مسئولية الصديق
وقف جيمي عند الباب الخلفي لبيت مارجريت كاميرون وهتف بمرح قائلًا: «أين كنتِ طَوال المدة الطويلة الماضية، يا أيتها الجارة؟»
تقدَّمَت مارجريت كاميرون إلى باب حجرة المعيشة واستندَت بيديها إلى جانبَيْ إطار الباب، فأصابت جيمي صدمةٌ هزَّته حتى الأعماق. وما لبث أنْ عبر الحجرة في خطوةٍ واسعة سريعة ليتلقَّفَها بين ذراعيه.
وهو يصيح: «أوه، مارجريت! مارجريت!»
أمسكَها بعيدًا عنه لينظرَ إليها، فبدا وجهها وجهَ امرأة في مصيبة. لكنها كانت أمامه. وهي في حالةٍ جيدة. فلم يخطر على باله سوى شيءٍ واحد.
فسألها: «هل هي لولي؟» وتابع: «ماذا حدث لابنتكِ؟»
فتحَت مارجريت كاميرون فمها، لكن لم تخرج منه كلمات. ساعدَها جيمي حتى جلست على مقعدٍ وهُرِع إلى المطبخ ليأتيَ بكوب ماء. ثم جثا على إحدى ركبتَيه بجانبها وأخذ بيديها بينما يُحدِّق فيها بعينَين متسائلتين.
وجعل يحثُّها قائلًا: «أخبِريني يا صديقتي. أخبريني ما الذي يمكنني أن أفعلَه لكِ. أين أذهب؟ بمَن أتصل؟»
على مهَلٍ هزَّت المرأة رأسَها، وأخيرًا جاء صوتُها، صوتٌ مبحوح أجشُّ لم يألَفْه من قبل.
«لقد ذهبت في تلك الرحلة للتَّجْوال في شمال الولاية. وسقطت من فوق منحدرٍ وأصيبت إصابة بالغة. لم يدرك أحدٌ مقدار خطورتها. إذ كانوا في مكان لا يمكنهم فيه الحصولُ على أي شيء. لا بد أنه كان التهابَ الزائدة الدودية أو التهابَ الغشاء البريتوني. كان جسدُها بأكمله مضمَّدًا. على أي حال، إن لولي الآن راقدةٌ بجوار أبيها في مقابر باينهيرست.»
صاح جيمي: «أوه. أوه!»
هبَط إلى الأرض وأمسك بيدَي مارجريت كاميرون وجلس يُحدق فيها.
فقالت من فورها: «لقد تلقَّيتُ اتصالًا هاتفيًّا من ابنةِ صِهري، مولي، تريدني أن آتيَ عاجلًا لمسكنها في البلدة؛ لأنها قلِقةٌ بشأن لولي. قالت ذلك لأن هذا من شأنه أن يجعلني أذهب إلى هناك. لا بد أنهم قد أبلَغوها بأن لولي كانت قد رحلَت. كانت مولي قد أرسلَت إليها خِطابًا وقد حصَلوا على العنوان منه وأرسَلوا لولي إليها. لقد كانتا دائمًا، ليس شقيقتَين، وإنما أقرب من شقيقتَين. لو كانتا شقيقتَين ما كانتا ستنسجمان مثلما كانتا منسجمتين. لقد ظللتُ مستاءةً من مولي وقتًا طويلًا. فقد ظننتُ أنها ضالعةٌ بدرجة كبيرة في موت لولي، لكنها ربما لم تكن كذلك. ربما كنتُ متألمةً للغاية من رحيلها حتى إنني تخيلتُ ذلك فحسب. فالأم كما تعلم تُفكِّر كثيرًا جدًّا، وأبناؤها هم قُرَّة عينها حتى إنها لا تملك ألَّا تنشغلَ بهم ولو كلَّفها ذلك حياتَها. لكنني لم أعُد بحاجةٍ إلى القلق بشأن لولي بعد الآن. فلم يَعُد بيدي شيءٌ لأفعله لها على الإطلاق.»
وجلست ساكنةً في حالةٍ من الاستسلام الذي خلا من الدموع.
فأمسك جيمي بيديها.
وقال: «فلتبكي! ابكي ملءَ جَفْنَيك على الأمر!» وتابع: «ضَعي رأسَكِ على كتفي ودَعيني أضُمَّك بشدة. ما دام الأمرُ يُمزقكِ أشْلاءَ فمن الأفضل أن تبكي على أن تجلسي بلا دموع هكذا.»
هزَّت مارجريت كاميرون رأسها.
