الكذبة النبيلة
حين فتح البوابةَ ودخل، لاحظ جيمي أن البابَ الأمامي كان مفتوحًا. مما يعني أن مارجريت كاميرون، التي لديها المفتاح، موجودةٌ في المنزل لتنظيم المكان. وبينما هو يفتح الباب السلكيَّ ويجتاز الباب أيقن أنه يسمع أنينًا منخفضًا. فاجتاز حجرةَ المعيشة على عجَل ووقف عند باب غرفة نومِه. كان الفِراش أولَ ما رآه، وقد تناثرَت عليه تشكيلةٌ نسائية من الخرَز والدبابيس والخواتم والأساور والأمشاط، أغراض الزينة التافهة لفتيات اليوم، وقد أُلقي بجانبها مفتوحًا عقدُ الزواج الذي لم يكن قد تفحَّصه هو نفسُه عن قُرب بعدُ. وعلى مقربةٍ شديدة منه وُضعت لفة صغيرة بدا أن ما بداخلها حي، بينما جثمَت مارجريت كاميرون على ركبتَيها بجانب الفراش، بذراعَين ممدودتين، ويدَين قابضتين ممتلئتين بالخرز والأساور، وهي ساكنة تمامًا حتى إنه لم يدلَّ على أنها تتنفس إلا أنينُها الخافت.
كانت خِزانة الأدراج مفتوحةً، وقد تكوَّم فوقها جواربُ جيمي الملفوفةُ وقمصانه وملابسُه الداخلية، فأدرك أن مارجريت كاميرون كانت تتفحَّص ملابسَه، بحثًا عن القطع التي بحاجةٍ إلى ترقيع. فعثرَت تحت قمصانه على الصُّرة التي أُعطيَت له في المستشفى. كان فحوى ما حصل له ولها مبسوطًا أمامه، مكتوبًا بخطٍّ غايةٍ في الوضوح. استطاع أن يفهم كلَّ شيء، من العَقد الماثل أمامه الذي كتب فيه: «أليس لويز كاميرون»، لولي.
قبل أن يتحرَّك، وقبل أن تشعر مارجريت بوجوده، كان ثَمة شيء على جيمي أن يفعله. كان لا بد أن يُقرر ما إن كان سيخبرها أنه كان متزوجًا زواجًا شرعيًّا من الفتاة التي كانت تعشقُها لحد العبادة بتفانٍ مزدوج لأمٍّ مترمِّلة. فهو إما أن يُخبرها بالحقيقة، أو يضطر إلى العيش في كذبة. لا بد أن يلتزم بقوله إن الطفل ابنُه واسمه جيمس لويس ماكفارلين. قرر أن هذا ما سيُضطرُّ إلى فعله. بيد أنه إذا جعل مارجريت كاميرون تظن أنه كان متزوجًا من لولي، وأنه يأبهُ لأمرها ولو بأقلِّ درجة، وأن الطفل ابنه، فإنها ستتوقع منه الالتزامَ بمدة حِداد على الأقل. وكان قد أخبرها بالفعل أنه لا يستطيع التظاهرَ بأنه في حدادٍ على أم الطفل، التي لا يكاد يعرفُها. كانت تلك أولَ مشكلة تخطر له. على جيمي أن يكون نبيلًا مهما كبَّده ذلك من معاناةٍ ذِهنية أو جهدٍ بدني، أو كلَّفه ماديًّا. ومِن ثَم فقد حسم أمره. فتقدَّم خطوةً للأمام ومد ذراعَيه.
وقال: «أماه، أيتها الأم كاميرون» لكنه لم يَزِد على ذلك.
ضغطت مارجريت كاميرون، التي كانت لا تزال قابضةً على الخرز والأساور، بيديها على الفراش لتتوكَّأ عليه ونهضت. والتفتَت نحوه، غير أن وجهَها لم يَعُد الوجهَ الجامد المتصلِّب لامرأة معرَّضة لفقد صوابها. وإنما أصبح وجهًا منكسرًا مليئًا بالخطوط والتجاعيد من الأسى، لكنه وجهٌ قد انسابَت عليه دموعُ الارتياح المباركة حتى كادت منابعُ الحزن أن تجفَّ. كان جيمي في دهشةٍ شديدة حتى إنه لم يدرِ ماذا يقول. وكانت مارجريت كاميرون مَن بادر بالكلام.
