدمِّر حوضَ زهور المخملية، وكان الجزء الخاص بك هو الذي أصابه الضرَر.»
فقال جيمي: «حسنًا، انسَ تمامًا أمر المخملية. فبإمكاننا زراعةُ حوضٍ جديد وغرسُ المزيد من البذور. دَعْك تمامًا من أمر المخملية! وأخبرني بما حدث.»
فقال قائدُ الكشافة: «كان هذا جلَّ ما استطعتُ فعله للسيطرة على الخرطوم وهو مفتوحٌ عن آخرِه، فقد كنتُ مرعوبًا لدرجة الموت من أن ينفجر. فقد ظلَّ يتلوَّى ويتقلبُ مثل الحية، وكان لا بد أن أُبقِيَه قريبًا منها؛ لأنه لو كان النحل بدأ يُحيط بها حقًّا، لكنتُ سأُضطرُّ إلى صدِّه، لكنني ما كنتُ سأفعل ذلك لأنه أصابها مرتَين أو ثلاثًا؛ إذ كان لا بد أن يُصيبها بعضُ الأذى وإلا ما كانت ستعترف. ما كنتُ سآبَهُ لو حدث التلفُ في الجانب الخاصِّ بي، لكنني مستاءٌ بشدةٍ من تدميرِ جانبك. بإمكانك أن تأخذَ الخرطوم في الحال وتذهبَ إلى جانبي وتُحدِث حفرةً في مثلِ حجم الحفرة التي أحدثُتها لديك.»
قال جيمي: «إنني مندهشٌ من كلامك. أن يأتيَ من شخص لديه من رجاحة العقل ما لديك! كيف لحفرِ حفرة بالحجم نفسِه في أرضك أن يُساعدني في استعادة حوض زهور المخملية الخاصِّ بي؟ ليس هذا منطقيًّا.»
قلَّب الكشافة الصغير الأمرَ على وجوهه، ثم نظر لأعلى نحو جيمي بعينين متسعتين متعَبتين.
ثم ردَّ قائلًا: «حسنًا، إنما أرى أنها مسألةُ عدل.»
فقال جيمي: «ربما، لكن العدل وحُسن التمييز الحقِّ لا يتَّفقان دائمًا.»
وإذا بالكشافة الصغير يبتهج.
«حسنًا، على أي حال لستَ وحدك مَن أصابك بعضُ الدمار. انظر ما الذي تجرَّأتْ وفعَلَته تلك الفتاةُ بصندوق الملكة! حسبُك أن تدخل وتنظر ما فعلَته بأملاكي!»
قال جيمي: «في «صندوق الملكة»؟ ماذا تقصد؟»
صاح الكشافة الصغير: «ماذا أقصد؟» وتابع: «أقصد أنها ذهبت إلى مخزن الأدوات قبل أن توصِدَه، وأخذت المطرقة، وخبَّأتْها في المنزل. وفتحَت صندوق الملكة محطِّمةً إياه، مستخدِمة المطرقة.»
فقال جيمي: «ويحي، يا للقسوة! لكن لا تستَأْ. سوف أصلحه حتى إنك لن تلحظَ الفرقَ أبدًا حتى إن اضطُرِرتُ إلى ترميم الجزء الأمامي كلِّه.»
فقال الكشافة الصغير: «لقد حطَّمتُ الجزء العُلْوي من حول القُفْل حيث يعمل الزنبرك الخفي.» ثم أضاف: «الأمر وما فيه أنني لا أحبُّ أن تُحطَّم الأشياء ثم تُرمَّم. أحبُّها وهي سليمة كما كانت حين أعطاها لك الشخصُ الذي تُحبه.»
فقال جيمي: «حسنًا، دَعْك من هذا. فذلك الصندوقُ لم يكن جديدًا من الأساس. أعتقد أن عمره يُقدَّر بنحوِ خَمسِمائة عام على الأقل، وعلى أي حال، يستطيع الناس الآن إصلاحَ مثل تلك الأشياء ببراعة شديدة. وما دام الكسرُ حول القفل فقط، فإنني متأكدٌ أننا سنستطيع إصلاحَه فلا يلحَظ أحدٌ أبدًا ما كان به.»