وقالت: «أعتقدُ أن جرحي أعمقُ من أن يَطيب بالدموع. أعتقد أنني أشبهُ بمن قُتِل. ليتَه كان لديَّ شيء أفعله بخلافِ الأعمال المنزلية اليومية، شيءٌ مختلف، شخص يحتاج إليَّ! أردتُ أن تعود مولي معي، لكنْ بدا أن لديها أشياءَ تستدعي أن تمكثَ في البلدة، فأرادت هي أن أبقى معها؛ لكن رغم بشاعةِ المنزل الآن ولولي لن تعود إليه مجددًا أبدًا فإنني لا أراني قادرةً حتى على التفكير في مغادرته. لقد كان مُصابي أليمًا جدًّا، لخَسارتي جاري وكلَّ الضوء والحب والمرح الذي كان في حياتي وبيتي. وأنا لن أتحرَّج من إخبارك يا جيمي بأن سيد النحل لم يُحبَّني البتة. فقد كان قلبُه محطمًا من ناحية النساء.
لا أعلم كلَّ التفاصيل، لكنني أعلمُ المهم. فقد كان متزوجًا من زوجته الأولى التي يعشقُها، وبعد موتها استسلم لخداعِ امرأةٍ أخرى أوهَمتْه أنها سترعى طفلتَه وتُعطيه أسرةً وتُواسيه. لكنها لم تكن امرأةً مناسِبة وقد جاءته ومعها ابنة، ثم وقعَت مأساةٌ ألمَّت بابنة سيد النحل الصغيرة. لا أعتقد أنه استطاع إثباتَ ما حدث، لكن أظنُّ أنه كان يشعر في سَريرة نفسِه أن الطفلة الأخرى قد دفعَتها كي تموت، وحين وصَلوا إليها كان عمودها الفقريُّ قد أُصيب ولم تستطع السيرَ مرةً أخرى أبدًا. وكان عذابها رهيبًا حتى إنها لم تستطع تحمُّلَه طويلًا. وحين ماتت ترك كلَّ شيء لتلك المرأة مستبقيًا ما يكفي لشراءِ هذا المكان، ثم طلب من المحكمة أن تمنَحه حريتَه كي يُطلقها ثم جاء إلى هنا. كان حرًّا بعد أن طلَّقَها وكان باستطاعته أن يتزوَّجني، لكنه لم يرغب فيَّ. لم يرغب في أيِّ امرأة بتلك الطريقة. لقد نال عقابه. فقد أنهكَه الأسى والإحباط. إنه لم يُحبَّني، لكن آه، يا جيمي! لقد أحببتُه! لم أستطع أن أمنعَ نفسي من حبِّه. وكلما نظرتُ إلى مقعده بجانب المدفأة، رأيتُ شعره الأبيض الحريريَّ، وجبهته الشمَّاء، ووجهه النحيف النحيل الرقيق مثل الورق المصنوع من الجلد، دومًا كريم، ودومًا صبور … كنتُ على استعداد للتضحية بحياتي لمواساته! وحين أدركتُ أن هذا لا يمكن أبدًا، رحَلَت لولي، رحيلًا مباغتًا ومن دون أي داعٍ.
إنني لا أستطيع أن أفهم ما حدث يا جيمي! لم يكن ثمة سببٌ يستدعي رحيلَها عن ديارها. فقد كانت درجاتُها جيدةً دائمًا. وكانت متفوقة في دراستها. وقد عُرض عليها وظائفُ هنا مع نهاية الحرب حين كان المدرسون قليلين جدًّا، حين كان العديد جدًّا من الفتيات يُفضِّلن حريةَ العمل في المتاجر والمكاتب على قيود التدريس. لا أستطيع أن أجدَ مَفرًّا من حقيقة أنها رحلت لأنها لم تُرِد البقاء في المنزل. لم تُرد البقاءَ قربي، ولا أعلم السبب. فقد كنتُ أُمضي الأيامَ وأسهر اللياليَ وأنا أحاول التفكيرَ في أشياءَ تُرضيها، لكنني لم أستطِعْ مواكبةَ التطور. لا أستطيع الإقرارَ بأنَّ الكثير من الأشياء التي يفعلها الشبابُ صحيحة. ولا بأنهم لن ينتهيَ بهم الحالُ في مهانةٍ وألم وربما موت، وها هي قد لاقت حتْفَها ومن حادثةٍ تافهة هيِّنة فحسب. لا بد أنَّ قدَمَها زلَّت على الجبل، وذلك ما لا أستطيعُ استيعابه. فقد كانت قدَمُها راسخةً مثلَ الماعز. فقد قضَت حياتَها كلَّها على الجبال. آه يا جيمي، لا جدوى من ذلك كلِّه. ماذا أنا فاعلة؟»
عندَئذٍ تردَّد جيمي.
ثم قال: «لقد جئتُ إليكِ، يا مارجريت، لأُخبركِ بقصةٍ مفجعة، لكن ما سأحكيه يبدو هينًا مقارنةً بما تُقاسينه.»
استقامت مارجريت كاميرون في مقعدها. وسحَبَت يدَيها من بين يدَي جيمي ووضعَت إحداهما على رأسه.
