سيد النحل
قال ويليام برونسون متسائلًا وهو ينظر من فوق كتِفه في الساعات الباردة، الساكنة بين الثالثة والرابعة من صباح اليوم التالي: «هل تعتقدين أننا قد تخلَّصنا منهما، يا عزيزتي؟»
«هل تعلم كم ميلًا قطَعنا؟» سألتْه زوجتُه، لكن ويليام قال إنه لا يدري. فقد نسي أن يُلقي نظرةً على عداد السرعة حين توقَّفوا لإقامة المخيم، لكنه متأكدٌ من أنه دار مع مائة منعطف وانحرف مع كلِّ مفترقات الطرق التي قابلها، وبدا ممكنًا أن تحتويَ البلدة الصغيرة التي كانوا سيدخلونها على مكانٍ يجدون فيه فِراشًا نظيفًا وينعَمون ببضع ساعات من الراحة. وبينما هم يسيرون في الشارع الرئيسي رأَوا باب فندق مفتوحًا وأنوارَه مضاءة، ومِن ثَم قرروا النزول فيه كي يَنعموا بقسطٍ من الراحة، ثم يتحمَّموا ويُفطروا، وبعد ذلك يتشاوروا ويُقرِّروا ما سيفعلونه.
حين همُّوا بمغادرة السيارة، وجدوا ضيفَهم عابر السبيل يغطُّ في نوم عميق حتى إنه عزَّ عليهم أن يوقظوه، فأوصدوا السيارة، وبسَطوا عليه دِثارًا آخر وترَكوه يحظى برفاهية المقعد الخلفيِّ بالكامل. ومِن ثَم حين بدأت الحياةُ تدبُّ في شوارع البلدة، استيقظ جيمس ماكفارلين يغلبه شعورٌ مرتبك بأنه قد ضل. لم يدرِ ماذا حدث لعائلة برونسون أو أين كان، لكنه سريعًا ما عرَف، بقراءة لافتات الشوارع من حوله، وأدرك عدمَ إمكان حدوث شيء لعائلة برونسون في بلدةٍ بها عدةُ آلاف من السكان؛ ومِن ثَم كان شاغلُه الأول الفطور. لقد تمنَّى في الليلة السابقة أن يظلَّ مع عائلة برونسون، ربما في الموقع الذي كانوا يُخيِّمون فيه قبل أن تبدأ أحداث اليوم. أما الآن، فمن الواضح أن خُططهم قد تغيَّرَت. من المحتمل أن يخرجوا من الفندق الذي تقف السيارة أمامه، وقد أنعشَهم النومُ والاستحمام والطعام. رأى أنه قد استمتع بنوم مريح، وأن بإمكانه تأجيلَ الاغتسال، لكن كان هناك حاجةٌ ملحَّة إلى الطعام في وهدة معدته. لم يكن توَّاقًا لاختيار شيء على وجه التحديد. فهو جائعٌ جوعًا شديدًا حتى لقد شعر أن بإمكانه التهامَ أي شيء تقريبًا، وقد انبعثت روائحُ فواكه ناضجة من المطاعم، ومن مبنى الفندق، والمقاهي والأكشاك حوله فأثارت شهيتَه. بعد ذلك، هاجمَت رائحةُ القهوة والطعامِ المخبوز أنفَه، فبدأ يفكر كيف يستطيع جعل فطوره حقيقةً ملموسة.
خطر له أن يخرج من السيارة ويتمشَّى قليلًا على الرصيف ليرى إن كان بإمكانه تنشيطُ دورته الدموية قليلًا. وجد نفسَه يتشمَّم رائحة اللحم المشوي والبطاطا المقلية والخبز المحمص والقهوة واللحم المقدَّد وحلوى الوافل في مكانٍ ما قريب، وبدافع العادة وحدها، إذ كان يعلم أنه لا يوجد بنس واحد في جيوبه، أدخل يديه حيث المكانُ الذي تقع فيه جيوب الذكور عادةً ووقف في دهشة مذهولًا؛ لأنه عاد بيده إلى الضوء وفيها تشكيلةٌ كبيرة من العملات المعدنية؛ فئة الخمسة والعشرة سنتات، وربع دولار أو رُبعَين، وقطعةٍ من فئة الخمسين سنتًا. انفرج فاه بطيئًا واتسعت عيناه، ودون أن يعرف السببَ البتة لما قام به، نظر أعلى صفِّ المباني القائمة على سلسلة الجبال بعيدًا في أنحاء سماء كاليفورنيا الخالية من الغيوم داكنة الزرقة وقال، بتأدُّب شديد: «أحمدك، يا رب.»
لم يكن يدري كم مضى منذ قال بخُشوع: «أحمدك يا رب.» ظل يعتقد أنه لم يحدث له خلال السنوات القليلة الماضية أشياءُ كثيرة يشكر عليها الله، لم يشكره على الأقلِّ منذ أخذت النارُ تتَّقد في صدره والضعف يُغير على أعضائه ويُصيب يدَيه الكبيرتين القويتين بالرجفة. لم يتوقَّف ليتفكرَ أن الله قد لا يُرضيه ارتداؤه سروالَ رجلٍ آخر، لكن، في نهاية الأمر، شعَر جيمي أنه بحاجةٍ إلى السروال؛ كان في أشدِّ الحاجة إليه، وقد تخلى عن سرواله، الذي كان أفضلَ بكثير وأنظفَ بمراحل، مقابل هذا السروال الذي حصل عليه، الذي كان مجردُ النظر إليه يملأ روحه ذات الذوق الرفيع نفورًا. تصوَّر أنه لو كان في موقف يسمح له برؤية هذا السروال قبل الحصول عليه من المجرم لجازفَ بارتداء زيِّه الرسمي يومًا آخر.
نظرًا إلى أنه لم يكن لديه أيُّ فكرة متى قد ترجع عائلة برونسون إلى سيارتهم، ونظرًا إلى أن جوعه يزداد منذ صار لديه نقودٌ في يديه ولم يَعُد بحاجةٍ إلى إيهام نفسِه بأنه ليس جائعًا، فقد رفع منكبيه ونظر حوله ليرى إن كان بإمكان أنفِه مرهَفِ الحساسية تعيينُ المكان الذي انبعثت منه أطيبُ رائحة من بين الأماكن المحيطة التي يُطهى فيها الطعام. أعاده ذلك إلى الفكَّة التي يحملها في راحة يده. فردَّ يده اليمنى أمام مجال رؤيته وعلى مهلٍ راح يُباعد بين العملات بسبَّابته اليسرى. كان في غاية الفرح بما وجده لدرجة أنه كاد أن يصيح مُهللًا مثل صبيٍّ صغير. كان مجموع نصف الدولار والأرباع يُساوي دولارًا؛ علاوة على العملات فئات الخمسة والعشرة سنتات وبعض البنسات التي بلغ مجموعُها سبعةً وثمانين سنتًا.
رأى أنه بالتنظيم الرشيد، بالاقتصار على القهوة مع القليل من الخبز المحمَّص واللحم المقدَّد ليُقيم أودَه، لن يُصبح في احتياجٍ إلى أحدٍ ليوم آخرَ على الأقل. وحيث إنه قد حمد الله لمجرد شعوره بالفكة القليلة في يده، فقد خطر لجيمي، حتى أثناء شعوره بالجوع وحاجته إلى البقاء على مقربةٍ من السيارة، لعله يركبها لنحوٍ أبعدَ إن أمكن، أنه من المستحسَن أن يُعرب عن امتنانه ثانيةً. فنظر إلى السماء مرةً أخرى، وقال مشددًا هذه المرةَ على حرف الراء، بلُكْنةٍ ربما ورثها من لسان أحدِ جدوده من أسرة أبيه أو أمه، بصوت مُدوٍّ على رصيف تلك البلدة في كاليفورنيا: «هذا كرمٌ بالغ منك، يا رب.» وحين التقطت أذناه أنه يتكلم مثلَ الاسكتلنديين أبرَقَتا إلى دماغه تصرفَه الغريب، فضحك جيمي مقهقهًا، وهو الذي كان يشعر قبل بضع دقائق بحزنٍ لا مِراء فيه، واستدار، واتجه عبر الشارع نحو أقوى رائحةٍ للحم المقدَّد والقهوة استطاع تحديدها.
