فيتامينات وكشافة
كان آخرُ ما فعله جيمي ليلًا هو قراءةَ خطابه مرةً أخرى. حيث فتَح الظرف وبسَط الورقة، وباهتمامٍ شديد راح يتمعَّن في كل كلمةٍ مكتوبة. ولم يكن ضروريًّا بالمرة أن يفعل ذلك لمعرفةِ فحوى الخطاب. لكنه نوعًا ما أحبَّ ملمس الورقة بين أصابعه. إن كان سيشتري أدواتٍ مكتبيةً لسيدة العاصفة التي وقفَت بجانبه أثناء مَراسم الزواج الرسمية، كان سيشتري ذلك النوعَ من الورق. وقد ظنَّ أنه من المرجح جدًّا أن تُفضل هذه المرأة المميزة استخدامَ الحبر الأخضر حتى إنه على استعدادٍ للمراهنة على ذلك. لأن المرأة التي تلفُّها رائحةٌ مميزة تآلفَت من عبير المريمية ورعي الحمام الرملي وزهور الربيع لا بد أن تستخدمَ حبرًا أخضر. واعتقد أنَّ يدًا كاليد التي أمسَك بها ستنظمُ حروف التهجِّي كما كانت منظومة في هذا الخطاب. وظن أنها ستُعبر عن نفسها بوضوحٍ وإيجاز وبإنجليزيةٍ رفيعة مثل تلك التي استخدمت.
بينما أخذ يقرؤه ويُعيد قراءته ويُردده من الذاكرة، حين ينشغل بالري أو يعملُ بيديه شيئًا يمنعُه من إخراجه من جيبه لئلا يُلطخه، بدأ شكٌّ ينشأ في ذهنه. لم يكن للشك أدنى علاقةٍ بالفتاة التي كتبت الخطاب. لكن ما بدأ يشكُّ فيه بعض الشيء هو قدرته على التمييز. فلا يمكنه البتةَ أن يجمع بين العار وبين ملمس المرأة التي ضمَّها بين ذراعَيه، ونبرات صوتها، وشعرها الطويل الحريري، والعذاب الذي بدا على وجهها البارد المغطَّى بمِلح الدموع حين استند إلى وجهه، ولا يُمكنه مطلقًا أن يجمع بينه وبين الحاجبَين والعينين والفم الواسع والذقن المتماسك التي كشفَت عنها ألسنةُ البرق الواهنة؛ لا يمكنه أن يجمع بينه وبين الشفتين المرتعشتين والوجنتين المختلجتَين والعينين اللتين كانتا تحبسان الدموع. ولا يمكنه مطلقًا أن يظلَّ، يومًا بعد آخَر، وساعةً تِلو ساعة، يُفكر مِرارًا وتَكرارًا في كل تفصيلة صغيرةٍ من تفاصيل مغامرته الأخيرة ويشعر بأن هذه الفتاة المهمومة المجهولة كانت بغيًّا. الحقيقة الواقعة أنه لم يُرد أن تُلطخ صورتها. لم يُرد تصديقَ أن ثَمة عاطفةً جامحة سيطرت عليها قط. لم يُرد الشعور بأنه يوجد في أي مكان في العالم كلِّه رجلٌ استطاع تلطيخَ شرفها. حاول أحيانًا أن يتخيَّل صفات الرجل الذي استطاع أن يجلب تلك المتاعبَ في حياة الفتاة التي غذَّت خياله بالصورة التي يجبُ أن تكون عليها الفتاةُ بالضبط. وظل يتأمَّل كم ستكون رفيقةً رائعة، وكيف ستصبح الرحلةُ عبر وادي المياه المتدفقة حين تكون هي رفيقتَه.
من دون أدنى فكرة عمَّا حدث له، اتخذَت أفكارُ جيمي منحًى جديدًا. حين استيقظ ليلًا وغيَّر وضعه ليُريح جانبه المصاب، استجاب لمطالب الألم ثم استغرق في الحال في التفكير في فتاة العاصفة.
من المرجَّح ألا يختلفَ الأطباء إذا سألتَهم إن كانت الرحلةُ التي خاضها جيمي وما تلاها من تجاربَ هي أفضلَ ما يُناسب رجلًا مريضًا. فهم ببساطةٍ يعلمون من خلال كتبهم، وتعاليمهم، ومُزاولة عملهم، أن مثل تلك التجرِبة ستقتل أي رجل في حالة جيمي، لكن جيمي، في مرات قليلة من الليل، تمدَّد بقامته الفارعةِ على فراش سيد النحل، محرِّكًا كِلتا ساقَيه وكلتا ذراعيه، مديرًا عموده الفقري، وقد شعر أن الوجع قد زال عنه تمامًا. لقد غادر ألمُ السير الطويل قدمَيه وساقيه، وبدا أن يدَيه وذراعيه لديها القوة الكافية لمواجهة يومٍ آخر. وعندئذٍ جذبَ انتباهَه الحركةُ المنتظمة للأمواج إذ راحت تأتي غاسلةُ الرمال أسفلَ نافذته وتنسحبُ عائدة إلى خضمِّ البحر مرةً أخرى.
أدار جيمي رأسه وأصغى لأغنية المحيط الهادئ. وتصوَّر أن هناك سببًا لتسميتِه المحيطَ الهادئ، المحيط الوديع. من النافذة التي رقَد بجانبها امتدَّ بصرُه لأميال فوق المياه التي صبغَها القمرُ بلونٍ فِضي، مياه ساكنة للغاية حتى إنها نادرًا ما تضطربُ من الأمواج التي ظلت تتتابعُ في انتظام يكاد يُضاهي انتظام التنفُّس. وفي اللحظة نفسِها التي قرَّر فيها جيمي أن المحيط الهادئَ اسمٌ على مسمًّى تذكَّر فتاة العاصفة. فأعاد ذلك إلى ذهنِه العاصفةَ، وذهب في تأمُّله إلى أن المحيط قد يكون مِثله مثل المرأة، وأن المياه الهادئةَ عميقةُ الغَوْر، وأنه بعد عدة أيام من السلام، حين هبت العاصفة أخيرًا كانت عاصفة عاتية تجعل حتى إله العواصف يُطلُّ من عليائه وينتبه.
أما الشيء الذي ما كان ليتوقَّعه أيُّ طبيب أو يخطر له على بالٍ أبدًا في الواقعة برُمتها فهو الشيء الذي حدَث. متنفسًا في انسجامٍ مع حركة الأمواج، ما لَبِث جيمي أن عاد إلى النوم مرةً أخرى. لم تكن آخرُ الأفكار التي وعى لها عن نفسه. كانت تداخلًا بين أمواج متباطئة أضاءتها أشعةُ الشمس، والشعور بأنه يُسحب إلى مكانٍ ما بحبلٍ من شعرٍ على وجهه. ثم انطلق في عالمِ أحلامٍ نسَجَه خيالُه ممسكًا بخطابٍ في إحدى يدَيه، وفي آخِرِ استغراقٍ له في عالم اللاوعي كانت آخِرُ فكرةٍ استشعرها في رأسه لها علاقةٌ ما بثوبِ سباحة وثمرةِ طماطم حمراء كبيرة رائعة.
حين فرَغَت مارجريت كاميرون من التنظيف ودخلَت المطبخ لتجمعَ الصحون التي تناول منها جيمي فطورَه، وجدَت ذلك الشخص الطويل النحيفَ جالسًا إلى الطاولة وينظر إليها نظراتٍ مترقِّبة. كان ثمة سؤالٌ في عينيه، فيما انزوى فمُه في ابتسامة. وكانت أصابعه تنقر الطاولة. وبعد ذلك تكلم.
