الثقافة وحقوق الإنسان
اكتسبت فكرة حقوق الإنسان في السنوات الأخيرة قدرًا كبيرًا من الدعم والتأييد، وأضحى لها ما يشبه المكانة الرسمية في الخطاب الدولي. وتلتقي بانتظام لجان لها تقديرها واحترامها للتباحث بشأن الالتزام بحقوق الإنسان أو انتهاكها في مختلف بلدان العالم. ويحظى خطاب حقوق الإنسان الآن يقينًا بقبول على أوسع نطاق — أكثر مما كانت عليه الحال في الماضي — ويبدو على الأقل أن لغة الاتصال على الصعيدين القومي والدولي تعكس تحولًا في الأولويات، ومناط التأكيد إذا ما قورنت بالأسلوب الجدلي الذي كان سائدًا منذ بضعة عقود، وأصبحت حقوق الإنسان أيضًا جانبًا مهمًّا في أدبيات التنمية والتطوير.
ومع هذا فإن الانتصار الواضح لفكرة واستخدام حقوق الإنسان يتعايش مع قدر من نزعة الشك الحقيقية تتردد داخل أوساط متشددة في نقدها بشأن مدى عُمق وتَلاحُم هذا النهج. ويدور الشك حول إمكان توافر قدر من السذاجة بشأن إجمالي البنية المفاهيمية التي يرتكز عليها خطاب حقوق الإنسان.
ثلاثة أنواع من النقد
ما هي إذن المشكلة في ظاهرها؟ أحسب أن هناك ثلاثة اهتمامات متمايزة يبني حولها النقاد الصرح الفكري لحقوق الإنسان. هناك أولًا القلق من أن حقوق الإنسان تخلط بين منظومات قانونية تعطي الناس بعض الحقوق المحددة جيدًا ومبادئ سابقة على التشريع لا يمكنها أن تعطي المرء حقًّا قابلًا للنظر فيه أمام العدالة. وهذه هي قضية مشروعية مطالبات حقوق الإنسان: كيف يمكن أن يكون لحقوق الإنسان أي مكانة إلا من خلال الاستحقاقات التي تجيزها الدولة باعتبارها السلطة الشرعية الأخيرة؟ وترى هذه النظرة أن البشر بالطبيعة لا يولدون بحقوق الإنسان، وهم في هذا شأنهم شأن ولادتهم عراة بغير ملابس. ومن ثم يَتعيَّن اكتساب الحقوق عن طريق التشريع تمامًا، مثلما نكتسب ملابسنا عن طريق التفصيل والخياطة. ولا توجد ملابس جاهزة مسبقًا مثلما لا توجد حقوق سابقة على التشريع. وسوف أُسمِّي هذا النهج الهجومي نقد الشرعية.
يتعلق خط الهجوم الثاني بالشكل الذي تتخذه أخلاق وسياسة حقوق الإنسان. الحقوق حسب هذا الرأي استحقاقات تستلزم واجبات مرتبطة بها. إذا كان للشخص «أ» حق في شيء من «س» إذن لا بد من وجود عنصر فاعل ما، وليكن «ب»، وعليه واجب تزويد «أ» بحاجته من «س». وإذا لم يكن ثمة اعتراف بهذا الواجب فإن الحقوق المشروعة حسب هذه النظرة لن تكون سوى خواء. ويرى أصحاب هذا الرأي أن هذا يفرض مشكلة هائلة تتعلق بإمكان اعتبار حقوق الإنسان حقوقًا أصلًا. وتمضي الحجة قائلة، كل هذا قد يكون جميلًا جدًّا؛ إذ نقول إن لكل إنسان حقًّا في الغذاء أو الطب، ولكن ما لم تتحدد خصائص واجبات مميزة للعنصر الفاعل، فإن هذه الحقوق لن تعني كثيرًا في واقع الأمر. وحسب هذا الفهم فإن حقوق الإنسان مشاعر تثير حمية وحماسًا، ولكنها أيضًا إذا شِئنَا الدقة، متنافرة. وتأسيسًا على هذه النظرية فإن الأفضل ألا نعتبر هذه الدعاوى حقوقًا، بل بمنزلة احتقان في الزور. وسوف أسمي هذا الخط نقد الاتساق المنطقي.
الخط الثالث لنزعة الشك لا يأخذ بالدقة شكلًا قانونيًّا أو مؤسسيًّا وإنما يرى حقوق الإنسان عنصرًا في نطاق الأخلاق الاجتماعية. وتقضي هذه النظرية بأن السلطة الأخلاقية لحقوق الإنسان مشروطة بطبيعة الأخلاق التي يمكن قبولها. ولكن هل هذه الأخلاق حقيقة كونية شاملة؟ ماذا لو أن بعض الثقافات لم تعتبر الحقوق أمرًا ذا قيمة مميزة بالمقارنة بقيم أو سجايا أخرى تحظى بالإعجاب؟ والملاحَظ أن الجدل بشأن مدى حقوق الإنسان إنما نبع في الغالب من مثل هذه الأنواع من النقد الثقافي. ولعل أبرزها يرتكز على فكرة الشك المزعوم من جانب القيم الآسيوية تجاه حقوق الإنسان. إن حقوق الإنسان لكي يكون لها ما يبررها تستلزم الشمول الكلي. ولكن النقاد يدعون أن ليست هناك قيم كونية شاملة على هذا النحو. وسوف أسمي هذا النهج النقد الثقافي.