استخدم الكشافة الصغير منديلَ جيمي في تجفيف عينيه الحمراوين.
«فليكن إذن» جاءت موافقةُ الصغير في واحدةٍ من التغيرات السريعة المعتادة منه ثم استأنف: «فليكن إذن. سوف نُصلحه، غير أننا لم نكن بحاجةٍ إلى صندوقٍ مرمَّم ليُذكِّرنا بها. فلدينا الحديقة بأكملها تَذْكارًا من تلك السيدة!»
وعلى نحوٍ مفاجئ شرَع الكشافة الصغير في الضحك.
«ويحي! ألم تبدُ مذهلةً وسائقُ السيارة يُلبِسها قبعتَها ومعطفها؟ ألم تبدُ السيدة أنيقةً؟ ترى لو كانت نانيت قد رأتها هل كانت ستقول إنها تبدو رائعة؟»
فأجابه جيمي مُقهقهًا.
وقال: «لا؛ لا أعتقد أن النعت المفضَّل لدى نانيت كان سينطبقُ عليها. لا أعتقد حتى أنها كانت سترى أن السيدة عند رحيلها بدَت رائعة.»
فقال الكشافة الصغير: «سيتعيَّنُ عليها الذَّهابُ إلى غرفة الملابس مباشرةً وتَبْذل أفضلَ ما في وُسعها في وضع أصباغ الحرب والريش.»
فسأله جيمي: «هل تعتقد حقًّا أنها سترحل؟»
تنهَّد الكشافة الصغير تنهيدة عميقة.
«لا آبَهُ البتةَ إن ذهبَت أو بقيَت. فإن المُهر الذي راهنتُ عليه بنقودي في هذا السباق يُخبرني بأن تلك السيدة لن تعود إلى منحل سييرا مادري أبدًا. لقد نالت نصيبَها من العقاب المؤلم، وإنني على يقينٍ من أنها لا ترجو المزيد، سواءٌ من الخرطوم بتدفُّقِه الشديد، أو قرصات النحل في عينها، أو أي شيء آخر! لقد حصَلَت على نصيبها حتى وإن كنتُ اضطُرِرتُ إلى إتلاف زهور المخملية كي أعطيَها إياه!»
«أستحلفُك بالله ألا تقلقَ بشأن حفرةٍ في حجم حوض الاستحمام وقد تمكَّنتَ لتوك من أن تُنقذ لي فدَّانًا!»
فقال قائد الكشافة: «حسنًا إذن. ما دام هذا ما تراه فأنا أُوافقك فيه. هل تُمانع إن لبثتُ هنا قليلًا؟»
كان جيمي يعلم ما المقصود بذلك. المقصود أن يذهب شريكُه الصغير ويعتليَ نهاية فراشه ويذهب في سُباتٍ عميق، وقد رأى أن ذلك أفضلُ شيء ممكن. ولذلك لم يُمانع البتة؛ لأنه وجون كاري كانا سيعودان لتسكين النحل. فانسلَّ قائد الكشافة إلى الأرض. وشعر جيمي بغتةً بذراعين صغيرتَين نحيلتين حول عنقه تضمَّانه بشدة حتى شعر كأن رأسه سينخلع. ثم، وللمرة الثالثة، تلقَّى على خده بالضبط قُبلةً أخرى صغيرة وقوية وحارَّة أدرك أنه لن ينسى وقعها وأسلوبها أبدًا.
