منظور الحرية
وإذا كانت لدينا أسباب لالتماس المزيد من الثروة، فإن علينا أن نسأل: ما هي بالتحديد هذه الأسباب؟ كيف تحقق الهدف؟ وما الشروط التي ترتهن بها؟ وما الأشياء التي نستطيع أن «نؤديها» بهذا المزيد من الثروة؟ والحقيقة أن لدينا جميعًا، بوجه عام، أسبابًا ممتازة لطلب المزيد من الدَّخل أو الثروة. وليس السبب هو أنَّ الدَّخل والثروة مرغوبان لذاتهما، بل بالتحديد لأنهما وسيلتان هادفتان جديرتان بالإعجاب من أَجْل تحقيق المزيد من الحرية لكي نبني نوع الحياة الذي نُبرِّره عقلانيًّا لما له من قيمة.
وتكمن فائدة الثروة في الأمور التي تهيئ لنا الثروة إمكان إنجازها — أي ما تساعدنا الحريات الموضوعية على إنجازه — بَيْدَ أنَّ هذه العلاقة ليست حصرية (حيث توجد مُؤثِّرات أخرى غير الثروة تُؤثِّر في حياتنا)، ولا هي مطردة (حيث إن أثر الثروة في حياتنا يتباين بتباين المؤثرات). لذلك من المهم الإقرار بالدور الحاسم للثروة في تحديد ظروف المعيشة ونوع الحياة، مثلما أن من المهم أيضًا فَهْم الطبيعة المشروطة والمُحدَّدة لهذه العلاقة؛ لذلك فإن المفهوم الملائم للتنمية يجب أن يتجاوز كثيرًا حدود تَراكُم الثروة وزيادة مُجْمَل الناتج القومي والمُتغَيِّرات الأخرى ذات العلاقة بالدخل. إننا يجب أن ننظر إلى ما هو أبعد من النمو الاقتصادي ولكن دون إغفال لأهميته.
أشكال افتقاد الحرية
يعاني كثيرون جدًّا في مختلف أنحاء العالم أنواعًا مختلفة من افتقاد الحرية. المَجاعات مستمرة الوقوع في أقاليم بذاتها، التي تُنكِر على الملايين الحرية الأساسية في حق البقاء، وأكثر من هذا أن البلدان التي لم تَعُد تُدمِّرها المَجاعات بين الحين والآخَر نَجدها تعاني سوء التغذية، وهو ما يُؤثِّر في أعداد غفيرة جدًّا من البشر المستضعفين. كذلك هناك الكثيرون جدًّا من المَحرُومين من حق الرعاية الصِّحيَّة أو مَرافق التصحاح أو حق الحصول على ماء شُرْب نقي، ويقضون حياتهم يكافحون نِسْبَة أمراض عالية غير ضرورية، وغالبًا ما توافيهم المَنِيَّة قبل الأوان. والمُلاحَظ أن البلدان الأغنى غالبًا ما تضم أعدادًا كبيرة من المحرومين من أبسط الاحتياجات، وأبسط الفرص للرعاية الصحية، أو التعليم الوظيفي، أو العمالة المأجورة، أو الأمن الاقتصادي والاجتماعي، وأكثر من هذا ما نلحظه أيضًا في بلدان شديدة الثراء، أن مُتوسِّط العمر المُتوقَّع لبعض الجماعات من المواطنين فيها لا يزيد على متوسط طول العمر في اقتصادات أشد فقرًا، هي ما اصطلحنا على تسميتها العالَم الثالث. زِدْ على هذا عدم المساواة بين المرأة والرجل الذي يضر حياة ملايين النساء، وربما يُورِدهن مَوْرِد التهلكة قبل الأوان. ويفرض بوسائل مختلفة قيودًا قاسية على الحريات الموضوعية للمرأة.