نقد الشرعية
نقد الشرعية له تاريخ طويل، وأخذ صورًا مختلفة على أيدي كثيرين من المتشككين في الاستدلال المنطقي المبني على أساس الحقوق بشأن القضايا الأخلاقية. وهناك أَوجُه تماثُل مهمة مثلما هناك أوجه اختلاف بين الصور المختلفة لهذا النقد. هناك من ناحية إصرار كارل ماركس على أن الحقوق تسبق واقعيًّا (ولا تتبع) تأسيس الدولة. وعبَّر عن هذا في كُتيب تضمن سجالًا قويًّا تحت عنوان «عن المسألة اليهودية». وهناك، من ناحية أخرى، الأسباب التي قدمها جيرمي بنتام عند وصفه «الحقوق الطبيعية بأنها هُراء». وأن مفهوم الحقوق الطبيعية التي لا يجوز انتزاعها ما هو إلا «هراء على عكازين». ولكن يشترك مع هذين الخطين النقديين — ومع كثير غيرهما — إصرار على أن ننظر إلى الحقوق من حيث وضعها بعد التكوين المؤسسي باعتبارها أدوات وليست استحقاقات أخلاقية قبلية. ويَتحدَّى هذا الرأي بأسلوب جوهري الفكرة الأساسية عن أن حقوق الإنسان كونية شاملة.
يقينًا إننا إذا أخذنا الدعاوى الأخلاقية السابقة على التشريع باعتبارها كيانات تشريعية تُعبِّر عن طموح الإنسان، فسوف يكون عسيرًا النظر إليها كحقوق يمكن الدفاع عنها أمام المحاكم وغيرها من المؤسَّسات المنوط بها التنفيذ. ولكن رفض حقوق الإنسان — تأسيسًا على هذه الحجة — يعني إسقاط جانِب الممارَسة. إن مطلب الشرعية ليس أكثر من أن مطلبًا ما تبرره الأهمية الأخلاقية للاعتراف بأن حقوقًا مُعيَّنة هي استحقاقات ملائمة لجميع البشر. ويمكن حسب هذا المعنى أن تُمثِّل حقوق الإنسان الدعاوى والقوى والحصانات (وغير ذلك من أشكال الضمانات المقترنة بمفهوم الحقوق) التي تدعمها الأحكام الأخلاقية التي ترى في هذه الضمانات والمبررات أهمية أصيلة وجوهرية.
ويمكن أيضًا أن تتجاوز حقوق الإنسان نطاق الممكن مقابل الفعلي من الحقوق الشرعية. إن الحق الإنساني يمكن إثارته بقوة في سياقات كثيرة، حتى إن بدا أن فرض تنفيذه قانونيًّا غير ملائم. إن الحق الأخلاقي للزوجة في أن تشارك مشاركة كاملة وندِّية في قرارات الأسرة ذات الأهمية — مهما كان زوجها متحيزًا إلى نفسه — يمكن أن يعترف به كثيرون ممن لا يشترطون، على الرغم من هذا، إقرارًا شرعيًّا لهذا الشرط وإنفاذه على أيدي الشرطة. مثال آخَر هو «حق الاحترام»؛ إذ نجد مسألة تشريعه ومحاوَلة فرضه مسألة إشكالية، بل ومُحيِّرة.
ولعل الأفضل في الحقيقة اعتبار حقوق الإنسان مجموعة من الدعاوى الأخلاقية التي يَتعيَّن ألا نطابق بينها وبين الحقوق الشرعية المُقرَّرة بتشريع. ولكن حَرِي بهذا التفسير المعياري ألا يطمس جدوى فكرة حقوق الإنسان داخل نوع السياق الذي تبرز فيه. إن الحريات المقترنة بحقوق بذاتها يمكن أن تكون هي بؤرة الاهتمام أثناء الحوار. ويتعين علينا أن نحكم على حقوق الإنسان باعتبارها منظومة حجج أخلاقية وأساسًا لمطالبات سياسية.
نقد الاتساق المنطقي
أنتقل الآن إلى النقد الثاني: ما إذا كان في الإمكان أن نَتحدَّث حديثًا منسقًا منطقيًّا عن الحقوق دون تحديد مَن عليه ضمان الوفاء بالحقوق. ثَمَّة في الحقيقة نَهْج رئيسي في تناوُل الحقوق يؤمن بأن الحقوق لا سبيل إلى صياغتها على نحو معقول إلا في ترابُط مع الواجبات المتداخلة؛ إذ يجب أن نزاوج حق الشخص في شيء ما، بواجب عنصر فاعل آخَر لتزويد الأول بهذا الشيء. والملاحَظ أن من يصرون على الرباط الثنائي ينزعون إلى أن يكونوا بعامة نقديين للغاية إزاء إثارة خطاب «الحقوق» في «حقوق الإنسان»، من دون تحديد دقيق مميز للعناصر الفاعلة المسئولة ولواجباتهم التي يَتعيَّن عليهم أداؤها لإنجاز هذه الحقوق. معنى هذا أن المطالبات بحقوق الإنسان ما هي في نظرهم إلا حديث طليق.