أثناء جلوسه على مقعدٍ مرتفع واضعًا قدمَيه على قضيبٍ قُبالة منضدة، صارت الملابس التي استعارها أكثرَ التصاقًا بجسمه، فأدرك أنَّ لديه جيبًا خلفيًّا في سرواله يحتوي على شيء أحسَّ من ملمسه أنه قد يكون عدةَ أشياء؛ لكن في المحاولة الأولى استقرَّ تخمينُ جيمي على أنه محفظة نقود. ثم خطر له أنه قد يكون من المستحسن، ما دام جيبٌ واحد قد أثمر عن قوتِ يوم على الأقل، أن يُفتش في الجيوب كلها. ومِن ثَم بدأ بجيب الصدر الخارجي في المعطف، فوجد فيه سيجارَين من النوع الرخيص. وفي الجيوب الأخرى بعض الخيوط وبضعة أزرار ومنديل متَّسخ، والمسدس الكبير وحفنة من طلقات الخرطوش. ثم بحث في الجيوب الداخلية ووجد خطابَين، قرَّر الانتباه إليهما فيما بعد. ثم وضع يده في الجيب الأيسر لسرواله وأخرجها خاوية. وبعد ذلك، ولينتهيَ من الأمر، مدَّ يده إلى الجيب الخلفي وأخرج محفظة النقود. فوجدها محفظة نقود فعلًا، وتصادف أنها تحتوي على بعض النقود الورقية، وما لبث أن داهمَ الحذرُ الاسكتلنديُّ ذهنَ جيمي. حيث سمع كثيرًا عن مجرمين ونشَّالين خفيفي اليد واستيلائهم على أملاك مَن يُجاورهم من دون علمهم أو موافقتهم. وبمجرد أن علم بوجود ورقتين نقديتين أو ثلاثٍ بفئات قد تكون معقولة، أغلق المحفظة ودسَّها ثانيةً في جيبه، ثم مال بمرفقَيه على المنضدة وراح في تفكيرٍ عميق وسريع.
إنه ليس لصًّا. ولم يكن كذلك قط. لكنه في وسط مغامرةٍ كبرى. تزداد أبعادُها في كل لحظة. وقد تخيَّل أنه لو كانت أمُّه المسكينة، وهي في السماء قرب العرش، تنظر إليه وتُصلي بكل طاقتها من أجل سلامته وفلاحه في مَسعاه، ولو أنَّ الله يتقبَّل منها ويستجيب لصلواتها بكل الحب والاهتمام، ما كان جيمي ليُوفَّق أكثرَ من ذلك حتى الآن. لم يمضِ سوى نصف يوم، فقط ليلة واحدة، وبفضل ما حَظِيَ به من سيارة — أو سيارتين، على وجه الدقة — صار على بُعد أكثرَ من مائتي ميل من حيث بدأ، وحيث إن ذَينِك المائتي ميل يُؤدِّيان إلى الشمال، والغرب؛ فلا بد أنه اقترب من البحر بدرجة كبيرة. لم يعلم جيمي السبب المحدد، الذي جعل كِيانه بأكمله يصخب مطالبًا بالبحر منذ اللحظة التي وقف فيها على قدمَيه وبدأ رحلته. ولم يُضِع وقتًا في استجلاء نفسِه أو محاولة الوقوف على أسباب رغبته في المياه، عوالم من المياه، مياه نقية، بلونٍ أخضر مائل إلى الزرقة وأزرق سماوي وأزرق نيلي، مياه مالحة، وزَبَد، مساحات شاسعة من الزَّبَد الأشبه بالثلج. أراد أن يرى أمواجًا، أمواجًا هائلة، تتلاطم على الشاطئ، وعندئذٍ استحوذ عليه ذلك الشعورُ الساذَج، ربما لأنه لم يستحمَّ هذا الصباح، بأنه يريد الخوض في تلك المياه. كما أراد الاستلقاءَ على الرمال والتشبُّعَ من الشمس والاستغراق في النوم، ثم العودة إلى مياه البحر مجددًا. قد لا تكون المياه المغلية القادمة من ينبوع في باطن الأرض هي ما يلزم لعلاج حالته الخاصة. قد يكون الماء البارد، الماء المالح، ماء البحر هو الذي سيُحدِث الأثر المطلوب.
كان يُفكر باستغراقٍ شديد في احتمال أن البحر قد يفعلُ له شيئًا لم تفعله الينابيع حتى إنه كاد ينسى روائح الطعام حوله. كان بإمكانه النسيان، ما دام لن يُصبح مجبورًا على الزهد. خلال دقيقة واحدة فقط، سيحصل على كوب قهوة، عليها طبقةٌ كثيفة، من القشدة الغنيَّة، وخبزٍ محمَّص هشٍّ ولحمٍ مقدَّد من النوع الجيد. فيما يخص النقود التي في جيبه؛ فهو لم يعلم على وجه التحديد ما الذي يَدين به الرجل، الذي يرتدي هو سروالَه الآن، للمجتمع عامةً، لكنه أدرك من الواقعة التي رآه منخرطًا فيها، ومن حديثه وأُلفتِه للموقف، أن ذلك الرجل قد يكون مَدينًا للمجتمع بدَينٍ كبير جدًّا. راود جيمي شعورٌ بأنه، ما دام استحوذ على سلاحَين وأثنى الهمجيَّين كِلَيهما عمَّا سمعَهما يقولانه جهارًا بلغةٍ واضحة من نيتهما إلحاقَ الأذى برجلٍ بدا واضحًا أنه شديدُ الاحترام، واستحقَّ عن جدارة، من خلال سنوات طويلة من الاقتصاد والعمل الشاق، الإجازةَ التي كان ينعم بها؛ إذن يحقُّ له الحصولُ على محتويات جيوبهما. أما بالنسبة إلى الفتاة الصغيرة النشيطة وأمِّها الرصينة واللطيفة على حدٍّ سواء، فقد اجتاح كِيانَ جيمي (لدى تذكُّر ما كان سيحدث لهما) غثيانٌ مفاجئ، ودون أن يعبأ بمن قد يراه، أخرج المحفظة من جيبه الخلفي وفتحها على اتساعها وأفرغَها، فوجد في أصابعه المذهولة تسعةً وأربعين دولارًا بالتمام والكمال، وبأوراق من فئة الدولار والخمسة دولارات والعشرة دولارات. كان هذه المرة مشدوهًا فعلًا، ولم يكن سقفُ المطعم مشجعًا مطلقًا، فإن كان قد نظر لأعلى حقًّا، حتى ولو لا إراديًّا، إلا أنه نسي الإعرابَ عن امتنانه. في الحال اتخذ قرارًا جريئًا وملحًّا؛ أنَّه بعد أن يأكل الطعام الذي طلبه، سوف يذهب للاستحمام، وسوف يحصل على ملابسَ داخلية نظيفة وجديدة، وسيحصل على سروالٍ ومعطف على مقاسه، ولا يملآنه نفورًا، وسوف يحصل على قُبعة يمكن أن يبدوَ فيها على الأقل جذابًا بقدرِ الإمكان.
لم يُعِر الجانب الأخلاقيَّ للمسألة اهتمامًا كبيرًا. فقد أحبط الهجومَ على المخيَّم، وهرب من رجلَين بأسلحتهما. لقد كان مفيدًا فائدةً كبيرة لويليام برونسون وزوجتِه وابنته؛ فلا بد أن يُرحبوا بحصوله على التسعة والأربعين دولارًا كمكافأةٍ له، وقد شعَر من أعماق روحه والوجع الدائم الناجم عن الجرح في يسار صدره أن الله سيغفرُ له شراءَ ملابس جديدة ونظيفة. ما الذي كان قد قاله الطبيب؟ أن جسده قد أصبح أفضلَ بيئةٍ ممكنة لنموِّ الجراثيم، أليس كذلك؟ ومِن ثَم فإن نظرةً واحدة على ساقَي السروال الذي يرتديه جعلَته يشعر كأنه المصنعُ الأصلي الذي اختُرعت فيه الجراثيم. لذا أخرج ذراعَيه الطويلتَين من كمَّيِ المعطف بعيدًا بقدر ما استطاع، وأزاح تلابيبَ المعطف بقدر ما أمكن، وتجرَّع القهوة التي كانت ساخنة جدًّا حتى إنها كادت تلسعه، وأكَل اللحم المقدَّد الذي كان هشًّا حقًّا والخبز المحمص الذي اكتسب لونًا بُنيًّا كما ينبغي. ودفع فاتورته، وعاد إلى الرصيف حاملًا ثروةً من العملات في حوزته، وبحثَ عن سيارة برونسون.