وصاحت: «آه، يا بني، يا بُني المسكين!» وتابعَت: «هل فعلها ذلك الجرحُ الفظيع وانفتَق مرةً أخرى؟ هل سنُضطر إلى أن نُعيد الاعتناءَ به مجددًا؟»
أسرَع جيمي ليُطمئِنَها: «لا! لا!» ثم أضاف: «ليس ذلك. إن جانبي على ما يُرام. وإنني متأكدٌ بدرجة كبيرة أنني لن أُضطرَّ إلى وضعِ ضمَّادات أو أربطةٍ لمدةٍ تَزيد عن شهرين أو ثلاثةِ أشهُر أخرى. لم أستطِعْ أن ألتزمَ تمامًا بالنظام الغذائي منذ غيابكِ لأنني لا أُجيد الطهو على نحوٍ جيد؛ لذلك لم يتيسَّر لي الحصولُ على ما كنت بحاجة إليه.»
راحت مارجريت كاميرون تُمسِّد شعره.
وقالت: «أعتقد أنك كلُّ ما تبقى لي يا جيمي. أعتقد أنك صرتَ شُغلي الشاغل. إن بقائي في المنزل لهو الجحيمُ بعينه والأشدُّ عذابًا هو مغادرتي إياه. لا أظن أنني قادرةٌ على الذَّهاب إلى مولي. إن أرادت هي أن تكون معي، فستُضطرُّ إلى أن تأتيَ إلى هنا. وأما أنت يا فتى، فإن لم يكن جنبُك ما يُتعبك فما هو؟»
فأخبرَها جيمي بالأسلوب الاسكتلنديِّ الموجز.
«لقد تزوجتُ من فتاةٍ إبَّان قدومي إلى هنا. ومنذ بضعة أيام وضَعَت طفلها في مستشفى ستار أوف ميرسي، لكنها لم تكن بالقوة الكافية لتنجو. ولم يتبقَّ لي منها سوى الطفل.»
فأبعدَته مارجريت كاميرون وراحت تنظر إليه بهدوء.
وقالت: «مهلًا يا جيمي، ذلك شيءٌ لا أستطيع فهمَه. لماذا لم تأتِ بها هنا في الحديقة؟ لماذا لم تجعَلْني أرعاها هي الأخرى؟ ربما لو كانت اتبعَت نظامًا غذائيًّا صحيًّا ووجدَت الرعايةَ التي تجدها الفتاةُ لدى أمِّها، لما كان حدث ذلك.»
فقال جيمي: «كلُّها احتمالاتٌ لا تُجدي أيَّ نفعٍ الآن. فقد أمْلَت عليَّ الظروف ألَّا آتيَ بها إلى هنا. المهم أنها قد رحَلَت وتركَت لي فتًى بديعًا يُدعى جيمس لويس ماكفارلين، الابن.»
«في المستشفى؟ هل هو في المستشفى؟»
فأجابها جيمي قائلًا: «لا. فقد أخبرتهم قبل أن أصلَ إلى هناك أنها تُريدني أن أحتفظَ به، وأنها تريد تسميتَه باسمي. وقد جهَّزوه تمامًا ووضَعوه بين ذراعيَّ، ومن دون أن أدريَ ماذا أنا فاعل، خرَجتُ به. إنني من فصيلةِ البشر نفسِها التي أنتِ منها يا مارجريت. إنني أعود لمكاني، للمكان الوحيد الذي لديَّ، للمكان الوحيد الذي يعرفُني أو يحتاج إليَّ على وجه الأرض. لم يمضِ عليَّ وقتٌ طويل فيه، لكن ما دمتُ أعيش في هذه البقعة فستظلُّ لي سكنًا. ومِن ثَمَّ عدتُ إلى داري ومعي طفلٌ صغير حديثُ الولادة.»
هنا نهضَت مارجريت كاميرون.
وسألته: «هل هو هناك في المنزل؟» وتابعت: «هل تُحاول أن ترعاه بنفسك؟»
هزَّ جيمي رأسه نافيًا.
وقال: «لا، لم أستطع فعل ذلك.» وأضاف: «فإن يدَيَّ غليظتان ومرتبكتان. ولستُ على درايةٍ كافية. كان الكشافةُ الصغير هنا فذهب إلى الهاتف وأجرى مكالمة، وبعد نصف ساعة جاءت السيدة ميريديث. فلديها طفلٌ صغير ويبدو أنَّ وجود واحدٍ آخَر لم يُزعجها.»
صدَر عن مارجريت كاميرون صوت غريب، شهقةٌ مبهمة كان ليُظَنَّ أنها ضحكة مقتضبة لو لم تكن في حالٍ أتعسَ من أن تضحك.
