الاختيار الاجتماعي والسلوك الفردي
وقبل أن أمضي بعيدًا في هذا النهج، يجب أيضًا أن أُناقِش بعض أُسِس نزعة الشك التي تتشكك في إمكان التقدم تأسيسًا على العقل، والتي نجدها في بعض الدراسات؛ إذ لو كانت هذه الأسس مُفحِمة ومُلزِمة فإنها في الحقيقة سوف تَسحق النَّهْج الذي التزمنا به في هذا الكتاب. وإنه لَمِن الغباء أن نبني صرحًا طموحًا على أسس من الرمل المُتحرِّك الذي تغوص فيه الأقدام.
فئة ثالثة من الشكوك ذات علاقة بنزعة الشك التي يتحدث عنها كثيرون. وتتناول النطاق المُحتمَل للقيم وللمعايير السلوكية الإنسانية. هل يمكن لأنماط سلوكنا أن تتجاوز المصلحة الذاتية بمعناها الضيق والمحدود؟ وإذا كان من غير الممكن فإننا نسمع مَن يُؤكِّد أنه في الوقت الذي تكون فيه آلية السوق لا تزال تعمل ومُجْدِية (حيث من المفترض أنها لا تستثير شيئًا آخر غير الأنانية البشرية)، فإننا لا نستطيع توفير التنظيمات الاجتماعية التي تستلزم أي شيء آخر «اجتماعيًّا»، أو «أخلاقيًّا»، أو «إلزامًا». وحسب هذه النظرة فإن إمكان التغيير الاجتماعي المبني على التفكير العقلاني لا يمكن أن يتجاوز نشاط آلية السوق (حتى إن أدَّت إلى حالة عدم فاعلية أو إلى عدم مساواة أو فقر). وطبيعي أن البحث عمَّا هو أكثر من هذا المنظور سيكون ضربًا من التفكير الطوباوي اليائس.
إن مناط الاهتمام الأول والأساسي في هذا الفصل هو عمل دراسة فاحصة للعلاقة الوثيقة بين القيم والاستدلال العقلي من أجل تعزيز الحريات وتحقيق التنمية والتطوير. وسوف أتناول الحجج الثلاث الواحدة بعد الأخرى.
الاستحالة والقواعد المعلوماتية
فرضية أرولا تُوضِّح في الحقيقة ما يأخذه التفسير العام منها عادة باعتباره المعنى المقصود. إنها لا تُؤكِّد استحالة الاختيار الاجتماعي العقلاني، بل الاستحالة التي تواجهنا حين نحاول أن نبني الاختيار الاجتماعي على أساس فئة محدودة من المعلومات. وليسمح لي القارئ أن نفكر بإيجاز في أحد أساليب فَهْم فرضية أرو على الرغم مما في هذا من مَخاطر التبسيط المخل.
لنأخذ المثال القديم عن «مفارقة الاقتراع» التي اهتم بها كثيرًا علماء الرياضيات الفرنسيون في القرن الثامن عشر من أمثال كوندورسيه وجين-شارلس دي بوردا. إذا كان الشخص «١» يفضل الاختيار «س» على الاختيار «ع» كما يفضل «ع» على «و»، بينما الشخص «٢» يفضل «ع» على «و»، وكذا «و» على «س»، بينما الشخص «٣» يفضل «و» على «س»، «س» على «ع»، فإننا هنا نعرف أن قاعدة الأغلبية ستفضي إلى حالة تنافر. والملاحَظ بوجه خاص أن «س» لها أغلبية على «ع» التي لها أغلبية على «و» التي تحظى هي الأخرى بأغلبية على «س». توضح فرضية أرو، من بين استبصارات أخرى تقدمها، أن الأمر ليس مقتصرًا فقط على قاعدة الأغلبية، بل إن جميع آليات اتخاذ القرار تعتمد على قاعدة معلومات واحدة، وأن هذا سيفضي إلى بعض التنافر أو اللاتناسبية ما لم نَتَّجِه إلى الحل الدكتاتوري لجعل التصنيف التراتبي لتفضيل شخص ما هو الحاكم.