مضى الكشافةُ الصغير نحو المنزل، لكن بعد بِضع ياردات فقط أمسك عن الحركة، ثم التفتَ الصغير. وقال: «هلمَّ! يا للحماقة! لقد نسينا الفرن! فأشياءُ هايلاند ماري وماري الصغيرة وسائرُ الأوراق المهمة غارقةٌ وسطَ الرماد وقد يكون مشتعلًا تحتَها قبَسٌ من النار! عليك أن تُحضرها سريعًا، وعليَّ أن أفتح عليك الخرطوم أثناء ذلك! أيًّا كان الشيء الذي أرادت بشدةٍ أن تُحرقه، فهو بالضبط ما يجب أن يكون بحوزتنا لإثبات أننا نستحقُّ ما أعطانا إياه. ولا يمكننا أن نخبر قاضيَ الوصايا ليُصدِّقنا بذلك من دون الأوراق التي في الفرن، ولا يبدو أنك رابطُ الجأش بما يكفي لمعالجةِ أمر الفرن الآن من دون التعرُّض لخليطٍ من النحل الألماني الأسود والإيطالي والألماني، يهجم دون مقدِّمات!»
فقال جيمي: «اذهب أنت في سبيلك. فسوف أرتدي الملابسَ الخاصة بالنحل. وربما أرتدي فوقها معطفَ المطر، ومن المحتمل أن أضع قناعَ النحل بما أن الحال مضطربة، لكن لا تقلق، فسوف أصلُ إلى الفرن وأُخرج كلَّ ما فيه. ولن أتوقَّف لأُسكن النحل حتى يصبح كلُّ شيء على طاولة المطبخ موزعًا عليها ليجفَّ.»
أسرع جيمي إلى الرواق الخلفيِّ ليُعِدَّ نفسه، وبينما كان يدور حول زاوية المنزل، جاء جون كاري مرتقيًا السُّلمَ الخلفي مخلِّفًا رمادًا في أثره، حيث وضع الفرن في الرواق الخلفي.
«رأيتُ أنه من الأفضل أن أحضره ونتركَ الأشياء لتجفَّ تمامًا. لم أرد أن نُخرجَ أيًّا من الأشياء مخافةَ فقدان شيء أو ضياعه. وأريدك أنت أن تفعل ذلك بنفسك.»
فدخل جيمي إلى حجرة المعيشة وهتف قائلًا: «لقد أحضر جون كاري الفرن من أجلنا. إنَّ لديه مناعةً من النحل بحق!»
«إنني على يقينٍ من ذلك»، جاء صوت الكشافة الصغير، لكنه بدا مكتومًا كأنه صدَر منه وكأنه قد دسَّ رأسه في الوسادة.
جمع الرجلان بعضَ المناشف الناعمة وجعلا يعملان حثيثًا، فجفَّفا الوثائقَ والدفاتر المصرفية والأوراق المهمة والخطاباتِ والصور التي عثَرا عليها، ووضَعاها على طاولة المطبخ. ثم أسرعا إلى السقيفة لإعداد قفائرَ جديدةٍ للنحل الذي غادر قفائرَه. وحين وصلا إليه، كان نحلُ السِّربَين اللذين قد خرجا رابضًا على فروع الأشجار حول ملكاته ولا يحتاج إلا إلى القليل من الدخان ليُفقِدَه الحسَّ حتى يسهلَ تنظيمُ عملية انتقاله. أما النحل الألماني الأسود، فهو ما زال هائجًا، لكنه ربَض بعيدًا، بينما جعلَت الشمسُ الحارة تُجفِّف محيطَ قفائره سريعًا، وقد توقَّف ضجيجُ الخرطوم، وزالت الرائحة التي نَفرَ منها، فأخذَت ثائرته تهدأ بالوتيرة المتوقَّعة من نحلٍ عصبيِّ المزاج.
وأثناءَ عمَلِهما، راح الرجلان يتبادلان الحديث؛ أحاديث لاهثة، عبارات دهشة في أغلبها. فكان مما يسمعه المنصِتُ لحديثهما، كلامٌ في فحواه مثل:
«يا للعجب! لقد أخضعَها ذلك الكشافة الصغيرُ وحده وجعلها تعترف! إنني لأدفعُ خمسين دولارًا لأرى المشهدَ بأكمله!»
كان هذا كلامَ جون كاري.
فقال جيمي: «إنه يستحقُّ أكثرَ من ذلك.»
