سيدة العاصفة
أتى اليوم الجديد غارقًا في الضباب والسكون ثم هبَّت رياحٌ باردة لم يأبَهْ جيمي بمجابهتها. وفي المساء فقط، حين نظر من الشُّرفة الخلفية وجال ببصره في المنظر الممتدِّ أمامه، أدرك أن الشيء الذي كان يريد أن يراه سيحدث. فقد بدَت ومضاتُ البرق في الأفق. وبدأت ألسنةٌ متشعِّبة من الضوء تُومض في السماء وساد سكونٌ مشئوم، وبعيدًا في اتجاه الشمال والغرب أمكنه أن يرى سُحبًا سوداءَ كبيرة وقد أخذت تتكتَّل وتتجمع.
شدَّ جيمي قامتَه. وقال لنفسه: «إنها عاصفة!» وأضاف: «العاصفة! أُقسم بكلِّ ما في الكون من خير وسلام، أن أراها من العرش ولو كان ذلك آخرَ شيء أفعله في حياتي!»
تفحَّص الحديقة، وأزاح عدةَ أشياء يمكن للرياح العاتية أن تُتلفها، وبحرصٍ أغلق النوافذ وأوصد الأبواب، ثم ذهب إلى الخِزانة التي عند الرِّواق الخلفي وفتَّش بين متعلقات سيد النحل عن ملابسَ مناسبة. بسَط معطفَ النحل والمعطف القديم، ثم وجد معطفًا واقيًا من المطر ثقيلًا كان هو ما يحتاج إليه بالضبط.
ارتدى معطف النحل، وحمَل المعطف الخارجيَّ ومعطفَ المطر واعتمر القبعةَ عريضةَ الحواف القديمة، وأوصد الباب الخلفي وراءه وسلَك سبيله بتأنٍّ عابرًا الممشى الخلفيَّ، ومجتازًا الرمالَ؛ ليصعدَ العرش. ومِن ثَم جلس في الموضع المريح الذي أعدَّه لنفسه، مرتديًا المعطفَ الخارجي وباسطًا معطفَ المطر حتى يستطيع أن يضمَّه حوله، وضمَّ إليه أغطيتَه بطريقةٍ محكَمة بحيث لا يصيبه برد. ثم جلس يشاهد العاصفة المقبلة بشغفٍ شديد.
لم يكن يعلم أنه يضع قُوى الطبيعة في مقارنة. لم يكن مدركًا أن العاصفة التي من شأنها أن تُزلزل روح الإنسان وجسده حتى تُدمره ظلَّت محتدمةً طوال سنتين في صدره المصاب، وفي قلبه، وفي عقله. لم يعلم أنه لا يُدرك قوتها وعنفها وعدم جدواها. لم يعلم لماذا أراد أن يرى السماءَ وهي تهبط والبحرَ وهو يرتفع ثم يَصِلان إلى أقصى حدود ثورتهما. لم يعلم أنه أراد أن يُقارن بين العاصفة التي يمكنُها اكتساحُ قلب إنسان مع العاصفة التي يمكنها اكتساحُ العالم. لقد حاول بحقٍّ أن يحميَ نفسه حتى لا يُعجل بشيء قد يكون مقدرًا له. لم يُرِد أن يخفق، وقد ائتمنَه سيد النحل على منزله وأملاكِه وعمله وهي كل ما يملك من حُطام الدنيا، ولم يعلم أنه مع اقتراب العاصفة أكثر، واشتدادِ سواد الغيوم، وتحوُّل موجات الحرارة إلى ومضات واضحة من البرق، ومع هبوط المساء بلونه الأسود مثل المخمل حوله؛ لم يُدرك أن عزيمته المعنوية والذهنية كانت ترتفع مع مدِّ العاصفة، وأن كل ما تبقى في جسده المتداعي من بقايا رجولةٍ كانت تحتشدُ معًا لتبلغَ قمةً من نوعٍ ما، تمامًا كما كانت العاصفة ستبلغ ذروتها في الحال ثم تتراجع.