إذ سألها: «مارجريت كاميرون، هل أنتِ سيدة مرفهة؟»
وضعَت مارجريت كاميرون يدَها على الظهر الخشبيِّ لأحد المقاعد، ومالت إلى الأمام وراحت تتأمَّل جيمي بتمعُّن، لكنها أجابته بهدوءٍ وسريعًا جدًّا:
«أُحاول أن أكون كذلك.»
قال جيمي: «أوه، لا أقصد إن كنتِ سليلةَ سلفٍ عريق المجد، أو إن كنتِ ماهرةً في فنون المجتمع الرفيعة، أو ترتدين ملابسَ أنيقة وتعيشين حياةَ فراغ مترَف. ما أردتُ معرفته، بإيجازٍ وصراحة، هو ما إن كنتِ قد تفقدين الوعيَ عند رؤية قطرة دمٍ، إذا كان دمَ إنسان؟»
أدارت مارجريت المقعدَ وجلست عليه.
ثم سألته بهدوء: «ألا تستطيع أن تتدبرَ ربط ضماداتك؟»
هنا كان جيمي هو مَن ارتبَك.
قالت مارجريت: «حسنًا، حين تنحني لالتقاط الخرطوم، وأثناء تجولك في الحديقة، تظهر الضماداتُ حول ظهرك والأربطةُ فوق كتفك، وقد بدَت لي أشياءُ غير مريحة. ظللتُ طوال أسبوع أريد أن أتحدثَ إليك. أعتقد أن بإمكاني إحضارَ بعض الشاش غيرِ المبيَّض وإعدادَ شيءٍ شبيهٍ بالسُّترة، وأطوي بعض الدعامات حول كتفيك لتثبيتها بالكفاءة نفسِها بالضبط ومن دون أن تكونَ غيرَ مريحة هكذا.»
جلس جيمي يُحدق فيها صامتًا.
وأخيرًا قال: «أعتقد أن ما كان في بالي هو هذا: كنتُ سأسألكِ إن كنتِ ستُطيقين أن تنظري نظرةً متفحصة نحو جُرح قائم على يسار صدري، وبعد ذلك سأُطبق برنامجَ عملٍ وضعتُه لنفسي لمدة شهر مثلًا، ثم سأسألُكِ أن تُلقي نظرةً مرة أخرى وتُلاحظي ما إن كان قد حدث أيُّ تحسن. إذ إنني مصابٌ بجرح إثر شَظِيَّةٍ ولا بد أنها كانت شَظِيَّةً خبيثة للغاية. إذ كانت تحمل سُمًّا لعينًا من نوعٍ ما، أعيا أفضلَ الأطباء في مستشفيات القاعدة، فأرسلوني إلى لندن ثم إلى هذا البلد وبعيدًا إلى الجهة الأخرى من القارة. ظللتُ طوال عام أُعالَج بالماء الساخن وأجادل مع الممرضات والأطباء وأصبحتُ أسوأَ حالًا عمَّا كنتُ عليه حين بدأتُ علاجهم. وسوف أخبرك بسرٍّ صغير، بيني وبينكِ فقط. لقد كانوا ينوون إيداعي في مكانٍ مخصص لمرضى السل، بينما هم يعلمون ويعترفون أنني لم أُصب بعدُ بالسل، لكنني لم أقبَل. فنهضتُ وغادرت المكان، وابتعدتُ حتى وصلت هنا. ومنذ اللحظة التي بدأتُ فيها السير، وقبلها بكثير، حين كانت تغمرُني مياهُ النبع الساخنة المشبعة بالكيماويات المتأججة، وأنا يُخالجني شعورٌ لا أقوى على مقاومته بأنها تُغذي الجراثيم وتجعلها تتكاثرُ أكثر. ظللتُ طوال ستة شهور أستيقظُ ليلًا وأنا أفكر في البحر، وحين قرَّرت المغادرة، اتجهتُ إلى موقعٍ أكثرَ برودةً وإلى المحيط. وها أنا هنا الآن وقد عقدتُ العزم على أن أخوض التجرِبة. أريد أن أستعرضَ معكِ قائمةَ طعام، أريد أن تطهي لي طعامًا سهلًا وبسيطًا ومغذيًا، شيئًا غنيًّا بالحديد، شيئًا لديه القدرة على التطهير وتنقية دمٍ مشبع بالسم.
وحين أنتهي من أعمالي الصباحية مع النحل سأرتدي ثوبَ السباحة الموجودَ عند الباب الخلفي، وسوف أسيرُ عبر الممشى الخلفيِّ وأعتصر ملءَ كوب من بضع ثمار تلك الطماطم الحمراء الكبيرة وأشربه، ثم أمضي نازلًا إلى البحر وأتوغَّل حتى تقتربَ المياه لأقصى حدٍّ من حافة تلك الضمادات. وإن كنتُ لست واثقًا تمامًا من أنني لن أسقط. بعد ذلك سأخرج وأستلقي على أسخنِ رمالٍ في أسخن بقعة من أثر حرارة الشمس أستطيع العثور عليها، وسأغطِّي الأجزاء العاريةَ إلى أن أكتسب الخشونة المناسبة حتى لا يتقرَّح جلدي. سأترك الشمس تُجفف الماء المالح على جسدي. ولن أشطفه. وعندئذٍ سأصعدُ وأتناول أيًّا ما كان الذي ستُعدِّينه لي حسَب الوصفات التي سنتفقُ عليها كي تعملَ على بناء جسدٍ قوي. بعدها سأخلدُ لقيلولة. ثم أستيقظُ وأحتسي عصيرَ برتقال. بعد ذلك سأخرجُ إلى الحديقة وأرى ما يُمكنني فعله للزهور. فهناك بعضُ الأوراق الميتة في الزنابق يجب نزعُها وأخرى بحاجةٍ إلى دعمِها. بإمكاني أن أقصَّ قرون البذور من الورود التي تفتَّحَت للمساعدة في الحفاظ على استمرارها. بإمكاني أن أجد مئات الأشياء لأفعلها. بعد ذلك سنُعد عَشاءً يتمتَّع على الأقلِّ بخاصية ما يمكن أن نقول إنه خطوةٌ في طريق صنع رجلٍ بحقٍّ من عظام ناخرة للغاية وعضلاتٍ بالغة الترهُّل. وسوف أسير إلى مكانٍ على الشاطئ أسمِّيه العرش وسأجلس هناك، ومتلحفًا تمامًا بالرداء المنزلي الخفيف لسيد النحل فوقه معطفُ العمل الخارجي القديم حتى لا أشعرَ بالبرد مطلقًا، سأظلُّ أستنشق الضبابَ والرذاذ والماء المالح حتى أشعرَ بمذاق الملح في فمي. سأضطجع هناك وأستغرق في النوم إذا رغبت.»
هنا مدَّت مارجريت كاميرون يدها نحوه.
وقالت: «فلتُصغِ إليَّ، يا جيمي، لا بأس بكلِّ ما سبق، لكن من الأفضل أن تصرفَ النظرَ تمامًا عن ذلك. يجدر بك ألا تُحاول النوم في الخارج وسطَ الضباب والرذاذ. ربما لا بأس بالخروج واستنشاقِه لمدة ساعة، لكن لا تذهب للنوم فتهبط دورتُك الدموية ويستقرُّ الضباب فوقك وتبتلُّ حتى يصلَ البرد إلى عظامك. إنها فكرةٌ خاطئة. فلتُغيِّر ذلك الجزءَ من بَرنامجك، وأما بالنسبة إلى الباقي، فسوف أجتهد في التفكير طوال اليوم، وتجتهدُ أنت في التفكير، ونتناقش هذا المساءَ لنرى إن كنا سنستطيع تحضيرَ قائمة الطعام التي تريد اتباعَها. فلتحاوِلْ بكل قوتك وسأحاول أنا بكل قوتي وسنرى ما نستطيع عملَه، ولندْعُ الله أن يُسخر لنا قُوى الطبيعة، حتى تستعيدَ عافيتك. أما الآن، فلنُلقِ نظرةً على جنبك المصاب.»