ومع هذا فإن بالإمكان مقارنة الدعوى بأن أي استخدام للحقوق، باستثناء الاستخدام المقترن برباط مشترك مع التزامات كاملة، إنما تعوزه الفعالية. والملاحظ في سياقات قانونية كثيرة أن هذه الدعوى ربما تكون لها ميزة ما، غير أن الحقوق في المناقشات المعيارية غالبًا ما تأخذ صورة استحقاقات أو قوى أو حصانات من الخير أن تتوافر للناس. ونحن نرى حقوق الإنسان باعتبارها حقوقًا مشتركة بين الجميع — بغض النظر عن المواطَنة — وأن من حق كل فرد أن يحظى بمنافعها. وإذا لم يكن من الواجبات المحدَّدة على أي فرد أن يتأكد من أن المرء أُوفِيَت حقوقُه، فإن في الإمكان توجيه الدعاوى إلى جميع من هم في وضع يسمح لهم بالمساعدة. والحقيقة أن عمانويل كانط نفسه وصف هذه المطالَبات العامة بأنها «التزامات ناقصة» ومضى إلى حد مناقَشة مدى صلتها الوثيقة بالحياة الاجتماعية. والدعاوى مُوجَّهة بعامة إلى أي امرئ قادر على المساعدة، حتى إن لم يكن هناك أي شخص أو ذات فاعلة منوط بها الوفاء بالحقوق المعنية.
ولكن إذا صِيغَت الحقوق على هذا النحو؛ فإن في الإمكان أحيانًا أن تظل من دون تَحقُّق. ولكن في إمكاننا يقينًا أن نُميِّز بين حق يتمتع به شخص دون أن يتم الوفاء به، وحق لشخص محروم منه. وأخيرًا فإن التأكيد الأخلاقي لحق ما إنما يتجاوز قيمة الحرية المقابلة فقط إلى المدى الذي تكون فيه بعض المطالَبات مُلقاة على عاتِق آخرين ولن يحاولوا بَذْل المساعدة. وإذا كان في إمكاننا أن نتعامل جيدًا مع لغة الحرية دون الحقوق (والواقع أن لغة الحرية هي التي أحرص عليها في كتابي، التنمية حرية)؛ فسوف يكون لدينا أحيانًا المبرر لكي نقترح أو نطلب أن يساعد الآخرون على إنجاز الحرية المعنية هنا موضوع الحديث. معنى هذا أن لغة الحقوق يمكن أن تكمل لغة الحرية.
النقد الثقافي والقيم الآسيوية
الخط الثالث للنقد ربما يكون أكثر إثارة وإغراء، وقد حظي بالفعل بمزيد من الاهتمام. هل فكرة حقوق الإنسان حقيقة فكرة كونية شاملة؟ ألا توجد أخلاق، مثل ما في الثقافات الكونفوشية العالمية، تنزع إلى التركيز على النظام والانضباط أكثر من الحقوق، وعلى الولاء أكثر من الاستحقاق؟ والمُلاحَظ أنه بقدر ما تشتمل حقوق الإنسان على دعاوى للحرية السياسية والحقوق المدنية ظهرت تواترات مزعومة انطلقت بخاصة من قبل مفكرين آسيويين.
أثير موضوع طبيعة القيم الآسيوية كثيرًا خلال السنوات الأخيرة بهدف توفير مبرر للتنظيمات السياسية التسلطية في آسيا. إن هذه التبريرات للنزعة التسلطية لم تصدر تحديدًا عن مؤرخين مستقلين، بل من السلطات نفسها (على لسان الرسميين أو المتحدثين باسمهم) أو ممن هم وثيقو الصلة بأصحاب السلطان. غير أن آراءهم متسقة منطقيًّا مع أساليبهم في حكم الدول، ومع الرغبة في التأثير في العلاقة بين بلدان مختلفة.
هل القيم الآسيوية نقيض — أو لا مبالية ﺑ — الحقوق السياسية الأساسية؟ غالبًا ما نرى مثل هذه التعميمات، ولكن هل تدعمها براهين؟ واقع الحال أن التعميمات بشأن آسيا ليست أمرًا يسيرًا خاصة في ضوء حجمها. إن آسيا يسكنها ٦٠ في المائة من إجمالي سكان العالم. ومن ثم ما الذي يمكن اعتباره قيمًا سائدة في هذا الإقليم الواسع بهذا القدر من التنوع؟ لا توجد قيم جوهرية تنطبق على كل هذه الأعداد الضخمة المتغايرة من السكان، ولا شيء يفصلهم ويميزهم كجماعة مختلفة عن بقية العالم.
ويمكن للثقافات والتقاليد أن تتداخل عَبْر الأقاليم من مثل شرق آسيا، بل وداخل البلدان مثل اليابان أو الصين أو كوريا؛ ولهذا فإن محاولات التعميم عند الحديث عن «القيم الآسيوية» هي ضرب من التبسيط المفرط. وأكثر من هذا، فإن سكان سنغافورة وتعدادهم ٢٫٨ مليون نسمة، بينهم تنويعات ثقافية وتباينات في التقاليد التاريخية. حقًّا إن سنغافورة لها سِجِلٌّ يثير الإعجاب في ترسيخ التعايش الودي بين الطوائف.
