المغامرة الكبرى
قد تكون المغامرة الكبرى لأحد الرجال هي صيدَ أفراس النهر البيضاء في أفريقيا، ولرجلٍ آخر هي السيطرةَ على روحه لمدة ساعة. أما لجيمي ماكفارلين، فبعد سنواتٍ من تَلقِّي الأوامر باستمرارٍ من ضباطٍ أعلى رتبةً، كان ثمة شيءٌ مثير في أن يتَّخذ موقفًا مستقلًّا ويُقرِّر لنفسه لأول مرة إذا ما كان سيسعى وراء حظِّه شمالًا أو جَنوبًا. فلماذا قرَّر الذَّهاب شمالًا، هو شيء لم يَدْرِ له سببًا على الإطلاق، لكن ربما كان السببُ أن الطريق المؤديَ لتلك الوجهة كان ينحدرُ إلى أسفل، وهو قد وجَد أن صعود الجبل أكثرُ ممَّا يسَعُه احتماله. لذلك بدأ المسير باتجاه الشمال على الطريق المنحدِر. ومِن ثَم سار ببطءٍ شديد، وظلَّ يتطلَّع إلى السماء والأشجار، وبدا له أن بساتين البرتقال المزدهِرة التي مرَّ بها والليمون والبشملة كان عطرُها أهدأ، وأن الهواء قد صار منعشًا أكثر. بدأ يتساءل إذا ما كان بإمكانه مطلقًا الوصول إلى البحر، وإن كانت قد تهبُّ عليه رائحةُ مِلح قوية في الهواء، وإن كان سيجدُها منعِشة. التقطَ عصًا من جانب الطريق واستخدَمها عُكازًا ليتَّكئ عليه. بعد بُرهة بلغ مفترقَ طرق وهناك توقَّف موجِّهًا اهتمامَه لتفحُّص كلٍّ من الاتجاهات الثلاثة، التي قد يسلك منها واحدًا إن وقع عليه اختياره. لقد كان يخوض مغامرةً مثيرة بحق!
بينما هو واقفٌ هناك أقبلَت سيارةٌ من الشرق، ولما لاحظَ السائقُ الزيَّ الرسمي لجيمي، ووجهَه ويدَيه الهزيلتَين، توقَّف، مثلما يتوقف كلُّ السائقين في تلك الأيام، وهو ما كان جيمي وحده لا يعلمه، نظرًا إلى احتجازه في المستشفيات، وسأله إذا كان يبتغي الركوب. كانت السيارة متجهةً شمالًا، فقال جيمي إنه يسرُّه للغاية أن يركب. وهكذا تصادف أنْ حمَلَته السيارة بعيدًا عن منطقة المستشفى؛ لذا حين لاحظوا غيابه فعلًا وأُرسلَت الممرضات للخارج للبحث عنه، كان هو على بُعد مائة ميل متَّجهًا شمالًا بسرعةٍ ظلَّت تَزيد أكثرَ فأكثر، ليُحرِز جيمي تقدمًا عظيمًا في مغامرته الكبرى.
راقَ له الطريقُ المؤدي إلى الشمال. راق له كثيرًا حتى إنه حين أخبره السائقُ أخيرًا أنه سيتَّجه غربًا في مفترق الطرق التالي، حيث لديه أعمال في أحد المدن الكبرى، ارتأى جيمي أنه لما كان من المحتمل لرجلٍ يرتدي الزيَّ الرسمي أن يبحث عنه مسئولو الحكومة فمن الأفضل له أن يبقى في الريف؛ لذلك خرج من السيارة وسار ببطءٍ نحو الشمال.