ثم قالت باقتضاب: «لا؛ لن يُزعج طفلٌ آخر تلك المرأة! فقد سمعتُ عنها. عند ولادة طفلِها الأول كان في المستشفى نفسِه طفلٌ يعيش على الصدقات وطفلٌ ثري صغير وكان كلاهما يتضوَّران جوعًا، وقد أرضَعَتهما طَوال الوقت الذي أمضَتْه هناك، مع طفلها فأنقذَتْهما. لقد ساعدَتْهما خلال مرحلةٍ حرجة حيث استطاعا الحصولَ على التغذية السليمة والاستفادةَ منها، وبعد ذلك استطاعوا أن يستمرُّوا في تغذيتهما. وحين جاء طفلُها التالي كان هناك طفلان آخَران يتضوَّران جوعًا وقد أخذَتْهما في كنَفِها وشاركَتْهما غذاءَ طفلها. وحين جاء طفلها الثالثُ كانت إحدى النساء ولدَت ولادةً قيصرية قبلها بعدة أيام فعاش الطفلُ لكن لم يكن هناك لبنٌ لإرضاعه، فأرضعَته كما أرضعَت طفلها. إن السيدة ميريديث لا تتوانى عن فعلِ أي شيء لأيِّ طفل، ذلك ممَّا تستطيعُ أن تُعول عليه. وليس من الصعب أن تعرفَ من أين جاء الكشافةُ الصغير بالكثير من الصفاتِ المحبَّبة، بيد أنه ما دام لديها طفلٌ صغير لترعاه فإنها ليست بحاجةٍ إلى طفلك. قد تكون هذه هي المهمةَ التي كنتُ أبحث عنها. قد يكون وجودُ كائن حي بحاجةٍ إليَّ هو الشيءَ الذي سيساعدني على تجاوز محنتي. فلتذهب وتأتِ بصغيرك يا جيمي، أحضِرْه لي.»
نهض جيمي وذهب إلى الهاتف. حيث اتصلَ بالسيدة ميريديث وطلب منها أن تُعيد الطفلَ إليه. فقد عادت مارجريت كاميرون وهي على استعدادٍ لأن تقومَ على رعايته. وسرعان ما ظهرَت في الشارع سيارةٌ بُنِّية صغيرة. ووقف جيمي عند البوابة يُشاهدها آتيةً. كانت السيارة بلونِ شعر المرأة التي تقودها. كانت عيناها نَجْلاوين ولامعتين، متألقتين بابتسامة. وفي المقعد الأمامي بجانبها جلس الكشافةُ الصغير، حاملًا اللفةَ بحرص. أخذ جيمي ينظر إليه بفضولٍ متسائلًا ما كان سيدورُ في رأسه وكيف كان سيشعر لو كان ذلك الطفلُ ابنَه بحق.
في محاولةٍ لتوفير العَناء على مارجريت كاميرون مدَّ جيمي ذِراعَيه لتناوُلِ الطفل، لكن السيدة ميريديث كانت شخصيةً لطيفةَ الطبع. وأصرَّت على أن تُوصل الطفلَ بنفسها. كان لا بد أن تبسُطَ ملابسه وتشرحَ كيف استخدمَت أغراضَه. فقد شكَّت أن مارجريت كاميرون، التي لم تُنجب منذ أكثرَ من عشرين عامًا، ستعلم كيف تدهن الطفلَ وتُلبسه الملابسَ المناسبة وتحملُه بالطريقة المناسبة للزمن الحاليِّ. فإن عشرين عامًا مدةٌ طويلة والعلم يتوصَّل إلى أشياءَ عدةٍ في تلك المدة الزمنية. كانت في غايةٍ من كرم الطبع، وغايةٍ من انشراح الصدر، راضيةً جدًّا عن نفسها لرعايتها الطفلَ حتى عادت مارجريت كاميرون، حتى إنها لم تلحَظْ وجه المرأة في شحوبِه وذُبوله، المرأة التي كادت لا تعرفُها من الأساس. وقد صُدِمت مارجريت كاميرون عتيقةُ الطباع حين وضَعَت بين ذراعَيها طفلًا لا يرتدي ملابسَ تحتانية من الصوف الناعم، وبقدَمَين حافيتَين يَركُل بهما، ورداؤه لا يتعدَّى قدميه. فبدا لمارجريت كاميرون أن الشيء الوحيد الذي فعَلَته السيدةُ ميريديث على غِرار ما كان للأطفال قديمًا هو الحرص على تغطية عينَي الطفل، لكيلا يمتدَّ إليهما الضوءُ الساطع.
رفعَت مارجريت صوتها اعتراضًا.
وقالت: «أين ملابسُه التحتانية الصوفية؟» فلوَّحَت السيدة ميريديث بيدَيها في حركةٍ معبِّرة تعرَّفَت عليها مارجريت وجيمي في الحال.
وردَّت عليها ضاحكة: «إنه لن يرتديَ ملابس تحتانية صوفية!» وتابعت: «إذ لم يَعُد أطفال كاليفورنيا يرتدون الملابسَ التحتانية الصوفية. فهي تُشعرهم بحرارةٍ شديد وتحكُّ جلودهم الرقيقة وتجعلُهم يتضايقون ويبكون.»
قالت ذلك وجلسَت على الأريكة وفتحَت سلَّة الأطفال التي جاءت بها وعرَضَت الأدواتِ التي كانت تستخدمها في العناية بجيمس لويس ماكفارلين، الابن، خلال الصباح.
وجلست مارجريت تُحدق. فأصْغَت إلى ما قيل. وشاهدَت ما فُعِل. وتفحَّصَت الطفل ثم هزَّت رأسها.