الغرب المعاصر ومزاعم التفرد
خطوط التفكير التسلطي في آسيا — وبوجه عام في المجتمعات غير الغربية — غالبًا ما تلقَى تأييدًا غير مباشر من أنماط فكر داخل الغرب ذاته. وهناك ميل واضح في أمريكا وفي أوروبا إلى افتراض، حتى إن كان ضمنيًّا، أسبقية الحرية السياسية والديمقراطية كقسمة أساسية وعريقة في الثقافة الغربية، وهذه ميزة ليس من السهل أن نجد لها مثيلًا في آسيا. إننا هنا الآن، مثلما كانت الحال في الماضي، إزاء مُفاضَلة بين النزعة الاستبدادية الموجودة ضمنًا في الكونفوشية كمثال، مقابل احترام الحرية الفردية والاستقلال الذاتي المزعوم أنهما راسخان في أعماق الثقافة الليبرالية الغربية. وغالبًا ما يعتبر الغربيون أنصار النهوض بالحرية الشخصية والسياسية الغربية وتطبيقها في العالم غير الغربي أن دعوتهم هذه محاولة لغرس القيم الغربية في آسيا وأفريقيا. وها هنا يغدو العالم مدعُوًّا إلى الانضمام إلى نادي «الديمقراطية الغربية» وإلى أن يبدي إعجابه ومناصرته «للقيم الغربية» التقليدية.
ورغبة منا في توضيح هذه النقطة، لنتأمل معًا فكرة أن الحرية الشخصية مهمة للجميع من أجل خير المجتمع. هذه الدعوى تبدو مؤلفة من عنصرين متمايزين: (١) قيمة الحرية الشخصية: بمعنى أن الحرية الشخصية مهمة ويتعين كفالتها لمن «يعنيهم أمر» مجتمع خير. (٢) مساواة الحرية: كل امرئ يعنيه الأمر ومن ثم يجب ضمان الحرية المكفولة لشخص ليحظى بها الجميع. وهاتان النقطتان معًا تستلزمان الإيمان بضرورة ضمان الحرية الشخصية على أساس مشترك يتقاسمه الجميع. وكتب أرسطو وأفاض في الحديث عن دعم القضية الأولى ولكنه استثنى المرأة والعبيد، وبهذا تخلَّى عن الدفاع عن القضية الثانية. والحقيقة أن الدعوة إلى المساواة بهذه الصورة دعوة حديثة النشأة. والملاحَظ حتى في مجتمع مقسَّم على أساس من الطبقات والطوائف، يمكن فيه النظر إلى الحرية باعتبارها أمرًا ذا قيمة كبيرة يحظى بها الأقلية المتميزون (مثل الماندارين [الصفوة من الإداريين في الصين القديمة]، أو البرهمانيين) شأن الحال بالنسبة إلى الحرية وتقييم غير العبيد لها من الرجال في المفاهيم الإغريقية المقابلة عن المجتمع الخيِّر.
وهناك تمييز آخر مفيد بين: (١) قيمة التسامح: حيث يتعين التسامح بين مختلف العقائد والالتزامات والأعمال لجميع الناس على اختلافهم، و(٢) المساواة في التسامح: بمعنى ما يحظى به البعض من تسامُح يتعيَّن عقلًا أن يحظى به الجميع (إلا إذا كان التسامح عند البعض سيُفضي إلى تَعصُّب مع آخَرِين). ونعود لنقول إن الحجج الداعية إلى بعض التسامح يمكن أن نجد لها مثيلًا بوفرة في الكتابات الغربية الباكرة، ولكن دون أن يكتمل هذا التسامح بالدعوة إلى المساواة في التسامح؛ ولهذا فإن جذور الأفكار الديمقراطية والليبرالية الحديثة يمكن أن نلتمسها من حيث هي عناصر تكوينية وليست كل البنية.
وإن السؤال الذي يَتعيَّن أن نسأله عن عمل دراسة مقارنة هو ما إذا كانت هذه العناصر التكوينية يمكن أن نلتمسها في الكتابات الآسيوية على نحو ما التمسناها في الفكر الغربي. ويجب ألا نخلط بين وجود هذه العناصر مع انعدام أو افتقار النقيض، أعني الأفكار والمعتقَدات التي ترفض بوضوح تأكيد الحرية والتسامح. إن الدعوة إلى مناصرة النظام والانضباط يمكن أن نجدها في الكلاسيكيات الغربية أيضًا؛ ولهذا ليس واضحًا لي في الحقيقة أن كونفوشيوس أكثر استبدادية في هذا المجال من أفلاطون أو القديس أوجسطين كمثال. وليست القضية الأساسية هنا ما إذا كانت هذه الأطر المناهضة للحرية موجودة حاضرة في التراث الآسيوي على تنوعه، بل ما إذا كانت الأطر الهادفة إلى الحرية غائبة هناك.