من دون أن يُحرك ساكنًا، وبأنفاسٍ تكاد تنقطع من اللهفة، استلقى في مقعده الصخري وتساءل كم سيبلغُ ارتفاع المدِّ على وجه التحديد. لم يتبيَّن إذا ما كان الماء قد يُحيط بالنتوء الصخري. اعتقد أنها ستكون عاصفةً غير مسبوقة وأنها ستغمرُه. على أي حال، قرَّر أن يخوض المغامرة. وربما كان يجدرُ به أن يسأل مارجريت كاميرون هل غمر الماءُ ذلك النتوءَ تمامًا من قبل. لكنه متأكد أنه أعلى من أي مستوًى رأى الإنسان المحيط يرتفع إليه؛ ومِن ثَم فلا بد أنه آمِن.
في اللحظة التي أدرك فيها جيمي أنه يحظى بأفضلِ وقت مر عليه منذ كانت المدافع تُدوِّي وكان القتال في المعركة محتدمًا وكان هو قادرًا على تسديدِ ما اعتبره ضرباتٍ قليلةً مؤثرة، مصاحبًا كلًّا منها بصيحةٍ مدوِّية قائلًا: «باسم فوج المرتفعات الثاني والأربعين!» وحين شعر بدمِه يضطربُ وروحه تتجاوب مع تكسُّر الأمواج التي ترشُّ الرذاذ على قدمَيه، وهزيم الرعد وتألُّق البرق، بالضبط مثلما سار القتال في صالحه وكان جيمي جنديَّ فوجِ المرتفعات الثاني والأربعين وبسيفٍ سحري يقطع رءوس عددٍ لا يُحصى من الألمان مع كل ضربةِ سيف سريعة كالبرق، حدَث له أغربُ شيء رآه طوال السنوات التي عاشها. إذ انبعثت رائحةٌ غريبة بطيئة وخافتة حتى أحاطت به تمامًا واكتنفَتْه.
هبَط جيمي من المعركة التي في خياله إلى واقع يومه والتفتَ برأسه إلى اليمين. متحريًا الرِّفقَ كما كان يفعل حين يزحف على بطنه نحو الألمان في الأرض المتنازَع عليها، باحثًا عن رفيقٍ مفقود أو مستكشفًا مواقعَ العدو، راح يتشمَّم هواء الليل. وأول معلومة مؤكدةٍ شعر أنه يستطيع الاعتمادَ عليها من المعلومات التي أرسلها أنفُه إلى دماغه كانت رائحة «المريمية». وتشمَّم مرةً أخرى فأدرك زهرةَ خُزامى الشواطئ؛ «رعي الحمام الرملي»، واحدة من أرقِّ وأروع الروائح الخفيفة في الطبيعة بأسْرِها، ثم تسلَّلت نفحةٌ من زهور الربيع. وعندئذٍ، بالضبط حين أعقب الصدع الذي بدا كأنه شقَّ السماء هزيمُ الرعد المدوِّي، بلغ أذنَي جيمي بكاءٌ ملتاع كان أكثرَ ما قد سمعه في حياته إثارةً للشفقة. وبينما هو ساكنٌ سكونَ الموت وجالسٌ بين أغطيتِه، التفتَ رأسُه، وتيقَّظ أنفه وأذناه، وبعد برهة، وهو ما زال يتشمَّم ويُنصت، توصل إلى استنتاج: إن العرش الذي كان يظنُّه غايةً في الروعة، الذي سابقَ إلى الاستحواذ عليه، الذي انتوى أن يَشغَله في عدة ليالٍ من التواصل الوجداني في سعيه للتقرب إلى الله، لم يكن عرْشَه الشخصي. لقد كان متطفلًا عليه. إذ كان هناك شخصٌ آخرُ على معرفة بالطريق المتعرِّج المؤدي إلى القمة من الخلف. شخص يخوض صراعًا وبحاجةٍ إلى أن يُداويَه الله من خلال الطبيعة لِيَقْوى على خوضه. حيث وقف بجانبه شخصٌ تفوح منه رائحةُ مريمية الجبال، رائحة الخُزامى وزهور الشاطئ الذهبية، وكان لهذا الشخص صوتُ امرأة، ليس بالصوت المبحوح، وليس بالصوت اللاهث لامرأةٍ عجوز. يعلم الله أن جيمي قد سمع نساءً كثيرات يبكين؛ نساءً من فرنسا، ونساءً من بلجيكا، ونساءً من إنجلترا. لقد كان خبيرًا بكل أنواع وألوان نشيج الأسى الذي قد يعتصرُ جسد الأم، الزوجة، الأخت، الحبيبة.