في استراحةٍ اضطُرَّ إليها، بدأ يُدرك أن الليل قد اقترب وأنه كان جائعًا. لم يكن لديه ولو سنتٌ واحد في جيوبه، وكان الاستلقاء على الأرض في برد ليل كاليفورنيا من الممكن أن يقضيَ عليه في أسرعِ وقت. وهنا أدرك أنه من الجائز جدًّا أن يكون الموتُ هو المغامرةَ الكبرى التي يسعى إليها، وأنه بتولِّيه زِمامَ مصيره وخروجه من المستشفى بعيدًا عن المؤن التي كانت تُوفِّرها له الحكومة، سوف يُنهك نفسَه حثيثًا حتى يبلغ المرحلة التي تنتهي فيها مشكلاته بأسرع طريقة. ظلَّ بضع دقائق يتساءل ما إن كانت مشكلاته سوف تنتهي أم أنها قد بدأت للتو؛ إذ إن الاسكتلنديِّين لديهم طريقةٌ في الوعظ بشأن الجحيم والنار وعذاب الآخرة؛ ونظرًا إلى أنه شاركَ في آخر الحروب العالمية، فقد كان جيمي ماكفارلين أكثرَ علمًا بالجحيم من أي قسٍّ اسكتلندي وصفه من منبره، ونظرًا إلى أنه ظلَّ يحمل جُرحًا مفتوحًا في صدره طَوال عامَين، فلم يكن بإمكان أحدٍ أن يُحدِّثه عن النار، فحتى الكبريت الذي في الينابيع لم ينفع معه.
هكذا مضى في عتمة المساء حتى لم يعد قادرًا على الاستمرار؛ فجلس على جُلمود مريح كبير دافئ على جانب الطريق، وجلس القُرفصاء، وانتظر ليرى ما سيحدث. فحدث الشيء نفسُه الذي كان يجدر به أن يتوقَّعَه، لو كان يعيش قبل ذلك بين رجالٍ أصحَّاء. إذ جاءت سيارة أخرى، ولما لاحظ مالِكُها شحوبَه وزيَّه الرسمي، ولما كان لديه مقعدٌ شاغر؛ فقد توقف، وسُئل جيمي مرةً أخرى إن كان يريد الركوب.
«رائع!» قال جيمي لنفسه. «ربما لن يُصبح الأمر في غاية السوء رغم كل شيء.»
نظر إلى السيارة التي كانت محمَّلة حتى الدواسات الجانبية بمعدَّات التخييم. استطاع أن يرى المفارش الملفوفة، واستطاع أن يشَم رائحة الطعام. كان الرجل ذا وجهٍ سَمْح، والفتاة الجالسة على المقعد بجانبه صغيرةً وجميلة. أما السيدة التي دُعِيَ لمشاركتها المقعدَ الخلفيَّ فقد دل مظهرُها على أنها الأم. كان وجهها المستديرُ قويًّا وجذَّابًا، وتحت تأثيره، اضطُرَّ جيمي إلى الكذب. إذ قال إنه قد غادر المستشفى لتوِّه حيث أقام طَوال عام. وأعطاهم الانطباعَ بأن الأطباء قد سمَحوا له بالخروج. لم يقل إنه هو من أعطى نفسَه حقَّ الخروج، وإنه كان هاربًا. لكنه قال إنه يبحث عن عملٍ وإنه سيسرُّه كثيرًا الركوبُ معهم حتى يصل إلى موقعٍ يُقدم شيئًا مبشرًا للرجال الذين سُرِّحوا مؤخرًا من الجيش وأعياهم المرض.
قال السائق إنه يُدعى ويليام برونسون من ولاية آيوا، وكان هو وزوجته وابنته يتجولون في كاليفورنيا بسيارتهم أثناء الشتاء، لكنهم الآن متَّجهون إلى الجزء الشمالي من الولاية لزيارة أصدقاء حتى يحينَ وقت العودة إلى الديار؛ إذ لا بد أن يَصِلوا إلى ألبيون في الوقت المناسب لزراعة المحاصيل.
وخوفًا من أن يَذيع أمرُه وهو ما زال في بداية مغامرته الكبرى، فقد أغفل جيمي ذِكر اسمه، لكنه قال إنه يُسعده للغاية الاستمرارُ في الركوب معهم ما داموا ماضين في وجهته.