ها هنا يصبح تنوُّع منظومات القيم الآسيوية أمرًا محوريًّا، وهي المنظومات التي تجسد التنوع الإقليمي وإن تعالت عليه. ولعل المثال الواضح هنا هو دور البوذية كصيغة للفكر. يولي التراث البوذي أهمية كبرى للحرية، كما أن الجانب الأقدم من التفكير النظري الهندي، الذي ينتمي إليه الفكر البوذي، يفسح مجالًا واسعًا للإرادة وللاختيار الحر. إن نبالة السلوك تتحقق في سياق الحرية، بل إن الأفكار عن التحرير (من مثل موكشا) لها هذه القسمة المميزة. وطبيعي أن وجود هذه العناصر في الفكر البوذي لا يطمس النظام المنضبط والمتراتب بالنسبة إلى آسيا والذي أكدته الكونفوشية. بيد أننا نخطئ إذا قلنا إن الكونفوشية هي تراث آسيا الوحيد، حتى داخل الصين نفسها. وحَرِي أنْ نُؤكِّد هذا التنوع ما دام التفسير المعاصر للطابع الاستبدادي للقيم الآسيوية يتركز على الكونفوشية.
تأويلات كونفوشيوس
آشوكا وكوتيليا
كانت أفكار كونفوشيوس أكثر تعقيدًا وإمتاعًا للعقل من الحِكم والأقوال المأثورة التي تجري على الألسن باسمه. وهناك أيضًا مَيْل نحو إغفال غيره من الكُتَّاب الذين عرَفَتْهم الثقافة الصينية، وإلى تجاهُل الثقافات الصينية الأخرى. إننا إذا ما اتجهنا إلى التراثات الهندية نستطيع أن نرى في واقع الأمر عديدًا من الآراء عن الحرية والتسامح والمساواة. ولعلنا نجد أهم صياغة عن ضرورة الحرية على أساس من العدالة والمساواة في كتابات الإمبراطور آشوكا. وهذا هو الإمبراطور الذي ترأس في القرن الثالث ق.م. إمبراطورية هندية أكبر من أي مملكة لملك هندي آخر (بما في ذلك المغول بل وراج ناهيك عن الولايات المحلية التي تركها البريطانيون على وضعها). أبدى آشوكا اهتمامًا كبيرًا بالأخلاق العامة والسياسات المستنيرة بعد أن رَوَّعَتْه الأشلاء التي شاهدها في معركته المظفرة ضد مملكة كالينجا (وهي الآن أوريسا). وتحول إلى البوذية ولم يكتف بالعمل على تحويلها إلى ديانة عالمية، بل أرسل البعوث التبشيرية إلى خارج الهند حاملين رسالة بوذية إلى الشرق وإلى الغرب. وعمد أيضًا إلى تغطية جدران البلاد بنقوش حجرية تصف أشكال الحياة الطيبة وطبيعة الحكم الصالح.
يجب على المرء ألا يُبجِّل طائفته هو أو يحط من قدر طائفة أخرى دون سبب. إن الانتقاص من قدر أحد حَرِي أن يكون لسبب مُحدَّد فقط؛ ذلك لأن طوائف الآخرين تستحق التبجيل لسبب أو لآخر.
ونجد تأكيد التسامح في هذه المراسيم منذ القرن الثالث ق.م. والحديث مُوجَّه للحكومة ليكون سياسة عامة، وليكون كذلك نصيحة لكيف يكون سلوك المواطنين بعضهم مع بعض.
وجدير بالذِّكْر أن آشوكا كان عالميًّا في نظرته إلى إطار ومضمار التسامح، وطالَب بالتسامح للجميع ومع الجميع، بما في ذلك مَن وصفهم بقوله «شعب الغابات»؛ أي القبائل التي تعيش على نظام اقتصادي سابق على عصر الصناعة. وربما يرى بعض المُعلِّقين أن مناصرة آشوكا للتسامح العالمي القائم على المساواة دعوة غير آسيوية، بَيْدَ أنَّ آراءه ضاربة بجذورها في نهج تحليلي رائج في الدوائر الفكرية التي عرفتها الهند خلال قرون سابقة.
ولعل من المهم أن ننظر في هذا السياق إلى مُفكِّر هندي آخَر صاحب «رسالة عن الحكم والاقتصاد السياسي»، وكان لفكره نفوذ عميق وأهمية كبرى. وأشير هنا إلى كوتيليا مؤلف «آرثا شاسترا»، التي يمكن ترجمتها إلى «علم الاقتصاد»، وإن كانت الدراسة مَعنِيَّة بالسياسة العملية وبعلم الاقتصاد معًا. وكان كوتيليا معاصرًا لأرسطو في القرن الرابع ق.م. وشغل منصبَ كبير وزراء الإمبراطور شاندرا جوبتا موريا، إمبراطور جد آشوكا، الذي أسس إمبراطورية موريا الشاسعة التي امتدت عبر أرجاء شبه القارة الهندية.