على مهل، وبرفق، من دون أن يُحدث صوتًا بقدرِ ما استطاع، التفتَ ليُواجه هذه المرأة. كانت قد وصلَت إلى مقعدها حيث جلس هو في البداية. من الجائز أنها لم تعلم أنَّ مقعدًا آخر قد صُنِع، وراء المكان الذي لا بد أنها قد اعتادت عليه، وإلا ما كان من الممكن أبدًا أن تجدَه في ظُلمة العاصفة. لا بد أنها اعتادت الجلوس في ذلك الموقع خلال عواصف أخرى، وإلا ما كانت سعَتْ إليه وقد بلغَت تلك العاصفةُ أشُدَّها.
وبعد أن تمكَّن الإجهاد من الطبيعة وبدأت تخفُّ من حدة العاصفة التي شنَّتها، حدث لجيمي شيءٌ عجيب آخر. إذ راحت الريح الهائجة التي كانت تهبُّ من الغرب تتحول تدريجيًّا إلى الشمال وبدأت تُطيِّر شيئًا على وجهه، وهو شيء ناعم، شيء حريري، شيء راح ينسحب وينشد، ويلتصق به مع الرذاذ المتدافعِ والمطر الغزير. ووسط ارتباكٍ مشوبٍ بذهول أخرج يدَه ولمس وجنتَيه برفق، فوجد عليهما خصلةً حريرية من شعر امرأة. أدرك جيمي أنه إذا علمت المرأةُ بوجود رجل هناك، فقد تذعر ذعرًا شديدًا حتى إنها ربما تُلقي بنفسها إلى البحر الهائج تحتَهما على بُعد بضع أقدام. لذا تخوَّف من أن يتكلم، من أن يتحرك، ولم يخطر له أنه قد يكون بجانبه أنفٌ في مثل حساسية أنفه، وأنه قد تفوح منه في التو واللحظة رائحةٌ يميزها شخصٌ آخر.
لم يعلم جيمي قط كيف ستتوالى الأحداث؛ لأنه في اللحظة التي تسلَّلتْ فيها يده لتُزيح عن عينيه الشعرَ الذي حجب عنهما الرؤية، ضرب وميض ممتد ومنخفض من البرق قلب المحيط وأضاء الصخرة للحظة بنورٍ كالنهار. في تلك اللحظة رأى جيمي وجهًا أبيضَ وعينين كبيرتين نَجْلاوين لامرأة، وجهًا سيظلُّ يتذكره ما دامت له ذاكرة، وجهًا لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن ينساه أبدًا. التقطت أذنُه المرهفة شهقةَ الدهشة الحادة من وجوده هناك، حيث يجوز جدًّا لأيِّ شخص معتادٍ على الصخرة أن يفترض أنَّه لا يجد أحدًا، فعرف أنها صادرةٌ عن امرأة معتادة على ضبط النفس. فهي لم تصرخ. ولم تقفز. إنما التقطت أنفاسَها فقط.