لننتقل إلى مظاهر حرمان أخرى من الحرية حيث نجد كثيرين جدًّا في بلدان مختلفة في العالَم مَحرومين بشكل مُنظَّم من الحرية السياسية ومن الحقوق المدنية الأساسية. وهناك مَن يزعم أحيانًا أن إنكار هذه الحقوق عليهم يساعد في حفز النمو الاقتصادي، وأنه «مفيد» من أجل تحقيق تنمية اقتصادية سريعة. وأكثر من هذا أن البعض أيَّد قيام نُظُم سياسية أشد قسوة — مع إنكار الحقوق المدنية والسياسية الأساسية — وفاءً لما زعموه من ميزة للنهوض بالتنمية الاقتصادية. وتَجدُر الإشارة إلى أن هذه الفرضية تجد دعمًا من شواهد تجريبية بدائية ومُتخلِّفة. وتُسمَّى غالبًا «فرضية لي» نسبة إلى لي كوان يوو رئيس وزراء سنغافورة. وواقع الأمر أننا لا نجد أي مقارَنة فيما بين البلدان تُقدِّم تأكيدًا لِصِدْق هذه الفرضية، وثَمَّة شواهد ضعيفة وقليلة تؤكد أن السياسة الاستبدادية المُتسلِّطة تُسْهِم عمليًّا في النمو الاقتصادي. والحقيقة أن الدلائل التجريبية تؤيد بقوة أن النمو الاقتصادي مناخ اقتصادي تَغلُب عليه روح الصداقة والود أكثر من كونه نظامًا سياسيًّا قاسيًا. وهذه مسألة سوف نَدرسُها ونَتفحَّصها في الفصل السادس.
والتنمية الاقتصادية لها بَعْد هذا أبعاد أخرى من بينها الأمن الاقتصادي. ونلحظ كثيرًا جدًّا أن فقدان الأمن الاقتصادي يمكن أن يرتبط بافتقاد الحقوق والحريات الديمقراطية. حقًّا إن إنفاذ الديمقراطية والحقوق السياسية يمكن أن يساعد حتى في القضاء على المَجاعات والحيلولة دون وقوعها هي وغيرها من كوارث اقتصادية. ولكنَّ الحُكَّام المُستبِدِّين، الذين هم نادرًا ما يَتأثَّرون أو يضارون بالمجاعات «أو غير ذلك من كوارث اقتصادية» يميلون إلى الحدِّ من الحوافز التي تُحفز إلى اتخاذ تدابير وقائية في الوقت المناسب. ونجد على النقيض من ذلك الحكومات الديمقراطية التي هي بحاجة إلى الفوز في الانتخابات ومواجهة انتقاد الجماهير ولديها حوافز قوية للنهوض بتدابير من أجل تَجنُّب المجاعات وغيرها من الكوارث. ومن ثَمَّ فلا غرابة في أن التاريخ العالمي لم يَشهَد مجاعة في ظل ديمقراطية حقيقية فاعلة — سواء أكانت ديمقراطيات غنية أم فقيرة نسبيًّا — لقد كان المألوف أن تقع المجاعات في الأقاليم المُستعمَرة الخاضعة لحكام خارجِيِّين أجانب أو في بلدان خاضعة لنظام حُكم الحزب الواحد، أو في ظل الديكتاتوريات العسكرية. والحقيقة، كما سوف يؤكد هذا الكتاب، أن البلدين اللَّذَين يقودان، فيما يبدو، تَحالُف المجاعة في العالَم هما كوريا الشمالية والسودان. وكِلاهما مثال ناصع للحكم الديكتاتوري. وبينما يُوضِّح أسلوبُ الوقاية من المجاعات الميزات الحافزة بوضوح وقوة لا مزيد عليهما فإن ميزات التعددية الديمقراطية تبلغ في الواقع مدًى أرحب وأبعد.
ولكن ما نراه أساسيًّا للغاية أن الحرية السياسية والحريات المدنية أمور مُهِمَّة بشكل مباشر في ذاتها، وليست بحاجة إلى تبرير غير مباشر في ضوء نتائجها على الاقتصاد. والملاحَظ أن الشعب العاطل من الحرية السياسية، أو من الحقوق المدنية إذا لم يكن يعوزه الأمن الاقتصادي (ويحظى، مصادفة، بظروف اقتصادية مواتية) فإنه يكون محرومًا من حريات مُهِمَّة تُهيِّئ له مسئولية قيادة حياته وتوجيهها، ويكون محرومًا من فرصة المُشارَكة في اتخاذ القرارات الحاسمة المُتعلِّقة بالشئون العامة. ولا ريب في أن مَظاهر الحرمان هذه تُشكِّل قيدًا على الحياة الاجتماعية والسياسية، ويَتعيَّن النظر إليها باعتبارها مَظاهر قَهرٍ حتى إن لم تُفضِ إلى أضرار أخرى (كوارث اقتصادية مثلًا). وحيث إن الحريات السياسية والمدنية تُمثِّل عناصر تأسيسية للحرية الإنسانية؛ فإن إنكارها يُشكِّل عقبة في حد ذاته. وحريٌّ بنا ونحن ندرس دَور حقوق الإنسان في التنمية والتطوير أن نُعنى بالأهمية التأسيسية والأداتية للحقوق المدنية وللحريات السياسية. وهذه هي القضايا التي سَندرُسها في الفصل السادس.