ثم قالت: «إن أخذتُ هذا الطفل، يا جيمي، وحاولتُ رعايته بهذه الطريقة ومات، هل تُحمِّلني وزره؟»
وهنا ضحك جيمي والسيدة ميريديث ما شاء لهما الضحك.
فقال جيمي على سبيل الوعد: «كلا، لن أُحمِّلَك وزرَه، وبما أن السيدة ميريديث قد وُفِّقَت كما يبدو مع صغيرها الذي لا يكبرُ جيمي صغيرَنا بشهور كثيرة، فلنا أن نُجرب ما تقوله. أما الأشياء التي معها هنا فهي الأشياءُ التي صنعَتْها أمُّ الطفل من أجله. إنكِ ترَيْن أنها قصيرة. لكنها كانت تريد استخدامَ الأردية والملابس الصغيرة التي صنَعَتها.»
فقالت السيدة ميريديث: «أجل، بالقطع، كلُّ هذه الأشياء أحضرها السيد ماكفارلين من المستشفى.» ثم قالت متوجهةً إليه: «هل لديكَ المزيد؟»
فقال جيمي: «أجل، يوجد. لكنَّ الممرضة قالت إن الصُّرة الصغيرة بها أغراضٌ شخصية تخصُّ أمَّ الطفل. إنها في الدرج الأوسط في خِزانة الأدراج يا مارجريت. متى احتجتِ إلى شيءٍ غير موجود فربما تجدينه هناك. لستُ قادرًا بعدُ على محاولة الخوض فيها بنفسي، لكنني لا أُبالي بأن تبحثي فيه لترَيْ إن كان فيها أيُّ شيء ربما يحتاج إليه الطفل.»
فقالت مارجريت: «حسنًا، لا بد أن أقول صراحةً إنني مندهشة! فإنني متأكدةٌ أنه سيَلْقى حتْفَه. إنني متأكدةٌ أنه سيُصاب ببردٍ ويموت جرَّاء التهاب الحنجرة. فإنني أعتقدُ أن الأطفال والملابس التحتانية الصوفية لا ينفصلان.»
فقالت لها السيدة ميريديث ضاحكة: «حسبُكِ إزالة حرف النفي. تخلَّصي من حرف النفي وقولي إنهما «منفصلان!» إن طفلي الصغير أفضلُ طفل سترَينه أبدًا. فإنه لا يصرخ من المغص المعويِّ ويَحرِمُنا النوم ليلًا. ويزداد وزنًا حتى صار وجهُه مستديرًا مثل البدر. ولا نشعر به في المنزل مطلقًا إلا إذا شعَر بالجوع أو احتاج إلى اهتمام، فإنه مثل سيدٍ نبيل صغير يُعْلِمني في الحال حين يكون بحاجةٍ إلى اهتمام. أما فيما عدا ذلك فإنني لا أشعر أنَّ لديَّ طفلًا صغيرًا البتَّة. فلْتُجرِّبي الطريقةَ الجديدة مع جيمي الصغير الآخر؛ جرِّبيها معه، وإن لم تَجِديه في حالٍ أفضل وأسهلَ في رعايته، أقلَّ مشقة في كل شئونه، وأكثرَ سعادة، فعندئذٍ تستطيعين استدعاءَ الطبيب لتتبيَّني ما الأفضل له.»
ثم توجَّهَت بحديثها إلى جيمي.
«لا بد أن تُعِد فراشًا من نوعٍ ما من أجلِه. ولا بأسَ إن أحضرَت سلة ملابس. فوضعت بها بضعَ وسائد ووضعَت عليها شيئًا على سبيل البِطانة. سوف يأتي لك صغيرُنا الكشافةُ بوسادةٍ رِخْوة تمامًا من أجل رأسه. فلدى صغيرنا جيمي وسادتان أو ثلاث. وبإمكانه دائمًا أن يتَقاسم أشياءه مع طفلٍ آخر، وأعتقد أن لديه ما يكفي من الأغطية الصغيرة حتى إنه من الممكن الاستغناءُ عن بعضها، ويوجد الكثير من الملابس في تلك الحقيبة. وسيظلُّ عدةَ شهور دون أن يحتاج إلى أي شيء، إلا إذا نما حجمُه سريعًا حتى تضيق عليه.»
ونهضت وذهبت إلى الهاتف، فتناولَت قلم رصاص مربوطًا بسلك وعلى هامش قائمةٍ معلَّقة هناك كتبَت رقْمًا.
«ذلك رقْمي، اتصلي وستجدينني عندك في الثامنة صباحًا، أو الثانيةَ عشْرة ظهرًا، أو السادسة مساءً. إذا طرَأَت مشكلة، هاتفيني وسوف آتي في الحال لأرى ما في وُسعي فعلُه لأساعِدَكِ.»
ثم حملَت الطفلَ وضمَّته إليها بشدةٍ وقبَّلَت وجهه الصغير ويدَيه وانتهت بقدَمَيه، ثم ناولتْه لمارجريت كاميرون. رافق جيمي السيدةَ ميريديث والكشافةَ الصغير في عودتهما إلى السيارة. وبينما كان يُغلق الباب، مال قائدُ الكشافة إلى الأمام ووضع يده على يد جيمي ورفع شفتَيه يريد أن يقول شيئًا. فاقترب جيمي بأذُنِه منه.