التسامح في الإسلام
ناقشتُ تَوًّا ببعض التفصيل الأفكار السياسية والأسباب العلمية في عرضين قويين، ولكنهما مختلفان تمامًا، عرَفَتْهما الهندُ في القرنين الرابع والثالث ق.م. على التوالي. وسبب اختياري أن لأفكارهما تأثيرها الممتد في الكتابات الهندية بعد ذلك. ولكن لنا الحق في أن نُلقي نظرة إلى الكثير من الكتابات الأخرى. وأذكر أن من أهم الشارحين والممارسين لمعنى التسامح مع التنوع في الهند الإمبراطور المغولي العظيم أكبر، الذي حكم ما بين عامي ١٥٥٦م و١٦٠٦م. وأعود لأقول نحن هنا لا نتعامل مع ديمقراطي بل مع ملك قوي أكَّد قبول الأشكال المتنوِّعة للسلوك الاجتماعي والديني، وقَبِل حقوق الإنسان بأنواعها المختلفة، بما في ذلك حرية المِلكية وحرية الممارسة الدينية، وهي حريات لم يكن يسيرًا التسامح معها في أوروبا في زمن أكبر.
نذكر على سبيل المثال أنه بحلول عام ١٠٠٠ هجرية، أو ١٥٩١-١٥٩٢م ميلادية، حدثت بعض الإثارة بشأن التقويم في دِلْهي وأجرا (ليس مثل ما يجري الآن مع اقتراب العام ٢٠٠٠ من التقويم المسيحي). أصدر أكبر قوانين عدة مع حلول هذا المنعطف التاريخي، وركَّزَت هذه القوانين من بين أمور أخرى، على التسامح الديني، بما في ذلك ما يلي:
لا يحق لأي امرئ التدخل في تفسير الدين، وإن من حق أي إنسان أن يعتنق الدين الذي يرضاه.
وأعود لأقول إذا كان نطاق التسامح محايدًا بالنسبة إلى الدين؛ فإنه لم يكن كليًّا شاملًا بالنسبة إلى النواحي الأخرى، بما في ذلك المساواة بين الجنسين أو المساواة بين الشباب والشيوخ. استطرد التشريع إلى الدفاع عن الإعادة القسرية لفتاة هندوسية هجرت أسرة أبيها لتلحق بعشيقها المسلم. والملاحَظ أنه عند الاختيار بين مساندة العاشقَيْن الشَّابَّيْن والهندوسي أبي الفتاة، فإن عواطف أكبر المُسِن كانت مع الأب تمامًا. إن التسامح والمساواة عند مستوى مُعيَّن يلتقيان بعدم التسامح وعدم المساواة عند مستوى آخر. ولكن مدى التسامح العام في شئون العقيدة والممارَسة الدينية يبدو واضحًا جليًّا للغاية. وقد يكون ملائمًا في هذا السياق، خاصة في ضوء الإصرار على الحديث عن «الليبرالية الغربية» الإشارة إلى أن أكبر طبَّق سياساته وأفكاره هذه في وقت كانت محاكم التفتيش في عنفوانها في أوروبا.
وجدير بالملاحظة، ونحن نُعايش خبرة المعارك السياسية المعاصرة، خاصة في الشرق الأوسط، أن الحضارة الإسلامية كثيرًا ما يُصوِّرها البعض على أنها غير متسامحة في جوهرها وأساسها ومعادية للحرية الفردية. ولكن يصدق على الإسلام ما قلناه بشأن وجود التنوع والاختلاف والتعدد داخل تراث ما. إن أكبر وغالبية المغول الآخَرِين في الهند يُقدِّمون أمثلة جيدة على التسامح السياسي والديني في كل من النظرية والتطبيق. ويمكن أن نجد أمثلة مشابهة في أجزاء أخرى من الثقافة الإسلامية. فقد كان الأباطرة الأتراك أكثر تسامحًا في غالب الأحيان من معاصريهم الأوروبيين. ونجد أمثلة كثيرة جدًّا دالة على هذا في بغداد وفي القاهرة. وأكثر من هذا فإن الفيلسوف اليهودي مايمونيد في القرن الثاني عشر اضطر إلى الهرب من أوروبا المتعصبة (موطن بلاده) ومن اضطهادها لليهود إلى أمن وأمان حاضرة القاهرة المتسامحة؛ ليعيش في رعاية السلطان صلاح الدين.
ونذكر بالمِثْل عالِم الرياضيات البيروني، الذي ألَّف أول كتاب عام عن الهند في مطلع القرن الحادي عشر (علاوة على ترجمة رسائل رياضية هندية إلى العربية)؛ إذ يُعْتَبر واحدًا من أوائل المفكِّرِين الأنثروبولوجيين في العالم. تحدَّث البيروني واحتج ضد واقع «الحط من قدر وقيمة الأجانب … الشائع في نظرة كل الأمم تجاه بعضها البعض». ونذر القسط الأكبر من حياته من أجل غرس وتعزيز التفاهم والتَّسامح المتبادَلَين في عالم القرن الحادي عشر.
وكم هو يسير أن نذكر الكثير من الأمثلة، ولكن مناط الحديث وما نريد أن نبرزه هو أن المُدافعِين في العصر الحديث عن النظرة الاستبدادية في «القيم الآسيوية» إنما يبنون قراءتهم على أساس تأويلات تعسفية للغاية، واختيارات محدودة إلى أقصى حدٍّ من بين موضوعات التراث والكتاب. إن اعتبار الحرية قيمة ليس أمرًا مقتصرًا على ثقافة واحدة فقط دون سواها، وإن التراث الغربي على اختلاف أشكاله ليس التراث الوحيد الذي يهيئنا لاتباع نهج قائم على الحرية من أجل إنجاز فَهْم لحياتنا الاجتماعية.