كان مسرورًا بالركوب، لكن ليس بقدرِ سعادته حين توقفَت السيارة ونُصب مخيَّم عند مدخل أحد الأودية بجوار الطريق. تمنَّى ألا يُلاحظ أحدٌ أنه يترنَّح في سيره أو كم أخذ يلهث حين حاول المساعدةَ في إنزال حمولة السيارة. كان عليه توخِّي الحذر لأن الشيء الهامَّ الذي جعله من الامتنان في غايةٍ قد حدث. ومِن ثَم نظر فقط نحو التلال. ولم يكن قد خطر له سوى أن يطلب العونَ من الله. وتساءل نوعًا ما إن كان ربما من المحتمل أن الله ينظر إليه في تلك اللحظة، إن كان قد رأى حاجتَه، إن كان قد أرسل هؤلاء الناسَ الطيبين المؤنسين الذين قدَّموا له غَداءً، ومرتبةَ مخيَّم لقضاء الليل، وتوصيلةً في رحلته خلال اليوم التالي. فقد كان أمرًا جَللًا. وهكذا تظاهر بقدرِ ما استطاع بأنه رجلٌ مُعافًى وبكامل صحته وهو يجمع الحطَب لإشعال النار ليلًا، ويبحث عن مكانٍ ليفرشوا فيه مراتبَ المخيم ويلتمسوا الراحة. وقد راوَده شعور أنه لا يستحقُّ ذلك الشيء الذي يحدث له. لقد راح يتساءل إن كان سيُضطرُّ إلى الزحف بين الشجيرات مثل كلبٍ ضُرِب بالسوط حتى يجدَ ملاذًا أكيدًا في برودة الليل وإن كان مؤلمًا. لكن ما يحدث له الآن ليس بالضبط ما قد توقَّعه. فها هو سيحصل على غَداء من طعامٍ ساخن ودِثار. ومراعاةً لوجهه الشاحب ويدَيه المرتعشتين؛ سُمح له باختيار موقعٍ قريب من نار المخيم، ومِن ثَم لم يكن هناك سببٌ يجعله أسوأَ حالًا في مغامرة اليوم التالي.
كانت آن برونسون شخصيةً مرحة. وهي ممَّن يأنَسُ بصحبتها الكل. وقد راحت تُنادي جيمي «أيها السيد الجندي»، وحين رأت كم كان شديدَ الشحوب ومضطربَ الخطوات، أشفقَت عليه وأعطته مقعدًا وجعلتْه يُقشر البطاطا، بينما تركَت ابنتها وزوجها يتولَّيان مهامَّ إتمام المخيم الأشد مشقة.
حين مضى في سبيله هابطًا الدَّرْبَ من المستشفى إلى الطريق، خطر لجيمي ماكفارلين أنَّ خروج رجلٍ في حالته من المأوى الوحيد المكفولِ له على وجه الأرض من دون قرشٍ في جيوبه كان مغامرةً كبرى. وبينما هو جالسٌ يُقشر البطاطا من أجل آن برونسون في الوقت الذي راحت فيه ابنتُها وزوجها يُرِيانه كلَّ الحيل التي يمكن بها إخفاءُ أشياء داخل وحول جسم سيارةٍ تتَّسع فقط لخمسة ركاب — من الخِزانة الصغيرة المرتَّبة عند الدواسات الجانبيَّة من أجل الصحون والطعام، والثلاجة الصغيرة، وموقد الغاز ذي الصفيحتَين من أجل تسخين القهوة وطهي اللحم والبطاطا، وإمكانية وضع الأشياء في حيِّز صغير لدرجة مذهلة — خطر على باله أن مغامرته ستكون مؤنسةً وعادية، وأن البلد مليءٌ بالناس الطيبين الذين لم ينسَوا أبناءهم الجنود. كان هناك أملٌ ضئيل في أن يجد عملًا خفيفًا يَقْوى على القيام به، وفي أن يحدث شيءٌ ما أفضلُ على الأقلِّ من الانعزال إلى الأبد في مدينة الطاعون الأبيض. وهكذا حاول توخِّيَ الحذر بشدةٍ وقشَّر البطاطا تقشيرًا رفيعًا وتفحَّصها كما علَّمتْه أمُّه المدبِّرة حين كان يُساعدها في المطبخ صغيرًا. أثناء عمله لم يخطر له احتمالُ أنه مع كل دقيقة كانت ثَمة مغامرة تقترب أكثر فأكثر. لقد اتخذ احتياطَه بالجلوس خلف السيارة حتى لا يراه أيُّ مارٍّ، وبعد الانتهاء من الغداء وإعداد الأفرشة، ارتفع بعينَيه المدربتين على الاستكشاف فرأى ضوءًا وامضًا بعيدًا في الأفق، لكنه كان يهبط ببطء، فقال إنه سوف يذهب في تمشيةٍ قصيرة.
