تمرُّد الكشافة
حلَّ منتصف الصيف في الحديقة، وجاءت أيامُ الإجازة الطويلة المشمِسة. وأصبح النحل مزدهرًا. حيث امتدَّت أسرابٌ لا حصر لها في صفوف القفائر على جانبَي الحديقة، بل تخطَّت حدودها، فبدأ جيمي يشعر بأنه يجب أن يستغنيَ عن بعضه بحلول الموسم التالي وإلا فسيُصبح لديه أكثرُ مما يستطيع السيطرةَ عليه. وازدهرت الزهورُ في استعراضٍ صاخب للألوان. وأصبحت الأشجارُ محمَّلة بالثمار. وقد اقترب هو من الشفاء التام حتى إنه بدأ يستخدم ذراعه اليسرى وهو يكادُ لا يشعر بشيء من استخدامها. كان يدهن جلدَه الرقيق بالزيت بحرص. وهو ما زال يحميه بضمادةٍ خفيفة. كما أن الأربطة خفيفةٌ للغاية حتى إنه لم يكن يشعرُ بها ولا بالإسار الخفيفِ الممتدِّ حول كتفَيه ليُبقيها في مكانها. كان كل يوم هو يومَ عمل يهواه في موقعٍ يُحبُّه. وفي كل مساء يجدُ مَلاذًا في الكتب التي علَّمته الأشياءَ التي يجب أن يعرفها لإتقان مهنتِه الجديدة، وقد بدأ الآن يتفرَّع لتلك الكتب الأخرى، إبداعات أنبغ العقول في أقدم الأعمال الأدبية المجمَّعة.
وبعد أن أصبح له دخل، وأصبح مطمئنًّا لأنه لن يقعَ مرةً أخرى تحت رحمة الحكومة أو الناس، فقد أقدَم جيمي على الاشتراك في ستٍّ من أكثر المجلَّات الكبرى التي أثارت اهتمامَه، وقد جلَبَت إليه قصصًا رائعةً عن العالم الذي ظلَّ مدةً طويلةً فاقدًا الاتصالَ به. وكانت بعضُ الأشياء التي جلبَتها مسليةً وتثقيفية جدًّا، والبعض الآخر مزعجًا، ممَّا جعلَه يَشرع في التساؤل عن الاتجاه الذي سيأخذه بلدنا، وما المتوقَّع على وجه التحديد كنهايةٍ للبدايات الفريدة التي حدثَت. ومن بين الأشياء التي اطَّلَع عليها، والتي بدَت مقبولةً ويُكتَب عنها من حينٍ إلى آخر وتذاع في العالم مطبوعة ومنطوقة، ما جعل وجنتَيه تشتعلان وألهبَ مكامن روحه الاسكتلندية.
وعندئذٍ بدأ يحملُ في صدره شعورًا بأن الوقت قد حان ليخرجَ إلى العالم، ويحطم قيود الأمان والسلام التي ربطَته بالحديقة، ويُفتش عن الرجال الذين يؤسِّسون رابطة المحاربين القدامى التي يجدرُ به الانتماءُ إليها. وبدأ يستمع، في صباح أيام الأحد المتراخيةِ الناعسة، لرنينِ أجراس الكنائس، ويتساءل إن كان من الممكن بأيِّ حال من الأحوال أن يجد في مكانٍ غير بعيد كنيسةً بروتستانتية فيها قسٌّ من اسكتلندا بحيث يجدُ في صوته ولو أثرًا خفيفًا لحرف الراء المفخَّم المحبَّب إليه. وبدأ يشعرُ أنه قريبًا جدًّا سيهمُّ بالسعي بحثًا عن هذه الأشياء.
وبينما هو منهمكٌ يُفكر في الأمر ذاتَ صباح وصل بالخرطوم الذي يستخدمُه لحوض من زهور البتونيا قُبالةَ شجرة الجاكرندا مباشرةً، فانحنى ليغمرَ بالماء جذورَ الزهور الزاهية. والتقطَت أذناه المستكشِفتان وقْعَ أقدامٍ مندفعة، وصوت البوابة تُصفق، ولاح لناظِرَيه الكشافةُ الصغير يتقدم نحوه مادًّا ذراعَيه، بوجهٍ مكفهرٍّ، وملابسَ ممزقة تمزيقًا. فرمى جيمي الخرطومَ وأسرع بذراعَين ممدودتين. فأخذ في حِضنه الجسدَ الصغير المرتجفَ وجلس برفقٍ على المصطبة أسفلَ شجرة الجاكرندا وهو يضمُّ الطفل، الجسد الذي جعل يتلوَّى ويرتجف، وقد جاشت نفسُه، بينما تنهمرُ دموعه وتتدفَّق في سيلٍ من كِبَر حجمِها. كان جلُّ ما في وُسعه أن يُلملم الصغير ويضمَّه وينتظر. شرَع يُملس بوجنتَيه على الرأس الصغير وهو يهمس، بأفضلِ ما في وسعه، بكلمات لمواساته.
فقال بأنفاسٍ متقطعة: «أيها الكشافة الصغير، عزيزي الكشافةُ الصغير، فلتُخبر جيمي ما الذي آذاك هكذا؟ آه، ما الذي آذاك هكذا؟ أيها الكشافة الصغير، يا شريكي الصغير!»