عمليات وفُرَص
حريٌّ أن يكون واضحًا من المناقَشة السابقة أن وجهة النَّظر عن الحرية التي نأخذ بها هنا تشتمل على كل من العمليات التي تسمح بحرية الأعمال والقرارات، والفُرص الفعلية المتوافرة للناس مع التسليم بظروفهم الشخصية والاجتماعية. والمعروف أن افتقاد الحرية يمكن أن ينشأ إما بسبب عمليات قاصرة غير ملائمة؛ «مثل انتهاك امتيازات الاقتراع أو غير ذلك من حقوق سياسية أو مدنية» أو بسبب الفُرَص القاصرة وغير الملائمة التي يعاني منها البعض وتَحُول بينهم وبين إنجاز الحد الأدنى من الفُرَص الأولية «مثل القُدْرة على الخلاص من موت مُبكِّر، أو من مرض يمكن الشفاء منه، أو من مجاعة لا إرادة للمرء بشأنها».
دَوْران للحرية
الدراسة التحليلية للتنمية والتطوير المعروضة في هذا الكتاب تعالج حرية الأفراد باعتبارها لَبِنات البناء الأساسية؛ لهذا يَتعَيَّن توجيه الانتباه بخاصة إلى توسيع «قدرات» الأشخاص ليصوغوا نوع الحياة التي يقيِّمونها، ولديهم الأسباب العقلية لهذا التقييم. ويمكن تعزيز هذه القدرات عن طريق السياسة العامة، ولكنَّنا أيضًا، نجد أن اتجاه السياسة العامة من الناحية الأخرى، يمكن أن يتأثَّر بالاستخدام الكفء لقدرات العامة على المشارَكة. إن العلاقة ذات الاتجاهين علاقة محورية بالنسبة إلى الدراسة التحليلية المعروضة هنا.
السبب الثاني لاعتبار الحرية الموضوعية حاسمة هو: أن الحرية ليست فقط أساسًا لتقييم النجاح أو الفشل، بل هي أيضًا المُحدِّد الرئيسي للمبادَرة الفردية والفعالية الاجتماعية. إن المزيد من الحرية يُعزِّز قدرة الناس على مُساعدة أنفسهم وكذا على التأثير في العالَم. وهذه مسائل مِحورية بالنِّسبة إلى عملية التطوير والتنمية. واهتمامنا هنا وثيق الصِّلة بما يمكن أن نسميه (مع المجازفة بقدر من المبالغة في التبسيط) «مظهر فعالية» الفرد.
منظومات التقييم: الدخول والقدرات
على الجانب التقييمي يركِّز النهج المستخدم هنا على أساس واقعي يميزه عن الأخلاق العملية التقليدية وعن تحليل السياسة الاقتصادية، مثل التركيز الاقتصادي على أولوية الدخل والثروة (بدلًا من خصائص الحياة البشرية والحريات الموضوعية). وكذا الجانب النفعي الذي يركِّز على الإشباع الذهني (بدلًا من التركيز على السخط الخلَّاق والاستياء البَناء)، وأيضًا اهتمام «التوجه التحرري» بالإجراءات من أجل الحرية (مع إهمال متعمد للنتائج المترتبة على هذه الإجراءات)، وهكذا. وسوف ندرس في الفصل الثالث حالة شاملة لأساس واقعي مغاير يركز على الحريات الموضوعية التي من حق الناس أن يتمتعوا بها.