هذه فرضية رائعة وصقيلة على نحو غير مألوف. إنها واحدة من أجمل النتائج التحليلية في مجال العلم الاجتماعي، بيد أنها لا تلغي على الإطلاق آليات القرارات التي تستخدم قواعد معلومات — أو قواعد معلومات مختلفة — أكثر مما تستخدم قواعد الاقتراع. إننا كي نتخذ قرارًا اجتماعيًّا بشأن الأمور الاقتصادية سيكون طبيعيًّا أن نفكر في أنماط أخرى من المعلومات.
إن قاعدة الأغلبية — سواء كانت متسقة أو لا — يجب ألا تكون هي الخطوة الأولى كميكانيزم لحسم الخلافات الاقتصادية. ولنحاول أن نفكر معًا في حال تقسيم كعكة بين ثلاثة أشخاص ١، ٢، ٣ مع افتراض أن كل شخص يرى أن يكون نصيبه أقصى حجم ممكن من الكعكة (هذا الافتراض يهدف إلى تبسيط المثال، ولكن لا شيء أساسًا يتوقف عليه ويمكن إبداله بأنماط تفضيلات أخرى). ولنأخذ أي قطعة من قطع الكعكة الثلاث. إننا نستطيع دائمًا أن نحقق «تحسين الغالبية» عن طريق استقطاع جزء من نصيب أي شخص (لنفترض نصيب الشخص ١) ثم نقسمه بين الاثنين الآخرين (أي ٢، ٣). هذه الطريقة «لتحسين» المنتج الاجتماعي ستفيد — على أساس أن الحكم الاجتماعي رهن قاعدة الأغلبية — حتى إن تصادف أن كان الشخص الذي ضحى هو أفقر الثلاثة. ونستطيع في الحقيقة أن نواصل استقطاع المزيد والمزيد من حصة الشخص الأفقر وتقسم الغنيمة بين الاثنين الأغنى، وفي كل مرة نحقق تحسين الأغلبية. والملاحَظ أن عملية «التحسين» هذه يمكن أن تَمضي وتستمر حتى لا يتبقَّى شيء من الكعكة ليأخذه الشخص الأفقر. ما أروع هذه السلسلة في عملية التحسين الاجتماعي من منظور الأغلبية.
إن القواعد من هذا النوع تنبني على قاعدة معلومات مؤلَّفة فقط من التصنيفات التراتبية لأفضليات الأشخاص دون أي اعتبار لمَن أَفقَرَ مِن مَن، أو مَن الرابح (ومن الخاسر)، وكم حَجْم المكسب والخسارة الناجم عن تَحوُّلات الدخل، أو أي معلومات أخرى (من مثل كيف حدث أن الأشخاص المعنيين اكتسب كل منهم حصته). إن قاعدة المعلومات لهذه الفئة من القواعد التي يُعد إجراء اتخاذ القرار على أساس الأغلبية مثالًا بارزًا عليها، إنما هي قاعدة معلومات محدودة إلى أقصى حد، وقاصرة عن أن تفيد لإصدار أحكام مبنية على معلومات بشأن مشكلات الرفاه الاقتصادي. وليس سبب ذلك أساسًا أنها تقودنا إلى حالة من عدم الاتساق أو التنافر (على نحو التعميم بشأن فرضية أرو)؛ بل لأننا حقيقة لا نستطيع إصدار أحكام اجتماعية على أساس معلومات ضئيلة جدًّا.