كان جيمي مستعدًّا إلى حدٍّ ما. فقد حاول تدبُّرَ أمره. ولم يُؤخذ على حينِ غِرَّة مثلها. أما ما كان قد انتوى أن يقوله، وما ظن أنه سيكون قولًا عاقلًا، فلم ينطق به قط.
لكنه وجد نفسَه يقول: «لا تجزَعي! ما الذي يؤلمُكِ؟ دعيني أساعِدْكِ.»
حينئذٍ أجابه الصوتُ الذي سيأخذ مكانَه في ذاكرة جيمي مع العينين والوجه — صوتٌ رنان خفيض قويٌّ يتخلله تهدُّج حزين مؤثر، صوت يهتز بالمشاعر ومشدد بنبرات مألوفة لأذنَيه — قائلًا: «ما الذي جاء بكَ إلى هنا؟»
أجاب جيمي: «ربما للسبب نفسِه الذي جاء بكِ.»
أجابه الصوت: «أوه!»
أزاح جيمي الخصلاتِ المسترسلةَ عن وجنتَيه وشفتيه بأصابعه وجلس ممسكًا بها في يده بإحكام. وقد نسي حالَه تمامًا وهو الذي كان قد خرج ليُقارن بين معركة الطبيعة ومعركة روحه؛ إذ قال للفتاة التي بجانبه: «هل أخبرَكِ أحد من قبلُ أن المشكلة حين يتقاسمُها اثنان يصبح أمرها هينًا؟»
ثم ضحك ضحكةً اسكتلندية خفيضة. وأرسل ذراعه اليمنى وتحسَّس شمالًا حتى طوَّق منكبَي المرأة التي بجواره.
وقال: «ملابسُكِ ليست كافية، كما أنكِ مبتلَّة! تعالَي هنا للاحتماء بمعطفي. وبعد ذلك؛ لأننا ليلًا، ولأنني أعلم أن روحك محطَّمة وربما جسدك معذَّب، فلتُخبريني بالحقيقة. إنني على يقينٍ أن باستطاعتي مساعدتَكِ. فكل مأزِقٍ له مخرج. وبإمكاني أن أفكر لكِ في حل.»
لم ينسَ جيمي قط أنه حين بلغ بذراعه الكتف التي بجانبه لم يُقابله انكماشٌ ولا نفور ولا تردُّد. وعندما لمع البرقُ مرة أخرى رأى أن المرأة التي كان يحاول مواساتَها كانت شابة. لم تكن جميلة، لكنها كانت جذابةً جاذبية إنسانية. ولما كانت مبتلَّة بالمطر، مفعَمة بالأسى، لم يكن له حقٌّ أن ينتقدها.
قال ملتقطًا حبلَ أفكاره مجددًا: «إنني جاد.» وتابع: «إنني جادٌّ. أعدكِ أن أساعدكِ إذا أخبرتِني.»
«لكن … لكن كيف يمكنُكَ مساعدتي؟» قال الصوت الذي سجَّل جيمي كل نبرةٍ من نبراته وهو يبلغ مسمعه.
قال جيمي: «لا أعلم.» وأضاف: «لا أعلم كيف أستطيعُ مساعدتكِ؛ لأنني لا أعلم ما تحتاجين إليه. أعلم فقط أن بوُسعي مساعدتَكِ، وأنني سوف أساعدُكِ إذا أخبرتِني ما الذي يزعجكِ.»
أثناء الصمت الطويل الذي أعقب قولَه، هيَّأ جيمي معطف سيد النحل الواقي من المطر ليستفيدَ منه أقصى استفادة ممكنة وأحكم قبضةَ ذراعه اليمنى. وأخيرًا، وسط هدير العاصفة المنحسرة، ووسط تكسُّر الأمواج تحتَهما، سمع مرةً أخرى الصوتَ الذي كان ينتظره.