وبعد ذلك على نحوٍ مفاجئ ضمَّ جيمي الجسدَ الصغير أكثر بين ذراعَيه وتوغَّلَ بشفتَيه في شعره حتى وصل إلى وجنته المتَّسخة، فأخذ يُقبل الكشافةَ الصغير بكل ما في جسده من طاقةٍ مِرارًا.
وهمَس له قائلًا: «يا حبيبي، يا أيها الصغير الحبيب العزيز؛ فلتُخبر جيمي، أخبِر جيمي بما حدث.»
وأخيرًا، صدرت من الجسد الهزيل المحتشد على صدره همسةٌ لاهثة: «من الذي أخبرك؟»
فقال جيمي: «لم يُخبرني أحدٌ بأي شيء. فلتُخبرني أنت. ما الأمر؟ ماذا حدث لك؟ أين كنت؟ إن كان أحد آذاك …» وهنا اندلَعَت ثورةٌ في صدر جيمي، واشتعل في عينيه غضبٌ متأجج. وتابع وهو يلهث: «هل مسَّك أيُّ صبي من الصبية بسوء؟»
هز الكشافة الصغير رأسه بالنفي.
قال جيمي وهو يستحثُّه: «مَن إذن؟ ماذا؟» وأضاف: «إنني على أُهبة الاستعداد لارتكاب جريمة قتل. فلتُخبرني أين أذهب، وماذا أفعل!»
اندسَّ الرأس باهتُ اللون في صدره أكثر، وأحكَمَت اليدان المتَّسختان قبضتَهما عليه أكثر. وهمسَ بشيءٍ ما. مال جيمي بعنقه إلى أقصى حد ممكن وهو ينزلُ بأذنه بحيث يسمعه.
فاندفعت الكلماتُ مصحوبةً بأزيز: «فتيان الكشافة» — تدفَّقَت الدموع غزيرةً مرة أخرى وشهق لاهثًا مرةً ثانية — «تمرَّدوا عليَّ! أرادوا … الذهاب إلى الشاطئ، وحدهم، وخلع ملابسهم بالكامل والسباحة، وأنا … وأنا …»
وهنا فهم جيمي كل شيء وفهم أنها فتاة لا صبي، وضمَّها بشدةٍ وبسَطَ يدَيه الكبيرتين على الجسد الصغير ليُغطِّيَه بقدرِ ما يستطيع. وانحنى ليلتقط الهمس.
«… لم أستطع. فتمرَّدوا عليَّ وكادوا يُمزقونني أشلاءَ!»
فقال جيمي مستفسرًا: «هل تقصدين أنَّ أولئك المتوحشين الصغارَ هجموا عليكِ وضربوك؟»
تلوَّت فتاة الكشافة الصغيرة بين ذراعيه.
وقالت بأنفاسٍ متقطعة: «أعتقد أنني كنتُ أتوقع ذلك. أعتقد أنني كنتُ أُوسِعُهم ضربًا بما فيه الكفاية. لكنني كنتُ متعبة هذا الصباح. ولم أستطع أن أبسُطَ سيطرتي المعهودةَ عليهم. لم أستطع السيطرة عليهم، فتمكَّنوا مني.»
سألها جيمي وهو منقطع الأنفاس: «وماذا حدث؟»
«جاء رجل، رجلٌ على صهوةِ حصان، فمدَّ يده ورفعَني على حِصانه وابتعد بي عنهم حتى طلبتُ منه أن يُنزلني هنا. آه يا جيمي! لقد هلكت! سوف أصعد إلى الصخرة وأُلقي بنفسي في التيار حيث لا أستطيع أن أنجوَ بنفسي وإن أردت.»
ضمَّها جيمي بشدة.
وقال: «مهلًا، أيتها الحمقاء الصغيرة. فلتُفكري في أبيك، فكِّري في أمك، فكري في نانيت وجيمي الصغير! فكِّري فيَّ! لا يمكن أن تفعلي ذلك!»
قالت الكشافة الصغيرة وهي تبكي: «لم يتبقَّ لي أي شيء. ليس لي رغبةٌ في فعل أي شيء. إن كنتُ لن أستطيع أن أقودَ فتية الكشافة، فلن أرغبَ في اللهو في أي مكان!»
خاطبَها جيمي بصرامة، وقد خَشُن صوته من الانفعال: «أصْغي إليَّ!» وتابع: «أصغي إليَّ، يا عزيزتي! لقد أخطأتِ من البداية لأنكِ لم تُحبِّي ما تفعله الفتَيات، فظَلِلتِ تُرافقين الفتيانَ حتى صرتِ بلا هُويَّة أنتِ نفسُكِ. وما الذي جنَيتِه من ذلك؟ الإحراج وخيبة الرجاء وجسد منهك. لا يجدرُ بكِ أن تظنِّي أنكِ الفتاةُ الوحيدة من نوعكِ في العالم. لا تظُنِّي أنه لا يوجد أُخرَيات كثيراتٌ لا يروقُ لهن البقاءُ في المنزل والقيامُ بالأشياء الواجبِ على الفتيات القيامُ بها. لا تظني أنه لتُصبحي قائدةَ كشافة يجب أن تكوني قائدةً لمجموعة من الفتيان. سُحقًا لهم!»
نهض جيمي.