كانت واقفةً حيث تركها، فمضى وسار إلى مكتب الفندق. لم يرَ أثرًا لأيٍّ من أفراد عائلة برونسون، فذهب إلى الموظف وطلب الاطلاعَ على السجل. حين وجد ما كان يبحث عنه، طلب من الموظف أن يُخبر أصدقاءَه، إذا نزلوا قبل عودته، أنه قد ذهب للحلاقة والحصول على بعض الملابس الجديدة. انتابه على نحوٍ ما شعورٌ حاسم بالكبرياء نبَعَ من حقيقة أنه ليس مضطرًّا إلى إخبار ويليام برونسون وزوجته وابنته أنه كان منهَكًا وحانقًا، حُطام إنسان لا يملك بنسًا في جيبه يولي الفرار من حكومةٍ لا علم له حتى بلوائحها، مع أملٍ ضعيف جدًّا في الفرَج. لم يكن قد خطر له قط أن يفعل شيئًا مثل الخروج عن رعاية الحكومة دون أدنى فكرةٍ عن المكان الذي سيتَّجه إليه أو ما سيحدث له، حتى بين الاحتمالات الخيالية، أما الآن وقد أقدمَ على ذلك، فعليه الإقرارُ بأنه لا يعلم ما إن كان فارًّا من الجُندية أم لا. لا يمكن قطعًا أن يكون فارًّا من الجندية؛ لأن الحرب وضَعَت أوزارها منذ شهورٍ طويلة عديدة. لا شك أنه قد خضع لإجراء ما غالبًا ليظلَّ مقيدًا في السجلَّات وفي عُهدة الحكومة. لم يكن الاحتمال معدومًا أن يأتيَ اليوم الذي قد يحتاج فيه إلى المطالبة بالسجلِّ الرسمي المتعلق بالأوسمة التي يحملها.
غادر الفندقَ بعد أن حصل على إرشاداتٍ من الموظَّف عن السبيل للوصول إلى أفضلِ متجر ملابسَ في البلدة، فابتاع لنفسه الملابسَ اللازمة لينعَم بالنظافة والراحة. متوخيًا الاقتصاد، اشترى ما شعَر أنه يلزمُه من بين أرخصِ الأشياء التي وجد أنها قد تفي باحتياجاته، ثم ذهَب إلى الحلَّاق، وبعد قصِّ شعره وحصوله على حلاقةٍ منعِشة، دفع نقودًا مقابلَ الحصول على حمَّام، وتبع هذا بارتداء ملابسه الجديدة. حين ارتدى قبعته الجديدة قُبالة المرآة في الحمَّام، تصوَّر أنه ما دام النشاطُ يدبُّ في أوصاله والطعامُ يملأ معدته فإنه قد لا يكون بالرجل قبيحِ المنظر. فهو طويل القامة، وعريض البُنيان مثل أسلافه الاسكتلنديِّين، وذراعاه المشدودتان مستدِقَّتا الطرَف، وملامحه متناسقة، وعيناه الواسعتان ذات اللون الرمادي الممتزج بزرقةٍ تبدوان رغم كل شيء عينَين صريحتين، عينين طيبتين، عينين آسِرتَين.
ومِن ثَم عاد جيمي إلى الفندق حاملًا صُرةً ملفوفة بعنايةٍ احتوت على معطفِ رجل آخَر وسروالِ رجل آخر أيضًا. انتوى أن يُلقي بها على جانب الطريق في مكانٍ ما أثناء رحلته، فقط تحسُّبًا لاحتمال أن يكون هناك رجلٌ في عوَزٍ شديد مثلما كان، فيجدها وتسدُّ حاجته، كما قُضِيَت حاجتُه.
حين سار ويليام برونسون إلى الاستقبال، نهض جيمي مبتسمًا، وقد استمدَّ الثقةَ من سروالٍ رمادي مهندَم والمعطف الذي جاء على مقاسه بالضبط والقميص الذي كان نظيفًا وجديدًا، فمدَّ يده، لكنه بدلًا من التعرف عليه قُوبِل بنظرةٍ باردة. كان عليه أن يخلعَ قبعته ويتكلَّم بلُكنته الاسكتلندية حتى يُعلم ويليام برونسون أنه المسافر الذي قابله في اليوم السابق، وعندئذٍ تلاشى من ذهنه تمامًا التساؤلُ الذي ظلَّ يدور فيه إلى أن خلَد للنوم عمَّا إذا كان قد ترك سيارته في حوزة مجرمٍ ثالث. فلم يكن هناك ولو شبحُ مجرم طَوال عشَرة أجيال من أسلاف الرجل الماثل أمامه. كان ويليام برونسون يستطيع أن يُقسم على ذلك. وبينما وقف يُصافح يد جيمي، راح ينظر إليه ضاحكًا وقال: «مهلًا، يا للعجب! لم أتعرف عليك، وأراهن أن زوجتي وسوزي أيضًا لن تَعرفاك، إن وقفتُ بعيدًا عنك!»
ضحك جيمي بدوره. ثم قال: «لقد أقدمتُ على ذلك التغيير المفاجئ في العتمة ليلةَ أمس. إن ضوء القمر مخادع كبير. لم أُرد سوى أن أخلع الزي الرسميَّ للعمِّ سام (الجيش الأمريكي) سريعًا، فانتهزتُ أولَ ما عرَض لي، لكن حين استيقظتُ هذا الصباحَ وجدتُ ملابسي شديدةَ الاتساخ ومليئة بالجراثيم حتى إنها تكاد تسير وحدها، فقررتُ أن أرى كيف لي أن أُغيرها سريعًا.»
قال ويليام برونسون: «هلمَّ للفطور!»
قال جيمي ماكفارلين: «شكرًا، لقد تناولتُ فطوري.» ثم أضاف: «إذا تكرمتَ بالسماح لي بالركوب معك ما دمتَ متجهًا شمالًا وغربًا، فسوف أُصبح ممتنًّا لك.»
قال ربُّ عائلة برونسون وعائلُها: «لا يَشغَلْك البتةَ كم من الوقت يُمكنك الاستمرارُ في مواصلة رحلتك مع عائلة برونسون.» وتابع: «يمكنك البقاءُ مثلما شئت. لن أُباليَ بتاتًا إن لبثتَ طَوال الطريق حتى ولاية آيوا!»
وبعد ذلك التقطَ جيمي الجريدةَ الصباحية وراح يقرؤها حتى جاءت السيدة برونسون وسوزي إلى الاستقبال، وبالفعل لم تتعرَّفا عليه، فكان عليه أن يستخدمَ لُكنته المشددة على حرف الراء متحدثًا معهما حتى صدَّقَتا أنه المسافر الذي كان معهما الليلة السابقة. اتفق كلاهما تمامًا مع رأي الزوج والأب. حيث لم تأبَها كم سيبقى هذا الرجلُ معهما في السيارة وهو أيضًا لم يأبَهْ. وهكذا قطعوا مسافةً طويلة في ذلك اليوم، وتناولوا العشاءَ على جانب الطريق وقضَوا الليل في فندقٍ صغير، ثم شعر جيمي أن الوقت قد حان للاتجاه غربًا. كان بإمكانه السفرُ على مسافات قصيرة. حيث لديه في جيبه ما يكفي من النقود ليتكفَّل بالطعام والمبيت لعدة أيام، حسبما يظن، ومِن ثَم، فقد اتجه غربًا، أثناء النهار الطويل، المشمِس، متقدمًا على مهَل. ثم اكتشف أنه قد توغَّل بعيدًا للغاية في اتجاه الشمال، فعزم على المضيِّ غربًا عن طريق الجنوب.
لم يكن لديه رغبةٌ في الذَّهاب حيث قد تتعذَّب عظامه المتألِّمة بفعل البرد. أراد البقاء حيث تظلُّ أشعة الشمس نافذةً ودون انقطاع. أخذ يمشي وَئيدًا ويجلس من حينٍ لآخَر، وفي الظهيرة يستريح، وحين شعر أن الوقت قد أوشك للتفكير في الغداء، غطَّ في نوم عميق، في ظِل شجرة بلوط حي تخلَّلته خيوطٌ من أشعة الشمس، متوسِّدًا ذراعه على حجر، وحين أيقظَه أخيرًا مرورُ قطيع من الماشية، التقط العصا التي كان يحملها وتمطَّى استعدادًا لرحلته. بينما يفعل ذلك شعر بفقدان شيء. استغرقه التفكيرُ مدة دقيقة ليتذكر ماذا قد يكون. لاحظ أن سرواله ليس بالضبط على نفس وضعه الذي كان عليه حين غفا، وعندما تفحَّص بيديه على جسده وجد جيب سرواله الخلفي خاليًا، وكذلك جيب المعطف؛ كما سُرق السلاح، أيضًا.