قالت المرأة، التي كان صدرها ما زال يعلو ويهبط، وكتفاها ما زالتا ترتجفان: «لا أستطيع إخبارَك. لا أستطيع أن أُخبر غريبًا في الظلام، وسط العاصفة، بذلك الذي يؤلمني!»
قال جيمي مهوِّنًا الأمر: «بل تستطيعين.» وأضاف: «الآن أفضلُ من أي وقتٍ آخر. إن كان شيئًا لا تفخَرين به، فسوف يكون في الظلام ستارًا لكِ. وإن كان شيئًا تخافينه، فيمكنكِ الاعتمادُ على قُوى ساعِدي الأيمن. وإن كان أيَّ شيء أستطيع كرجلٍ أن أفعله لكِ، فأريدكِ أن تعلَمي أنكِ لي بمثابة أمٍّ أو شقيقة، أو أي قرابة ترَين أن الرجل الذي يُحاول التصرف بالقدر المعقول من اللياقة لن يُخلَّ بها. سوف أعدُكِ وعد شرفٍ ألا أتبعَكِ، ولن أبذلَ أي مجهود في معرفة مَن أنتِ أو مِن أين أتيتِ. إن كنتِ جئتِ هنا الليلة بنيَّةِ إلقاء نفسكِ من هذه الصخور إلى التيار المبتلع، فثقي تمامًا أنني جئتُ بالنية نفسِها. أقرُّ بأنه خطر لي. فلديَّ في صدري عاصفتي الخاصةُ بي. لديَّ جروحٌ ما زالت مفتوحةً وتنزف. ليس بي ما يجعلك بحاجةٍ إلى التردد. إنما أقول لكِ إن صوتكِ فتيٌّ، ووجهك يافع، وجسدكِ قوي، ومن الممكن بطريقةٍ ما تدبُّرُ علاجٍ للقلوب الشابَّة المنفطرة، وإنني أعتقد بحقٍّ أن المشكلة عند البوح بها تخفُّ وطأتها. فلتُخبريني.»
كاد جيمي أن يشعر بالإمعان في التفكير الذي جرى في ذهن المرأة التي كان يُحاول حمايتها ومساعدتها.
قال الصوت العميق أخيرًا: «إنها قصةٌ طويلة، وإنها قصة تشتمل على ما يَدْعوه الناس خِزيًا. وإن الناس مُحقُّون إذْ دعَوْه خزيًا؛ لأنني أشعر بالخزي. فأنا لا أستطيع أن أجلس هنا في وضحِ النهار وأتركك لتسترني، وتنظر إليَّ، وأحكي لك. لا يمكنني أن أحكيَ لك إلا في عتمةٍ واضطراب مثل ذلك، والمؤكد أنك لن تستطيعَ أن تُقدم أي عون، لكن إليك المهم: ما دمتَ جئت وصمَدتَ أمام العاصفة وعقدتَ العزم على مواصلة السعي على الرغم مما قلتَ إنه جرحٌ مفتوح في صدرك، فإنني أعِدُك ألا أُلقيَ بنفسي من فوق الصخرة. أعدُك أن ألتمسَ سبيل العودة إلى الأصدقاء الذين تركتُهم، أن أعود لدياري، أن أواصل عملي، أن أفعل أفضلَ ما في وسعي.»
قال جيمي: «هذا أمر جيد، لكن ليس كافيًا. فليس منه جَدْوى سوى أنك ستبقَين على قيد الحياة؛ لأننا لا نحصل على الحياة في هذا العالم بمشيئتنا، وليس من حقِّنا أن نُفرط فيها إلى أن يتوفَّانا الله. إنني أعرضُ عليكِ أن أحملَ عن قلبكِ العبءَ الذي يعتصرُكِ. أليس في الذراع المبسوطة حول كتفيكِ القليلُ من الأمان؟ ألا يبدو صوتي صادقًا؟ ليس لديَّ أيُّ مانع مطلقًا في إخباركِ مَن أنا، أو من أين جئت، أو أين سأذهب بعد مغادرة هذه الصخرة. لقد أخبرتُكِ أنني لن أتبعَكِ. إن كان فيما ستقولينه الليلةَ شيءٌ يحمرُّ له وجهك خجلًا غدًا، فإنني لن أتطفَّل، لكنني أرجوكِ أن تصدقيني حين أقول إنني متأكدٌ من قدرتي على مساعدتكِ، إن أخبرتِني.»