العدالة الاجتماعية والمعلومات الأغنى
تنزع القواعد الاجتماعية المقبولة إلى ملاحظة تَنوُّع الوقائع الأخرى وثيقة الصلة عند الحكم على تقسيم الكعكة: مَن أفقرُ مِن مَن، ومَن يربحُ، وكم يربح في ضوء الرفاه أو المُقوِّمات الأساسية للحياة، وكيف تم الحصول على الكعكة «ككسب» أو «كغنيمة». ولكن الإصرار على ألا حاجة إلى معلومات أخرى (وأن المعلومات الأخرى، إذا كانت متاحة، لن تؤثر فيما نتخذه من قرارات) من شأنه أن يجعل هذه القواعد غير ذات أهمية كبيرة لاتخاذ القرار الاقتصادي. وتأسيسًا على هذا الإقرار، علاوة على مشكلة التنافر أو عدم الاتساق — في تقسيم الكعكة على أساس الأصوات — فإن الأمر كله لن يبدو كمشكلة، بل تَخَفُّفٌ مُرْضٍ وسارٌّ من حالة التنافر التي لا إجابة عنها؛ لأنها تجري تأسيسًا على إجراءات فَجَّة وفقيرة معلوماتيًّا للغاية.
وإذا عُدْنا إلى مثالنا السابق في مُستهلِّ الفصل الثالث، نجد أن أيًّا من الحجج المستخدمة لا يفيد في حل مشكلة توظيف أي مِن دينو، أو بيشانو، أو روجيني إذا اعتمدنا على قاعدة معلومات أرو. استقرت حالة دينو على أنه الأفقر، وحالة بيشانو على أنه الأتعس، وحالة روجيني على أنَّها تُعاني مرضًا عضالًا، وجميعها حقائق خارجية، خارج قاعدة معلومات تصنيف أفضليات الأشخاص الثلاثة (تأسيسًا على شروط فرضية أرو). وواقع الحال أننا عند إصدار أحكام اقتصادية، نَتَّجِه بوجه عام إلى استخدام أنماط من المعلومات أكثر عمومية مما هو مسموح به في فئة الآليات المتوائمة مع إطار أرو.
التفاعل الاجتماعي والتوافق الجزئي
ويمكن الدفع أيضًا بأن أحكامنا بشأن «العدالة الاجتماعية» لا تستلزم دقة هائلة في التوافق؛ إذ إن هذا يشبه الزعم بأن ضريبة ٣٩ في المائة مُعدَّل عادل، بينما ٣٩٫٥ في المائة ليس عادلًا (إذ إن الأول أعدل من الآخَر). ولكن ما هو مطلوب اتفاق له فعاليته بالنسبة إلى بعض الموضوعات الأساسية لإمكان تحديد مدى اللاعدالة أو اللاإنصاف.
والحقيقة أن التَّشبُّث باكتمال الأحكام الخاصة بالعدالة إزاء كل اختيار ممكن ليس عدوًّا فقط للنشاط الاجتماعي العملي، بل إنه يعكس أيضًا قدرًا من سوء الفهم المتعلق بطبيعة العدالة ذاتها. ولنأخذ مثالًا متطرفًا: إننا حين نتفق على أن وقوع مجاعة كان بالإمكان اتقاؤها؛ عَملٌ ظالم أو غير عادل اجتماعيًّا، فإننا لا نطرح ادِّعاء مقدرتنا على تحديد ما هي الحصة الدقيقة والمضبوطة من الغذاء التي تعتبر «أكثر عدلًا» بين جميع المواطنين. وإن الاعتراف بأن ثمة ظلمًا واضحًا في حرمان يمكن اتقاؤه من مثل جوع واسع النطاق، أو حالة مرضية لا ضرورة لها، أو وفيات قبل الأوان، أو فقر شديد الوطأة أو إهمال الإناث الأطفال أو إذلال المرأة وظواهر أخرى من هذا النوع لا داعي لأن تنتظر إلى حين وضع تنظيم كامل يسيطر على الاختيارات التي تشتمل على فوارق أدق شأنًا. والحقيقة أن المغالاة في استخدام مفهوم العدالة تحدُّ من قوة الفكرة عند تطبيقها على مَظاهر الحرمان وعدم المساواة المُروِّعة التي يتصف بها عالمنا اليوم. إن العدالة شأن المدفع، لا حاجة لأن نطلقه لنقتل بعوضة (كما تقول حكمة بنغالية قديمة).