هنا تمدَّد جيمي على الفِراش وكشف عن صدره. فشعرَت مارجريت كاميرون، وقد انحنَت فوقه، بالدماء تنسحبُ بطيئًا من وجهها.
ثم قالت بعد مدة: «ويحي، يا له من جُرح ملتهب!» ثم أضافت: «يبدو اللحمُ كأنه احترق. إنه جُرح ملتهبٌ للغاية حتى إنه يكاد يُماثل ما اعتَدْنا أن ندعوَه «لحم متقيِّح». وإنه عميقٌ وواسع.»
ظلَّت بُرهة واقفةً تحدق. ثم حولَّت عينَيها إلى عينَي جيمي.
وسألته: «هل لديك استعدادٌ لاتباعِ نظام غِذائي صارم وبذل جهدٍ شاق؟»
قال جيمي: «إذا كان قصدُكِ هل لديَّ الشجاعة، أجل.» وتابع: «وإذا كنتِ تقصدين هل لديَّ القوة أو هل لديَّ فرصة، فلا أعلم. كل ما أعلمُه أنني سأنزل المحيط. كل ما أعلمه أنني سأستلقي في أشعَّة الشمس حتى أتشبَّع منها. كل ما أعلمه أنني سأصبح نكبةً على رُقعة الأرض المزروعة بالطماطم. أما سببُ رغبتي في هذه الأشياء فلا أعلمه. إلا أنني متلهِّف عليها كلها، وحيث إنها هنا، فلِمَ لا أحصل عليها؟»
سألتْه مارجريت كاميرون: «من أين جاءتك فكرةُ الطماطم هذه؟»
«أكلتُ واحدة أمسِ فبدا أنها أشبعَت جوعًا شعرتُ به طويلًا. بدا أنها ما كنتُ أحتاج إليه بالضبط. شعرتُ لها بتأثير مطهِّر ومرطب. فخطَر لي أنني إن عصرتُ بِضع ثمرات منها واحتسيتُ عصيرها حين تكون معدتي خاوية، فربما تفعل بي شيئًا جذريًّا عجزَت الأدوية والينابيع الحارة عن تحقيقه.»
قالت مارجريت كاميرون: «إنه لأمرٌ غريب، لكن ربما فيه شيءٌ من الصواب. ثَمة مجلة عن التدبير المنزلي أُتابعها وبها بابٌ للصحة لا زلت أقرؤه منذ سنوات، وخلال السنة أو السنتين الماضيتَين ظلُّوا يُركزون على شيءٍ واحد دون غيره، وهو الشيء نفسُه الذي خطَر لك. الطماطم فحَسْب. لم يخطر لي ببالٍ أنني قد أهتمُّ مطلقًا بما قد يدعوه الكشافة الصغير «هُراءً» بشأن الفيتامينات والسُّعرات الحرارية وما شابه، لكن منذ بضعة أيام مررتُ بموقف مضحك. حيث ذهبتُ إلى المدينة لتبضُّعِ بعض الأشياء وزيارةِ ابنة صِهْري التي تعمل مدرِّسة في إحدى المدارس هناك، فاصطحبتْني لتناول الغداء في قاعةٍ جميلة كبيرة في أحد تلك المتاجر متعددةِ الأقسام الضخمة. على الطاولة المجاورة لنا بالضبط جلسَت امرأةٌ همست لي مولي باسمها عبْر الطاولة، فتذكرتُ أن أغانيَها تُردَّد في كل الأماكن التي يتحدثُ فيها الناسُ باللغة الإنجليزية في جميع أنحاء العالم. كان وجهها موقَّرًا، وجهًا حَنونًا، وجهًا ذكيًّا. لم أستطع أن أُشيح ببصري عن مهارة يدَيها، وجمال ملابسها وتميُّزها. كان معها فتاةٌ صغيرة ممتلئة. لا يمكن أن تتخيَّل كم بدت متمتعةً بالصحة، لا يمكن أن تتخيل كم كانت جميلةً وجذابة. وبينما كنت أُمتِّع عينيَّ بمنظر الطفلة، فقد ذكَّرتْني للغاية بابنتي حين كانت شيئًا صغيرًا ممتلئًا مثلها، وبينما أنا أنظرُ إليها مباشرةً، وقد أوقفَت ملعقتَها في منتصف الطريق إلى فمِها وبدَت عيناها جادَّتَين جدًّا، تساءلَت قائلةً بلثغة واضحة: «كم عدد السعرات الموجودة في هذا الهلام يا جدتي؟»
مالت (الجَدَّة) برأسها للخلف وراحت تضحكُ حتى نظر نصفُ رواد المطعم الموجودين في القاعة في اتجاهِها. ثم خلعَت نظارتها ومسحت عينَيها وقالت: «حفظَكِ الله يا صغيرتي، جَدتكِ العجوز لا تعرف السُّعر الحراري من الغليون! عليكِ أن تسألي أمَّكِ العصرية.»
عندئذٍ وضعَت الصغيرة ملعقتَها وأعلنتْ بإصرار شديد باللثغة نفسها: «لا أستطيع أن آكل هذا الهلامَ إلا إن عرَفتُ أنه يحتوي على العدد المناسب من السعرات!»
فأجابتها السيدة ذاتُ الشعر الأبيض قائلةً: «حسنًا، يا عزيزتي، أنا نفسي مثالٌ على الجسم السليم إلى حدٍّ كبير، وقد عِشتُ حياتي كلَّها دون أن أعلمَ إن كنتُ آكل سعراتٍ حراريةً أو فيتامينات أو أفاعيَ جرسية. وإنما أقبل على الطعام فآكلُ ما أريده ويروقُ لي مذاقه، ولا شيء يحدث لي. وأنتِ لن يحدثَ لكِ شيءٌ إذا أكلتِ ما تُريدينه يومًا واحدًا بينما تتناولين غَداءك معي، وغدًا يمكن أن تُخبرك أمُّكِ بأي شيء تودِّين معرفته.»
فكرَت الصغيرة في الأمر ثم قالت بمرح: «حسنًا. سوف آكلُه وأرى ما سيفعله بي! ربما يجعل وركيَّ تنحفان. ألا تعتقدين أنهما بارزتان أكثر من اللازم؟»
نظرتُ إلى الطفلة الصغيرة نظرةً متمعنة. كانت عيناها في غاية اللمعان وبشَرتُها في غاية الصفاء. تكاد وجْنتاها أن تشفَّا من فرط الرقة. وكانت شَفتاها شديدتَي الحمرة فيما بدا جلدها مشدودًا جدًّا حتى إنني قلتُ في نفسي: «حسنًا، لتكُن السعرات الحرارية والفيتامينات ما تكون، لا شكَّ أنها أفادتْكِ أعظمَ فائدة. لو كنتُ أمَّكِ، كنتُ سأجعلكِ تلزمين المسار نفسَه الذي اتخذتِه.»