عاد جيمي للجلوس على الصخرة، في شبه إعياءٍ من الصدمة وخيبة الأمل، وأخذ ينظر حوله. استطاع أن يرى المحفظة التي استولى عليها مُلقاةً على الأرض على بُعد عدة ياردات فوق جانب الجبل. لم يكن هناك جدوى من إجهاد نفسِه بالصعود لتفقُّدها. فقد كانت مفتوحةً وقد سُلبت بالطبع، وبذلك عاد مرة أخرى من حيث قد بدأ. كان لا يزال لديه في سرواله القصير من الفكة فئة الخمسة والعشرة سنتات ما يكفيه لآخِر اليوم وربما لفطورِ الصباح التالي، لكن المبيت الذي كادت حاجته إليه أن تكون أشدَّ من الطعام قد ذهَب أدراجَ الرياح في غموضٍ كما جاء.
بدا جيمي أقربَ إلى الاسكتلنديين من الأمريكيين في جلوسه عابسًا متجهمًا، على الصخرة. لم يفهم مطلقًا أيَّ سبب على وجه التحديد جعله لا يضع المحفظة في جيب صدره ويُغلق عليه المعطف. كان قد وجدها في الجيب الخلفي للسروال، حيث يُناسبها حجمه، وقد وضعها فيه تلقائيًّا. وفكَّر في أنه لو كان قد استخدم عقله، لَتوخَّى الحذر. وفكَّر، أيضًا، في حقيقة فقْدِ قطاع كبير من الناس في العالم لحسِّهم القديم بالشرف وأن هذه الحقيقة تحمل في طيَّاتها بعضَ الوجاهة. لم تكن مسألةُ الشرف قائمةً بين المجرمَين اللذَين انتوَيا الهجوم على عائلة برونسون. فقد كانا يتحدَّثان كأنه يجوز لهما شرعًا امتلاكُ أي شيء يخص عائلة برونسون. وتذكر جيمي حقيقةَ أنه لم يُعانِ من أي تأنيب ضمير إزاء أخذِ ما وجده في سروال ذلك المجرم. قضى دقيقةً يُفكر في الأمر وظلَّ على اقتناعه الراسخ بأنه كان لديه حقٌّ مكتسَب فيه؛ ولذلك السبب أحسَّ بضيقٍ شديد أنه لم يُولِه رعايةً أفضل. لماذا كان في غاية الإهمال إزاءَ ما كان سيضمنُ له الضرورياتِ والضمادات الجديدة التي سيحتاج إليها قريبًا، في الوقت الذي كان تأجيره لمكانٍ يَبيت فيه هو ما سيُقرر إن كان سيعيش أطولَ قليلًا أم يموت سريعًا، وربما ميتة مؤلمة جدًّا؟
بعد بُرهة هبَّ جيمي واقفًا ليستكملَ طريقه ويستمرَّ في الاتجاه إلى الجنوب الغربي. ومِن ثَم تحوَّل الجوع الشديد الذي كان قد أحسَّ به في معدته قبل ساعة إلى غثيانٍ خالص، ولم يكَد يبتعد حتى وجَد أن العرق البارد راح يسيل من راحتَيه، وعلى صُدغَيه، ومن جسده. لم يرفع نظره إلى السماء حتى ليُقرر ما إن كان سيُعرب عن رجائه أم لا. إنما سارَ بأناةٍ تحت أشعة الشمس بقدر ما تيسَّر له، فقد اعتقد، من تجربته المبيتَ في الخارج، أنه سيحتاج إلى تخزين كل الدفء الذي يستطيع جمعه.
وفي آخرِ الأماكن التي استراح فيها أخرج كلَّ الفكة من جيبه وقسمَها بعناية. قد يبلغ في مسيره بلدةً حيث يستطيع استئجار فِراش في فندق رخيص. وسيتعيَّن عليه تقسيمُ المتبقِّي بين الغَداء والفطور. وبعد ذلك سيُصبح تحت رحمة الدنيا مرةً أخرى، وقد شعَر في تلك اللحظة أن احتمال وقوف الدنيا ضدَّه مساوٍ لوقوفها معه. كان العزاء الوحيد الذي جعله مطمئنًّا هو أنه إذا نشر المستشفى إعلانًا عن هروبه متضمِّنًا أوصافه، فلن يشعر أحدٌ أنه الرجل الذي تنطبقُ عليه الأوصاف المذكورة حيث إنها قد تغيَّرَت بدرجةٍ كبيرة، والفضل في ذلك يعود إلى قاطع الطريق. وهكذا اتبع جيمي البرنامَجَ الذي وضعه حتى بعد فطور الصباح التالي، وعندئذٍ، وبينما هو ما زال متَّجهًا غربًا عن طريق الجنوب، وليس لديه سوى بضعة سنتات متبقية، تعثَّر في مشيه. فأدرك أنه كاد يبلغ أقصى درجات احتماله. فقد أنهك السيرُ المستمرُّ قدَمَيه وساقَيه إلى أن بدأت تتورَّم حتى ضاق حذاؤه جدًّا عليها. وتسلطَت الشمس بأشعتها على رأسه الذي لم يعتَدْها حتى شعر بدُوار. وأصبحت عيناه متعَبتَين بشدة حتى كاد أن يصرخ للحصول على نظارة شمس تُريحهما، وقد فقد أمس النقود التي كان من الممكن أن يشتريَها بها وهو في أمسِّ الحاجة إليها اليوم.
لم تبقَ لجيمي ذِكْرى بالغةُ الوضوح عن الجزء الأكبر من ذلك اليوم. جُلُّ ما يتذكره أنه ظلَّ يُناوب بين السير إن استطاع وبين الارتماء في أي مكانٍ حيث يستطيع الجلوسَ أو الاستلقاء حين لا يَقْوى على الاستمرار. أما كيف وصَل إلى الطريق الذي أودَى به إلى أحد الوِدْيان فهو لا يدري. فقد واصل السيرَ حتى كاد لا يشعرُ بأيِّ شيء ممَّا حوله لدرجة عدم إدراكه أن الطريق قد ضاق فصار مسارًا للخيل، وأن مسار الخيل قد ضاق فصار مدقًّا، وأن المدقَّ راح يلتفُّ حول قاعدة أحد جوانب الجبل الذي انشقَّ من أعلاه لأسفله مع الاضطراب الذي أدَّى إلى نشوء الجبال على وجه الأرض. ومِن ثَم دار مع مُنحنى فوجد نفسَه فجأةً في مواجهةِ مشهد واسع، وفي الوقت نفسِه أدرك أمرَين. حيث سمع صوتَ مياهٍ تُغني. صوت مياه تتدفَّق وتنساب وتتناثر وتضحك وتفعل شتى الأشياء المحبوبة التي تعلم المياهُ كيف تفعلها حين يُتاح لها الانسياب في قاع صخريٍّ أسفل أحد الوديان.
وقَف جيمي ساكنًا ونظر عن يمينه وعن يساره وإلى موضعِ قدمَيه. رأى عن يمينه جدرانًا متشعِّبة بدأَت بارتفاع عادي ثم ارتفعت لتبلغَ آفاقًا أعلى وأعلى حتى بلغَت مئاتِ الأقدام ثم آلافَ الأقدام. صمدت تلك الجدرانُ طَوالَ عصور طِوالٍ حتى إن الشقوق والنتوءات امتلأت بأشجار البلوط الحيِّ والبهشية والمريمية، مع نبات اليوكا وزهرة الشمس، ونبات أذن الخِنزير بلونه الأزرق في الأخضر. وقد تدلَّت السراخسُ قربَ الأماكن التي نضحَت فيها الجدران الشاهقة بالمياه. وعلى اليسار امتدَّ أمامه المنظر الخلَّاب نفسُه، وعند قدمَيه امتدَّ مسارٌ واضح المعالم، ممهَّد في سلاسة، مسارٌ بدا له أنه قد ارتادته أقدامُ عددٍ لا حصر لهم من المسافرين، حتى إنَّ عينيه، وإن كانتا متعَبتَين للغاية، استطاعتا أن تتعرَّفا على أثر حافرِ حصان ظن أنه قد يكون حصان حارس المنطقة.
بدَت المياه عند قدمَيه نظيفة. لا بد أنها باردة. إذ كانت تتدفَّق على الصخور. منحدرةً على منحدرات صغيرة. وتنساب أمام كهوفٍ، حَفَّتها السراخس، بديعة الجمال، بينما راحت تنطلق طيورُ دج صغيرة رشيقة من خلال الرذاذ، غالبًا متجهة إلى أعشاشها المستتِرة بالمياه المتدفقة.