إذ قالت: «لست بحاجةٍ إلى اختلاق أيِّ كذبةٍ نبيلة يا جيمي. لستَ بحاجةٍ إلى أن تجعلَني أصدِّق أنك أبو هذا الطفل. لست بحاجةٍ إلى أن تجعلني أصدِّق أنك خضعتَ قط لمراسمِ زواج من ابنتي أليس لويز شخصيًّا. لا يمكن أن تكون فعلتَ ذلك. فإنك لا تعرفُها. إنني متأكدةٌ أنك لم ترَها قط. لا أعلم أين صادفتَ مولي. هناك على الشاطئ وأنت تأخذ حمامَ شمس، على الأرجح. ولا أعلم ما الذي رتَّبتُماه فيما بينكما لتُحاولا إنقاذَ الموقف، لكنني متأكدةٌ من شيء؛ إنني متأكدةٌ مثلما أنا متأكدة من وقوفي أمامك أن دون كان الفتى الذي أحبَّته لولي. فكل مشكلة تورَّطتْ فيها يومًا، كانت بسبب دون. فلم أعهَدْها مع أي شخص آخر. لم تُحبَّ أيَّ شخص آخر ذلك الحب الذي أنساها نفسَها. فهمتُ الآن أنهما ظلَّا طيلةَ حياتهما يهوى أحدُهما الآخر، وحين أتأمَّل الأمر، أدرك أنه لا بد أنَّ خطأً ما قد ارتُكِب بطريقةٍ ما. لكنني لا أفهم الأمر بالضبط فحسب.»
أحاطها جيمي بذراعَيه.
وقال: «صحيحٌ يا مارجريت أنني لم أرَ ابنتَكِ قط إلا حين استدعَوني إلى المستشفى حيث جعلَهم ذلك العقدُ يتوقعون مني أن أتسلمَ الطفل. لقد أعطيتُ مولي حقَّ استخدام اسمي. وهي استخدمتْه في صالح أليس لويز. أعتقد أنَّ من شأن ذلك أن يساعدكِ على فهم الأمر.»
ظلت مارجريت كاميرون واقفة بلا حَراك، قابضةً على عقود الخرز الرخيص والأساور البائسة الزهيدة، والدموع تنحدر على وجنتَيها، وعيناها مثبتتان على جيمي.
ثم قالت: «حيث إن دون هو والدُ الصبي، فإنني على استعدادٍ لأن أذكره بالخير بقدرِ ما أستطيع، وإنه مما يسرُّني أن تُمحى في قلبي مشاعرُ الاستياء التي ظللت أكنُّها ضد مولي طيلةَ شهور. كنت أعلم أنها مَن ساعد أليس لويز على الرحيل، لكنني بالطبع لم أعلم أنها كانت تفعلُ ذلك لتُنقذني، أنها كانت تبذلُ محاولاتٍ محمومةً في تدبُّر طريقةٍ ما تُخفي بها عني المعلومةَ التي ستُؤلمني أشدَّ الألم. لم أكن على علمٍ بذلك، لكنني عرَفت الآن. ثمة شيءٌ واحد فقط بإمكانك أن تفعلَه من أجلي. قد تكون هناك بعضُ التعقيدات القانونية. ربما يستطيع طبيبُ لويز أن يتدبَّرها من أجلك. لكن مهما يكن من أمر فلن يحمل هذا الطفلُ اسمَك. لن يُدعى جيمس لويس ماكفارلين. وإنما سيكون دونالد كاميرون. لا شكَّ أن لي حقًّا في هذا القرار. سوف يُسمى في السجلَّات باسم أبيه، وسوف يظلُّ معي بالطبع. هلا غيرتَ أوراقه من أجلي؟»
فأجابها جيمي: «سأفعل بالطبع، فهو جائز قانونيًّا. سوف أتحدث مع الطبيب وأرى. أعتقد أنه غالبًا سيستطيعُ تسوية الأمور على النحو الذي تُريدينه من دون أيِّ متاعب كُبرى.»
ومِن ثَم اقترب من مارجريت كاميرون وأخذ من بين أصابعها الأغراضَ البائسة المتبقية من ابنتِها وكوَّمَها. وأعاد عَقد الزواج في الدرج.
وقال على سبيل التوضيح: «ربما أحتاج إليه في إنجاز ما تُريدينه. أُقسم لكِ إنني لم أكن قد اطلعتُ على العقد وهذه الأشياء. لم أكن أعلم، حين غادرتُ المنزل هذا الصباح، أنه سيحدث أي فرق إن صادفتِ تلك الصرَّة. لم أكن أعلم أنني قد تبرَّعت باسمي لأنقذَ ابنتَكِ حتى رأيتُ ذلك العقد على الفراش حين دخلتُ الحجرة.»
حمل جيمي الطفل والصرةَ وأحاط مارجريت كاميرون بذراعه وساعَدَها على العودة إلى منزلها. وفي طريقهما إلى هناك، حاول أن يقول لها كلَّ ما أمكَنه التفكيرُ فيه لعله يُعزيها، ولعله يُهوِّن عليها. وحين بلَغا حُجرة المعيشة، تحرَّرَت من ذراعه، وأخذت الصرة الصغيرة التي كانت تحملها فوضعَتها على الطاولة، ووضعَت الطفل برفقٍ في سلته.