فسأله هامسًا: «هل أخبر أمي بشأن تعدِّي فتاةِ سانتا تلك على حديقتِنا؟»
ارتدَّ جيمي إلى الوراء ونظر إلى الصغير في اندهاش.
وسأله: «ألم تُخبرها؟»
فهزَّ الكشافة الصغير رأسه بشدة نافيًا.
«لا. لقد قلتُ إنها قد تقلق، ورأيت ألا أخبرها حتى يأتيَ أبي، لكنه سيأتي الليلة.»
فقال جيمي: «حيث إن المسألة برُمَّتها قد انتهَت، فلا يوجد ما يستدعي القلق. فإنك لم تترك للسيدة حُجةً لتستعينَ بها. وجعلتَها تعترفُ أمام ثلاثة شهودٍ ثقة، وتصادف أنه كان في الخلفية شاهدان آخَران لم تعرف بوجودِهما. وبحوزتنا الأوراق، وذلك يُذكرني بأنه ما دام قُفل الصندوق مكسورًا فمن الأفضل أن أُراجع ما بداخله وأنتقيَ الأشياءَ المهمة بحق لأضعَها في مكانٍ آمن. أعتقد أنه من الأفضل أن أُسلِّمها للسيد ميريديث.»
«ما الذي تتحدَّثان عنه؟» استفسرَت السيدة ميريديث.
فقال جيمي: «حيث إنني لم أشهَد المشهد كاملًا فمن الأفضل أن يقصَّ عليكِ الكشافةُ الصغير ما جرى من البداية للنهاية، وإن كان بإمكاني إضافةُ أيِّ تفاصيل مما رأيتُه وسمعته بنفسي، فسيسُرُّني أن أتقدمَ بكل ما لديَّ من أدلةٍ مصدِّقة.»
ومع تحرُّك السيارة سمع جيمي صوتَ الكشافة الصغير وهو يقول: «منذ مدة طويلة، أخبرَني سيد النحل ذاتَ يوم حين كان حزينًا …» وهذا هو ما سَمِعه من القصة. لكن ما رآه منها كافٍ بالنسبة إليه. ومِن ثَم عاد إلى المنزل وهو يضحك ومن دون أن يُدرك أن مارجريت كاميرون تتوقَّع أن يكون في حِداد. وقد رأى الدهشةَ في عينيها فاعتدلَ وجهُه عن الابتسام في الحال. وسريعًا ما فرَضَت صراحتُه الاسكتلندية نفسَها.
فقال: «مارجريت، لا أنوي الاستمرارَ في خِداعك. ثَمة أشياءُ لا أريد الخوضَ فيها لأنني لا أفهم من أمرِها ما يكفل أن أوضِّحَها لأي شخصٍ آخر. لكنني سأخبرك بما لديَّ. لقد رأيتُ الفتاة التي تزوَّجتُها مرةً واحدة فقط، وعرَفتُ من أمرها أقلَّ القليل قبل زواجنا، ولم أرَها بعد ذلك إلا عند رحيلها عن العالم. هذا الطفل يحمل اسمي وقد تُرك لي، وسوف أبذل ما في وُسعي لتربيته على النحوِ الصحيح، لكنني لستُ في حدادٍ على أمِّه، ولا تتوقَّعي مني إظهارَ أيِّ مظهر من مظاهر الحزن العميقة؛ لأنني لا أستطيع ذلك ما دمتُ لا أشعر به.»
وقفَت مارجريت كاميرون جامدةً، تنظر إلى الطفل.
وقالت: «لا تبدو تلك القصةُ لائقةً بك يا جيمي، لكن إن كنتَ على أيِّ وعي بمسئوليات الصديق فهي في أغلبها التزامُ الصمت وفعلُ الأشياء التي تعود بأكبرِ قدر من المنفعة. وأنا أودُّ بالطبع أن أعرف كيف كانت تبدو أمُّ هذا الطفل، وأيَّ نوع من الفتيات كانت، لكنني أظنُّ على أي حال أنها كانت تُشبه الطفل حيث إن الصبية في العموم يُشبهون أمهاتهم، وإنني لا أستطيعُ أن أتبيَّن شكل طفلٍ في عمر ثلاثة أيام أو أربعة. إن كنت سأحكم عليها من ناحية حقيبة ملابسِ الرضيع، فسأقول إنها ذاتُ ذوقٍ رفيع جدًّا. فهذه الأشياء الصغيرة الأنيقة مصنوعةٌ بحرصٍ وإجادة. وذلك يَشي بأشياءَ كثيرةٍ عن أيِّ أم.»