ثم طلبت من مولي أن تشرحَ لي الأمر فأخبرتْني بأنها أخذَت إجازة قصيرة من عملها المدرسي العام الماضيَ وذهبَت في رحلة إلى دنفر. وهناك سمعت عن طبيبٍ يُعالجك من أي شيء يتعبك من خلال ما تأكله. يبدو أن هناك مجموعاتٍ معينةً من الطعام التي تُصبح غيرَ آمنة عند الجمع بينها. فقد أوضحت مولي أن الفطور الأمريكيَّ الرائع، البيض والخبز المحمص واللحم المقدَّد والقهوة، يكاد يكون مجموعةً مميتة. قالت مولي إن الطبيبَ أثبتَ أن الخميرة التي في الخبز والزُّلال الذي في البيض والدهن الذي في اللحم المقدَّد وأي كافيين موجودٍ في القهوة بوُسعها أن تقتل كائنَ تجارِبَ مثلَ خنزير غينيا خلال وقتٍ قصير. يبدو أنه من الممكن أن تأكل ما شئتَ من البيض مطهوًّا بأي طريقةٍ تريدها، لكن يجب ألَّا تأكلَه مجتمعًا مع خميرة الخبز وأحماض اللحم. بوُسعك أن تأكل ما شئتَ من النشويات في وجبةٍ واحدة، لكن يجب ألا تأكلَها مع أحماضِ اللحم أو الزلال. لا بد أن تحصرَ الخبز والبطاطس والأطعمة النشوية في وجبة واحدة. وفي العَشاء بإمكانك تناولُ أي نوع تريده من اللحم؛ لكن لا بد أن تتناولَه مع خَضْراوات غير نشوية. ولا بد أن تمتنعَ عن تناول الخبز والفاصوليا والبطاطس وأي نشويات. ويجب أن تقتصرَ في التحلية على الفاكهة والهلام وتتجنَّب المعجَّنات. الأمر بسيط، الأمر سهل. مجردُ ترتيب مختلفٍ قليلًا في الجمع بين الأشياء نفسِها التي ظللتَ تأكلها طَوال حياتك. لكن تقول مولي إنه يُحدِث اختلافًا عظيمًا. فما زالت تتبعه منذ عام وتقول إن جسدها أصبح قويًّا جدًّا وعضلاتها شديدةَ النشاط، وذهنها يعمل بشكلٍ أفضل ولم تَعُد تُعاني من أي متاعب في معدتها. فهي تعتقد أنه رائع. لذلك سأحرص على زيارتها وأجعلها تُدوِّن نظام الوجبات، وبعدها سأجربها على نفسي ومن الممكن أن أُجربها معك في الوقت نفسِه. ومن جانبك تستطيع أن تُجرب الرمالَ وأشعةَ الشمس والماء المالح وضباب البحر والطماطم والبرتقال، ولنرَ ماذا سينتج عن ذلك.»
قال جيمي: «على أي حال، إن قضاء الوقت في التخطيط لِمعركة من أجل الحياة هو أكثرُ متعةً من قضاء الشهور مُغتمًّا بينما أحسبُ متى يحينُ أجَلي. وفي الوقت نفسه، سأصبح في غاية الامتنان إن تكرَّمتِ بتحضير تلك القطعة التي تحدَّثتِ عنها من أجل تضميد الجُرح. إن استطعت التخلص من ثقل كلِّ هذا السرجِ سأشعر كأنَّ روحي قد تحرَّرَت فضلًا عن جسدي.»
ومِن ثَم ذهبتْ مارجريت إلى منزلها لتُحضر سلة الخياطة وشريط القياس، وجلس جيمي على مقعد بينما راحت هي تأخذ قياساتِه من أجل طول الضمادات وعرضِها، وقدَّرَت حمالات الكتف التي ستدعمُها. بعد ذلك عاد جيمي إلى عمله.
وفي الساعة العاشرة بالضبط صعد الممشَى الخلفيِّ وانتقى اثنتَين من أكبر ثمرات الطماطم وأكثرها نضجًا من بين التي رآها في حديقة سيد النحل. وحملهما إلى المطبخ واستخرج منهما العُصارة مستخدمًا مِصفاةً صغيرة مستديرة وجدَها معلَّقة على الحائط، وحين فاض القدح رفعه وشربه متلذذًا لأقصى درجة.
قال جيمي: «لا شك أن هذا يفي بالغرض!»
وبعدئذٍ؛ لأنه جيمي، ولأن تنشئته الأولى متأصلةٌ فيه، فقد أفرَغ اللبَّ في سلة الحوض وفتح الصنبور على المصفاة، وحين صارت نظيفةً تمامًا مسحَها بمِنْشفة معلَّقة فوق الحوض ووضعها في أشعَّة الشمس عند عتبة النافذة؛ ليتأكد تمامًا من أنها جفَّت كليةً من دونِ أن تصدأ. ثم تناول ثوبَ سباحةِ سيد النحل من فوق المشجب المجاور للباب، وذهبَ إلى حُجرته، فتجرَّد من ملابسه وأدخل قدمَيه في الثوب، وحين رفعه لعقدِ أزراره فوق كتفَيه لم يكن واضعًا أيَّ شيء على سبيل الضمادات لجُرحه سوى طبقةٍ من الشاش ثبَّتها في مكانها على نحوٍ بسيط بمنشفةِ وجه شَبكَها بدبابيس أمان. شعرَت كَتِفاه العاريتان شعورًا رائعًا بالانعتاق. فكان مبتهجًا بهجةَ امرأة قصَّت شعرها قصَّة جديدة.
منتعلًا خُفَّين قديمين لحماية قدمَيه الحساستين، ومتخذًا دِثارًا هنديًّا لحماية جسده غير المعتاد على الشمس أن تلفحَه، مع حفنةٍ من المناشف، مضى جيمي في الممشى الخلفي، يمشي الهُوَينى، فخرَج من البوابة، وبينما هو واقفٌ هناك اختار موقعًا بدَت فيه أمواجُ الخليج الممتدِّ أمامه نظيفةً للغاية وبيضاءَ رغوية. ثم سلَك طريقَه بين أكمةِ زهور الربيع الذهبية ورعْيِ الحمام التي كانت في انتظار بُرودة المساء لتكشفَ عن جمال وجوهها وتنشرَ في الهواء عبَقَها الرقيق.
متوخِّيًا الحذرَ خَطا جيمي بقدَمَيه الحافيتَين على الرمال النديَّة. وعلى مهَلٍ سار متقدمًا في المحيط. حين تكسَّرَت أولُ الأمواج الباردة فوق قدمَيه كاد يصيح من البهجة. لم تكن شديدةَ البرودة كما تخيَّل أن تكون بالمرة. إنما كانت باردةً بالقدر الذي يمنح شعورًا منعشًا بالبهجة. توغَّل قليلًا، وتوغل قليلًا، حتى وصل الماءُ إلى ركبتَيه، ثم إلى خَصْره، ثم وصل لمرحلة شعر فيها أنه مثقَل، فأدرك أنه يجب إما أن يسبحَ أو يعود أدراجَه. إلا أنه لم يشعر أن السباحة هي أنسبُ ما عليه فعلُه؛ لذلك اكتفى كبدايةٍ بالتجوُّل في أعمقِ أغوارٍ استطاع الوصولَ إليها والحفاظَ على توازنه فيها. لم يكن دومًا باستطاعته أن يعرف كيف ستجري الأمواج، وكان أحيانًا يتعثَّر في صخرةٍ مستترة. وفي إحدى المرات انقلَب على رأسه وشعر بموجةٍ باردة، أثارت شيئًا من الرعب، وشيئًا من البهجة، تسري في دمِه فيما اجتاحَتْه تمامًا موجةٌ أشدُّ برودةً من الماء المالح. نهض متعثرًا على قدمَيه ونفَض رأسه. ثم غاص واغترف ملء كفَّيه من الماء ودعَك بها ذراعَيه صعودًا وهبوطًا وكتفَيه. وراح يطوح ذراعَيه الطويلتين في المياه ويركلها بقدمَيه، وحين وجد نفسَه يلهث، سار متجهًا نحو الشاطئ، ثم تعمَّد أن يغمر نفسَه بالكامل في المكان الأشدِّ نظافةً والأكثرِ نقاءً الذي تيسَّر له العثورُ عليه. لينهضَ بعد ذلك ويعودَ إلى دِثاره. حيث هيَّأه، والمناشف التي أحضرها، بحيث تُغطِّي ذراعَيه وساقَيه ورأسَه، وتترك جِذعه المغطَّى بالثوب المبلَّل مكشوفًا، وتمدَّد على الرمال الساخنة وترك شمس كاليفورنيا تنشر أشعَّتها حتى جفَّفت الماء المالح في الضمادة وثوبَ السباحة الذي علا جرحَ صدره وأحاط به. المذهل أنه لم يشعر فيها بوخزٍ شديد كما تخيل مطلقًا، فلم تُضاهِ البتة ألمَ العديد من الضمادات المختلفة التي ظل يستخدمُها حتى اكتوى لحمُه فلم يَعُد يتحمَّل المزيدَ من التعذيب.