العولمة: الاقتصاد والثقافة والحقوق
قضية الديمقراطية لها أيضًا تأثيرها الوثيق في موضوع ثقافي آخَر صادَف أخيرًا قدرًا من الاهتمام له ما يبرره. وتتعلق هذه القضية بالسُّلطة الطاغية للثقافة الغربية ولأسلوب الحياة الغربي، ودورها في تقويض نماذج تقليدية للعيش وللأخلاق الاجتماعية. ويُمثِّل هذا الأمر في نظر كل مَن تعنيه قيمة التراث وطُرُز الثقافة الأصلية خطرًا حقيقيًّا.
إن الخطر الذي يتهدد الثقافات الوطنية في عالم اليوم الآخذ في التَّعَولُم خَطرٌ لا فكاك منه إلى حدٍّ كبير. والحل الوحيد غير المتاح هو إيقاف عولمة التجارة والاقتصاد؛ حيث إن قُوى التبادل الاقتصادي وتقسيم العمل من الصعب مقاومتها في عالِم مُتنافِس يُؤجِّجُه تَطوُّر تقني شامل يهيئ للتقانة الحديثة حدًّا تنافسيًّا اقتصاديًّا.
هذه مشكلة، ولكنها ليست مجرد مشكلة فقط؛ حيث إن التجارة والاقتصاد العالميين يمكن أن يقترِنَا — كما تنبأ آدم سميث — برخاء اقتصادي أكبر لكل أمة من الأمم. ولكن يمكن أن يكون هناك خاسرون وفائزون حتى إن كان صافي إجمالي الأرقام صاعدًا غير نازل. والملاحَظ في نطاق التفاوتات الاقتصادية أن الاستجابة الصحيحة لا بد أن تتضمن جهودًا متضافرة لجعل شكل العولمة أقل تدميرًا للعمالة وللحياة التقليدية وتحقيق انتقال تدريجي. وحتى تكون عملية الانتقال سلسة يتعين أن تتوافر فُرص لإعادة التدريب واكتساب مهارات جديدة «لأولئك الذين سيفقدون أعمالهم من دون ذلك». هذا علاوة على توفير شبكات الأمن الاجتماعي (في شكل ضمان اجتماعي وغير ذلك من تنظيمات داعمة) التي أضيرت مصالحهم — على المدى القصير على الأقل — بسبب التغيرات الناجمة عن العولمة.
- أولًا: إن عالَم الاتصالات والتبادلات الحديث يستلزم توافُر تعليم أساسي وتدريب. ونحن نجد بعض البلدان الفقيرة في العالم حقَّقتْ تقدمًا رائعًا في هذا المجال (بلدان شرق وجنوب شرق آسيا تعتبر أمثلة جيدة على هذا). ولكن بلدانًا أخرى (مثل بلدان جنوب آسيا وأفريقيا) آخذة في التَّخلُّف بفارق كبير. وطبيعي أن المساواة في الفُرص الثقافية، وكذلك في الفُرص الاقتصادية مهمة للغاية في عالم مُتَعولِم. وهذا تحدٍّ مشترَك أمام العالَمَين الاقتصادي والثقافي.
- القضية الثانية مختلفة تمامًا: وتباعد المشكلة الثقافية عن الوضع الاقتصادي؛ إذ الملاحَظ أنه حين يحدث توفيق للأوضاع الاقتصادية، فإن الناس يذرفون دموعًا قليلة على طُرق الإنتاج التي جرى تجاوُزها والتِّقانة التي ولَّى عهدها. ربما يكون ثَمَّة قَدْر من الحنين لموضوعات مُتخصِّصة وممتازة الأداء (مثل قاطرة تجارية قديمة أو ساعة حائط من طراز قديم). ولا ريب في أن الآليات القديمة البالية ليست مطلوبة لذاتها بوجهٍ عام. ولكن الوضع مختلف في حالة الثقافة؛ ذلك أن التقاليد التراثية البالية يمكن أن يفتقدها الناس إلى حدٍّ كبير. إن الوضع هنا يشبه قليلًا انقراض الأنواع الأقدم من الحيوانات، ذلك أن اختفاء الأنواع القديمة لمصلحة أنواع «أكثر صلاحًا وملاءمة» وقدرة «على نحو أفضل» أن تواجه وأن تتكاثر يمكن أن يكونَا سببين للأسف. كما أن الأنواع الجديدة «الأفضل»، حسب نظرية المقارَنة الداروينية، ليست عزاءً كافيًا.١٧
التَّبادُل الثقافي والاعتماد المتبادَل الشامل
وإذا كان هناك بعض الخطر من إغفال تَفرُّد الثقافات، فإن هناك أيضًا إمكانًا لأن نكون مَخدُوعين نتيجة التسليم بالعزلة الشاملة.