جلس جيمي من فوره في أشدِّ الأماكن إشراقًا بأشعَّة الشمس على أدفأِ الصخور التي أمكنَه العثور عليها وجعل يتأمَّل الموقف، وبعد أن استراح برهةً نزل وشرب مغترفًا المياهَ بيدَيه. ثم نفَض الغبار عن ملابسه الجديدة، التي استُخدمَت استخدامًا قاسيًا بعض الشيء، وتناول عصاه وسلَك المدق. لم يكن السير عبره صعبًا، حيث ينحدرُ لأسفل حتى نهايته، وقبل أن يقطع مسافةً كبيرة بدأ يسمع أصواتًا. فأدرك أن مكانًا بذلك الجمال الفريد لا بد أن يجذب الناس، فلعلَّهم مُخيِّمون أو متنزِّهون يُرفِّهون عن أنفسهم بجوار المياه التي تتدفَّق بسرعة شديدة لم يرَ لها مثيلًا قط. خطَر لجيمي أنه ربما قد أخطأ بالتخلُّص من ملابسه الرسمية. فقد استنتج من عدد المرات التي عُرض عليه فيها الركوبُ حين كان يرتديه، ومن التجاهل التامِّ الذي لقيَه من مئات السيارات التي مرَقَت بجانبه ذلك اليوم، حتى حين وقف مقتربًا جدًّا ورفع يده طالبًا فرصةً للركوب معهم، أن الرجل الذي يرتدي زيًّا رسميًّا يلقى المساعدة. أما الرجل الذي يرتدي ملابسَ مدَنية فقد يكون مُحمَّلًا بالأسلحة وتملأ رأسَه النوايا الشريرة. بدا الوقتُ متأخرًا حتى إن أيَّ مسافر لديه مقعدٌ شاغر سيحتقر نفسه إن لم يتفضَّل على أي شخص مسافر على قدمَيه بميزة الركوب.
صار الركوب ضروريًّا الآن. تقدَّم بقدمه اليمنى، ثم اليسرى، ثم اليمنى مرةً أخرى، يا للألم! كانتا متيبِّستَين من الورم، وآه كم كانتا تؤلِمانه! ما إن قرَّر جيمي خلع حذائه وجواربه وغسل قدميه في المياه الباردة ليرى إن كان سيستطيع الحدَّ من الألم والورم، حتى صار وجهًا لوجه مع لوحةٍ كبيرة طُليت حديثًا جاء فيها أن المنطقة الممتدة أمامه تُمِدُّ بالمياه مدينةَ كليفتون، التي لا بد أنها مدينة قريبة، وأن ثَمة حارسًا يطوف الواديَ لحمايته، وأن أي شخص يُلوث المياه بأي طريقة سيُقبض عليه في الحال. فابتسم جيمي ابتسامةً جافَّة ونظر إلى قدمَيه المتوجعتَين فأدرك أنه من المفضَّل أن يترك حذاءه كما هو، فمن الوارد جدًّا ألَّا يستطيع العودة بقدمَيه إلى الحجم الذي يتَّسع له الحذاءُ إذا خلعه.
كان يسير في الاتجاه الصحيح، على كل حال. كانت كل خطوة يجبر نفسَه على اتخاذها تحمله للغرب والجنوب. في البداية، رغم تعبه لم يستطع أن يتغافلَ عن جمال الوادي الذي سلَكه. فقد كان نباتُ مخلدة السطوح مزدهرًا على مرمى يده. وهناك سراخسُ وطحالب، ونباتات العائق والخُزامى، وترمس أزرق وأصفر، وخماسية الأسدية حمراء والعديد منها صفراء، وكانت هناك بِركة صغيرة امتلأت باللون الأبيض اللؤلؤي لنباتات ذيل السحلية المزدهرة، بأوراقها الكثيفة، وزهورها الفاتنة. لم يكن جيمي على درايةٍ بأسماء هذه النباتات؛ فهي لم تكن ضمن المعلومات المذكورة في منهج علم النباتات الذي درسه أثناء نشأته في شرق البلاد.
ظل جيمي ماضيًا في هبوطه نحو قاع الوادي. لم يلحظ كم كان بطيئًا في سيره، لكنه بدأ يرى ناسًا بعد مدةٍ قصيرة. هنا أدرك أنه كان على صواب حين تخيَّل سَماع أصوات. كان الدُّخَان يتصاعدُ من بعض الأماكن، فشعر جيمي فجأةً على نحوٍ مبهج أن مشكلته فيما تبقَّى من ذلك اليوم قد حُلَّت. فكل ما كان عليه فعله هو الانتظارُ لحين مغادرة المتنزِّهين للوادي وعندئذٍ يبحث في مكان تجمُّعهم فيجمع الخشب الجافَّ من الفروع والأغصان الميتة التي جمَعوها أو سقطَت، وفي أحد الأماكن التي كانوا يَطْهون فيها يُضرم نارًا كبيرة ودافئة جدًّا حتى يمكن له قضاءُ الليل دافئًا. فجلس وظلَّ ينتظر حتى اقتصرت الأصوات الصادرة من الوادي على شدوِ الطيور والمياه المتساقطة، المياه الجارية، المياه الضاحكة، المياه الصادحة بالغناء. ثم شرَع يلتقط كل ما كبر حجمه بدرجة مناسبة للاحتراق، وراح يُكومه في ثَنْية ذراعه اليسرى أثناء سيره، حتى بلغَت حمولتُه أقصى ما يُمكنه حملُه. وبعد بُرهة وجد كهفًا حجَريًّا في جدارٍ جانبي من الجدول، حيث كان الناس يطهون، وبعد التفتيش في قاع الرماد الذي صبَّ عليه الماء وجد القليل من الجمرات المشتعلة. فكشَط الرماد المبتلَّ وأخذ الجمرات إلى المقدمة وحكَّها بالأغصان الصغيرة والحشائش الجافة، وبعد قليل حصل على شعلةٍ ضعيفة، فظل يُغذِّيها حتى حصل، مع غروب الشمس ونزوع الهواء للبرودة، على الحرارة التي يُريح بها جسده المتعب.
وبعد ذلك، في إحدى جولاته بحثًا عن الحطب، عبَر الجدولَ وشقَّ طريقه بمحاذاة الضفَّة اليمنى القريبة من قاعدة الجدار الهائل الذي مال مقطبًا فوقه. وهناك وصل إلى هضبة صغيرة منبسطةٍ من الحجر، فرأى ما جعله يضجُّ بالضحك. كان المتنزهون الذين قضَوا يومًا سعيدًا هناك قد تركوا بقايا غدائهم. وقد وضَعوها على الصخور من أجل الطيور والسناجب، ولم تكن السناجبُ قد عثرت عليها بعد، كما أن الطيور قد رحلَت منذ وقتٍ طويل للخلود للراحة. فوجد هناك عدةَ شرائح من الخبز والزبد. وشطيرة لسانٍ بارد، وبيضة مسلوقة ونصف خيارة مخللة بالشبت، فضلًا عن قطعٍ مفتَّتة من الجبن.
مِن ثَم جلس جنديُّ الحكومة، الذي أضحى جنديًّا مغامرًا حقًّا، على الصخرة الكبيرة التي كانت لا تزال دافئةً من حرارة النهار، وتناول كلَّ ما أراد لغَدائه من طعام ممتاز جدًّا. حين نهض ليذهبَ قال الأبُ الكامن بداخله: «اترك ما تبقَّى للكائنات الصغيرة كما وجدتَه.» وخاطبَه صوتُ الأم بداخله فقال: «خذ معك كلَّ فُتاتة تتبقَّى من أجل الغد. فإن الكائنات البرِّية تعرف كيف تعتني بنفسها. أما أنت فمريضٌ وكِدتَ تبلغ حدودَ قدرتك على التحمل، وسوف تحتاج، وبشدة، إلى شريحة الخبز من أجل فطورك في الصباح.»
تأمَّل جيمي في الأمر. لم يكن قد وجد أي غضاضة حين أخذ سروال قاطع الطريق. كما أنه لم ينزعج الانزعاجَ الذي يثنيه عن استخدام محتويات المحفظة. وقد ملأ معدتَه إلى حد التخمة بما كان متروكًا للكائنات البرية، فلم يعتدِ عليه أيٌّ من الكائنات البرِّية أو يحرِمْه من أي شيء. قد يكون في كلِّ تلك النباتات التي تسلَّقَت الجدران التي أحاطت به هناك وتدلَّت منها وكللتها طعامٌ أشهى لذائقة الحيوانات البرية مما قد تُرِك لها. بيد أن جيمي كان به مسحةٌ من خصلةٍ ما، نفس المسحة التي أخذته إلى الغابات والأحراش، والتي أرسلتْه أميالًا لا تُحصى على امتدادِ ضفاف جداولِ أسماك التراوت في طفولته، مسحةٌ من اللياقة والنقاء في روحه، وإنها تلك المسحة التي تقول له الآن: «فلتُغامر مثلما تُغامر تلك الكائناتُ البرية الصغيرة.»