وهنا وجد جيمي نفسَه يقول: «ملح، محلول مِلْحي.» تذكَّر فجأةً أنه قد سمع عن استخدام السكان الأصليِّين في بلدانٍ غير متحضرة الملحَ في علاج الجروح. تذكَّر بعض المؤسسات التي تُروج للحمامات الملحية. لا بد أن الملح له خاصيةٌ مفيدة بعضَ الشيء ذات استخدام طبي. ثم تذكر أن الكشافة الصغير كان قد أخبره أن كل جالون مياه يُغترَف من المحيط الهادئ يحتوي على ثلاثة ونصفٍ في المائة من الملح.
بعد الاستلقاء ساعةً في الشمس، نهض جيمي وذهب لتناوُل غدائه، بعدها ظلَّ واقفًا عشرين دقيقةً في الحديقة، ثم خلَد لقيلولة. بعد ذلك شرب عصيرَ برتقالتَين ناضجتين، شربه باردًا من تأثير ثلجِ الثلاجة الصغيرة. وفجأةً خطر له، وهو يُغلق الثلاجة، أنه قد يكون من المستحسَن أن يعصر من الطماطم ملءَ كوبَين أو ثلاثة أكواب ويودِعَه للثلج بحيث يشربه باردًا. مِن ثَم نزل إلى الحديقة وجمع الطماطم وهمَّ بتنفيذ تلك الفكرة.
وبينما وقف في المطبخ يعصر الطماطم تصاعدَ من أسفل النافذة صوتُ أقدام مندفعة وتعالَت في الجوِّ سلسلةُ صيحات مفزعة. سقطت الطماطم التي كان جيمي حريصًا أشدَّ الحرص ألَّا تسقط، فتمتمَ متعجِّبًا وهو يستعيدُها، ليغمُرَها بالماء تحت الصنبور ويضعَها في صحن. ثم ذهب إلى الباب الخلفي ليرى ماذا عساها تكونُ تلك الجلَبة.
وقف أمامه الكشافة الصغير منتصبَ القامة في زاويةٍ قائمة بشكل مبالَغ فيه، مؤديًا تحيةً سريعة كما اعتاد أن يرى في كل مكان. واصطفَّ على الممشى ثلاثةُ أطفال لم يكن ثَمة أدنى شكٍّ بشأن جنسِهم.
أشار الكشافة الصغير إلى الطفل الأول في الصف.
قال جيمي محدِّثًا نفسه: «أحد عشر، وربما اثنا عشر عامًا.»
وقدَّمه الكشافة لجيمي من خلال المقدمة، التي صاحبَها تلويحٌ باليد وبسيف خشبي، على النحو التالي: «بيل السَّمين الطيِّب!»
ذهبَت عينا جيمي الحادَّتان إلى وجه الصغير. لم يكن لدى بيل السمين الطيِّب أدنى اعتراضٍ على كونه «بيل السمين الطيب». فقد ابتسم، وأدى التحيةَ كأفضلِ ما يكون، وتنحَّى جانبًا.
لوَّح الكشافةُ الصغير بالسيف، فتقدم صبيٌّ — حدَّث جيمي نفسه عنه معلقًا: «يبدو في العاشرة» — رشيق وممشوق القوام، ذو بشَرةٍ قمحيَّة اللون فاتحةٍ وشفَتَين حمراوين، وشعرٍ أسودَ وعينين سوداوَين صافيتين واسعتين، صبيٌّ وسيم للغاية، حيَّا الكشافةَ الصغير ثم حيَّا جيمي تحيةً موجزة. كانت المقدمة المصاحبة له هي: «طفلُ أبيه وأمِّه المطيع.»
مرةً أخرى تفحَّصَت عينا جيمي الصغير، فبدا جَليًّا أن «الطفل المطيع» لم يأبَه البتة للاسم الذي نعتَه به الكشافة الصغير.
لُوِّح بالسيف للمرة الثالثة إذ تنحَّى الطفل المطيع جانبًا وجاء الدور على الصبي التالي — «قد يكون في الثالثةَ عشرة وربما في الرابعة عشرة»، أسَرَّ جيمي في نفسه — صبيٌّ أطولُ من أيٍّ من الآخَرَين، ضخم، ذو شعر أحمر، وعينَين زرقاوين، وملابسَ مهندمة وباهظة على غير المألوف ومنتقاة بعناية. كانت شَفتا الفتى مقوَّستَين بشكلٍ فريد، فيما برزَت أسنانه بروزًا طفيفًا، وتألقَت عيناه بشعاع ضوءٍ راقص. دار السيف الخشبي دورةً كبيرة في الهواء وحطَّ على الأرض. وأدى الفتى الأصهبُ التحيةَ للكشافة الصغير بلياقةٍ شديدة حتى إن المشهد كان ممتعًا للأنظار. فقد ضمَّ كعبيه، ورفع ذقنَه، وانتصبَت قامتُه. كانت تحيةً رائعة. لوَّح الكشافة الصغير ليُقدمه إلى جيمي قائلًا: «ذو الوجه الملائكي.»
للمرة الثالثة نظر جيمي على سبيل الفضول فوجد أنَّ ذا الوجه الملائكي كان معتادًا جدًّا على التسمية حتى إنه ربما سيستاءُ لو لم تُستخدَم.
وحينئذٍ، بقليلٍ من مشاعر الحنق في عينيه الرماديتين، شدَّ جيمي قامته وأدَّى للصغار تحيةً حقيقية صادقة، تحيةَ حرب شنيعةٍ لعينة قضى فيها أربعَ سنوات، فأرهَفوا السمع وأدركوا أنه هكذا يجب أن تكون التحية.
قال جيمي: «أيها السادة أعضاءُ فرقة الكشافة؛ يُشرفني للغاية التعرفُ بكم. لا شك أن سيد النحل اعتاد الترحيبَ بكم في حديقته. وفي غيابه، أُرحب بكم الترحيبَ نفسَه.» واتجه إلى ذي الوجه الملائكي. وقال: «هلا تكرَّمتَ بتقديمي إلى قائد الكشافة؟»
فتحَ الفتى الأصهب عينيه على اتساعهما.
«لكن قائد الكشافة يعرفُك!» قال محتجًّا.
قال جيمي: «بالتأكيد!» وتابع: «مشكلتي أنني لا أعرفُ قائد الكشافة.»
في تلك اللحظة دار سيفٌ خشبي شديد البِلَى في الهواء.
«انتباه! ليصطفَّ الكشافة!»
اصطفَّ الصِّبية وأدَّوا التحية بأسلوب جميل.
«استعِدُّوا!» جاء أمر القائد. «أخبروا العالم باسم قائدِ فريق الكشافة الخاص بكم!»