هدفي هنا ليس أبدًا أن أسوق حججًا ضد الأهمية الفريدة لكل ثقافة، بل الدفاع عن الحاجة إلى بعض الحِنْكَة في فَهْم التأثيرات عَبْر الثقافية، وكذا قُدرتنا الأساسية على الاستمتاع بمنتجات الثقافات والبُلدان الأخرى. ويجب ألا نفقد قدرتنا على فَهْم بعضنا بعضًا، وقدرتنا على الاستمتاع بالمنتَجات الثقافية للبلدان المختلفة في خضمِّ دفاعنا الحماسي عن المحافظة والنقاء.
افتراضات كلية شاملة
قبل أن أختم هذا الفصل أرى لزامًا عليَّ أن أفكر في قضية أخرى ذات علاقة بمسألة النزعة الاستقلالية للثقافة في ضوء النَّهج العام لهذا الكتاب. ولعل القارئ لم يَفُته أن هذا الكتاب مُؤسَّس على إيمان بقُدرة الناس على اختلافهم من بين ثقافات مختلفة على المشارَكة في كثير من القيم المشترَكة والاتفاق على بعض الالتزامات المشتركة. والحقيقة أن غلبة قيمة الحرية، باعتبارها المبدأ المنظَّم في هذا الكتاب، تتميز بأنها افتراض كلي شامل.
إن الزعم بأن القيم الآسيوية تتصف بعدم المبالاة إزاء الحرية، أو الاعتقاد أن أهمية الحرية إنما هي قيمة «غربية» في جوهرها، هذا الزعم كان مصيره الشَّجْب في كل ما ورد قبل هذا في الكتاب. ولكن أحيانًا نجد من يقول إن التسامح مع المخالفين في شئون الدين بخاصة إنما هو ظاهرة «غربية خالصة». وأذكر أنني حين نشرت دراسة في مجلة أمريكية تشجب تأويل القيم الآسيوية على أنها قيم تَسلُّطيَّة استبدادية (تحت عنوان «حقوق الإنسان والقيم الآسيوية»، مجلة ذي نيو ريبابليك، يوليو ١٤، ٢١، عام ١٩٩٧م) تَضمَّنَت الاستجابات الواردة بعض المساندة لتفنيدي «الحالة الخاصة المزعومة للقيم الآسيوية» (أي وصفها بأنها استبدادية). بَيْدَ أنَّ أصحاب الردود استطردوا ليؤكدوا أن الغرب من ناحية أخرى يَتحلَّى بوضع خاصٍّ مُميَّز من حيث التسامح.
وأشرنا في السابق إلى التسامح بوجه عام في الثقافات الآسيوية (مثل الثقافات العربية والصينية والهندية)، وإلى أن التسامح الديني جزء من صميمها على نحو ما أوضحنا بالأمثلة. وليس عسيرًا أن نجد أمثلة لانتهاك التسامح — بل وانتهاكات صارخة — في أي ثقافة من الثقافات (من محاكم التفتيش في العصور الوسطى إلى معسكرات الاعتقال الحديثة في الغرب، ومن المذابح الدينية إلى القهر القاتل لجماعة طالبان في الشرق). ولكن الأصوات ارتفعت دائمًا وأبدًا دفاعًا عن الحرية — بأشكال مختلفة — في الثقافات المتمايزة والمتباعدة. وإذا كان الرفض هو مصير المسلَّمات الكلية الشاملة في هذا الكتاب، وخاصة ما يَتعلَّق منها بإعلاء قيمة الحرية وأهميتها، فلا بد أن أسس هذا الرفض كامنة في مكان آخر.
ملاحظة ختامية
- (١)
أهميتها الأصيلة الجوهرية.
- (٢)
دورها المترابط منطقيًّا من حيث النتائج لتوفير حافِز سياسي يكفل الأمن الاقتصادي.
- (٣)
دورها البنائي في نشوء وتطور القيم والأولويات.
والقضية لا تختلف في آسيا عن أي مكان آخر، وإن رفض هذا القول على أساس الطبيعة الخاصة للقيم الآسيوية لا يقوى على البقاء أمام دراسة نقدية فاحصة.٢٧
والملاحَظ أن المناقشة الغربية بشأن المجتمعات غير الغربية غالبًا ما تُبدِي احترامًا شديدًا للسُّلطة؛ الحاكم والوزير والطُّغْمة العسكرية وكبار رجال الدين. وأن هذا «الانحياز نحو الاستبداد» يَلقَى دعمًا من واقع أن البلدان الغربية ذاتها يمثلها غالبًا في التجمعات الدولية رسمِيُّون حكوميون ومُتحدِّثُون باسم الحكومات، ويلتمسون بدورهم الآراء المعارِضَة لهم في البلدان الأخرى؛ ولهذا فإن النهج الملائم لبحث التنمية والتطوير لا يمكن أن يَتَّخِذ مَن هُم في السلطة محورًا وحيدًا للبحث. وإنما يجب أن يكون المدى والنطاق أوسع كثيرًا. كما أن مطلب المشارَكة الشعبية ليس مجرد هراء قائم على النفاق. والحقيقة أن فكرة التنمية والتطوير لا يمكن أن تنفصل عن هذا الفهم.