الفقر وعدم المساواة
ومن الأهمية بمكان، إحداث نقلة في المنظور؛ لأن ذلك يهيئ لنا نظرة مُغايِرة — ووثيقة الصِّلة بشكل مباشر أكثر — عن الفقر، ليس فقط في البلدان النامية، بل وأيضًا في مُجتمَعات أكثر وفرة. إن البطالة الضَّخمة في أوروبا (من ١٠–١٢ بالمائة في كثير من بلدان أوروبا الكبرى) تُفْضي إلى مَظاهر حرمان لا تنعكس واضحة في إحصائيات توزيع الدَّخل. وغالبًا ما تَخفى صورة مظاهر الحرمان هذه؛ نظرًا لأن نظام الضمان الاجتماعي الأوروبي (بما في ذلك التأمين ضد البطالة) يميل إلى تعويض الخسارة في دَخْل المُتعَطِّل. ولكن البطالة ليست مُجرَّد نقص في الدَّخْل يمكن أن تُعوِّضَه الدولة بشكل أو بآخر «مقابل كلفة مالية باهظة هي في ذاتها عبء خطير جدًّا». وإنما البطالة أيضًا مَصْدر إضعاف بعيد المدى للحرية والمبادَرة والمهارات الفردية. والمعروف أن البطالة لها آثار عديدة، من بينها أنها تُسْهِم في «الاستبعاد الاجتماعي» لبعض الجماعات وتتسبب في شعور بفقدان الاعتماد على الذات والثقة بالنفس، علاوة على أضرار تُصيب الصحة النفسية والبدنية. وكم هو عسير على المرء أن يَتخلَّص من الشعور بالتناقض الواضح في المحاولات الأوروبية المعاصرة، للانتقال إلى مناخ اجتماعي أكثر «اعتمادًا على النفس» من دون صياغة سياسات ملائمة لخفض المستويات الضخمة، وغير المحتملة للبطالة التي من شأنها أن تجعل سياسة الاعتماد على النفس أمرًا صعبًا للغاية.
الدخل ونسبة الوفيات
الحرية والقدرة ونوعية الحياة
ركَّزْتُ في المناقَشة السابقة على حرية أولية للغاية، وهي: القدرة على البقاء بدلًا من الوقوع ضحية لموت مُبكِّر. وهذه، كما هو واضح، حرية ذات دلالة وأهمية، ولكن ثَمَّة حريات أخرى تُعادِلها أهمية، حقًّا إن نطاق الحريات ذات الصلة واسع جدًّا، ويبدو أحيانًا أن مُحاوَلة عَرْض بيان شامل وكامل لأنواع الحريات يُمثِّل مشكلة إزاء الوصول إلى نهج «إجرائي» لتناوُل التنمية المُتمرْكِزة على الحرية، وأحسب أن هذا تشاؤُم لا محل له. بَيْدَ أنني سوف أُرجِئ تناوُل هذه المسألة حتى الفصل الثالث؛ حيث نُفكِّر في النَّهج الأساسي للتقييم معًا جملة واحدة.
الأسواق والحريات
يمثل دور آلية السوق موضوعًا آخَر يستلزم أن نستعيد بعض التراث القديم. إن علاقة آلية السوق بالحرية، ومن ثم بالتنمية الاقتصادية تُثير تساؤلات تَتعلَّق على الأقل بنمطين مُتمايِزَين تمامًا بحاجة إلى أن نُميِّز بينهما بوضوح. الأول: أن إنكار فُرص الصفقات عن طريق ضوابط تَعسُّفية يمكن أن يكون مصدرًا لافتقاد الحرية ذاتها؛ إذ يكون الناس هنا مَمنوعِين من عمل ما يمكن أن يكون بعض حَقِّهم، في حالة عدم وجود أسباب قاهرة تَدفعُهم إلى عكس الاتجاه. وهذه نقطة غير مُتوقِّفة على نقص، أو قُصور في آلية السوق، أو على أي تحليل شامل للنتائج المُترتِّبة على وجود أو عدم وجود منظومة سوقية. إنها تتوقَّف ببساطة على أهمية حرية التَّبادُل والصفقات دون عائق.
وحَرِي أن نُمايِز هذه الحجة لصالح السوق عن حجة ثانية شائعة جدًّا هذه الأيام: إن السوق تعمل على نحو نمطي لتوسيع نطاق الدَّخل والثروة والفُرص الاقتصادية المتاحة للناس. إن القيود التعسفية المفروضة على آلية السوق يمكن أن تُفضي إلى خفض الحريات بسبب النتائج المترتبة على غياب الأسواق. ويمكن أن تحدث مظاهر الحرمان حتى ننكر على الناس الفُرص الاقتصادية والنتائج المواتية لهم التي تطرحها الأسواق وتدعمها.