شد الفِتيان قاماتهم وثَبتوا متأهبين. كانت عينا كلٍّ منهم مسلَّطتَين على حد السيف.
«هيا معًا!» قال قائد الكشافة. ودار السيف في الهواء، وبدأ الفتيان، في انسجامٍ وبأعلى صوت، يُرددون مع فصل كلِّ حرف على حدةٍ كأنهم يرشقونه في وجه جيمي: «ألف لام، ميم، زاي، عين، جيم؛ المزعج!»
أدوا التحيَّة، وتراجَعوا مرةً أخرى، وتقدم قائد الكشافة أمام جيمي، فأغمد السيفَ وأخفض يده اليمنى مستقيمةً على خياطة سرواله، ووضع اليسرى على صدره، ومال للأمام منحنيًا بشدة. أدرك جيمي ما أدركه بالضبط في البداية، أو أكثر قليلًا، إذ رأى أن فتيان الكشافة كانوا مطيعين بحقٍّ ومدرَّبين جيدًا فعلًا.
هنا توجَّه قائد الكشافة إلى جيمي بالكلام فقال: «يسمح لنا سيد النحل بلعب لعبةِ مُقاتلة الهنود هنا.»
فقال جيمي: «حسنًا. أوافق على أي شيء كان يسمحُ به.»
تحولَ قائد الكشافة إلى الفتيان.
«تفرَّقوا!» جاء الأمر صارخًا. «استعدُّوا للهجوم!»
تأمَّل جيمي قائدَ الكشافة. لم يدرِ متى مُشِّط شعره القصير. الذي علقَت به مجموعةٌ كبيرة من شوفان كاليفورنيا البرِّي والقليل من الأغصان الصغيرة والأوراق. أما وجهُه الصغير فربما كان نظيفًا في وقتٍ ما ذلك الصباح. لكنه ليس نظيفًا الآن بالتأكيد. ورآه مرتديًا قميصًا مختلفًا، لكنه بالحالة المزرية نفسِها، والسروالِ القصير والحذاء نفسِهما اللذَين كان يرتديهما في الزيارةِ الأولى. سار قائدُ الكشافة إلى نهاية الممشى، متجهًا مباشرةً نحو فتحةٍ في سِياج الأوتاد الخشبية المطليِّ بالكلس، الفاصلِ بين أرض سيد النحل وأرض مارجريت كاميرون. شاهد جيمي قائدَ الكشافة وهو يدسُّ يده اليمنى في جيبه المنتفخ، وينتقي، من الأشياء الكثيرة التي احتواها، قطعةً من الطبشور الأحمر. في هذه الأثناء اتخذَ جيمي مجلسَه على المقعد أسفل الجاكرندا وركز انتباهه على قائد الكشافة. كان قد نسي فتيان الكشافة. بل إنه نسي حتى أن يتساءل لماذا اختَفَوا وأين ذهبوا. بلمساتٍ بارعة، سريعة وواثقة، جعل قائدُ الكشافة يرسم على السياج المطلي بالأبيض، بمهارة كافيةٍ لمعرفة نيته، أشكالَ أربعة هنود. رُسِم الأول مائلًا إلى الأمام محدقًا فيما يُواجهه. وكان الثاني أكثرَ انتصابًا. أما الثالث فكان وجهه للأمام، والرابع يتبعه.
وحين يبلغ قائدُ الكشافة العوارضَ التي ثُبِّتَت الأوتاد فيها بمسامير، يكتفي برفع الطبشور، ويرسم خطًّا على الحافة، ثم ينزل مرةً أخرى إلى الأوتاد. ما إن اكتمل رسمُ الأشكال الأربعة بحيث صارت مميَّزة، عاد قائدُ الكشافة إلى جيمي وأخرج من جيب قميصه صافرةَ شرطيٍّ حقيقيةً، عُقد حول حَلْقتِها سلسلةٌ جلديَّة أحاطت برقبته. رفع الكشافة الصغير الصافرةَ وأطلق صافرةً حادة، فجاء فتيةُ الكشافة يتقافزون بين الشجيرات وفوق الزهور من جهات مختلفة. وقد تسلَّح كلٌّ منهم بقوس مبهرج، وجعبةٍ من الجلد على ظهره مليئةٍ بأسهُم غير متقَنة الصنع. أغلبها شظايا خشبٍ غير مصقولة.
أدَّى قائد الكشافة التحية.
«فتى الكشافة رقمُ واحد، إليَّ بأسلحتي!»
لبَّى ذو الوجه الملائكيِّ الأمرَ المكلَّف به على الفور. فأدى التحيةَ أمام قائد الكشافة وقدَّم قوسًا إضافيًّا وجعبةً من السهام. بحزمٍ علَّق جعبة السهام على كتفه وشدَّ حزامها على صدره. وبحزمٍ استحوذ على القوس ووضع السيفَ في غمده.
«فتى الكشافة رقم اثنين!»
ابتسم بيل السمينُ الطيب على سبيل التحية التي لم يستطع أداءها وهو يظهر من خلف شجيرات نَبات الليلك، وقد جمع على ذراعه بِضعَ ثمار طماطم كبيرة تامة النضج.
«كشافة اثنين، تقدَّمْ وأدِّ واجبك!» كان الأمر؛ فتهادى بيل السمين الطيب إلى السياج ووضع ثمرةَ طماطم حمراء كبيرة على العارضة بالضبط حيث يُفترض أن يقع القلب في جسم كلٍّ من الهنود المرسومين رسمًا عشوائيًّا.
وبدأت الحركةُ فجأة؛ حركةٌ هائجة. وكان صوت قائد الكشافة حادًّا متحمسًا.
«انتبِهوا يا فِتيان الكشافة! الهنود الحمر سيُداهموننا. إن منازلنا وأطفالنا وحياتنا في خطر! الزَموا الكَمين. وحين تتمكَّن منهم يا جريجزبي أطلِقِ النار إذا كنتَ مستعدًّا! صوِّب على قلوبهم الهندية اللعينة! صوِّب عليهم لتُردِيَهم قتلى!»
انطلق قائدُ الكشافة ليقفَ وراء نبات لزان المكنسي، وشدَّ سهمًا إلى وتر القوس، واختار ثمرةَ الطماطم التي اتخذَت موقع قلب الهندي الأحمر الأول لتكونَ هدفه الخاص. واختار بيل والطفلُ المطيع وذو الوجه الملائكيِّ لأنفسهم جنباتٍ وأشجارًا مختلفة في الحديقة، وعند انطلاق صيحة قائد الكشافة الحادة قائلًا: «هجوم!» ضرَبَت السهامُ السياج، بدرجاتٍ متفاوتة من إصابة الهدف.
جلس جيمي يُشاهد أفعالهم. وكان مترددًا بشأن موقفه في هذه الظروف. فالسياج الذي كان أبيضَ بياضًا شديدًا ولامعًا اكتسب شكلًا غيرَ مقبول مقارنةً بجمال الحديقة. كما أن جيمي نفسه أراد كميةً وفيرة من تلك الطماطم الحمراء، فقد خطَر له، وهو يجمع تلك التي كان يُحضرها في المطبخ، أنه من الممكن بدلًا من أن يترك كمياتٍ كبيرةً منها تُهدَر أن يحملها إلى أقربِ كشك خَضرَاوات في المنطقة ويحصلَ في المقابل على ما يكفي على الأقل لشراء صندوق توتٍ أسود أو توتٍ أحمر أو طعام ضروري آخر قد يحتاج إليه. وكان ثَمة احتمال أن تُباع ثمراتٌ ممتازة مثل تلك الطماطم مقابل مبلغ كافٍ يملأ به مجددًا درجَ النقود التي كان من المفترض أن يشتريَ بها الحليبَ والثلج والجريدة اليومية.