التغيرات المقصودة والنتائج غير المقصودة
أنتقل الآن إلى الأسباب الثانية المُحدَّدة المُتعلِّقة بالشَّكِّ في فكرة التقدُّم المُبرَّر عقليًّا، والهيمنة المزعومة للنتائج «غير المقصودة»، وما يَتعلَّق بهذا من شكوك بشأن إمكان تحقيق تقدم مقصود وقائم على حجج عقلية. وليس عسيرًا تقييم فكرة أن النتائج غير المقصودة للنشاط الإنساني مسئولة عن الكثير من التغيرات الكبيرة في العالم. إن الرياح لا تأتي دائمًا بما تشتهيه السفن. أحيانًا تتوافر لدينا أسباب رائعة تجعلنا نعترف بفضل هذه الفكرة، سواء كنا نُفكِّر في اكتشاف البنسلين من طَبَق مُهمَل ولم يَكُن موضوعًا لهذا السبب، أو أن نُفكِّر في تدمير الحزب النازي نتيجة ثقة هتلر المبالغ فيها عسكريًّا من دون أن يُقصد التدمير. إن المرء عليه أن يلتزم نظرة محدودة للغاية إلى التاريخ لكي يتوقع أن النتائج تواكب توقعاتنا كقاعدة عامة.
ولكن لا شيء حتى الآن في كل هذا يثير الحيرة بالنسبة إلى النهج العقلاني الذي يرتكز عليه هذا الكتاب. إن المطلوب لهذا النهج ليس أي شرط عام يقضي بعدم وجود أي نتائج غير مقصودة، بل فقط إن المحاولات القائمة على أسباب عقلانية وتستهدف إحداث تحول اجتماعي ينبغي في الظروف الملائمة لها أن تساعدنا على الوصول إلى نتائج أفضل. ولدينا أمثلة كثيرة جدًّا عن النجاح في عمليات الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي التي استرشدت ببرامج ممتعة عقليًّا. مثال ذلك محاولات القضاء التام على الأمية وتعليم الجميع القراءة والكتابة، إذا ما أخذها المجتمع مأخذًا جادًّا فإنها تنجح، على نحو ما حدث في أوروبا وأمريكا الشمالية وكذا في اليابان وبلدان أخرى في شرق آسيا. وأمكن كذلك القضاء على، أو الحد كثيرًا من أمراض مُعْدية مثل الجدري وغيره. وساعد تطوير الخدمات الصحية القومية في البلدان الأوروبية على جعل الرعاية الصحية ميسورة لغالبية المواطنين على نحو غير مسبوق. وغالبًا ما تأتي النتائج كما هو مُتوقَّع لها، ومتطابقة إلى حد ما مع ما تصوره العاملون الذين كدُّوا واجتهدوا لتحقيق هذا الغرض. وإذا كانت قصص النجاح هذه جديرة بأن نستكملها بحسابات عن الفشل والانحراف، إلا أننا نتعلم دروسًا من الأخطاء التي نقع فيها حتى تكون حصيلة جهودنا أفضل في المرات القادمة. إن التعلم عن طريق العمل حليف عظيم للمصلح العقلاني.
ماذا نرى إذن في فرضيةٍ يزعمون أن آدم سميث ناصَرها، كما دعا إليها ودافع عنها — تحديدًا — كارل منجر، وفريدريك هاييك، والتي تقول إن أكثر وربما أغلب الأشياء الجيدة التي تحدث في حياتنا إنما هي نتائج غير مقصودة للنشاط البشري؟ إن «الفلسفة العامة» التي تمثل ركيزة هذا الزيف في القول بأن النتائج غير المقصودة جديرة بأن تحظى بدراسة جادَّة. سوف أبدأ بالحديث عن آدم سميث؛ ذلك لأنهم زعموا أنه أول من قال بهذه النظرية، ثم ثانيًا لأن هذا الكتاب يحمل طابع «سميث» قويًّا واضحًا.