وقال: «ادخُلي معي إلى المنزل.» وتابع: «سوف أُنظِّفكِ وآخُذكِ إلى أمكِ، وسوف تُلبسكِ بعضَ الملابس المناسبة لنخرجَ وحدنا اليوم. سوف نذهب إلى مكانٍ سيروق لكِ. سنفعل شيئًا ترغبين فيه أكثرَ من أي شيء في العالم. وسأخبركِ هنا في التو ماذا نحن فاعلان. سنذهب لنأتيَ لكِ بأفضل حِصان صغير مشى على الأرض يومًا! ظللتُ أبحث عنه وأنشرُ إعلانات في الصحف، حتى عثرت عليه. وقد حصلتُ عليه، وهو جاهزٌ تمامًا من أجلكِ. إنما كنت سأنتظرُ بضعة أيام لأنني قد طلبتُ بعض الأخشاب. إذ كنتُ أنوي بناء إسطبل على الجزء الخاص بكِ حيث لا يجاورُه أحد. كان جون كاري سيأتي غدًا ليُساعدني، وكنتُ بعد أن أفرُغَ منه سآتي بالحصان الصغير هناك لأفاجئكِ، لكنْ بإمكانه أن ينتظر الإسطبل. فسوف نذهبُ ونحضره اليوم.»
أفلتَت فتاةُ الكشافة الصغيرة من بين ذراعَي جيمي ووقفَت أمامه. ومدت يدُها طلبًا للمنديل الذي بات مِلكيةً مشتركة لهما. حيث قدَّمه جيمي واستخدمَته فتاةُ الكشافة الصغيرة.
«حِصان حقيقي، حصان جميل، حصان خاصٌّ بي وحدي لا يمتطيه أحد غيري؟»
فأجابها جيمي، مستعدًّا لأن يَعِدَ بأي شيء في العالم: «أجل، أجل.»
«هل بإمكاننا أن نشتريَه، بإمكاننا أن نشتريه اليوم؟»
قال جيمي، وهو ما زال مستعدًّا للوصول إلى أقصى حدٍّ من الوعود: «نعم.»
قالت فتاة الكشَّافة الصغيرة: «يا للروعة!» ثم أضافت: «لن أُلقيَ بنفسي في التيار إذن. ولن أكترثَ عندئذٍ لما يقوله بيل السمينُ الطيب والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي. إن أراد أيٌّ منهم الحصولَ على سيف القيادة وكل شاراتها، فليحصُلوا عليه. فليحصلوا على كهف اللصوص ووكْرِ قطَّاع الطريق، وليستولوا على معركة الهنود. أما أنا فسأذهب معك، وسأحصل على حِصاني.»
قال جيمي: «ستحصلين على حِصانك بكل تأكيد!» وتابع: «سأتجوَّل معكِ، وسنرى ما في الوِدْيان وما قد نجدُه فيُثير اهتمامَكِ بالخلاء، ولْتعلَمي أنكِ إذا خرَجتِ للاستكشاف، فستجدين معسكراتٍ للفتيات حيث يَقُمن بكل حيل الكشافة التي يفعلها الصِّبية، ولا أشك أنهن يفعلنَ بعضًا منها على نحوٍ أفضل حتى!»
انتصَبَت قامة قائدِ الكشافة السابقِ وأخذَت نفَسًا عميقًا.
«هل تعتقد ذلك يا جيمي، هل تعتقد بأمانة أنهنَّ يفعلنها أفضلَ منهم؟»
قال جيمي: «أُراهنكِ بربع دولار أنهن يستطعن!» وأضاف: «سأعرف أين مواقعهن، وسوف أذهبُ معكِ وسنرى. لكنني أراهنكِ بربع دولار أن أولئك الفتياتِ يستطعن إشعالَ النار بالطريقة الصحيحة ويجعلنَ الشرر يتطايرُ أسرَع، أراهن أنهن يستطعنَ إقامة الخيام، ويفعلن أيَّ شيء يُرِدنه، ويفعلنَه أسرعَ من فِتيان الكشافة أولئك الذين كنتِ تتدرَّبين معهم على أي حال. وما كنتُ لأتعامل مع أولئك الكشافة المستقلِّين. إنهم مثلُ الخارجين عن القانون. وكنتُ سأبتعد عن أولئك الفتية تمامًا!» ثم تجاسرَ مربي النحل أكثر وقال: «كنتُ سأبتعد عنهم، يا جين. ولو كنتُ مكانكِ، كنت سأرى أين أجد فتياتٍ من جنسي وأصاحبُ مَن هم من نوعي، ولا أشكُّ أنكِ مع التدريب الذي حصَلتِ عليه والحيل التي كنتِ تؤدِّينها ستستطيعين الترقِّيَ حتى تُصبحي القائدة ربما خلال ستة أشهر. ستستطيعين أن تفعَلي شيئًا ليس هو باللهو وإنما شيء حقيقي، أنشطة كشَّافة مفيدة، شيء تتقدَّمين به للأمام. ستستطيعين التدربَ حتى يُصبح بإمكانكِ المساعدةُ في إطفاء حرائق الجبال، أو العثورُ على طفلٍ مفقود، أو فعلُ شيء جيد ومفيد، وليس مجرد لهو. وسيُصبح لديكِ حِصان تستطيعين اصطحابَه وامتطاءه. وأنا نفسي أُجيد ركوب الخيل بعضَ الشيء. ولا توجد مهارةٌ من مهارات ركوب الخيل لا أستطيع تعليمَكِ إياها.»