بيد أن هذا الرأي المُؤيِّد لاستخدام الأسواق مختلف تمامًا عن الحجة التي تُؤكِّد أن للناس حق عقد صفقات وتحويلات. وإذا حدث أنه لم يكن ثَمَّة قبول لهذه الحقوق باعتبارها حقوقًا لا يجوز انتهاكها — ومستقلة تمامًا عن نتائجها — فإن بالإمكان الدَّفع بأن إنكار حق الناس في التفاعل بعضهم مع بعض اقتصاديًّا يَتضمَّن قدرًا من الخسارة الاجتماعية. وإذا كانت الآثار المُترتِّبة على هذه الصَّفقات ضارة بآخَرِين، إذن يَتعيَّن وللوهلة الأولى تقييد الفُرص المُؤيِّدة لحق الناس في حُرِّية عَقْد الصفقات. ومع هذا سيظل هناك شيء ما يُمثِّل خسارة مباشرة نتيجة فَرْض هذا القيد (حتى وإن وازن الخسارة المقابِلة للآثار غير المباشرة لهذه الصفقات بالنِّسبة لآخَرِين).
لقد اتَّجَه مبحث الاقتصاد إلى الابتعاد عن التركيز على قيمة الحريات متجهًا إلى المنافع والدخول والثروات. وطبعي أنَّ تَقْيِيد بؤرة الاهتمام على هذا النحو يُفضي إلى الغضِّ من قيمة الدور الكامل لآلية السوق حتى وإن تَعذَّر علينا اتِّهام علم الاقتصاد من حيث هو مهنة بالتَّقصير في الثَّناء على الأسواق بما يكفي. ولكن المسألة ليست كمَّ الثناء بل أسبابه.
لنأخذ على سبيل المثال الحُجَّة المشهورة في علم الاقتصاد وهي أن آلية السوق القائمة على المنافَسة يمكن أن تحقق نمطًا من الفعالية والكفاءة يعجز عنه نظام مركزي بسبب كل من اقتصاد المعلومات (كل شخص يعمل في السوق ليس عليه الإلمام بالكثير جدًّا من المعلومات)، ومواءمة الحوافز (حيث الأفعال الحذرة لكل شخص يمكن أن تندمج في سلاسة مع أفعال الآخرين). ولكن لنتأمل الآن واقعًا عكس ما هو مُفترَض بوجه عام، حالة يمكن أن يحقق نظام مركزي كامل النتيجة الاقتصادية المَرجُوَّة نفسها على الرغم من أن القرارات المتعلِّقة بالإنتاج والتخصيص يقررها رئيس ديكتاتور. تُرى هل يُعْتَبر الإنجاز واحدًا من حيث الجودة والنَّفع في الحالتين؟
إن تَحوُّل بؤرة اهتمام الاقتصاد المنحاز إلى السوق من الحرية إلى المنفعة حدَثَ مَقابِل بعض الخسارة؛ ألا وهي إغفال القيمة المحورية للحرية ذاتها. وهذه نقطة عرَضها — بوضوح مثير للإعجاب، في إحدى الرسائل — جون هيكس أحد علماء الاقتصاد الرُّواد في القرن العشرين، الذي كان تَوجُّهُه نحو المنفعة أكثر منه نحو الحرية؛ إذ قال في هذا الصدد:
قد تبدو الفكرة غريبة إلى حد ما في سياق التنمية الاقتصادية من حيث الأولوية التي تميل الدراسات الاقتصادية إلى إضفائها بهدف توليد دخول عالية، ووعاء أضخم للسلع الاستهلاكية وغير ذلك من حصاد الذروة، ولكنها أبعد ما تكون عن وصفها بالغرابة. إن واحدة من أهم التغيرات في عملية التنمية في اقتصادات كثيرة تتضمن إبدال العمل القائم على السُّخْرة والعمل القَسري الذي يُعْتَبر من خصائص كثير من النُّظم الزراعية التقليدية، وإحلال نظام العمل التَّعاقُدي الحُر، وحرية التنقل دون قيد. ولا ريب في أن المنظور المَعنِي بالتنمية والمُرتَكز على الحرية يَلتقط على الفور هذه المسألة بحيث لا يكون ثَمَّة مجال لمنظومة تقييمية تُركِّز اهتمامها على حصاد الذروة فقط.