ثم قالت: «إنني ممتنَّة لك يا جيمي على لين قلبِك وعلى نواياك الطيبة. أعلم أنك تُحاول تعزيتي، لكن شاءت الظروف أن أصبح في اللحظة الراهنة امرأةً لا يُعزيها شيء. ربما أستطيع بعد سنوات أن أحظى بشيءٍ من صفاء الذهن بشأن لولي. ربما أستطيع بعد سنوات أن أحبَّ طفلها، وأستطيع أن أحبَّه ملءَ قلبي وأجد فيه نوعًا من السلوى في مواجهة الشيخوخة، لكنني أؤكد لك الآن أن ذلك يبدو لي أشبهَ بافتراض ميئوس منه. يبدو لي أنَّ شباب هذه الأيام، بجُموحهم وهروبهم، في حالتي على الأقل، قد أصابتهم مصائبُ بغيضة. كان دون شابًّا طيبًا، وتحت ضغط الحاجة إلى السفر وكسب المال وكسبه سريعًا حتى يتمكَّن من الزواج من لولي، التحقَ بعمل قاده لهلاكه، وقضَت هي مدة حملها في عذاب. ويشهد على مقدار عذابها أن صحتَها تدهورَت حتى إن العملية التي لا يُفترض أن تُسبب لها أذًى دائمًا، قضت عليها. وها قد مات الاثنان. وها هو طفلٌ من دون حق واضح وقانوني في اسم، ووصمةُ عار تلاحقه طوال حياته مع علم عدةِ أشخاص. وها هي مولي قد عانت معاناةً تفوق التحمُّل طَوال شهور. وها أنا ذا، بعد أن عشتُ حياتي أفعل أفضلَ ما في وسعي، لم يتبقَّ لي سوى أن أحنيَ رأسي لضربة لا يمكن تأويلُها بأي شيء سوى أنها ضربةٌ شائنة. لم يَعُد لي فيما تبقى من أيام سِوى الاستكانة، والعلم بأن لديَّ شيئًا لا بد أن أخفيَه، لا بد أن أُبقيَه سرًّا، وأنني لن أرفع رأسي ثانيةً أبدًا بكبرياء آل كاميرون أو كبرياء أسرتي. لا جدوى، يا جيمي. عُد إلى منزلك، وإذا حدث واكتشفتَ أنت ومولي أنكما يحب أحدُكما الآخَر، فلا تستبِقا الأمور. استقيما أمام الرب وأمام القانون. التزما بالشرف الأصليِّ لقومك وعشيرتك. التزما بقوانين بلدِكما، وشرائع كنيستكما وشرائع الخالق. قد يبدو كلامي وعظًا، لكن مَن أحقُّ مني بالوعظ ولديَّ جنازتان بين يدي، جنازتا صغيرَين ربَّيتهما في منزلي وأُقسم أمام الله إنني فعلتُ أفضلَ ما في وسعي.
لكنه لم يكن كافيًا. فقد اعتقد الصغيران أنهما يعرفان سبيلًا أفضل، وتجاهَلاني وتركاني، وإنني أتمنى أن يجعل الخالق الرحيم بطريقةٍ ما آلافَ الشباب في أنحاء البلاد، الذين يفكرون في تجربة نفس السبيل، آه، أتمنى أن يُطلعهم الخالق الرحيم على الوجهَين الميتين اللذين رأيتهما مؤخرًا، وقد ماتا في رَيْعان الشباب، ماتا في عزِّ رونقِهما، غابا عن الحياة، وانتفى عنهما الحب! لا يستطيع ذانِك الطفلان الوقوفَ بين يدَي خالقِهما والإجابة بأي شيء سوى أنهما «مذنبان»، ولا بد طَوال ما تبقى لي من عمر أن أحمل عبءَ خطيئتِهما. وإنني على حقٍّ حين أقول إن عليَّ السيرَ في ذلةٍ محنيةَ الرأس خلال ما تبقى لي من أيام. عُد إلى منزلك واترُكني، يا جيمي. فهذا أمرٌ لا بد أن أخوضَه وحدي.»
أخذ جيمي السيدة المكروبة بين ذراعَيه وقبَّلها ثم تركَها. لم يكن في يده شيءٌ آخر يفعله. كان ما قالته صحيحًا. لا سبيلَ لإنكاره. ولا مفرَّ منه. ولا توجد كلمات عزاء يمكنه التفوُّه بها. لكنه عقَد العزم على أن يُحاول استخدام كلِّ ما قد يكون لديه من تأثيرٍ على الشباب الذين يتعامل معهم من أجل التمسك بشريعة الخالق، وقوانين الإنسان، وقوانين الطبيعة التي تحثُّ على عفة وطهارة الجسد.