وكان ذلك كلامًا جريئًا وجَسورًا جدًّا أن ينطق به جيمي لأيِّ امرأة في محنة، وهو لديه ستة شهور ليعيشها وليس لديه نقودٌ في جيبه. إلا أنه نطق به بثقةٍ تامة، وكان ثمة شيءٌ في صوته يوحي بالاقتناع. وقبل أن يعرف ما الذي حدث له بالضبط، حصل الشيءُ الذي كان يسعى إليه. إذ شعر على امتداد جسده بانبساط العضلات المشدودة بجانبه. فانحنى ليمدَّ ستارَ معطف المطر.
فقال بالنبرة نفسِها التي كان سيستخدمها مع طفلٍ في السادسة من عمره: «أحسنتِ يا فتاة.» ثم أضاف: «والآن، هيا أخبريني بما حدث لكِ. لستِ بحاجة إلى أن تحكي القصة بأكملها. لكِ أن تَحكيها في عشرِ كلمات إن أردتِ. ما الذي يؤلمكِ؟ كيف يمكن إصلاحه؟»
استطاع مرةً أخرى أن يشعر باجتهادها في التفكير.
قالت صاحبةُ الصوت المجاور له: «حسنًا.» وتابعت: «أكثر ما أحتاج إليه من الدنيا في هذه اللحظة هو عقدُ زواج وخاتَمُ زواج، واسمٌ لوالد طفل لم يُولَد بعد. وإنني في حاجةٍ ملحَّة إلى ذلك. هذا كل ما في الأمر. والآن أوفِ بما وعدتَ به!»
قال جيمي في الحال بسلاسة: «حسنًا.» وأضاف: «إن الاقتراح الذي عرَضتِه عليَّ لَهو أسهلُ شيء يمكنني تدبُّرُه. فلديَّ اسمٌ وليس منه أيُّ فائدة لي، وليس أمامي وقتٌ كافٍ لأستخدمه فيه. ولديَّ قوةٌ كافية لتدبر إذْن الزواج ومراسم عَقْد القِران إن لزم الأمر. إن تعهَّدتِ لي بكلمةِ شرف أن يُعالج البلاء الذي في قلبكِ بإعطائك الاسمَ الذي سأكفُّ عن استخدامه بعد قليل، فسوف تتأكَّدين أنني كنتُ محقًّا حين أخبرتُكِ أن باستطاعتي حلَّ مشكلتكِ. لقد ظللتُ طَوال الأيام الماضية أتساءل ما هو الشيء الصالح والمشرق الذي أستطيع أن أقابل به الله حين يتوفَّاني، حيث إنني سأُتوفَّى بعد مدةٍ قصيرة، وقد أتحتِ لي السبيل. أعتقد أنه سيُصبح تصرُّفًا كريمًا جدًّا، أعتقد أنه سيكون شيئًا يرضى عنه الله، إن تركتُ اسمي لطفلٍ صغير سيخطو خطواته نحو الأرض ليُواجه ميراثًا لا تُريدينه له.»
وعندئذٍ على نحو مفاجئ شعَر جيمي بالسيدة بين ذراعيه تلتصقُ به. شعر بيديها على صدره. شعر بهما تلتمسان وجهه. وشعر بالأنفاس الحارَّة الصادرة عن صوتها.