ونذكر كمثال الصورة الواضحة الرائعة التي قدَّمها في. كي. راماخاندران — للأهمية التجريبية لهذه المسألة في الوضع الزراعي المعاصر في جنوب الهند — في دراسته المهمة عن الانتقال من العمل القائم على السُّخْرة إلى العمل المأجور في الهند، يقول:
القيم وعملية التقييم
أعود الآن إلى التقييم؛ حيث إن حرياتنا متنوعة، إذن هناك مساحة للتقييم الصريح عند تحديد الأوزان النسبية لأنماط الحريات المختلفة لتقدير المزايا الفردية والتَّقدُّم الاجتماعي. ونجد عمليات التقييم بطبيعة الحال مُتضمنة في جميع النُّهج (من مثل النفعية، ومذهب الحرية وغيرهما التي سوف نناقشها في الفصل الثالث)، على الرغم من أنها تَرِد في سياق ضمني في الغالب. وإن من يريدون دليلًا ميكانيكيًّا — دون الحاجة إلى إشارة صريحة بشأن القيم المستخدَمة ولماذا نمَا لديهم مَيل إلى التَّذمُّر من أن النَّهج المُرتَكز على الحرية كأساس له — يستلزم أن تكون عمليات التقييم صريحة سافرة. بَيْدَ أنَّني سأدفع بأن الصراحة تمثل رصيدًا مهمًّا لممارسة التقييم، خاصة إذا كان التقييم منفتحًا ويسمح بفحصه وتدقيقه ونقده من قبل الرأي العام. حقًّا إن إحدى أقوى الحجج الداعمة للحرية السياسية تكمُن بالتحديد في الفُرصة التي تُهيِّئها للمواطنين للمناقشة والحوار. وللمشاركة في انتخاب القيم عند اختيار الأولويات (وهو ما سوف نناقشه في الفصول من ٦-٧).
إن الحرية الفردية في جوهرها مُنتَج اجتماعي. وثمة علاقة ذات اتجاهين بين: (١) التنظيمات الاجتماعية لتوسيع نطاق الحريات الفردية، و(٢) استخدام الحريات الفردية ولكن ليس فقط من أجل تحسين حياة كل فرد، بل وأيضًا من أجل النهوض بالتنظيمات الاجتماعية لتكون أكثر ملاءمة وكفاءة. علاوة على هذا، فإن المفاهيم الفردية عن العدالة والآداب الاجتماعية — التي تؤثر في الاستخدامات المحددة للحرية من جانب الأفراد — رَهن ارتباطات اجتماعية؛ إذ تَعتمد بوَجْه خاص على التكوين التفاعلي للتصورات العامة وعلى الفهم الجمعي التعاوني للمشكلات وعلاجها؛ لذلك يتعين أن يكون تحليل وتقييم السياسات العامة حساسًا في إدراك وتناول هذه الروابط المتنوعة.
التراث والثقافة والديمقراطية
ولكن القضية الأهم والأخطر هي تلك التي تتعلق بمصدر السُّلطة والشرعية؛ إذ ثمة مشكلة تقييمية لا فكاك منها نجدها متضمنة عند تقرير ماذا نختار، إذًا ما، وعندما يتبين أن بعض عناصر التراث والتقليد يَتعذَّر الحفاظ عليها مع التغيرات الاقتصادية أو الاجتماعية المطلوبة لأسباب أخرى. وهذا خيار مطروح على الناس المَعنيين وعليهم المواجهة والتقدير. وجدير بالذِّكْر أن الخيار مفتوح وغير مغلق (كما قد يزعم بعض المدافعين عن التنمية) كما أنه ليس خيار الصفوة، «حراس» التقاليد، ومن ثَم هم أصحاب الحق في اتخاذ القرار والحسم (كما يفترض بعض الشكوكيين بشأن التنمية). إنه إذا كان لا بد من التضحية بأسلوب الحياة التقليدية للخلاص من فقر طاحِن أو من خطر يقصف العمر (كما حدث لكثير من المجتمعات التقليدية على مدى آلاف السنين) إذن فإن الناس المعنيين مباشرة بالوضع هم من يجب أن تُتاح لهم فرصة اتخاذ القرار وحسم الخيار. وإن النزاع الحقيقي الواقعي واقع بين الاثنين:
-
(١)
القيمة الأساسية التي يتعين السماح للناس بأن يحسموها ويَتَّخِذوا قرارًا حرًّا بشأنها هي: ما التقاليد التي يريدون، ولا يريدون، الالتزام بها.