عاد المنديل إلى صاحبه. وبدأَت جين ميريديث تتحسَّس جسدها لترى إن كان تبقَّى لديها ما يكفي من الملابس ليسترَها.
ومِن ثَم سألها جيمي: «هل اتفقنا؟» وتابع: «هل ستركبين السيارة وتسلُكين طريق الشاطئ إلى الإسطبلات حيث ينتظرُكِ هذا الحصان المخصوص الذي حدَّثتُكِ عنه؟ هناك ثلاثةٌ ممتازون. لكِ أن تختاري من بينهم. هلا ذهبنا؟»
جاءت صيحتُها في دهشةٍ شبه منقطعةِ الأنفاس: «يا إلهي!» وتابعَت: «هلا ذهبنا؟ هلا صبَغْنا زهور البتونيا، هلا عطَّرنا الورود؟ هلا مشَينا مِشيةً عسكرية أمام النحل الألماني الأسود؟ هلا حثَوْنا التراب في وجه أول فتى كشافةٍ نلقاه؟ فلنذهب بكل تأكيد! أما بيل السمينُ والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي فليذهَبوا إلى الجحيم رأسًا! فلن ألعبَ معهم ثانيةً أبدًا، حتى إن جاءوا راكِعين، حتى إن رجَوْني بالدموع في عيونهم. لن ألعبَ معهم ثانيةً أبدًا …»
قاطعها جيمي قائلًا: «أجل، وإنني أراهنكِ بربع دولارٍ آخر. أراهنكِ بربع دولار أنهم خلال أسبوع سيأتون ويطلبون اللعبَ معكِ مجددًا!»
دسَّت جين ميريديث ذيلَ قميصها في حزام سروالها. كانت ابتسامةُ الخجل التي رسمَتها على وجهها الملطَّخ المبلَّل بالدموع بديعة. ثم انحنَت بجسدها. ولمست بسبَّابتها اليسرى شفتها السفلى لمسة خفيفة. ونفضَت بيدها اليمنى من فوق كتفها اليسرى كتلة من الطين لم تكن خياليةً بالمرة.
ثم قالت بلُكنة شاباتِ تلك الأيام: «آه، شكرًا!» وتابعَت: «آه، شكرًا يا فِتياني الأعزاء! إنكم رائعون، رائعون حقًّا، لكنني تجاوزتُكم. لقد تخطيتُ مرحلة الصغار وصِرت من عِلْية القوم. فلتمرَحوا في سحابة التراب التي سأثيرها حين أمضي ممتطيةً حِصاني!»
وإذا بالشابة المعاصرة تعود لتُصبح فتى الكشافة الصغيرَ مرةً أخرى.
«هل حصاني حِصانٌ ذكَر أم حصان أنثى يا جيمي!»
فقال جيمي: «يوجد اثنان أو ثلاثة. لم أستقرَّ عليه تمامًا. يوجد اثنان أو ثلاثة في المكان الذي سأصطحبُكِ إليه. أودُّ أن أرى ما إن كنتِ ستُفضِّلين الحصان الذي فضَّلتُه أنا. ولكِ أن تحصلي على ذلك الذي تُريدينه على كل حال.»
قالت جين: «حسنًا. حسنًا. لقد خطر لي أنه إن كان حِصاني ذكرًا فسأُسميه تشيف، وإن كان أنثى فسأسميها سوالو، وأيًّا كان فسوف أمتطيه هناك، سواءٌ كنَّا أعلى سفح الجبل أو في أعماق المحيط. أنا وحصاني سنسبح مثلما سنتسلَّق!»
فقال جيمي، مادًّا يده التي سريعًا ما قُبِلت: «حسنًا، هيا بنا!»
بعد أن ارتدَت جين ملابسَ مناسبة واستقرَّ بهما المقامُ في السيارة المتجِهة نحو الإسطبل الذي سمع جيمي عن بيع خيل ركوبٍ فيه على بُعد عدة أميال على امتداد الشاطئ، تطرَّق جيمي مرةً أخرى لموضوع الحصان.
إذ سألها: «هل لديكِ فكرةٌ محددة في رأسكِ بخصوص نوع الحصان الذي تُريدينه بالضبط يا جين؟»
جعل جيمي يُشاهدها بنظراتٍ جانبية. فرأى نظرةً عابسة عبوسًا طفيفًا، وتصلبًا بسيطًا في جسدها، فعرف المغزى وراء ذلك. ومرَّت دقيقة أو دقيقتان من الصمت، وبدلًا من إجابة السؤال، جاء سؤالٌ بصدد موضوع مختلف.
«ألن تُناديني «الكشافة الصغير» مرةً أخرى أبدًا؟»
فكر جيمي جديًّا وسريعًا.