ومِن ثَم ترك عائلة برونسون وسلك طريقه عائدًا على مهلٍ وفي هدوء، متوغلًا في الوادي بين أجَمة أشجار البلوط الأخضر والحي، باحثًا عن بُقعة يمكنه الخلودُ فيها للراحة ولو مدةً قصيرة، ومراقبةُ ذلك الضوء الغامض، والانفرادُ بنفسه ومحاولةُ التخطيط لليوم التالي. وقد أدرك أن هناك شيئًا ضروريًّا يجب فعله من أجل نجاح عملية هروبه، هو التخلص من زيه الرسمي بأسرعِ ما يُمكن. فإذا لاحظ المسئولون غيابَه من المستشفى بالفعل، وإذا وزَّعوا استدعاءً عامًّا، فسوف يُصبح زيُّه هو الشيءَ الذي سيُفصح عن هُويته سريعًا. سوف يخضع كلُّ رجل يرتدي زيًّا رسميًّا لنظرات متفحصة، وسوف تُلاحقه محطاتٌ إذاعية واتصالاتٌ هاتفية وصُحف. لا بد أن يُفكر فيما يمكنه فعلُه وكيف عساه أن يفعله.
وهكذا ارتقى جانب الوادي حتى غاب عنه ضوءُ المخيم الواقع وراءه والأصوات الآتية منه، وحين وجد نفسه متعبًا، جلس في ضوء القمر الأبيض وتطلَّع ببصره باحثًا عن الضوء لكنه اختفى. كان من الحماقة أن يَجزع. فعلى ما يبدو كان ذلك أحدَ الأشخاص ضلَّ السبيل وقد وجدَها الآن. لم يُدرك أن الصخرة التي جلَس عليها كانت متداخلةً جدًّا مع الفروع المتدلِّية لشجرة بلوط حيٍّ مما جعله غيرَ ظاهر. لم يُدرك ذلك حتى وجد نفسه، بعد هبوب نسمة خفيفة واحدة على الجبل القائم خلفه، وجهًا لوجه مع مغامرةٍ عظيمة وبالخطورة التي تُرضيه. لم يُدرك كم أمضى جالسًا يُفكر فيما قد يسَعُه فعله. ما نبَّهه كان شيئًا ما، راح يهبط الأخدود على يمينه، وحين أدام النظرَ في ذلك الاتجاه، رأى خيال رجلٍ ضخم يخرج من بين الشجيرات ويهمُّ بشق طريقه في حذر، مُحدِثًا أقلَّ صوت ممكن، متجهًا إليه مباشرةً.
لما صار الرجل واضحًا للعيان ودخل في ضوء القمر الساطع استطاع جيمي رؤيةَ أنه كان طويلًا، وعاريَ الرأس، يرتدي قميصًا من دون معطف، وينتعل حذاءً برقبة ويرتدي سروالًا حتى الركبة. وقد أحاط بخصره حزامٌ سميك مليء بطلقات الخرطوش، وحين استدار ليُلقي نظرةً على المسار الذي قد قطعه وليُصغِيَ السمع، استطاع جيمي ماكفارلين أن يرى المسدس الكبير المعلَّق على الفخذ اليُمنى في متناول يدِ الرجل. هنا انخفض صوتُ أنفاسه جدًّا، وبالهدوء نفسِه الذي يسودُ المناطق المحرَّمة ظل يتسلَّل للخلف بين الفروع المتدلية.