قالت بأنفاسٍ لاهثة: «أنا لا أصدق!» وأضافت: «ويحي، أنا لا أصدق! هل ستحصل على رخصةِ زواج بي! هل ستقفُ معي في المراسم! هل ستتركني أحملُ اسمك!»
بلغ جيمي اليدَ التي على وجهه وأمسكها بإحكام بيده اليسرى. كان سريعَ الخاطر فأحكم قبضته حول الكتفَين المستسلمتَين له. كان لديه من صفات الرجل الاسكتلندي ما جعله يُسيطر على الموقف.
قال: «أنتِ على حقٍّ تمامًا، سوف أفعل!» وتابع: «إنني أُحدِّثُك بالحقيقة. انظري، إن كنتِ لا تُصدقينني. سوف أقنعكِ.» وانتقل باليدِ التي أمسكها حتى لمسَت أصابعُها الأربطةَ التي على صدره. ثم سألها: «هل أحسستِ بها؟» وأضاف: «إنكِ لا تلمسين جسدَ رجل. إنها أربطةٌ تغطي جسد رجل، وتحت تلك الأربطة يوجد جرحٌ مفتوح لن يندملَ أبدًا. أنا أُحدثكِ بالحقيقة. لا يوجد على وجه الأرض شخصٌ يمتُّ لي بصِلة قرابة. لا يوجد مَن يهتمُّ بما أفعله باسمي أو الشهور القليلة المتبقِّية من حياتي. أقرب من كان لي مِن أسرتي هما أمِّي وأبي، وكلاهما قد تُوفِّيا، ولو كان أيٌّ منهما موجودًا في هذه اللحظة، لقال: «تستَّر على عار الطفل باسمِك، يا جيمي»!»
«جيمي!» قالت صاحبةُ الصوت المجاورة له لاهثةً قليلًا. وتابعَت: «لا يوجد في العالم بأسره اسمٌ أحلى من ذلك لتُعطيه لطفلٍ صغير، إذا كان صبيًّا. لكنها تضحيةٌ كبيرة جدًّا! إنه شيء لا ينبغي أن يُطلَب من أي رجل، مهما كان حُرًّا، ومهما كان راغبًا!»
قال جيمي: «حسنًا، أؤكد لكِ أنني حر. سوف أُثبت ذلك بذكرِ وثائقَ يمكنُكِ العثورُ عليها. أنا جزءٌ من تداعيات الحرب. تستطيعين العثورَ على اسمي إذا بحَثتِ عنه في المكان المناسب. وها أنا أخبركِ الآن أنه جيمس لويس ماكفارلين، ومنذ وعيتُ الدنيا وأمي وأبي يُنادياني جيمي. وقد هربتُ من المستشفى منذ بضعة أيام لأن حالتي ميئوسٌ منها ولم أُرِد الذَّهاب حيث أرادوا أن يُرسلوني. هل تعرفين كامب كيرني؟ هل تعرفين قرية الخيام المخصصة للطاعون الأبيض؟ لم أكن مصابًا به ولم أُرِد الذَّهاب إلى هناك؛ لذلك ولَّيت الفرار. ابتعدتُ حتى المنحل القائم تحت بالضبط على سفح الجبل، ولم أقوَ على الابتعاد أكثرَ من ذلك. كنتُ أسير مترنحًا نحو سيد النحل حتى يُنجدني، لكنه سبقَني إلى ذلك، وطلب مني أن أُنجده. ظننتُ أنني لن أستطيع، لكنني استطعت. ساعدتُه على بلوغ المستشفى في الوقت المناسب لإجراء الجراحة له. وإنني الآن مقيمٌ في منزله، أرعى أملاكه. لقد أخبرتُكِ باسمي بكل صدق، وأين تستطيعين العثورَ عليَّ. وأقول لكِ إن بإمكانكِ الحصولَ على اسمي وقتما أردتِ الحصول عليه.»