-
(٢)
الإصرار على الالتزام بالتقاليد الراسخة (أيًّا كانت هي) أو في المُقابِل يجب على الناس طاعة قرارات السلطات الدينية أو العلمانية المنوط بها فرض تنفيذ التقاليد، حقيقية أو مُتخيَّلة.
تَكمُن قوة القاعدة الأخلاقية السابقة في الأهمية الأساسية للحرية الإنسانية. ونحن ما إن نقرها ونقبلها حتى تظهر دلالات قوية بشأن ما يمكن وما لا يمكن أن نفعله باسم التقاليد. ويؤكد هذه القاعدة الأخلاقية نهج «التنمية حرية».
والحقيقة أن المنظور والتَّوجُّه إلى الحرية يقضيان بأن حرية الجميع — في المشاركة في اتخاذ القرار بشأن أي التقاليد نحافظ عليها ونلتزم بها — هي شأن لا يمكن أن يلغيه السدنة القوميون أو المحليون (سدنة السلطات الدينية أو غيرهم)، ولا أن يلغيها حُكَّام سياسيون، «أو ديكتاتوريون حاكمون»، ولا «خبراء» ثقافيون (محليون أو أجانب)، وإن الإشارة إلى أي نزاع حقيقي بين الحفاظ على التقليد ومزايا الحداثة يستلزم قرارًا قائمًا على المشارَكة، وليس رفضًا من طرف واحد للحداثة دفاعًا عن التقليد؛ سواء صدر هذا الرفض من حكام سياسيين أو سلطات دينية أو هواة أنثروبولوجيون مُعجَبون بتراث الماضي، والمسألة هنا ليست فقط غير مُغْلَقة، بل إنها مفتوحة على مصراعيها للناس جميعًا في المجتمع. لكي يُدْلوا بِدَلْوهم في المعالَجة، ولكي يشاركوا معًا في اتخاذ القرار. ولا ريب في أن أي محاوَلة لتعطيل حق حرية المشاركة تأسيسًا على قيم تقليدية (مثل الأصولية الدينية أو العُرف السياسي أو ما يُسمَّى القيم الآسيوية) إنما هو ببساطة إغفال لقضية الشرعية ولحاجة الناس أصحاب المصلحة في المشاركة من أجل اتخاذ قرار بماذا يريدون وماذا يَقبَلون مدعومًا بالأسباب العقلانية.
وطبيعي أن هذا الاعتراف الأساسي له مَرمًى واضح ومُهِم ودلالات قوية التأثير. إن الإشارة إلى التقليد لا تُشكِّل في ذاتها أساسًا لأي عمليات قَمْع عامٍّ لوسائط الحرية، أو لحقوق الاتصال بين مُواطن وآخَر. وأكثر من هذا، إنه حتى النظرية الغريبة الشائهة عن الكيفية التي كان عليها حقيقة كونفوشيوس المُستبِدِّ المتسلط، وكيف أنها مقبولة بحجة أنها صحيحة تاريخيًّا (وسوف ننتقد هذا التأويل في الفصل العاشر)، إنما هي نظرة لا تُشكِّل أساسًا أو مبررًا ملائمًا لكي يُمارِس أي شخص أسلوبًا تسلطيًّا سواء عن طريق الرقابة أو فرض قيود سياسية؛ ذلك لأن شرعية الالتزام اليوم بمناصرة آراء جرى التعبير عنها في القرن السادس قبل الميلاد إنما يجب أن يقررها ويحسمها من يحيون الآن.
كذلك حيث إن المشارَكة تستلزم تَوافُر المعرفة وقدرًا من المهارات التعليمية، فإن حرمان جماعة ما (إناث الأطفال مثلًا) من فرصة التعليم إنما يعتبر على النقيض مباشرة للشروط الأساسية لحرية المُشارَكة، والمُلاحَظ أن هذه الحقوق كثيرًا ما صادفَت هجومًا (وإن أكثر الهجمات ضراوة جاءت أخيرًا على أيدي زعماء طالبان في أفغانستان) إلا أن هذا الشرط الأَوَّلِي لا يمكن التَّخلِّي عنه أو إغفاله في المنظور ذي التَّوجُّه نحو الحرية. إن نهج التنمية حرية له دلالات بعيدة المدى ليس فقط بالنسبة للأهداف الأخيرة للتنمية، بل وأيضًا بالنسبة للعمليات والإجراءات التي يَتعيَّن احترامها.