هكذا جثا جيمي مرةً أخرى وفتَّت الخبز وقطع حوافَه. وبحركة عفوية وضع قطعةً أخيرة من حواف الخبز في فمه، ثم ذهب للبحث عن حطب. حين شعر أنه قد جمع كميةً كافية، زاد من اشتعال النار، فصارت باعثةً على الدفءِ والراحة بقدر ما استدعت حاجتُه، فتكوَّر أمامها، ومتوسِّدًا ذراعه ومستندًا إلى حجَر، راح في النوم خلال دقائقَ قليلةٍ جدًّا. لم يشعر البتَّة بالسحالي الصغيرة التي أخذَت تجري على قدمَيه، ولم يرَ جرذ الغابة الذي جلس على فخذَيه وظل يتفحَّصه بعينين متسائلتين ليرى ما إن كان معه أيُّ شيء قد يريد أن يُبادله بنصف الزرار المصنوع من اللؤلؤ الذي كان يحمله في خدِّه الأيسر. استيقظ في الليل من صلابة فراشه قبل أن تنطفئ النار، فحشد عليها ما تبقَّى من الحطب وتحول بجنبه البارد تجاه النار والدفء ونام على جنبه الدافئ وعاد للنوم مجددًا.
حين أقبل الصباحُ غسَل وجهه ويدَيه بأن بلَّل منديله في الجدول، وبعد ذلك بلَّل منديله عدةَ مرات واعتصر ماءه على الجمرات التي كان قد ترَكها، مبعثِرًا بعضَها بعيدًا عن بعض، وماحيًا أيَّ أثر للنار يحتمل أن ينتشر. ثم، بقدمَيه اللتين كانتا لا تزالان تُؤلمانه في الحذاء الذي لم يُقدِم على خلعه، بدأ السير هابطًا نحو قاع الوادي.
في نحو الساعة العاشرة ذلك الصباحَ التقى بالحارس. لم يكن حارسُ هذا الوادي على وجه الخصوص منعزلًا تمامًا شأن حُراس الجبال؛ لذا كان وَدودًا. فقد توقَّف للتحدث معه مدة دقيقة، وبينما كان ينظر إلى جيمي نظرةً عابرة لاحظ ضعفَ جسده، وشحوبَ يدَيه، وكيف أن بشَرة وجهه مشدودةٌ على عظام هزيلة، ولأنه شابٌّ ومفعم بالحيوية، ويجري في دمائه عطفٌ جارف على أخيه الإنسان، فقد قال لجيمي: «تقول لي أمي إنني إذا أفرطتُ في امتطاء الخيل فسأُصاب بالنقرس في قدمَيَّ. ما رأيك أن تركب الحِصان خلال الأميال القليلة القادمة وتسمح لي أنا بالسير؟»
قال جيمي إنه يسرُّه ركوب الحصان إن كان هذا يُناسب الحارس، لكنه لم يكن قد وضَع في اعتباره ما سوف يفعله خطو الحصان بالجزء الأيسر من صدره. ورغم أنه استقرَّ على السَّرج في وضع مريح بقدر ما استطاع، فقد كان الركوبُ مؤلمًا حتى إنه لم يستطع تحمُّلَه طويلًا، ومِن ثَم، بعد ميل أو اثنين، اضطُرَّ إلى السير مرةً أخرى. لكنه كان ممتنًّا بالعرض، وقد بدأ يستنبط في ذهنه على نحوٍ مبهم الشعورَ بأن العالم يتكوَّن من أشرارٍ وأخيار، من أشخاص أنانيِّين وأشخاص يُراعون الآخَرين، من أشخاص قُساة وأشخاص رُحماء، وأي النوعين ستقابل حين تضطلعُ بمغامرةٍ كبرى ما هي إلا مسألةُ حظٍّ فحسب.
منذ التقى بالحارس فصاعدًا، صارت مغامرةُ جيمي أميالًا بطيئة من العذاب، وهو لا يزال متجهًا نحو الجنوب الغربي، حتى صارت الساعة الثالثة تقريبًا من عصر ذلك اليوم. لم يكن أحد قد ترك علبة طعام ولم يكن هناك مكانٌ يمكنه أن يشتريَ منه طعامًا بالبنسات القليلة التي يحملها. كان قد غادر الواديَ واتبع طريقًا راح يتَّسع حتى صار مستوعبًا للخيل والمركبات، فكانت تمرُّ به سيارةٌ من وقتٍ لآخَر؛ لكنه ليس طريقًا كثيرَ المسافرين؛ ليس من الطرق المزدحِمة، ولا المعتنَى بها، وقد صار من الصعب على جيمي مواصلتُه أكثرَ فأكثر؛ لأنَّ قدمَيه كانتا قد تحمَّلتا كل ما يمكن لقدمٍ بشرية تحمُّله حين تتصل بشخصٍ مريض يدفع نفسه ببسالةٍ لأقصى حدود طاقته.
قرب الساعة الرابعة بدأ الجوعُ الذي كان معلَّقًا منذ الليلة السابقة يُعذبه مجددًا. كان الإرهاق قد بلَغ به درجة أنه وجد نفسه يَحيد عن دَرْبه خطوتين أو ثلاثًا؛ لكيلا يُضطرَّ إلى رفع قدَمَيه ولو قليلًا ليخطوَ فوق نُتوءٍ صغير على الطريق. وقد بدأ يُدرك أن فرصة الحصول على مأوًى لقضاء هذه الليلة قد أصبحت ضئيلة. وكذلك فرصة العثور على طعام ضئيلة بالمثل. حتى الآن أسفرَت مغامرته عن نقاطٍ مضيئة، ومواقفَ مثيرة، ومواقف مؤلمة. أما في تلك اللحظة، بين الشعور بالوجع المتأجِّج في صدره والالتهاب المشتعل في حِذائه والألم الذي عمَّ جميع أنحاء جسده المعذب، فإنه لم يستطع أن يرى جَدْواها. شرع يتساءل ما إن كان يستطيع أن يعود أدراجه إلى المستشفى وما إن كانوا سيقبلونه، ثم خطَر على ذهنه أمرُ الطاعون الأبيض الذي قالوا إنه لم يُصِبه بعد، فأغلق شفتَيه بإحكام شديد بينما وقف مترنحًا وهو يُحدق مثل رجل شبهِ مخمور في الطريق الممتدِّ أمامه، محاولًا أن يُحدد ما إن كان مسار العربات على يمينه يبدو أكثرَ سلاسةً ولو قليلًا من مسار العربات الذي على اليسار. حين قرَّر أن الذي على اليمين هو المناسب له ليسلُكَه سار مترنحًا بخطواتٍ واسعة وبدأ التقدم، وراحت عيناه تتفقَّدان الطريق خِلسة على الجانبين بحثًا عن البقعة التي سينهار فيها أخيرًا. وتساءل، ما إن كان سيعثر عليه أحدٌ إذا تعثر وسقط ولم يستطع النهوض، إذا استلقى غائبًا عن الوعي في منتصف الطريق، وماذا سيفعلون به إن عثَروا عليه.
إن البحث في جانبَي الطريق جعَل جيمي لا يُلاحظ النقطة التي تحوَّل فيها الطريق حتى وجد قدمَيه تتبعانه، ثم نظر قُبالته فاتسعَت عيناه وشهق شهقةً خفيفة. إذ تسنَّى له أن يرى على الطريق، على بُعد بضع قصبات (وحدةٌ قديمة لقياس الطول تُساوي خمسَ يارادات ونصفًا) فحَسْب عن اليمين، منزلًا صغيرًا، ومن بين كل المنازل التي قد حلم بها من قبل، واعتقد أنه يودُّ للغاية أن يمتلكَها ويعيش فيها، بدا له ذلك المنزل الأكثر جاذبية.
كان قائمًا على مقربةٍ من الطريق. وقد امتدَّ بحِذاء واجِهتِه سورٌ أبيضُ من الأوتاد الخشبية. وحجَبه عن الطريق بوابةٌ بيضاء أنيقة. وبدَت واجهتُه المطلية رقيقةً وساحرة. وقد تجلَّت سِماتُ نيو إنجلاند في أرجائه. وتسلَّقَت زواياه نباتاتٌ معترشة مزهِرة واعتلت شرفاتِه الصغيرةَ الأمامية. خارج البوابة استطاع أن يرى دائرةً من الصدَف المجروش، وخُيِّل إليه أن الممشى المؤدِّيَ إلى الباب الأمامي قد يكون مصنوعًا من الأصداف. بدا واقعًا في موقع قريب جدًّا من الطريق ولم يكن هناك مساحاتٌ كبيرة من التربة الخالية على جانبَيه. حيث بدَت كلُّها مليئةً بالزهور نفسِها التي كان جيمي يُساعد في العناية بها في حديقة أمِّه في نيو إنجلاند. أمكَنه أن يرى زهور الخطَمية، التي استطالت حتى طالت أفاريزَ المنزل، وتعدَّدَت ألوانها، وعن اليمين واليسار استطاع أن يلحظَ تدرُّج ألوان الكبوسين والزينيا والمخملية، واستطاع أنفُه الحسَّاسُ التقاطَ الرائحة النفاذة لزهور رقيب الشمس والبليحاء وأذن الفأر والبنفسَج، لكن ما طغى على كل شيء آخَر كان الانطباعَ لديه بوجود سحابةٍ زرقاء، زُرقة لطيفة جميلة تبعث على السكينة.