بينما كان يتأمَّل هذه الأشياء اضطرب الجوُّ بسلسلةٍ من الصيحات الحادة. لو كان جيمي معصوبَ العينين كان سيجزم أن هناك خمسةً وعشرين طفلًا لا أربعة. ولم يَعُد ممكنًا أن تعرف بيل السمينَ الطيب من ذي الوجه الملائكي. وقد اختفى قائدُ الكشافة في سلسلةٍ من الجولات التي دار فيها هائجًا شملت القفز برشاقة فوق أحواض الزهور، والاختباءَ وراء الأشجار، والدوران حول الأجمة، والزحف وبطنه ملاصقةٌ للأرض. أصاب وابلٌ من الأسهم السياجَ محدثًا ضجيجًا، وفي الحال، بدا أنه كلما اشتدَّ هياجُ المعمعة، زادت السهامُ التي تُصيب الهدفَ مباشرة، فبدأت الطماطم تسقط متناثرة. وفي وسط الجلبة أصاب سهمٌ صُوِّب بدقة شديدة ثمرةَ طماطم كبيرة جدًّا آتيًا من أسفل بعض الشيء فأوقعَها من السياج. ومن بينِ الصيحات الهائجة استطاع جيمي أن يميزَ صوت قائد الكشافة وهو يصيح قائلًا: «ها! هنديٌّ أحمر آخرُ سقط صريعًا!» والصيحات تُجيبه قائلة: «اتصلوا بسيارة الإسعاف!» «ضعوه على الثلج!» وعلى نحوٍ مفاجئ استرخى جيمي في جِلسته وبدأ يضحك بهدوء، حيث بدأ يستمتعُ بالأمر. ثم وجد نفسه يجثو على الأرض ويسير على قدميه وركبتيه. ويجمع حفنةً من الحصى من الممشى، وبعد ذلك، مستترًا بشجرة الجاكرندا، جعل يُصوب بدقةٍ وإتقان على الطماطم التي شكَّلَت قلوبَ الهنود الحمر. وعند رؤية هذا ثار حماسُ قائد الكشافة. وصاح: «أمطِرْهم!» ثم تابع: «هلموا! هنا يبدأ الغرب!»
عندئذٍ أطلق ذو الوجه الملائكي سهمًا طار فوق السياج.
صاح قائد الكشافة: «رمية خاطئة!» وأضاف: «صوِّب تحت الحزام. هيا نسلخ فروات رءوس المستوطنين الأصليين.»
وبعد أن استنفَد سهامه اختفى ذو الوجه الملائكي لوهلة، ثم عاد إلى المعركة وهو يقرع طبلةَ النحل وصاح: «أقبِلوا! اجهَزوا بأسلحتكم!»
جاء الطفل المطيع يَعْدو في الممشى مع دفعةٍ جديدة من الطماطم.
صاح قائد الكشافة: «الإسعافات الأولية للجرحى!»
«كي يي كي، يي يي، ها ها!» نسي بيل السمين الطيبُ لأيِّ الطرفين ينتمي وهتف هتاف الهنود الحمر في الحرب.
صاح قائد الكشافة: «أنصتوا لصوت طائر الوقواق الأصفر!» ووسط فَرْط حماسته، بعد نفادِ السهام، انضمَّ إلى جيمي في الرشق بالحجارة.
وعند اختفاء آخرِ ثمرة طماطم من فوق العوارض ظهر فتيانُ الكشافة منقطعي الأنفاس يلهثون أمام قائد الكشافة، الذي وقف في وضع الانتباه ومعه السيف أثناء انتظام الفتيان في صفٍّ في انتظار الأوامر. «أيها الفتيان، لنتقدَّمْ بالشكر للغريب الكريم الذي ساعدَنا باقتدار في هزيمة أعدائنا الأزَليِّين.»
وقف الصِّبية الصغارُ الثلاثة في مواجهة جيمي، محرَجين من مفاجأة الموقف. فاحتضنَ بيل السمين الطيب رأسه، ومالت عيناه جانبًا، وهو يُتمتم قائلًا: «شكرًا!» ونظر الطفل المطيع إليه مباشرةً وقال: «شكرًا جزيلًا!» وضم ذو الوجه الملائكي كعبَيه، وحيَّاه باعتزازٍ بالنفس، وقال: «في غاية الامتنان لك، يا سيدي!» ولوَّح قائد الكشافة بالسيف في دائرةٍ واسعة وأعاد الانحناء واضعًا يده على صدره، ثم استقام، وتوجَّه إلى جيمي. «أشكرك! وفتياني يشكرونك! وبلدُك يشكرك! وكلُّ من في هذا الحي تحديدًا يشكرك! كشافة رقم واحد، أحضر الخرطوم! كشافة رقم اثنين، احضر المكنسة! كشافة رقم ثلاثة، افتح المياه!»
عند وضع الخرطوم، تولَّى قائد الكشافة المسئولية. فاندفع الماء على السياج الأبيض. وأخذ بيل السمينُ الطيب المكنسة. وجمع الطفل المطيع وذو الوجه الملائكي بقايا الطماطم وحملَوها إلى صفيحة القُمامة. بعد أن فرَغوا من عملهم وعاد كلُّ شيء نظيفًا مرةً أخرى وشرَعَت شمسُ العصاري تُجفف السياج بأشعَّتها الأخيرة الواهنة وتُعيد إليه لونَه الأبيض، لاحظ جيمي حين مرَّ قريبًا منه أن هناك عشراتِ الخطوط الحمراء شبه الخفية وأدرك أنه من الوارد أن المعركة التمثيلية كانت تُقام أسبوعيًّا في حديقة سيد النحل. مِن ثَم عاد إلى المقعد أسفلَ شجرة الجاكرندا شاعرًا أنه بالسماح بالمعركة لم يتخطَّ حدَّ صلاحياته. وبينما هو يُدير ظهره، حدث شيءٌ لم يستطع أن يتبيَّنَه على وجه التحديد. وبعد أن اعتدل ليتخذَ مجلسه التقَت عينه بكتلةٍ من الأرجل والأذرع المتحركة. أذرع وأرجل في كل مكان. كانت كتلة كبيرة من البشر تدور في أنحاء الممشى المفروش بالحصى، وفيها تداخلت ساقا بيل السمينتان العاريتان، وساقا الطفل المطيع قمحيَّتا اللون، وقدَما ذي الوجه الملائكي بجوربَيهما الحريريَّين وحذائهما المصنوعين من جلد الجَدْي. وفي الحال ظهر الشعر القصير لقائد الكشافة، ليبدأ الزعيم بيدَين ماهرتين في فصل الكتلة، وتفكيكها، ودفْعِها بخبرةٍ في اتجاهات مختلفة.
صاح قائد الكشافة: «أحضِروا سكَّاتة للأطفال!» وتابع: «تتنازعون وتتشاجَرون على خُرطوم هكذا! لقد قلت: «الكشافة رقم واحد، ضع الخرطوم بعيدًا»!»
تكلَّم ذو الوجه الملائكي فتناثرَ البُصاق من فمه.
«لم تقل شيئًا من ذلك! لقد قلت: «الكشافة رقم ثلاثة»، وأنا الكشافة رقم ثلاثة! لم تكن لتطلبَ من رقم واحد أن يُعيده وقد طلبتَ من رقم واحد أن يأتيَ به!»
استغرق قائدُ الكشافة في تفكُّر عميق. واستخدم مقبضَ السيف في حكِّ شعره المبعثر.