وقال: «لا، لن أفعل. لن أفعل مجددًا أبدًا. من الآن فصاعدًا سأدعوكِ باسمكِ. إنه اسمٌ جميل للغاية ومن الأسماء التي أُحبها كثيرًا. إنه اسكتلندي، وكذلك أنا، حتى النخاع. وأرى أنه يجدر بكِ التوقفُ عن التنكُّر. ولْتكوني على طبيعتكِ من الآن فصاعدًا، حين تكونين معي. فإنكِ تؤكدين بشدة على أهمية أن يسلك الناسُ سبيل النزاهة في الحياة. وقد نجَوتِ بفعلتك مرات كثيرة حتى الآن بحق، لكنك من الآن فصاعدًا ستصيرين كبيرة بما يكفي لأن تثيري انطباعات سيئة للغاية إن نويتِ الاستمرارَ في التنكر.»
«هل تقصد أنك لا تريد أن أرتديَ السراويل أمامك بعد الآن؟»
قال جيمي: «بالقطع لا، أيتها الحمقاء!» وأضاف: «أعتقد أن السراويل هي الملابس المناسبة لترتديها وأنتِ تعملين في الحديقة وتمتطين الخيل، وأثناء اللعب، وحين تؤدِّين التمارين. ما أريده منكِ هو أن تتوقفي عن اللعب مع الصِّبية وأن تعرفي مدى روعةِ نوعكِ. لا تظنِّي أنكِ الفتاة الوحيدة في العالم التي تحبُّ ركوب الخيل أو التسلقَ أو الخروج أو قيادة فريق كشافة. أريدكِ أن تكوني في مكانكِ الطبيعي، حيث تنتمين.»
تفكَّرَت جين في الأمر بتأنٍّ، كما كان دأبها.
ثم قالت ببطءٍ لكن بنبرات أكثر مرحًا: «حسنًا، قد تكون مُحقًّا في هذا الشأن، لكن عليك أن تدلَّني على السبيل؟»
فقال جيمي: «حسنًا، سوف أدلُّكِ! أول ما سنفعله هو التوجُّه مباشرةً إلى مكان معي عُنوانُه هنا في هذا الجيب. سوف نشرككِ في معسكر لفتيات الكشافة، وسأرافقكِ للاجتماع الذي ينعقد مرة أسبوعيًّا. إن لم يسمَحوا لي بالدخول، فسأظلُّ أتسكَّع بالخارج حتى تفرُغي من الاجتماع، لكن لست بحاجة إلى أن تُخبريني أن أيَّ فتاة قد تنضم لمعسكر فتيات الكشافة لا بد أن تكون من الفتيات اللواتي يهوَين السباحة والتجديفَ بالزوارق وامتطاءَ الخيل والخروج إلى الطبيعة. ولست بحاجة إلى أن تُخبريني سيكون بين كلِّ الفتيات اللواتي يتكونُ منهن المعسكر ولو فتاتان أو ثلاثٌ على الأقل حَسْناوات المظهر، ومهذَّبات السلوك، فتيات من أُسَر كريمة، ممَّن يسرُّ أمَّكِ أن ترافقيهن.»
قالت جين: «حسنًا. سنلعب لعبة «احْذُ حَذْوي.» أنت تُحدد الوجهة وأنا أتبعُك مباشرةً.»
لم تُواجههما أيُّ صعوبة من أي نوع في العثور على مكان السكرتير الذي رحَّب بتسجيل جين ميريديث، وتزويدها بالبطاقات والمعدَّات اللازمة، بينما دفع جيمي الفواتير. وعندما ركبا مرةً أخرى في السيارة المتجهةِ إلى الإسطبل، نظرَت جين إليه.
وقالت: «إن المبلغ الذي دفعتَه هناك كبيرٌ يا جيمي. لم أرَ كم كان، لكنه أكثر مما يجدر بك أن تدفعَه لي. لا بد أن تخصمَه من نصيبي عند بيعة العسل القادمة. وسوف أخبر أبي أنك فعلتَ ذلك.»
فقال جيمي: «لا تنشَغِلي بتلك الأمور. فأنا وأبوكِ سنهتمُّ بالمسائل المالية. ولا تنزعجي من إنفاقي القليلَ من المال من أجلكِ؛ لأنني لم أبدأ إنفاقَ المال بعد. فثَمة شيئان آخران سأفعلُهما قبل أن ينتهيَ اليوم. وكلاهما سيُكلفانني مبلغًا كبيرًا، لكنها ستكون أسهلَ النقود التي أنفقتُها يومًا في حياتي لأنه لولا أنكِ أعدتِ لي ميراثي، ما كان سيُصبح معي أيُّ نقود لأنفقها على أي شيء، باستثناء ما ادَّخرتُه من أجري هذا الصيف. لولاكِ ما كان سيمضي وقتٌ طويل قبل أن أهويَ إلى الحضيض ماديًّا، ومعي جيمي الصغير لأرعاه علاوةً على ذلك. مِن ثَم، ما دمتُ قبلتُ منكِ فداني الشرقي بكل ما عليه، فليتكِ تقبَلين ما أريد أن أعطيَكِ إياه اليوم من دون إبداء أيِّ اعتراضات على ذلك، هل تستطيعين ذلك؟»
قالت جين: «بالطبع أستطيع»، وتسلَّلَت إلى عينيها اللمعةُ التي كان جيمي يعرفها. «لقد قلتَ شيئين. ما هو الشيء الآخر علاوةً على الحصان؟»
فقال جيمي: «سنتوقف هنا وستعرفين.»