السبب الذي يجعل من مغامرةٍ كبرى مغامرةً من الأساس هو أن الأشياء التي تحدث بسيطةٌ للغاية وطبيعية للغاية. أما ما يجعلها كبرى فهو مجردُ أن الشخص لم يتوقَّعْها، وليس لأنها من الأشياء التي من الممكن أن يتوقَّعَها المرء وهو في كامل وعيه. ظن جيمي أن نزول رجل ضخم بمسدَّس كبير متجهًا نحوَه قد يُشكل مغامرةً نوعًا ما. وتطوَّر الاحتمال إلى احتمالات كثيرة حين أدرك جيمي بأذُنه، وهو الذي له باعٌ طويل في الاستطلاع والزحف على بطنِه بين خطوط إطلاق النار، أنَّ ثمة شيئًا آخرَ حيًّا يتحرك إلى أسفل الجبل على يساره، شيء ينزلق، متوخيًا أقصى حذرِه، ومتجهًا نحوه ببطءٍ وثقة.
بدَت المغامرةُ خطيرةً خطورةً تليق بأكثرِ أفكار جيمي جُموحًا عن المغامرات حين باعد بين الشجيرات ببطءٍ رجلٌ ثانٍ، ليس بنفس ضخامة الرجل الأول لكنه ضخمٌ أيضًا، وقد بدَت هيئته أكثرَ قتامة نظرًا إلى أنه يرتدي معطفًا وقبعة، وهو يحمل مسدسًا قبيحًا في يده اليمنى، وخطا نحوَ الوادي من جهة اليسار قليلًا.
حينئذٍ جلس جيمي فاغرًا فاه في حيرةٍ أثناء لقاء هذين الرجلَين بِناءً على إشارة الضوء التي قد رآها، حيث أخبر الرجلُ الضخم الرجلَ الآخر أنه قد نزل نحو الطريق ليرى ما وراء الدخان والنار، وأن هناك مجموعةً من السائحين، مجرد رجل ضئيل الحجم يستطيعان إلحاقَ الأذى به لكونه غيرَ مسلَّح، ويستطيع أيٌّ منهما تولِّيَ أمره بيدٍ واحدة. بدا في نهاية المطاف أنه من المؤكد وجودُ بضع مئات من الدولارات في مكانٍ ما مع الرجل، أو إحدى المرأتين، أو في السيارة.
اعتدل الرجل الثاني وقال على مهل: «رجل وامرأتان. هل المرأتان صغيرتان وحسناوان؟»
اندفع كلُّ دم جيمس ماكفارلين إلى رأسه، ثم عاد إلى يدَيه وقدميه، حيث المكانُ الأمثل لوجود الدم أثناء العراك. وإذ به لم يَعُد جنديًّا مريضًا يتَّكل على عطف الأغراب العابرين. كانت مَعِدته قد تقوَّتَت بالبطاطس واللحم والقهوة والخبز الذي قاسمَته إياها آن برونسون الباسمة. كما قد شرب المياهَ التي أتته بها سوزان الصغيرةُ المرحة، وغسل وجهَه المنهَك بها. لم يكن لديه أدنى شك أن النقود التي ستُسدد بها نفقات الرحلة كانت في جيب أحد أفراد المجموعة. لقد اكتسبوها بالعمل الشاقِّ في مزرعة. وقد خرجوا في نزهةٍ ترفيهية وهذا يحقُّ لهم، وقد حَظَوْا بوقت ممتع حتى الآن، لكن إن كانوا سيُجرَّدون من مالهم، وإن كان ويليام برونسون سوف يُضرب حتى يفقد الوعي أو يُقتَل، وإن كانت المرأتان اللتان عطَفَتا على جيمي ستُترَكان تحت رحمة هذين الشخصين الواقفين في الوادي أمام عينَيه، فما زال في العالم شيءٌ عظيم الشأن ليفعَلَه، أو حتى يبذل ما تبقَّى له من عمره محاولًا القيامَ به.