«لقد تجنَّبتَ غالبًا دعوى قضائيةً كانت ستستمرُّ شهورًا وتُكلفك أموالًا طائلة وتُثير الكثير من الدعاية السيئة.»
«بعد أن نُجهِّز هذا النحلَ سأذهب إلى منزل مارجريت كاميرون وأرتب كلَّ شيء هناك وأستعيدُ أغراضي. فقد كنتُ أنوي البقاءَ هناك إلى حينِ عودة مارجريت.»
«كان من الحماقة أساسًا أن تسمحَ لتلك الشخصية بدخول المنزل، ثم تُغادره تاركًا لها الأشياء!»
ابتسم جيمي، ابتسامةً اسكتلندية بطيئة.
ثم قال: «لتعلم أننا لا نعرفُ من أمور أنفسنا في هذا العالم شيئًا. فقد كنتُ أظن أنني لم أستحقَّ هذه الأرض، وأنها ليست من حقي، وأنها من حقِّ شخص تربِطُه به صلةُ دم؛ لم أظنَّ أنني متعلقٌ بها، لكنني حين خرَجتُ منها وشرَعت في محاولة التنازل عنها وجدت أن خَسارتها تكاد تقتلُني. صدِّقني؛ إنني لن أتنازلَ عنها بعد الآن لأيِّ أحد، وهذا قرارٌ نهائي!»
مِن ثَم أسكَنا النحلَ الذي غادر قفائرَه، وتفحَّصا القفائرَ الأخرى لإزالة الملكات القديمة وتدميرِ خلايا الملكات والبحثِ عن أنسجة عثَّة على الأقراص، وحين أصبح كلُّ شيء في موضعه المناسب عاد جون كاري إلى منزله، وأخذ جيمي جاروفًا وبدأ إصلاحَ التلف في حوض المخملية. ثم ذهب ليُنظف منزل مارجريت كاميرون، واستعاد بعض أغراضه بقلبٍ مفعَم بالامتنان حتى إنه تذكَّر فجثا على رُكبتَيه وشكَر الله.
حين استيقظ الكشافةُ الصغير في منتصف وقتِ ما بعد الظهر، كان جيمي في انتظار إعادة أغراضه إلى خِزانة الأدراج وخِزانة الملابس. ثم ذهبا إلى المطبخ وجمَعا أغراضَ سيد النحل، التي كان الهواءُ البارد الجافُّ قد أتى أثَرُه عليها، فأعاداها بحرصٍ إلى الصندوق، وأعادا الخشبَ المهشَّم في مكانه، وقيَّما التلفيَّات. خطر لجيمي أنه قد يعثر على رجلٍ يستطيع إصلاحَه بمهارةٍ شديدة فلا يُدرك أحدٌ أن ذلك الصندوقَ الجميل كان قد تحطَّم. ثم ذهب إلى حُجرته ليُعلق ملابسه ويُعيد أشياءه إلى خِزانة الأدراج.
لم يعهَدْ أحدٌ يومًا قائدَ الكشافة الصغيرَ وهو يُضيع أي وقت. فلم يكن في هذا الجسد الصغير ذرةُ كسل. ومِن ثَم حصل جيمي على مساعدةٍ في تطبيق الأوراق ووضعِها في الصندوق. وكذلك أيضًا في إعادة قُمصانه وملابسه الداخلية وجواربه في أماكنها الصحيحة. وحين بلَغا الصرَّة الصغيرة، مُحكَمة الربط، دسَّ قائد الكشافة يدَيه الصغيرتين تحتَها ورفعها، ثم نظر إلى جيمي بعينَين متسائلتين.
«تبدو مثلَ متعلقاتٍ نسائية.»
ابتسم جيمي للتعليق.
«إنها «متعلقات نسائية». إنها أشياء تخص أمَّ جيمي الصغير.»