ظلَّ جيمي يتمايل مُحملقًا في المنزل في لهفة. وحمَله نظرُه لما وراءه، فرأى أنه على الجانب الآخر من السور الفاصل يوجد فِناءٌ آخرُ ومنزل آخر، ثم أخذت المنازلُ تتجمَّع على نحوٍ يبثُّ الأُلفة على جانبَي الطريق، وظلت المنازل تنتشر على مرمى بصرِه هنا وهناك، كدلالاتٍ أخرى على الحياة. وفي تلك اللحظة بلَغ أذنَيه على نحوٍ رقيق ارتدادُ الأمواج ببطء، وانتظامٌ فيما ربما كان أدنى مستويات المدِّ والجزر للبحر.
في ظلِّ ما انتابه من إنهاك، خدَّر الألمُ حواسه؛ إذ كان قد سار طَوال الجزء الأكبر من وقتِ ما بعد الظهر، مثقَلًا، شبهَ واعٍ، أما الآن وقد مسَّه اقتراب البشر، ومسَّه جمال منزل أحد الأشخاص، فقد تحمَّس لوجود احتمال ما أنه قد يجد المأوى والطعام، فتدفَّق دمُه الراكد، ورفع رأسه، ولمعت قليلًا عيناه المطفَأتان، واتجهَ أنفُه القويُّ نحو الغرب وتشمَّم مستطلعًا. ثم قال جيمي، بصوت جَهْوري، من أغوار المجهول:
ما لا بد أنه المحيطُ «الهادر»!»
لم يَدْرِ البتة لماذا سمَّاه المحيط «الهادر». ربما فعل ذلك لأنه كان في غايةٍ من الإنهاك لدرجة أنه إذا لم يتدبَّر أن يضحك في نفسه بشأن شيءٍ ما، فمن الوارد جدًّا أن ينهارَ على الطريق ويرقدَ بلا حَراك دون أن يعبأ البتة بملابسه الجديدة، أو أي شيء آخر في العالم بأسْرِه.
في تلك اللحظة انفتح البابُ السلكيُّ المؤدي من الشُّرفة إلى داخل المنزل الجميل، الذي كان خارجه بأكمله بمثابة دعوةٍ رقيقة تستميلُ الزوار، وخرَج منه رجلٌ طويل القامة نحيلُ القَد، أرستقراطيُّ الهيئة من رأسه إلى قدميه، ممشوقُ القوام، ذو شعر أبيضَ طويلٍ مثل الحرير مسترسل إلى الوراء بداية من جبهته، ولحيةٍ ناعمة قصيرة من حرير أبيض فِضِّي متموج ممتدةٍ حتى صدره، رجل ذو أنفٍ طويل نحيف، وعينَين واسعتين غائرتين، وشفتَين شاحبتين. راح يترنَّح وهو يعبر الشُّرفة، وقد قبَض على جانبه الأيسر بكلتا يدَيه وظل يتهادى يمينًا ويسارًا حتى بلغ البوابة. فرفع يدَيه عن جنبه وتشبَّث بالبوابة. فمال إليها وتعلق بها وجال ببصره في الطريق من أقصاه إلى أدناه، وهناك لمحَ جيمي. فرفع إحدى يدَيه ولوَّح بها.
ظل جيمي واقفًا هناك يُحدق إليه، وببطءٍ وتأنٍّ، أنزل قدَمَه المتورمة على الطريق الصُّلب ثم تبعها بالأخرى، وأخذ بِضع خطوات في اتجاه الرجل. توقَّف مرةً أخرى ليُحدق فيه، فلاحظ الخطوط الدقيقة في الوجه الهرم المكروب للبدَن المتعلق بالبوابة، وملابسه المهندمة، وسلوكه المضطرِب. ومِن ثَم، بكل ما استطاع حشْدَه من قوته، أخذ جيمي بضعَ خطوات أخرى وصار على مرمى سمعِه، فنزل على أذنيه المذهولتين والمرتابتين صيحتُه المكتومة إذ قال: «النجدة! أنقذني أيها الفتى أستحلفك بالله!»
قبل دقيقةٍ لم يكن جيمي ليُصدق أن باستطاعته مساعدةَ أي شخص أو أيِّ شيء. فقد كان يتصوَّر أنه قد بلغ حدود طاقته، وأنه إن لم يجد مَن يُنجِده هو نفسه في غضون دقائق قليلة فسوف يفوت أوانُ نجدته. لكن كان ثمة شيءٌ في بياض الرأس العجوز الطيب، شيءٌ ما في عرض منكبَيه ونُحول جسده ذكَّر جيمي بأبيه، وربما لأنه تذكر أباه، رفع جيمي عينَيه أعلى المنزل الأبيض البديع، وفوق الأشجار المتشابكة المحيطة به، وفوق كُرومه التي ستَرَته، لأعلى نحو السماء، وفي أعماق قلبه أعطى أمرًا حاسمًا. «لا بد أن تُساعدني الآن، يا رباه! لا بد أن تساعدني الآن!»
ثم كوَّر قبضتَيه بإحكام شديد إلى جنبَيه وعبَر الخطواتِ الثلاثَ الأخرى نحو البوابة. واستجمع قُواه ليفتَحَها، ووضع ذِراعه حول الجسد العجوز المستنِد إليها، وسمع نفسه يقول بصوتٍ جافٍّ لاهث: «مهلًا، بالطبع، سوف أساعدك!» ولم يكن لديه أدنى فكرة إن كان هو نفسُه يستطيع السير ثلاثَ خطوات أخرى أم لا.
لكنه بالفعل خَطا الخطواتِ الثلاثَ الأخرى، وفتح البابَ السلكي، واتجه بالرجل المتعب الذي يُحاول إسعافه نحو أريكة كبيرة وأنزله عليها، موفِّرًا له الراحةَ على الوسائد التي ضغطها سريعًا. ثم هبط إلى ركبتَيه، وتشبَّث بجانب الأريكة، وتكلم مرة أخرى بصوته الجافِّ منقطع الأنفاس: «ماذا أفعل؟»
في حركةٍ عفوية لمست يدا الرجل المتعب منطقةَ قلبه. فحدَّث جيمي نفسه، وقد صفا ذهنُه إزاء مصابِ رجلٍ آخر قائلًا: «إن ألمه قريبٌ جدًّا من مكان ألمي.» فكرَّر سؤاله مرةً أخرى: «ماذا أفعل؟»
فجاء الرد: «الهاتف. يجب أن تتصل بطبيبي. يجب أن تصلَ بي إلى مستشفًى.»
نهض جيمي بالاتِّكاء على الأريكة ونظر حوله. ثم رأى هاتفًا على الجدار ومنضدةً صغيرة أمامه وعليها دليلُ هاتف مفتوح، فجلس على المقعد وتنفَّس بعمقٍ مرةً أو مرتين. ثم سأل من فوق كتفه: «هل تستطيع إعطائي الرقم؟»
بعد نوبةٍ من الألم جلبَت العرَق للجبهة البيضاء المرتفعة فوق الحاجبَين الأبيضين اللذين ظلَّلا عينَين كبيرتين بدَتَا مثل بِركتَين من السواد، جاءت الإجابة: «ستجد الرقم والاسمَ في القائمة الموجودة بجانب الهاتف. دكتور جرايسون.»
بحث جيمي عن السطر ووجد الاسم والرقم، ثم أجرى الاتصالَ، وأثناء انتظاره أن يردَّ سأل مرةً أخرى من فوق كتفه: «ما اسمُك حتى أُخبر الطبيب به؟»
فكانت الإجابة اللاهثة: «سيد النحل.»
ومن فوره وجد جيمي نفسَه يُلح على أن يأتيَ الدكتور جرايسون إلى الهاتف بنفسه، وحين أُكِّد له أن الدكتور جرايسون هو الذي يتحدث، وجد نفسَه يستجمع قوته ليقول: «لقد أُصيب سيد النحل بنوبة قلبية خطيرة جدًّا. ويريدك أن تأتيَ وتُحضر عربة إسعاف. فهو يُريد أن يُؤخَذ إلى المستشفى في الحال.»