غادرا السيارة مرةً أخرى، وأخذ جين هذه المرةَ إلى متجر حائك حيث أُخذت مقاساتها لتحصلَ على سروال فتيات لائق خاص بركوب الخيل ومعطفين، أحدهما بكُمَّيْن والآخَر من دون، وكلاهما مزوَّد بمشدٍّ وتنانيرَ متَّسعة بعضَ الشيء عند الأطراف وذات جيوب أنيقة. كانت الملابسُ ستُفصَّل من قماش بديع ناعم رمادي ضاربٍ إلى الزُّرقة قريب جدًّا من لون عينَي الصغيرة التي ستلبَسُها. ثم اختار جيمي من المكمِّلات المعروضة قميصَين حريريَّين وربطةَ عنق زرقاءَ في رمادي، ومناديل بحوافَّ تليق بالقمصان. انطلقَت صيحاتُ بهجة خافتة فرحًا بقياس زوجين من الأحذية الرمادية طويلةِ الرقبة ذات ثنايا ناعمةٍ حول الكاحلين ورقابٍ صُلبة، وقُفازات تليق أساورُها عليها. رمَقَت جين القفازاتِ بنظرات تردد. وهزَّت أصابعها وتحدثت صراحةً.
«من المؤسف أن تُنفق نقودك عليها. فإنني أراهن بدولار أنني سأُضيِّعها في أول يوم أخرج بها.»
فقال جيمي: «لا أعتقد أنكِ ستُبدين لي حقَّ التقدير حين تستخفِّين بأول هدية أُهديكِ إياها على الإطلاق لدرجة أن تُضيعيها. ما كنتُ لأفعل ذلك إن أهديتِني زوجَيْ قفازات.»
فقالت جين: «حسنًا، هذا لأنَّ لديك الكثيرَ من الجيوب.»
فأجابها جيمي: «وأنتِ أيضًا ستحصلين على جيوب»، ثم التفتَ إلى الحائك المبتسم وطلب منه قائلًا: «فلتُزوِّد تلك المعاطفَ بجيوبٍ داخلية، وجيوبِ صدر على اليسار من الخارج، وزوِّد السروال بكثير من الجيوب. لا نريد أن نعطيَ هذه الآنسة الشابة أيَّ فرصة لفقد مناديلها وقفازاتها.»
وأثناء مغادرتهما المتجر، قال جيمي: «بذلك نكون عكَسْنا الأمرَ بحق. فقد اشترينا اللوازمَ أولًا. والآن سنشتري الحصان، وبعد أن نختار الحصان، سنذهب إلى متجر جلودٍ ونبتاعُ سرجًا وسوطًا أنيقًا.»
هزَّت جين رأسها.
وقالت: «لا تُنفق نقودك على أي سياط. فإنني لا أستخدمها! إنني أوجِّه حصاني مستخدمةً يدَيَّ.»
فقال جيمي: «ومع ذلك يا آنستي الشابة تمرُّ على أي فارس أوقاتٌ حيث يتعرض للخطر إن لم يكن مسلَّحًا بسوطٍ جيد لاذع. فإن ارتعبَ الحصان على الجبال وجعل يتراجع نحو منحدَرٍ تهبطين منه إلى العالم الآخر، وكان في يدكِ سوطٌ سميك متين تستطيعين أن توقِعي به بِضع ضربات توجِعُه وجعًا شديدًا، فربما تُفلحين في جعل الحصان ينسى ذُعره ويمضي بكِ قُدمًا.»
وافقتْه جين الرأيَ على الفور قائلة: «ليكن ذلك أيضًا. لم يخطر لي ذلك لأنني لم أمتطِ الخيلَ كثيرًا في أماكنَ خطيرةٍ بحق من قبل. لقد تسلَّقتُ أنا وكوين بضعَ مرات، لكن كوين أعقلُ من أن تتراجع على مرتفع.»
قال جيمي: «إنني لا أراهن على ما لدى الحصان من عقل؛ لأنه إن طرأ شيءٌ على غفلةٍ وجعله في ذعرٍ شديد فسيقفز ليحميَ نفسه، وسيقعُ الضرر قبل أن يُدرك الحصان حقًّا ما حدث. لا يمكن أبدًا أن تكوني في أمان على صهوةِ جَواد حقيقي من دون سوطٍ سميك متين. إنه جزءٌ من المعدَّات الضرورية، ومهما تكُن نظريتُكِ بشأن المعاملة بلينٍ وعطف، ففي هذا العالم بعضُ الكائنات التي لا يمكن السيطرةُ عليها إلا بالقوة حين يُصيبها الذعر.»
فقالت جين معلِّقةً: «تمامًا مثل الآنسة ورذينجتون.» وتابعَت: «والحق أنه مما يُثير غيظي أن أدعوَها «ورذينجتون»، فقد تصادف أنني أعلمُ أن اسمها يانج، مجرد يانج عادية الملامح، صَهْباء، بأنفٍ أفطَسَ ووجهٍ مليء بالنمش. إنني لم أرَ قط شخصًا لم أُطِقه البتةَ مثل تلك الشخصية التي ظلَّت تدعوني ﺑ «الصغير». لم يكن الأمر يسيرًا، لكن من المؤكد أنها نالت ما تستحق، وإنني ربما أصادفُ حالة أخرى مثلها تمامًا. فلتشترِ السوط!»