قال قائد الكشافة خافِضًا صوته في نبرةٍ وُدية: «أيها الرفاق، أعتقد أن ذا الوجه الملائكي على حق. أعتقد، ويا للعجب، أنني فعلًا قلتُ له أن يُبعد الخرطوم، وأعتقد أنني طلبتُ من رقم اثنين أن يُبعد المكنسة، وأعتقد أنني لم أطلب من رقم واحد أن يفعل أيَّ شيء، والسبب أن بيل الطيب سمين جدًّا ومن القسوة أن أجعلَه يتحرَّك، على أي حال!»
أدخَل قائد الكشافة السيفَ في غِمده، ومشَّطَ شعره القصيرَ بأصابعه المتسخة، ومسح وجهَه في كمِّه شديدِ القذارة، وأدخل طرَف قميصه في سِرواله بعد أن كان خرج كلُّه منه.
ثم جاء الأمر: «أيها الفتيان أمسِكوا عن الكلام وتفرَّقوا ما تبقى من اليوم!»
بعدَئذٍ سار قائد الكشافة حتى جاء أمام جيمي، ووقف ثابتًا، وراح ينظر إليه متسائلًا، بينما اصطفَّ بيل والطفلُ المطيع وذو الوجه الملائكي على مقربة منهما، بعيونٍ كلُّها ترقب.
رغم أن جيمي ربما كان متعبًا، ورغم أنه لا شك اسكتلندي، فقد عاودَته ذِكرى مبهَمة من أيام كان صبيًّا وكان يُحارب هنودًا من نسجِ خياله، ويصطاد ببنادقَ خشبية ويُشهِر سيوفًا خشبية ويصنع أسلحةً بعجلات متزعزعة، ويحمل في جسده معدةً خاوية على الدوام. وقد ساورَه يقينٌ أن المعدة الخاوية على الدوام هي ما يتصدَّر الموقفَ الراهن. من ثَم نهض جيمي ومدَّ يدًا إلى قائد الكشافة والأخرى إلى ذي الوجه الملائكي، الذي تَصادف أنه صبيٌّ وسيم حتى إن جيمي استسلمَ للضياء المنبعثِ من عينَيه ولسحر ابتسامتِه منذ اللحظة الأولى التي نظر فيها إليها مباشرة.
وقال بعفويَّة: «هيا، يا رفاق.» وتابع: «هيا نذهب إلى الكشك القريب ونأتِ على كلِّ ما فيه من «سجق» ومياهٍ غازية بنكهة الفراولة!»
كان الهتاف الصاخبُ الذي استقبلَتْه أذنا جيمي تعويضًا مثاليًّا عن الفراغ الذي ستتركُه مكافأةُ الصغار في جيب سرواله القصير بعد إنفاقِ المقدار القليلِ جدًّا من الفكة التي يحملُها بداخله.
وبينما هم مصطفُّون أمام الكشك، أثناء تلبيةِ طلباتهم المتنوِّعة، راح فِتيانُ الكشافة الزائرون ينظرون إلى جيمي نظراتٍ مستَجْلية. راقَت لهم اللمعةُ في عينيه. وراقَت لهم الابتسامة الواهنة التي تسلَّلت إلى وجهه الشاحب. وأحبُّوا الدقة التي رشَق بها الحصى، والخفةَ التي جمع بها المزيد حين نَفِدَت ذخيرتُه منها. وراقهم أكثرَ من أي شيء آخر أنه كان يعمل من خلف شجرة. فلو وقف مكشوفًا وهو يلتقطُ الحجارة ويُلقي بها ما كان سيعجب كثيرًا قائد الكشافة وتلك المجموعة بعينها من الكشافة؛ لكن الرفيق الذي أخذ اللعبة على محمل الجِد، ولعب وفقًا للقواعد، ولم يجعلها لعبةً وإنما حقيقة بأن لعب كما كانوا يلعبون، لهو جديرٌ بأن يكون صديقًا حقيقيًّا، مِن ثَم تزاحمَ الصغار مقتربين منه وبدَءوا يطرحون عليه الأسئلة.
جلس جيمي في ظل شجرة بلوط حي ووضع ذراعًا حول قائد الكشافة والذراع الأخرى حول ذي الوجه الملائكي، وحرَص على إتاحة مكانٍ لبيل الطيب والطفل المطيع، وأثناء تحميص الخبز وقلي البصل، وشق السجق وتحميره وخفق المستردة وتقطيع الخيار المخلَّل شرائح، وإحضار المياه الغازية من فوق الثلج، أخبر الأولادَ شيئًا عن معنى نشاط الكشافة حين مضى رجلٌ ذاتَ ليلة حالكةِ السواد، على بطنه، زاحفًا فوق حفرة كبيرة في حجم منزل من جراء قصف القنابل، وسط صخور محطَّمة وحُطام ساحة معركة مخضلة، يتساقط فوقه وابلٌ من القذائف والشظايا، محاولًا الاقترابَ كفايةً لسرقة سرٍّ من العدو، أو متشمِّمًا أثرَ زميلٍ عزيز عليه، أو متصيدًا جثة ضابط.
جاء الطفل المطيع وبيل السمينُ الطيب وتلاصقا مقتربَين من ركبتَي جيمي. ومال قائدُ الكشافة برأسه قصيرِ الشعر على الجرح الذي في صدره وظلَّ يُحملق فيه بعينين لا تطرفان، ووضع ذو الوجه الملائكي على ذراعيه يدَين قويتين ولم يأبَه البتة حين قال صاحبُ الكشك: ««السجق» جاهز!» وبدأ دويُّ فتح الزجاجات.
صاحوا في آنٍ واحد: «احكِ لنا المزيد!» وألَحُّوا: «احكِ لنا المزيد!» وركَل بيل السمينُ الطيبُ ساقَ الطفل المطيع ذاتَ اللون القمحي وقال: «يا للهول! لم تَسنَحْ لنا قط فرصةٌ كهذه من قبل، أليس كذلك؟ لقد ارتاد أماكنَ حيث كانت الأرض كلها مخضبةً بدماء حقيقية، والسيوف وغيرها تخترق جسمه، والنيران تنطلق فوقه! يا للهول، أليس شخصًا رائعًا؟»
كان جيمي نفسُه هو الذي جعل الجمعَ ينفضُّ بعد أن استخدم حاسةَ شمِّه المرهفة. صحيحٌ أنه قد تحدث عن الفيتامينات والسعرات الحرارية. وصحيحٌ أنه قد اتفق مع مارجريت كاميرون على أن يبدَآ نظامًا غذائيًّا يتَّبعه بصرامة، لكن حيث إن النظام لمَّا يبدأ بعد، وحيث إنه قد بدا له أنه لم يشَمَّ في حياته كلها شيئًا أثار شهيته للغاية مثل رائحة ذلك «السجق»، فقد مدَّ ذراعًا طويلة فوق رءوس الصغار وأخذ أكثر قطعة «سجق» امتلاءً رآها، وبالأخرى التقطَ زجاجةَ مياه غازية ذات لون ورديٍّ زاهٍ. وقال لهم: «أقبِلوا على الطعام! تفضَّلوا يا رفاق!»
وبعد نصف ساعة صعد يسير على الرصيف المعشوشِب المقابل لباب مارجريت كاميرون وابتسمَ لها. كان وجهُه الشاحب متورِّدًا على غير العادة، فنظرَت مارجريت كاميرون إليه بفضولٍ من فوق حِمْل من القصاصات كانت تحملُها ثم حدقَت فيه بتأنيب. وقالت موجِّهةً إليه الاتهامَ: «أراهنُ بربع دولار أنك ذهبتَ إلى كشك الحي وتناولتَ «السجق» مع أولئك الصغار.»
فابتسمَ لها جيمي بمرح.
وقال مبتهجًا: «تفوزين!» ثم أضاف: «يا إلهي! كم كان شهيًّا!»