ما أهمية ودلالة هذه النظرية؟ كان هاييك مأخوذًا بحقيقة أولية وهي أن النتائج المهمة غالبًا ما تكون غير مقصودة. وهذه الحقيقة في ذاتها لا تثير دهشتنا إلا نادرًا. إن أي عمل أو تصرف له نتائج كثيرة ولا يقصد الفاعل إلا بعضها فقط. إنني أخرج من بيتي صباحًا لأودع رسالة في مكتب البريد. أنت تراني. لم يكن بعض قصدي حين خرجت أن ألتقي بك في الطريق (إذ لم أكن أقصد شيئًا غير إيداع رسالتي). ولكن حدث هذا اللقاء نتيجة خروجي من البيت متجهًا إلى صندوق البريد. وطبيعي أن ما حدث هو نتيجة لتصرفي، وهو نتيجة غير مقصودة. مثال آخر: إن ازدحام غرفة بعدد كبير من الناس يضاعف من حرارتها، وطبيعي أن أحدًا من الحضور لم يقصد رفع درجة حرارة الغرفة، ولكن حضور هذا الجمع أدى إلى نتيجة غير مقصودة.
ولكن ثمة أسلوب آخر للنظر إلى القضية نفسها، وربما هذا الأسلوب هو ما أراد هاييك تأكيده. نعم إنه لأَمْر مألوف أن بعض النتائج التي تحدث غير مقصودة. بَيْدَ أنَّ هذا التحليل السببي يمكن أن يجعل النتائج غير المقصودة حدثًا يمكن التنبؤ به بصورة معقولة. إن الجزار في الحقيقة يمكنه أن يتنبأ بأن مُبادَلة اللحم بالنقود لا يفيده هو وحده فقط، بل يفيد الزبون أو مشتري اللحم أيضًا. وهكذا فإن العلاقة يمكن التنبؤ بوقوعها من الجانبين، ومن ثم نَتوقَّع اطرادها واستمرارها. إن النتيجة غير المقصودة ليست غير قابلة للتنبؤ، وإن قدرًا كبيرًا رهن هذه الحقيقة، والحقيقة أن ثقة كل طرف في استمرار علاقات السوق هذه إنما تعتمد على مثل هذه التنبؤات سواء افترضناها صراحةً أو ضمنًا.
إذا كان هذا هو أسلوبنا في فهم فكرة النتائج غير المقصودة (بمعنى استباق نتائج مهمة ولكن غير مقصودة) فإنه ليس بحال من الأحوال ضد إمكان إجراء إصلاح عقلاني رشيد. بل يصبح النقيض تمامًا. إن الاستدلال العقلي الاقتصادي والاجتماعي يمكن أن يضع في الاعتبار النتائج غير المقصودة المحتملة والتي يمكن على الرغم من هذا أن تحدث نتيجة تنظيمات مؤسسية. ويمكن في هذه الحالة عمل تقييم أفضل للتنظيمات المؤسسية على أساس أن نضع في الاعتبار احتمالات حدوث نتائج مختلفة غير مقصودة.
أمثلة توضيحية من الصين
أحيانًا تحدث نتائج لم تكن فقط غير مقصودة، بل ولم نكن نستبقها أو نتوقعها. ومثل هذه الأمثلة مهمة ليس فقط لكي تؤكد حقيقة أن التوقعات البشرية قابلة للخطأ، بل وتوفر أيضًا مُدخَلات نتعلم منها من أجل صوغ سياسة المستقبل. ولعل مثالين من تاريخ الصين الحديث يفيدان في توضيح هذه القضايا.