حين وصَلا إسطبل الخيل، انعطف جيمي ليصلَ إلى البوابة. كان يعلم مكانَ البوابة جيدًا فأدركَت جين أنه قد ذهب هناك من قبل، وأدركَت أيضًا أن الرجال الذين جاءوا لملاقاته كانوا على معرفة به.
خاطبَهم جيمي قائلًا: «أود أن أُعرِّفكم إلى الآنسة جين ميريديث، وأود أن تَعرضوا عليها الخيولَ الثلاثة التي رأيتها ذلك اليوم.»
وقفَت جين مفتونةً والخيول الثلاثة تُساق أمامها. كانت أمهارًا بحقٍّ، حيواناتٍ بالحجم المناسب لتمتطيَها وتبدوَ على صهوتها بمظهرٍ حسَن، وتكون لديها القوةُ لتجعلَها تُطيعها.
قال جيمي: «حسنًا، سوف نضع السَّرْج عليها الواحدَ تِلْو الآخَر، وبإمكانكِ ركوبُها لساعتين أو ثلاث ساعات. بإمكانكِ أن تُجربيها مرارًا حتى تتبيَّني أيها يَعْدو بالطريقة التي تُناسبكِ. لقد تفحَّصتها بإمعان شديد. كلها بأعمارٍ معقولة، وكلها في حالة جيدة. والاختلاف بين أسعارها قليل جدًّا.»
ثم أدرك جيمي أنه كان يحدث نفسَه. إذ لم تكن جين مُصغيةً لكلمةٍ ممَّا قاله. وإنما ظلَّت واقفةً أمام الخيول الثلاثة، تُحدق فيها. وبتأنٍّ ذهبَت إلى الأول وشدَّت رأسه لأسفل. ومرَّت بيدها على جبهته. وجعلت تنظرُ بإمعانٍ في عينَيه. وأخذت أذنه بين يدَيها. ثم وضعَت يدها اليسرى أسفلَ ذقنه وفرقَت بين شفتَيه بيدها اليمنى ونظرت إلى أسنانه. ثم طافت بجانبه نزولًا بالعنق وحول الصدر حتى هبطَت للقائمتين الأماميتين. قارنت بينهم من حيث العمودُ الفقري، والخاصرة والجوانب والذيل، من كل زاوية. مثلما يبحث الجرَّاح عن الداء الخفي، راحت الصغيرةُ تتفحص تلك الخيول، وقد أدرك جيمي فجأةً أنها تعلم من أمر الخيول أكثرَ مما يعلمُ هو. إذ راحت تتفقَّد نقاطًا لم تخطر له. هكذا وقَف على مسافةٍ مستمتعًا وظل يُشاهدها وهي تتفحص الخيولَ الثلاثة فحصًا دقيقًا. وحين فرَغَت من الأمر، تقدمَت أمامهم.
وأشارت إلى واحدٍ وقالت: «ذلك أفضلُهم طِباعًا، لكنه ضعيفٌ وبطيء. وذلك حسَنُ الطباع. سوف يكون رزينًا ويعملُ اليوم بطوله. أعتقد أن نفَسَه طويل.»
ثم نظرت إلى الأخير.
«وهذا بداخله قدرٌ كبير جدًّا من المشاغبة. لن تعلم متى سيرفس ومتى سيشب، لكنه لن يعلمَ حين تريده أن ينعطفَ سريعًا أو ينزلق على سفح جبل بدلًا من أن يسير. ربما هذا يجعلُكما متعادلَين. إنه سيذهب إلى أيِّ مكان وسيظل محتفظًا بنشاطه لأطول وقت، لكنه سيستغرق وقتًا طويلًا قبل أن يستطيع الشخصُ الذي يملكه أن يثقَ فيه بحق.»
قال جيمي: «حسنًا، غالبًا ما يكون الأمر كذلك بقدرِ ما أعلم. الآن، فلتضَعي السرج وسأعطيكِ ساعتين لتُجربيهم. سوف أمضي للشاطئ وأستلقي في الشمس بعضَ الوقت. لقد اعتدتُ ذلك في هذا الوقتِ من النهار حتى إنني أشتاقُ إلى حمَّام الشمس حين لا أحصل عليه. أما الماء المالح فسأستغني عنه اليوم.»
قالت جين: «انتظر برهة. ابقَ قليلًا.»
أطلقَت ساقيها السريعتين للريح متجهةً إلى كُشك قريب. وعند رجوعها جاءت لجيمي وناولته كيسًا ورقيًّا.
فقال جيمي بجديَّة وهو يتناول الكيس: «شكرًا جزيلًا.»
ثم اتجهَ للعامل.
وقال: «فلتسمَحْ لهذه السيدة الشابة بركوبِ كلٍّ من الخيول الثلاثة في أنحاء المضمار بقدر ما تريد. وحين تُقرر ما ستختاره، سأعود لأصطحبَها إلى المنزل. هلا حرَصت على أن تحصل على أي شيء تريده إذا تكرَّمت؟»
قال العامل إنه سيفعل وذهب لإحضار السرج. نكزَت جين بمقدمة حذائها ترابَ الإسطبل ثم رمقت جيمي بنظراتٍ جانبية.
وسألته: «ما الغرض من الإصرار على ذِكر الأمر؟»
ولم يلجأ جيمي إلى حيلة أن يسأل: «ذِكر أيِّ أمر؟» إذ كان يعلمه، وكان طبعُه الاسكتلندي لا يسمح له بالتظاهر بعدم معرفة شيء وهو يعرفه.