«غدًا؟» قالت الفتاةُ لاهثةُ الأنفاس. «هل تسمح لي بالحصول عليه غدًا؟»
قال جيمي: «وقتَما تريدين، وأينما تُريدين.» وتابع: «أخبريني أين تريدين أن أذهبَ وماذا تريدين أن أفعل.»
وعندئذٍ، قبل أن يُدرك جيمي مطلقًا ماذا كان يحدث له أو ما الذي على وشك الحدوث، شعر بتحولٍ آخر في وضع المرأة التي بين ذراعيه، وفي اللحظة التالية طوَّقتْه بذراعَيها. ثم أمسكت يداها بجانبَي رأسه، ورُفع وجهه لأعلى، ومال إلى وجهه وجهٌ مبلَّل بارد مالح، ولمست شفتان باردتان وجنتَيه، وقال صوتٌ لاهث: «أوه، كم أنت طيب! كم أنت طيب! لم أكن أعلمُ أن هناك في العالم كلِّه رجلًا مثلك! هل تُقابلني غدًا عند الساعة الثالثة في مكتب الزواج في لوس أنجلوس؟ هل ستعمل حقًّا على استخراج رخصة الزواج؟ هل ستقفُ معي خلال المراسم التي فيها إنقاذ حياتي ورفعُ عبءٍ أسودَ عني؟»
قال جيمي: «سوف أفعل!» أجابها جيمي. ثم أضاف قائلًا: «لا تَشغَلي بالَكِ ولو دقيقةً أخرى. جفِّفي عينَيكِ وابتهجي! سأكون هناك ويشهد على ذلك الله من فوق عرشه وتأكَّدي أنه ما زال في هذا العالم عدالةٌ للنساء. وإن لم تَجِديني هناك، فاعلمي أن النمر الأحمر (أسد الجبال الأمريكي) قد التهمَني حتى الأحشاء فلم يَعُد بمقدوري الوصول، لكن لا تقلقي، لأنني سأكون هناك. فلا يمكن أن يمنحَني الله هذه الفرصةَ المشرقة ثم ينتزعَها مني.»
«هلا جلستَ هنا، في هذا المكان، بضع دقائق أخرى؟» سألته الفتاة.
«سأبقى الليلَ بطوله إذا طلبتِ مني ذلك»، قال جيمي رابطُ الجأش، بيد أنه لم يكن رابطَ الجأش تمامًا؛ إذ كان قلبه يتمزَّق حتى إنه خاف أن يسقط من الفتحة التي تَعْلوه، وكان دمه يندفع في عروقه كما لم يعهَدْه من قبلُ قط. ربما كانت الفتاة بين ذراعَيه باردةً ومبتلَّة وملطَّخة بالملح، لكنه لم يكن باردًا ولا مبتلًّا. ومِن ثَم عانقَتْه عناقًا قويًّا آخر وقبَّلتْه قبلةً أخرى — تصادف أن تأتيَ على طرف أنفه بالضبط، وليس المكان الذي أراده على الإطلاق — ثم رحلَت وسمع خطواتٍ سريعةً تهبط مؤخرة الصخرة، واستطاعت أذناه المدرَّبتان أن تسمعا أولَ وقع أقدام على الشاطئ المعتِم.
جلس هناك وانتظر بينما ينظر على الأمواج المتكسِّرة وعبر البحر المتلاطم، وما لبث أن هدَّأ من روعه حتى يتسنَّى له التفكيرُ بمنطق وهدوء، ثم قال: «مثل هذا الحدث السريع يدلُّ على ما يبدو على أن ما تبقى لي من العمر هو وقتٌ قصير، وإن كان لديَّ فرصةُ فعلِ شيء عظيم في هذا العالم فعليَّ أن أفعله وبسرعة. لذلك سأشرعُ في الساعة الثالثة من عصر الغد فيما يبدو لي أنه الجزءُ المشرق من مغامرتي الكبرى.»