شهدت الصين نقاشًا طويلًا وواسع النطاق منذ الإصلاحات الاقتصادية التي بدأت عام ١٩٧٩م. وتناول النقاش الأثر السلبي الواضح للإصلاح الاقتصادي على عدد من الأهداف الاجتماعية المهمة بما في ذلك جدوى تنظيمات الرعاية الصحية. وطبيعي أن الإصلاحيين لم يقصدوا إلى هذه النتائج الاجتماعية السلبية، ولكن يبدو أن بعضها وقع فعلًا. مثال ذلك تطبيق «نظام المسئولية» في الزراعة الصينية في أواخر السبعينات، الذي أطاح بالمنظومات التعاونية السابقة (واستهلت فترة تَوسُّع زراعي غير مسبوق). وجعلت هذه الإصلاحات كذلك تمويل رعاية الصحة العامة أكثر صعوبة بكثير؛ إذ كان المعتاد تمويل نظام الرعاية الصحية إلى حدٍّ كبير عن طريق النظام التعاوني على أساس غير طوعي. وثبت أن من الصعوبة بمكان إبدال هذا التنظيم بنظام تطوعي للتأمين البطيء يتولى مسئولية إنجازه سكان الريف؛ ولهذا أصبح من الصعب جدًّا الحفاظ على التحسينات التي طرأت على الرعاية الصحية العامة خلال الفترة التي أعقبت الإصلاحات مباشرة. ويبدو أن هذه النتائج وقعت مفاجئة، وأذهلت الإصلاحيين. وإذا صح هذا فيمكن الدفع بأن النتائج كان يمكن التنبؤ بها على نحو أفضل على أساس من دراسة أكثر استيفاء لعملية تمويل الرعاية الصحية في الصين وفي غيرها.
ولنتأمل معًا مثالًا من نمط آخر، وأعني به الإجراءات القسرية لتنظيم الأسرة (بما في ذلك سياسة «طفل واحد لكل أسرة»)، والذي شرعت الصين في تطبيقه عام ١٩٧٩م بهدف خفض نسبة المواليد. ويبدو أن تطبيق هذه السياسة أدَّى إلى نتيجة عكسية بالنسبة إلى خفض وفيات الأطفال خاصة الرضع من الإناث. ويبدو أنه زادت إلى حد ما درجة إهمال الرضع الإناث ومن ثم الوفيات (ما لم نقل وأد الإناث). وحدث يقينًا المزيد من حالات الإجهاض على أساس نوعية جنس الجنين؛ حتى تظل الأسر ملتزمة بالمعايير التي حددتها الحكومة بالنسبة إلى إجمالي عدد الأطفال دون التَّخلِّي عن تفضيل الأسر للطفل الذكر. وطبيعي أن المسئولين عن رسم سياسة الإصلاح الاجتماعي والتنظيم الإجباري للأسرة لم يقصدوا إلى تلك الآثار المعاكسة على وفيات الأطفال بعامة ووفيات الإناث الرضع بخاصة. وطبيعي أيضًا أنهم لم يريدوا تشجيع الإجهاض على أساس التمييز بين الجنسين. ولكنهم قصدوا فقط — تحديدًا — خفض الخصوبة. ولكن هذه النتائج المعاكسة ترتبت عمليًّا على ذلك، وهي جديرة بالاهتمام والعلاج.
القضية المحورية هي ما إذا كان بالإمكان التنبؤ بهذه النتائج المعاكسة، وكان ينبغي استباقها، حتى على الرغم من أنها غير مقصودة. إن طبيعة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في الصين كان يمكن أن تفيد من دراسات تحليلية معنية أكثر بالتنبؤ بالأسباب والنتائج، بما في ذلك الآثار المترتبة وغير المقصودة. وإذا كانت النتائج المعاكسة غير مقصودة في واقع الأمر فإن هذا لا يفيد، ضمنًا، استحالة التنبؤ بها. ومن ثم فإن تَوفُّر فهم أوضح لهذه النتائج كان يمكن أن يهيئ لنا فهمًا أفضل لما تَتضمَّنه التغيرات المقترحة وربما ساعدت على اتباع سياسات وقائية أو تصويبية.