قال جيمي: «إنكِ لا تستسلمين بسهولة، أليس كذلك؟» وتابع: «لكن أعتقدُ أنكِ ما دمتِ قد قضيتِ حياتكِ كلَّها في هذه التمثيلية فإنكِ لن تستطيعي التخلصَ منها تمامًا في لحظة. وسأشرح لكِ على أي حال لماذا ألحُّ إلحاحًا على ذِكر أنكِ فتاة. أقرُّ بأنكِ تبدين كثيرًا مثل الصِّبْية حتى إنه من الممكن أن يظنَّكِ البعضُ واحدًا منهم وأنتِ تبذلين ما في وُسعكِ لإثبات أنكِ كذلك. وإنني أؤكد أنكِ فتاةٌ لأن الرجال أحيانًا فيما بينهم يصيرون غليظين بعضَ الشيء ويقولون أشياءَ ويأتون تصرفاتٍ لا يقولونها ولا يأتونها إن عرَفوا أن الطفل الموجود بينهم هو فتاة. إن ما أحاول أن أفعلَه يا جين هو أن أوفِّر لكِ النوع نفسَه من الرعاية والحماية النابعتَين من المحبة اللتَين كنتُ سأمنحكِ إياهما لو كنتِ شقيقتي الصغيرة.»
نظرَت جين إلى جيمي وجعلَت تتفرَّسه بإمعان. ثم فاجأتْه بسؤال غريب.
«لن أكونَ أبدًا بالغةً ولا كبيرة بما يكفي لأصبحَ حبيبتك، أليس كذلك؟» سألته السؤالَ ببساطة كأنها تطلبُ شربة ماء.
لاحت في مخيلة جيمي في اضطرابٍ صورةُ الحبيبة التي ستبدو عليها الطفلةُ التي أمامه بعد عشر أو اثنتي عشرة سنة، فجمحَ الخيال برأسه قليلًا؛ بيد أن الرجال الاسكتلنديين مشهورون بالعقل والرصانة والنزاهة؛ لذا تماسكَ وأجابَ برصانةٍ قائلًا: «لا أتخيل أنني قد أريدُ في العالم حبيبةً غيرَكِ يا جين، لكنه لن يكون منصفًا لكِ. فإنني أكبرُ منكِ بكثير. والشباب يريد الشباب. وأيُّ شيء خلاف ذلك ظلم. ومن تَجارِبي في الحياة لاحظتُ أن الأوضاع تسوء دائمًا حين يكون الرجلُ أكبرَ من المرأة بكثير. ليس من الإنصاف لفتاةٍ أن تُربَط برجل في عمرِ أبيها. إذا تزوجتُ مرةً أخرى يومًا، فسوف أتزوج من امرأةٍ أقربَ لسني.»
سألته جين بهدوء: «هل كانت أمُّ جيمي قريبة جدًّا من سنك؟»
فقال جيمي: «حسنًا، كانت أقربَ بكثير منكِ.» ثم أضاف: «فلتذهَبي الآن لتمتطي الخيلَ وسأمضي أنا لأحصلَ على حمام شمس، وحين تختارين حِصانًا سأختار السرج المناسب له، وإنني لستُ متأكدًا تمامًا من أننا لم نخطئ بطلب الملابس أولًا. ربما يجب أن تليقَ بالحصان هي الأخرى.»
تفكَّرَت جين في الأمر.
«حسنًا، لا أعتقد أن البدلة ستُقَص وتُفصَّل في الحال. ربما نستطيع أن نُغير الألوان عصر اليوم بالهاتف. كان هناك قماشٌ أسمرُ في بُني مثل ذلك الأزرق في رمادي.»
قال جيمي: «صحيح. ربما نُضطرُّ إلى تغييره. فلتُفكِّري في الحصان الآن، وتأكدي من الحصول على الحصان المناسب. فلا نريد أن نكتشفَ لاحقًا أنكِ حصلتِ على وحشٍ عضَّاض يستنزفُ طاقتَكِ في كل مرةٍ تخرجين به. إنكِ بحاجةٍ إلى جَواد يُصبح صديقًا لكِ؛ تجدين فيه بعض الراحة، ويحبكِ.»
فقالت جين: «أجل، ذلك هو نوع الجواد الذي أريده بالضبط. أريد حصانًا يُحبني مثل كلب أبي في حبِّه له.»
فقال جيمي: «حسنًا، أشك أنكِ ستجدين حصانًا لديه ما لدى الكلب من قدرة على الحب. فقد جاوَر الكلبُ الإنسان قرونًا عديدة ونال اهتمامًا كبيرًا جدًّا حتى إنه أصبح أشبهَ بالبشر. فقد سبق ورأيتُ كلبًا يُفكِّر، وسبق وكِدتُ أسمع كلبًا يتكلَّم، وسبق وتمكنَت الكلاب من أن تأتيَ أصواتًا تُفصح عمَّا تريده.»
قالت جين: «بالتأكيد!» وتابعَت: «كثيرًا ما يستطيع كلبُ أبي أن يفعل ذلك، وكذلك تشام كلبُ أمي أيضًا.»
ثم ذهبَت هي إلى الخيول وذهب جيمي نحو الشاطئ.