وقف الكشافة الصغير ساكنًا جدًّا وهو يحمل الصرةَ نحو جيمي، ورأى جيمي شفَتَيه تفترَّان فعرَف أنه سيسأله على النحو التالي: «هل يمكنني أن أرى ما بداخلها؟» لكن بطريقةٍ ما لم يشعر أنه يُطيق لمس تلك الأشياء. فمدَّ يده وقال على عُجالة: «سوف أسمح لك يومًا ما برؤيةِ ما بداخل تلك الصرة.» ولم يخطر للكشافة الصغير أنَّ جيمي نفسَه لا يعرفُ ما بداخلها. ومِن ثَم أعادا الصرةَ داخل الدرج وغطَّيَاها بالملابس، ثم ذهبا إلى بقالة الزاوية واشتريا ما أسماه الكشافة الصغير «لوازم الاحتفال».
وبعد أن فرَغا من «الاحتفال»، وأُخبر جيمي بكلِّ تفاصيل ما حدث في الصباح، نهض الصغيرُ عن الطاولة وساعدَه في رفع الطعام ومسح الصحون.
تساءل جيمي: «والآن ماذا نفعل؟»
فقال الصغير: «حسنًا، إنني لا أدري ما الذي ستفعلُه، لكنني أعلم ماذا أنا فاعل. سوف أذهب إلى المنزل لأمِّي وجيمي. فقد كنتُ أرعاه كثيرًا في الأيام القليلة الماضية حتى إنه بات يألَفُني أكثرَ مما يألفُ أي شخص آخر، ويُحبني أكثرَ أيضًا. وأصبحتُ الآن أعرفُ كيف أُجهِّز زجاجتَه، وأجعل حرارة الحليب مناسبةً له مستخدمًا ميزانَ الحرارة وسائرَ تلك الأشياء. وأستطيعُ الاعتناء به بنفسي في الأمور الأخرى إذا اضطُررت إلى ذلك. لقد اقتربتُ جدًّا من ذلك، على أي حال.»
فأشار جيمي قائلًا: «لكن ذلك من عمل الفتَيات.»
فقال الكشافة الصغير: «أجل، أعلم ذلك، ولأنه العمل الذي يجدرُ بالفتيات أن يَقُمن به بالفعل، فمن الغريب نوعًا ما أنني أرغبُ في القيام به، لكنني أريد حقًّا الاعتناءَ بجيمي. فأنا أرغبُ بشدة في رعايته حتى إنني بالكاد أُطيق أن أرى أمي تلمسه. إنه شيء غريب جدًّا. كنت أظن أنني أحبُّ الخيل أكثرَ من أي شيء آخر في العالم، لكنني لستُ كذلك الآن. فإنني أحبُّ جيمي شقيقي أكثرَ من الخيل، وأحبُّ جيمي ابنك كما أحبُّ شقيقي. أعتقد أنني أحبُّه مثله بالضبط، ولا أكترثُ البتةَ مَن يراني وأنا أعتني به. وذلك أمرٌ غريب أيضًا. فإن الفتيات لا يُثِرن اهتمامي. وليس بيني وبينهنَّ شيء مشترك. ولا أستطيع أبدًا أن أفكر في شيء لأقولَه لهن. ولا أعرف كيف ألعب معهن، ولا تروقُ لي الأشياء التي يفعلنها على أي حال. إنهنَّ واهناتٌ جدًّا. ولسنَ مفعَمات بالحماس. فلا يَحْدوهن حماسٌ ولا نشاط. ولا يلعَبْن لعبةَ الهنود أو اللصوص أو رجال الشرطة أو الكشافة.»
فقال جيمي: «مهلًا، ارجع عمَّا قلت.» وتابع: «إنك مخطئ. الفتيات يلعَبْن لعبة الكشافة. بل إنهن لا يلعَبْنها فقط، وإنما هن مِن الكشافة، وأن تفعل الشيء خيرٌ من أن تدَّعي فعله تحت أيِّ ظرف. هناك معسكرات لفتيات الكشافة وهناك فتياتٌ يستطعن امتطاءَ الخيل والتصويبَ بدقة والصيد وفعل كلِّ ما يفعله الفتيان، بل فعل بعض الأشياء أفضلَ من الفتيان، وكلهن فخر أنهن فتيات.»
لم يبدُ على الكشافة الصغير تأثرٌ بالغ.