ومع مرور الأيام، بدا لجيمي أنه لم تحظَ امرأةٌ في يومٍ بنعمةٍ تُجاوز نعمة طفل العاصفة لمارجريت كاميرون. فقد ساورَه شعورٌ قوي جدًّا بأن ذلك الإنسانَ الصغير كان له على مارجريت كاميرون تأثيره نفسُه على السيدة ميريديث والكشافةِ الصغير. فهو ذو جاذبية شديدة. فكان يختلق بعضَ الأعذار عدة مراتٍ يوميًّا ليتسلَّل إلى حجرة المعيشة ويُلقي نظرةً على السلة التي وُضع فيها جيمي الصغير. فإن كان الصغير نائمًا، كان يُغطيه ويرحل بهدوء. وإن كان مستيقظًا، فهو ينحني فوقه ويظلُّ يُحدثه ويتفحَّص يدَيه وقدمَيه. كانت يداه كأنما خُلِقَتا لعزف الموسيقى، ورسم اللوحات، وحمل الكتب النادرة، وربما لكتابتها.
وكان أحيانًا حين يذهب يجد مارجريت كاميرون مشغولةً بتحميم الصغير، أو إلباسِه، أو غسيل ملابسه الصغيرة، أو كيِّها بعناية. وذات يوم أدرَك فجأةً أن الشيء نفسَه الذي طلبَته مارجريت قد مُنح لها. فهو شيء حي، شيء تعمل من أجله، شيء مختلف، شيء سوف يُقدِّر ما تفعله. ولذلك توقَّف عن الشعور بالذنب حيالَ الجهد البدني الذي كان يطلب منها بذله مع الطفل الصغير، وشعر بدلًا من ذلك أن الطفل هو ربما أعظمُ نعمة أتت في حياتها. وقد أمضى وقتًا صعبًا يومَ حاول أن يُناقش مع مارجريت الأمورَ المالية الخاصة بالطفل. فبعد بِضع كلمات رفَضَت رفضًا قاطعًا الإصغاءَ إليه.
وأخيرًا قالت له: «إن هذا الطفل كان بمثابة نعمةٍ لي يا جيمي؛ فقد خفَّف حبُّه ورعايتُه ما أُعانيه في ذهني من توترٍ بدرجة كبيرة حتى إنني أجدُني عاجزةً عن شرحِ ما فعله لي. ولا أستطيع أن أتقاضى مالًا مقابلَ العناية به. لا أستطيع حقًّا! لكن مع مرور الوقت، حين يحتاج إلى مزيدٍ من الملابس أو تنشأ له حاجة، مثل حوض استحمام صغير بالشكل المناسب للأطفال، الأشياء التي لا بدَّ له من الحصول عليها، فسوف أُخبرك، وإنه من حقِّك واختصاصك أن تأتيَ بها، أمَّا تقاضي المال مقابلَ ما أفعله له، فهو ما لا طاقة لي به. ونحن لن نتحدثَ في ذلك الأمر ثانيةً.»
فقال لها جيمي: «حسنًا»، وخرج من المنزل وشرَع في عملية تفقُّد أرضِ مارجريت بدقةٍ ليكتشفَ ما يسَعُه القيام به في الحديقة التي صارَت تُهملها، وللزهور التي باتت ترويها على عُجالة، وهو ما رأى أنه سيكون مكافئًا لرعاية الطفل.
ما لبثَت مارجريت أن أدركَت أن هذا ما كان يحدث، وقد ناسبَها الترتيبُ تمامًا. فقد ظلَّت بضعةَ أيام لا تأبَهُ إن عاشت الزهورُ أو ماتت. ولم تكترثْ ما إن كان المنزل نظيفًا ومنظَّمًا، أو إن كان الطعام في مكانه من أجل الطيورِ المحاكية والعصافير الوردية. لكنها الآن تهتمُّ بكلِّ هذه الأشياء اهتمامًا لا حدود له لأنه سريعًا جدًّا ما سيكبر جيمي الصغيرُ فيُلاحظ الزهور الجميلة، ويُلقي بالفتات للطيور، ولا بد دائمًا من حماية صحته بمراعاة النظافة التامة والظروف الصحية فيما حوله. وهكذا صارت مارجريت كاميرون أشدَّ اهتمامًا بشئون المنزل وأقلَّ ميلًا إلى الخروج، ووجَد جيمي مع الاستيقاظ كلَّ صباح أنه اكتسَب المزيد من البأس ليُعينه على أن يُضيفَ إلى أعمال يومه ما ينبغي إنجازُه من مهامَّ في المنزل المقابل للسياج الأبيض.