ومِن ثَم، مِثل ثعبان فوق الأحجار، استجمع قُواه ومد يده متلمسًا قطعة كبيرة من صخرة سائبة، وحين حانت اللحظة الحاسمة عندما اقترب الرجل الضخم من الأصغر حجمًا ليسمعَ وصفه لنساء المخيَّم، عندئذٍ بهدوء، وقد تستَّر بفرع البلوط، فعل جيمي ماكفارلين شيئين في الوقت نفسِه. مدَّ يده اليمنى إلى المسدس الذي في الجراب على ظهر الرجل الضخم، وبيده اليسرى هشَّم الصخرة المثلمة مباشرة في وجه الرجل الذي كان لُعابه يسيل من وصف فتاةٍ صغيرة رقيقة. حين استدار الرجل الضخم وجد مسدسه وقد أُشهِر في وجهه، ولم يكن أمامه سوى التراجع رافعًا يديه في الهواء كما أُمر، بينما نزل جيمي ماكفارلين من فوق الصخرة، وقد شعر بأنه الأطولُ قامة والأضخم بنيانًا، وخلَّص السلاح من أصابع المجرم الذي راح ينزف وكاد يفقد وعيَه. وبعد أن استحوذ على السلاحين، ابتعد جيمي بنفسه عن الرجلين مسافةً كافية من أجل سلامته.
ثم قال للرجل الأضخمِ جثةً: «ارمِ لي حزام الخرطوش وحذاءك وسِروالك.» وبخصوص الرجل الأصغر قال له: «اخلع عنه هذا المعطفَ وارمِه لي، وقبعته أيضًا.» حين صارت هذه الملابس بحوزته، ظل يتراجع مبتعدًا أكثر، ثم وضع أحدَ السلاحين على مقربةٍ شديدة منه، وبدَّل الآخَر من يده اليمنى إلى يُسراه، وهكذا تمكن من خلع زيه الرسمي كجندي في جيش الولايات المتحدة. ونزع عنه الحذاء ذا الرقبة والسروال والمعطف، ولم يحتفظ سوى بصفيحته المعدنية التعريفية وميدالية الشجاعة، ثم ارتدى الأشياءَ التي جمعها.
ثم أزاح الأشياء التي كان سيتركها بقدمه مجمعًا إياها، وتراجع ومعه الأسلحةُ وحزام الخرطوش بحوزته هابطًا نحو الوادي حتى صارت بينه وبين المجرمينِ مسافةٌ كافية ليجرؤ على أن يُولِّيَهما ظهره ويمضيَ في سبيله بأسرعِ ما يمكن للرجوع إلى المخيم.
في عتمة ظلِّ أحد الفروع، أيقظ ويليام برونسون بأقصى ما استطاع من الهدوء وشرح له لماذا غيَّر ملبسه، ودسَّ في يد مضيفه أحدَ السلاحين اللذين كان يحملهما. وخشيةَ أن يكون هناك شركاءُ ربما يتبعون المجرمينِ، فُضَّ المخيم على عجَل، وكُوِّم كل شيء في السيارة، وسرعان ما ابتعدوا أميالًا عن الرجلين اللذين يَنهَبان من دون تمييز أموالَ الآخرين وسعادتهم.
حين ابتعدت السيارة بحملِها، استلقى جيمي ماكفارلين وأسند رأسه إلى دعائمِ غِطاء السيارة وضحك ضحكةً واهنة.
وقال لآل برونسون: «ليست تدريباتُ الجيش بالغةَ السوء، على أي حال. فإنني أشكُّ حقًّا أنني كنتُ سأتمكن من الاختباء أو أستطيع سلْبَ أحد الرجال سلاحَه وتحطيمَ وجه الآخر في آنٍ واحد، لو لم أكن جُنديًّا قط. وبالنسبة إلى أخذِ ملابسهم، فإنني أعلم أن حكومتنا لا تريد أن يستخدمَ جنودنا الذين سُرحوا من الجيش ملابسَهم الرسمية لمزيد من الوقت؛ لذا فمن المستحسن أن أتخلَّص من الزي الرسمي منذ اليوم الأول الذي أعود فيه مُواطنًا أمريكيًّا عاديًّا.»