ملاحظات ختامية
أن نرى التنمية والتطوير في ضوء الحريات الموضوعة للناس أَمرٌ له دلالاته وتأثيراته بعيدة المدى على فَهْمنا لعملية التنمية وسُبل ووسائل النهوض بها أيضًا. ويَتضمَّن هذا على الجانب التقييمي، الحاجة إلى تقدير وتقييم مُستلزَمات التنمية والتطوير في ضوء إزالة عوائق وقيود الحريات التي يُعاني منها أبناء المجتمع. وحسب هذه الرؤية فإن عملية التنمية والتطوير لا تختلف جوهريًّا عن تاريخ التَّغلُّب على عوائق وقيود الحرية المشار إليها. وإذا كان هذا التاريخ غير مقطوع الصلة على الإطلاق بعملية النمو الاقتصادي وتَراكُم رأس المال المادي والبشري، فإن مَرماه ونِطاقه يَتجاوز كثيرًا هذه المُتغيِّرات.
ونحن إذ نركز على الحريات عند تقييمنا للتنمية، فليس معنى هذا أن ثمة «معيارًا» فريدًا ومحدَّدًا للتنمية والتطوير والذي على أساسه نُقارِن ونُحدِّد مرتبة الخبرات التنموية والتطويرية الأخرى. وإذا سَلَّمنا بعدم تجانس المكونات المتمايزة للحرية، وكذا الحاجة إلى إدراك تبايُن الحريات بتبايُن الأشخاص، فإننا غالبًا ما سوف نُواجِه حججًا تمضي في اتجاهات متناقضة. وحَرِي أن يكون واضحًا أن الحافز الذي يُشكِّل أساسًا لنهج «التنمية حرية» ليس هدفه ترتيب جميع الدول — جميع السيناريوهات البديلة — في «تنظيم مُتدرِّج كامل». وإنما الهدف لَفْتُ الانتباه إلى جوانب مهمة لعملية التنمية، وبيان أن كُلًّا من هذه الجوانب قَمِين وحده بالاهتمام. ومع هذا، وبَعْد أن نُولِي هذه الجوانب جميعها ما تستحقه من اهتمام. سوف تظل هناك بعض الاختلافات من حيث التصنيف الشامل المحتمل. بَيْدَ أنَّ وجود هذه الاختلافات لا يعقد الهدف المنشود الآن.
إن ما من شأنه أن يكون ذا أثر مُدمِّر — الذي غالبًا ما نلمسه في أدبيات التنمية — هو إغفال اهتمامات محورية وثيقة الصلة بسبب قصور الاهتمام بحريات الناس المعنيين؛ لهذا نلتمس نظرة رحبة وعامة بما فيه الكفاية عن التنمية بحيث نركز جهود الفحص التقييمي على أمور مهمة حقيقة، لكي نتجنب خصوصًا إسقاط موضوعات لها أهمية محورية. وإذا كان جميلًا أن نرى أن وضع المتغيرات وثيقة الصلة موضع الاعتبار من شأنه تلقائيًّا أن يسلم الناس على اختلاف مشاربهم إلى النتائج نفسها بالدقة، والتحديد، المتعلقين بكيفية تصنيف السيناريوهات البديلة، إلا أن النهج المستخدم هنا لا يلتزم مثل هذا الإجماع كشرط ضروري. والحقيقة أن الحوارات الدائرة بشأن هذه الأمور والتي يمكن أن تفضي إلى دراسات سياسية مهمة يمكن أن تكون جزءًا من عملية المشاركة الديمقراطية المميزة للتنمية. وسوف تُهيأ لنا مناسبة — فيما بعد — ضمن هذا الكتاب لدراسة وفحص قضية المشاركة ذات الطابع الجوهري باعتبارها جزءًا من عملية التنمية والتطوير.
(1) Equality of What? In Tauner Lectures on Human Values, vol. 1, 1985.
(2) Choice, Welfare and Measurement, Oxford: Blackwell, 1982.
Kevin J. Lancaster, A New Approach to Consumer Theory, Journal of Political Economy, 74, (1996).