فكان الرد: «حسنًا. يمكنني أن أصل إليه خلال ساعة.»
عندئذٍ صاح جيمي عبر الهاتف قائلًا: «تعليمات! أعطِني تعليمات! ماذا يجب أن أفعل له؟»
فجاء الرد: «روح الأمونيا العطرية. اغسل وجهَه ويدَيه. وأعطِه بضع نقاط. اجعله في وضعٍ شبه منتصب. وأنا سآتي سريعًا بقدر ما أستطيع.»
هكذا عاد جيمي إلى الأريكة، وهمس وهو يضع يديه على الرجل المأزوم فقال: «فلتُساعدني، يا رب، الآن!» واستمدَّ القوة من حيث لا يدري ليشدَّ سيد النحل لوضع أقرب إلى الجلوس وليكوِّم الوسائد عاليًا وراءه. ثم بدأ ينظر حوله ليرى من أيِّ مكان يُمكنه استحضارُ روح الأمونيا العطرية. لقد تحدث الطبيب عنها كما لو كان ذلك العلاج موجودًا في مكانٍ قريب ومعتادًا استخدامُه. حين لم يستطع أن يرى أي شيء يفيد بمكان الزجاجة، أقدَم على السؤال، فوجَّهتْه إشارةٌ باليد إلى غرفةٍ مُلحَقة حيث وُضِعت، على منضدة بجوار الفراش، زجاجةٌ عليها ملصق كُتب فيه «أرواح عطرية». فأخذها جيمي، ثم سار بخطوات متعثرة لمؤخرة المنزل وفي بحثٍ سريع للمطبخ الذي وجد نفسه فيه التقط مِنشَفة. لبرهة قصيرة من الوقت ألقى نظرةً من الباب الخلفي، حيث يؤدي ذلك البابُ الخلفي إلى شُرفة، امتدَّت الأرض بعده مستوية لبضعة أقدام، بعدها بدأ مَمْشًى على منحدر غيرِ ممهَّد بالمرة وقد بدا أنه يؤدي لأسفل، أكثر فأكثر، وبنظرة سريعة تهلَّل جيمي بهدوء: «يا إلهي، لقد بلغتُ البحر!»
التقط المنشفة وعاد مسرعًا ليُبلل أحد أطرافها بالزجاجة، وبينما هو يمدُّها تجاه الرجل المريض مرَّ بها خِلسة أمام وجهه واستنشَقَها مِلءَ رِئتَيه. ظل قريبًا جدًّا بحيث يتمكَّن من غسل يدَيه ووجهه، وقد استمد من الأمونيا قوةً كافية للوقوف والرجوع إلى المطبخ. ثم سمَح لنفسه بنزع الغِطاء الورقي عن زجاجة الحليب التي كان قد رآها عند الباب الخلفي، وببُطء، وبتأنٍّ، تجرَّع نصف محتوياتها. أعطاه ذلك همة عالية حتى إنه استطاع العثور على حقيبة كانت فوق خِزانةٍ في غرفة نوم، واستطاع أن يفتح صندوقًا وينقل في الحقيبة أوراقًا معينة، ويُعيد غلق الصندوق ويُعطي المفتاح للرجل المعتلِّ. ثم عثر على معطف وخفَّين وغيرِها من الأشياء الصغيرة التي أُمِر بجمعها، وحين صار كلُّ شيء جاهزًا جلس بالمنشفة المشبعة بالأمونيا لينتظرَ الإسعاف. ثم طلب منه البقاء في المنزل، ورعاية النحل حتى التحقُّق من درجة مرضِ مُربِّيها، ومتى يُصبح قادرًا على العودة إلى عمله.
قال جيمي معترضًا: «إنني لا أعلم أي شيء عن النحل.» وتابع: «لا يمكنني رعايتها. ألا تستطيع أن تُرشدني إلى شخصٍ يمكنه رعايةُ أملاكك بأسلوبٍ حكيم؟»
قال سيد النحل: «الأعمال ليست كثيرة.» وأضاف: «املأ الأحواضَ بالماء باستمرار. أما طعامي فتأتي به جارتي في البيت المجاور. ويمكنك النومُ في فِراشي. أنت نفسك تبدو متعبًا ومريضًا. وأنا لا أخشى أن أثقَ في رجلٍ لديه لمستُك ووجهك وصوتك. عِدْني أنك ستأخذ مكاني حتى أعود.»
هنا مدَّ جيمي يده في جيبه وأخرج وسام الشجاعة ليحمله قُبالة عينَي الرجل المريض. وقال إنه قد سُرِّح مؤخرًا من الجيش، وإنه ليس لديه منزلٌ في الوقت الحالي، وسيَسرُّه أن يبقى في ذلك المنزل الدافئ ويفعلَ ما في وُسعه، لكن لا بد أن يحصل على توجيهات، توجيهات كاملة، بخصوص ما عليه أن يفعله للنحل.
ابتسم سيد النحل ابتسامةً نادرة ومضيئة، واستلقى على الوسائد كما لو كان راضيًا، ثم قال: «في أي يوم قد يأتي الكشافةُ الصغير، إنه مُساعدي، ويمكنك أن تسأله أي شيءٍ تريد معرفتَه وستحصل على إجابةٍ سديدة. ومن الممكن أن تُخبرك جارتي مارجريت كاميرون بالكثير، كما أنها طاهيةٌ ممتازة. أخبِرْها بما تُحبه ويمكنك أن تستخدمَ ملابسي وفراشي.»
وهنا أغمض عينَيه وسقط غائبًا عن الوعي.
بعد دقائق قليلة جاءت سيارة الإسعاف ومضى في طريقه نحو المستشفى جسَدُ الرجل العجوز ذي الوجه الذي يمثل نموذجًا رائعًا لتجسيد أيٍّ من القِدِّيسين القدماء. في غضون ما لا يزيد عن دقيقةٍ حصل جيمي على عُنوان المستشفى من الطبيب الذي كان قد جاء من أجله، وعلى وعدٍ باتصال هاتفي بعد إجراء الفحص. وقد راقَ له الدكتور جرايسون، وراقَت له اللمسةُ التي وضع بها يده على حُطام الرجل العجوز الطيب الراقد على الأريكة، والطريقة العطوفة التي انحنى بها على الجسد العليل، وكل نبرة في الصوت الذي شرَح به الحالة.
«ظلَّ سيد النحل يتحاشى انهيارَه حتى داهمَه. لا بد أن يذهب إلى المستشفى. ولا بد أن يَبقى لإجراء عمليةٍ ظل يتجنبها طَوال عامٍ أو عامين. أرجو أن تستطيع أن تُعِد العدة للإقامة هنا، ما دمتَ الرجل الذي اختاره، لعدة شهور على الأقل.»
رفع جيمي يدَه المرتعشة إلى شفتَيه الجافَّتين وقال مكررًا ومرددًا: «لكنني لا أعرف شيئًا عن النحل! لا أعرف أيَّ شيء عن النحل مطلقًا!»
بعد أن تحركَت سيارة الإسعاف بعيدًا، عاد مترنحًا إلى المنزل ودخل المطبخ مباشرةً، حيث أنهى ما تبقَّى من الحليب، وقد أكسبه هذا بعضَ القوة حتى إنه تخطَّى الباب الخلفي ونظر باتجاه سفح جبلٍ صغير حيث بدا العالمُ كلُّه نابضًا بالحياة ومتألقًا بالزهور تِلْو الزهور من الأنواع قديمةِ الطراز نفسِها التي ازدهرَت حول الواجهة، وعلى الجانبين على امتداد الخطِّ الخارجي لأرضٍ واسعة لا بد أن مساحتها بلَغَت فدَّانَين على الأقل، كان هناك حرفيًّا مئاتُ القفائر البيضاء المقبَّبة التي أخذ النحلُ المثقَل يطير نحوها بطَنينٍ خفيض. ثم أمكنه أن يرى مساحةً من الرمال الذي بدا مثل الفِضة، بعدها استطاع رؤية وسماع الحركة المنتظمة للمحيط الهادئ عند انخفاض المد.
ظل واقفًا هناك إلى أن لم يَعُد قادرًا على الوقوف؛ ثم أغلق الباب وأوصدَه وعاد إلى الأريكة. هوى عليها، وتخلَّص من حذائه، وخلع معطفه عن كتفَيه، وسحب دِثارًا هنديًّا فوق صدره، وأنزل الوسائدَ أكثر، ثم غاب عن الوعي كما غاب عن الوعي سيدُ النحل قبل قليل.