إن ما قد يدور بخلَد ويليام برونسون وزوجتِه وابنته بشأن هذا الأمر وهم في أمانٍ في مزرعةٍ داخل ولاية آيوا، حيث هناك متسَعٌ من الوقت للتفكير، هو أنه أمرٌ عادي. لكن ما خطر ببالهم وهم يهربون على طريق كاليفورنيا مع سلاحَين في سيارتهم، وخلفهم اثنان من المجرمين الحانقين اللذين قد يلحقان بهم في سيارة أسرع في أيِّ لحظة، بصُحبة مجرم ثالث ربما، فقد كان مسألةً مختلفة تمامًا. جلست سوزي برونسون في المقعد الأمامي وهي تحمل المسدسَ الذي أُعطِيَ لأبيها ليكون في متناول يده. وجلست السيدة برونسون في المقعد الخلفي بعينَين متسعتين وقلبٍ مِلؤُه الارتياع. داس ويليام برونسون على دواسة الوقود وانعطف مع كلِّ مفترقِ طرقٍ قابله. لم يأبَه البتةَ إلى أين سيذهب. فقد كان كلُّ ما يريده هو الابتعادَ عن المكان الذي كان فيه. انتابه شعورٌ أن رؤية أضواء أيِّ بلدة صغيرة في كاليفورنيا ستبدو له غايةَ المراد في تلك اللحظة.
أما جيمي ماكفارلين، فكان قد استمتع بغَدائه، وحصل على ملابسَ لا تدلُّ على أنه الرجل الذي اختفى من مستشفى آروهيد؛ كان يعلم أين يتوقَّع أن يحصل على فطوره، واعتبر علاقته منتهيةً بعالم المستشفيات، وما دام استطاع القيامَ بهذه المغامرة في أول يوم من أيام حريته، فقد كان الأمل كبيرًا في أن يظلَّ على الأقل قادرًا على الاحتفاظ ببأسِه في اليوم التالي. وهكذا، في ظلِّ ما اعتراه من إنهاكٍ تام، بدأ رأسُه يسقط بطيئًا على صدره واستغرق في النوم. ظلَّت السيدة برونسون، التي اعتراها الشكُّ إزاء مسألةِ الملابس، تتفحَّصُه بتمعُّنٍ بقدرِ ما استطاعت في ضوء الليل. وقد بدا تمامًا مثلَ أي أمريكي محترم ذي أصولٍ اسكتلنديَّة، أعياه المرض. وأخيرًا همسَت لابنتها قائلةً: «سوزي، هل تستطيعين البحثَ عن وسادةٍ لهذا الفتى المسكين؟ فإنه كما ترَين كان معتلًّا للغاية وقد بلغ منه الإنهاكُ مبلغه.»
تمكَّنَت سوزي من إحضار وسادة من طرَف مرتبة المخيم الموضوعة على الدواسة الجانبية، فوضعَتها السيدة برونسون على كتفها وعلى الجزء الخلفي من السيارة، وشدت رأس جيمي عليها، بينما جثَت سوزي على رُكبتَيها في المقعد الأمامي، وشدَّت ملاءة على كتفَيْ جيمي ماكفارلين، ودموع الامتنان لا تزال تُبلِّل وجهَها الغَضَّ، وهي تقول: «أعتقد، يا أماه، مما حكاه لأبي، أننا نجَونا بأعجوبة، وأعتقد أنه من الأفضل أن نشحن السيارة ونستقلَّ القطار، لنتجهَ شمالًا بأسرعِ الطرق وأكثرِها أمنًا.»
أجابتها الأم برونسون، التي كانت أقوى شكيمةً: «أوه، لا أظن ذلك. إنما سنقترب أكثرَ من البلدات عند حلول الليل. وسنتوقَّف عن النوم على جانب الطريق. سنحتفظ بالسلاح الذي حصل عليه أبوكِ ونحصل له على بعض طلقات الخرطوش من أول بلدة نتوقَّف فيها. أعتقد أنَّ بإمكاننا أن ننجوَ وننتهيَ من رحلتنا.»