«أفٍّ للفتيات! إنني لا أحبُّهن مطلقًا! لكنني ذاهبٌ إلى المنزل وسأقوم بعمل الفتيات لأنني أريد أن أتأكدَ بنفسي أن جيمي على ما يُرام. إنه صغيرٌ ولطيف للغاية. يا إلهي! سوف تحبه! ويحي! سوف يسرُّك أنك رُزقت به!»
سأله جيمي: «هل سأُسرُّ حقًّا؟»
«بالتأكيد! لا بد أن ترى أبي وهو مع جيمي شقيقي. إنما هو مهووسٌ به. فهو يقول إن جيمي شقيقي قد فاق كلَّ أطفال العالم.»
سأله جيمي: «وهل تعتقد أنَّ جيمي ابني لديه فرصةٌ أن يُصبح طفلًا طيبًا هكذا؟»
فقال الكشافة الصغير: «لا أعتقد أيَّ شيء بهذا الشأن. إنني على معرفةٍ جيدة بكِلَيهما وليس هناك ما يَعيب جيمي ابنَك. إنه لا يبكي ولا يُثير ضجَّة. إنما هو يتناول طعامَه ويخلُد للنوم ويظلُّ راقدًا رقيقًا جدًّا وساكنًا جدًّا حتى إنه يكاد يُمزق قلبَك أنه لا يملك من أمره شيئًا، وليس لديه أمٌّ لتحتضنَه. وإنه يستحقُّ بعض الرعاية، وسوف أذهب لأتأكدَ أنه يحصل عليها.»
فقال جيمي: «نعم، لقد خطَر لي ذلك أنا أيضًا. لا شكَّ أنه مسكينٌ صغير لا حول له ولا قوة.»
فقال قائد الكشافة مؤيدًا له بشدة: «أجل، إنه كذلك. إنه مسكينٌ صغير لا حول له ولا قوة. وهنا تأتي وظيفتُنا؛ لذلك لا بد أن نُباشر عملَنا ونتعهَّدَه برعايتنا.»
فقال جيمي: «حسنًا، سنُباشر عملَنا ونرعاه. فلتفعل أفضلَ ما في وُسعك بضعةَ أيام أخرى حتى تعودَ مارجريت كاميرون.»
عند ذِكر مارجريت كاميرون نظر كِلاهما في اتجاهِ منزلها، فرأَياها في اللحظة نفسِها وهي تدخل من بابها الخلفيِّ وتتحرك في أنحاء الجزء الخلفيِّ من منزلها.
هتَف الكشافة الصغير: «عجبًا، ها هي قد أتت!» ثم أضاف: «هل أذهبُ إليها وأخبرها بأمر جيمي وأسألها إن كانت ترضى أن تأخذَه؟»
فقال جيمي: «لا، لنُمهِلْها وقتًا لتخلعَ قبعتها وتُرتِّب منزلها، فربما ما اعتبرتُه ترتيبًا لن تعتبرَه هي كذلك. سوف أتحدثُ إليها هذا المساء، ثم أُهاتفك لأُبلغك بما قالته.»
فقال الكشافة الصغير: «حسنًا.»
ربما تحتوي تلك الكلمةُ على السر الذي اكتسبَ به الكشافةُ الصغير أصدقاءَ عدَّة؛ فهو كشافةٌ صغير محبوب. إذ لم يكن في عالم ذلك الشخص الصغير وقتٌ للمجادلة. فقد طبَّق الدرس نفسَه الذي تلقَّاه في تدريب الكشافة على حياته الشخصية. لقد تعلَّم قائدُ الكشافة كيف يُطيع. ومِن ثَم راقب جيمي الجسدَ المبتعِدَ عبر الطريق والمتجِهَ إلى الترام، مستعدًّا لتولِّي مهامِّ الفتيات في هذا الموقف؛ لأن «المسكين الصغير كان بلا حولٍ ولا قوة». فابتسم جيمي على نحوٍ مفاجئ ومضى لمقابلةِ مارجريت كاميرون.