والتزمَ جيمي مواظبًا بتناول عصير الطماطم في الصباح، وعصير البرتقال في العصر، والحليب ليكونَ شرابه مع الوجبات، النظام الغذائي الذي طالما أكَّدَت مارجريت كاميرون أن لديها كلَّ الوقت لتحضيرِه له. وبدأ يشعر أنه أصبح رجلًا بحق، شديدَ الثقة من قوته، شديدَ الاعتزاز بنسيج الجلد الذي صار أغمقَ لونًا، وأكثرَ سُمكًا، ممتدًّا بأمانٍ على جانبه الأيسر، شديدَ الاعتزاز بالدماء الحرة النقية المتدفِّقة في عروقه، شديدَ الامتنان لله على فرَجِه، على الفرصة التي منَحه إياها، ومِن ثَم وجد شفتَيه مضمومتين تُصفِّران صفيرًا خافتًا كلَّ لحنٍ من الألحان التي يعرفها أثناءَ مباشرة عمله. كان بعضُها من أغنيات الجيش، الألحان التي يُنشدها الصِّبْية في المعسكرات، لكنَّ أغلبها أغنيات كان يُنشدها في مدرسة الأحد أو أشياء سمع أمَّه تتغنَّى بها وهو صغير. كان أحيانًا يحفظ الألحانَ التي يسمعها في الشارع أو وهو مستلقٍ لينعَم بالشمس على الشاطئ. فقد تنوعَت مجموعةُ أغاني جيمي من «فلتسمَعْني يا يسوع، أيها المخلص الطيب!» حتى «لن تُمطر السماء مرةً أخرى»، وبينما هو يُعمل الخرطومَ للمساعدة في إنتاج أغزرِ محصولٍ عرَفه يومًا من الثمار والزهور، وبينما يُفكر في جانبه الملتئِم والمعجزة النادرة التي حدَثَت بشفائه، بدا له أنه لن يفرق كثيرًا سواءٌ أمطرت السماء أم لم تمطر. إذ يبدو أن كاليفورنيا في خيرِ حال من دونِ مطر.
لكن كل هذا كان سطحيًّا؛ فكلها أمورٌ تجري لضروريات الحياة. لكن الفكرة الكامنة، الشيء المعتمِل في أعماق قلبِ جيمي، الشيء الذي جعله في اضطرابٍ وجعله يضربُ أخماسًا في أسداس منذ ذلك الحين، الشيء الذي لم يفهمه ولم يستطع أن يغفرَه، هو الشيء الذي خادعَته فيه فتاةُ العاصفة.
إذ ظن مما قالته أنها بحاجةٍ إلى مساعدته من أجل نفسها، وقد منحها إياها في الحال، بلا مقابل. لكن لم يُعجبه أن يُكذَب عليه. لم يُعجبه أن يُخدَع. لقد تزوَّج من فتاة، ودُعي لتولي مسئوليةِ تربية طفل لفتاةٍ مختلفة تمامًا. لم يكن هذا تصرُّفًا عادلًا. ولم تكن تلك أمانة. إذا كان خاتَمُه وإذا كان عقدُ الزواج الذي حُرِّر له من أجل فتاة العاصفة قد أُعطِيَا لفتاة أخرى في محنةٍ بحيث تستخدمه حتى لا يُزعجَها الأطباء والممرضات، فبإمكانه أن يفهمَ فيما كان استخدامهما. لكن إذا كان الاسمُ الذي وُثِّق به الزواج لم يكن الاسمَ الحقيقي للفتاة التي تزوجها، فالزواج لم يكن شرعيًّا، ومَن يُدقق في الأمر يجد أن الطفل الصغير طفلُ خطيئة بعد كلِّ ما حدث. لقد جرَت المسألة بأسلوبٍ أحمق. كان جيمي، بالحال التي كان عليها آنذاك، وبالمشاعر التي اعترته، سيُعطي اسمه لأي امرأة بحاجةٍ إليه في أي مكان. أخرج جيمي الخطابَ الذي يعتزُّ به من جيبه ووضعه بعيدًا. فلم يَعُد من المقتنَيات الشخصية. فالمسألة برُمَّتها ليست منصِفة.
وحين بلَغ سخطُه الذروة، وفاق غضبُه الحدود، نشأ في قلبه شعورٌ قوي نابض ومتدفِّق وطاغٍ بالراحة. فمهما كان كذبها، وأيًّا كان دافعُها إلى خِداعه، فقد ظلَّت حقيقةٌ واحدة في أفق جيمي. لقد كان ظنُّه في فتاة العاصفة في محلِّه. إذ لم يشعر أن امرأةً يعبق شعرُها بعبير المريمية وتفوح رائحةُ زهور رعي الحمام الرملية وزهور الربيع حول ركبتَيها مثل البخور وقد فاحت بهذه الروائح ملابسها الليليَّة، لم يخطر له أن الشعر الحرير الذي التصقَ بوجهه، وأن القوة البدنيَّة، والردود الحاضرة الواثقة، لم يخطر له أن هذه الأشياءَ قد تقترنُ بامرأةِ سوء. وكان على استعداد لقَبول أي عذر، وتصديق أي شيء. أما الآن فلا يوجد شيءٌ ليُصدقه عدا أنه قد كُذب عليه، لكن في العالم من الكذب ما كان نبيلَ القصد نوعًا ما على أيِّ حال. وثَمة احتمالٌ ضئيل أن تكون هذه الكذبة، ذلك الشيء الذي حدث، وراءه سببٌ ربما يجد استعدادًا لقَبوله. وهكذا أمضى جيمي جلَّ أيامه وبعضَ لياليه ممزَّقًا بين عواطف متضاربة.