تُعالِج هذه الأمثلة المستقاة من التجربة الصينية المعاصرة موضوع النتائج غير المقصودة التي تَحدَّث عنها آدم سميث، وكارل منجر، وفريدريك هاييك؛ حيث النتائج التي حدثونا عنها جميعًا نتائج مواتية. ولكن ثمة إمكانية أساسية للمقارَنة بين فعالية وجدوى النمطين، حتى على الرغم من أن طبيعة النتائج غير المقصودة طبيعة جذابة في إحدى الحالتين وغير جذابة في الأخرى.
وحيث إن ماو لم يفكر جديًّا في احتمال أن يظهر من داخل الصين اقتصاد سوق مزدهر، إذن ليس لنا أن ندهش؛ لأنه لم يفكر في هذه النتائج المترتبة على التغيرات الاجتماعية التي حدثت في عهده. ومع هذا ثمة رابطة عامة هنا وثيقة الصلة ببؤرة القدرة في هذا العمل. إن التغيرات الاجتماعية موضوع البحث (التوسع في محو الأمية والتعليم والرعاية الصحية الأساسية والإصلاح الزراعي) عززت بالفعل القدرة البشرية على صنع حياة جديرة بالاعتبار وأقدر على المقاومة والبقاء. بَيْدَ أنَّ هذه القدرات مقترنة أيضًا بتحسين الإنتاجية وفرص العمل للناس أصحاب الشأن (التوسع فيما يسمى «رأس المال البشري»). إن الاعتماد المتبادَل بين القدرة البشرية ورأس المال البشري على وجه الخصوص يمكن اعتباره أمرًا قابلًا للتنبؤ بنتائجه على أساس عقلاني؛ إذ على الرغم من أنه على الأرجح لم يكن جزءًا من قصد ماو أن ييسر الأمور للتوسُّع الاقتصادي القائم على السوق في الصين، إلا أن المُحلِّل الاجتماعي الذي يحيط علمًا بمثل هذه القضايا يمكنه التنبؤ ولو بهذه العلاقة، وطبيعي أن استباق مثل هذه العلاقات الاجتماعية والروابط السببية يساعدنا على التفكير السديد في شأن التنظيم الاجتماعي والمسارات المحتمَلة للتغير والتقدم الاجتماعيين.
وهكذا يعتبر استباق النتائج غير المقصودة جزءًا من — وليس نقيضًا ﻟ — النهج العقلاني للإصلاح التنظيمي والتغيير الاجتماعي. وجدير بالذكر أن استبصارات سميث، ومنجر، وهاييك تَلْفِت انتباهنا إلى أهمية دراسة النتائج غير المقصودة (مثلما حاول كل منهم عمل ذلك)؛ ولذلك سوف نخطئ تمامًا إذا ما ذهب بنا الظن إلى أن أهمية النتائج غير المقصودة من شأنها أن تقود الحاجة إلى تقييم عقلاني لجميع النتائج المحتملة - غير المقصودة والمقصودة على السواء. لا شيء هنا يلغي أهمية محاولة استباق جميع النتائج المحتملة للسياسات البديلة، كما لا يوجد ما من شأنه أن يلغي الحاجة إلى أن تؤسَّس القرارات الخاصة بسياساتنا على تقييم عقلاني للسيناريوهات البديلة.
القيم الاجتماعية والمصلحة العامة
أنتقل الآن إلى الحجة الثالثة. ماذا عن الزعم بأن البشر أنانيون تعنيهم المصلحة الذاتية دون حل وسط؟ كيف تستجيب نزعة الشك العميقة في شأن إمكان قيم اجتماعية أعم؟ هل كل حرية يتمتع بها الناس تجري ممارستها على أساس من المحورية الذاتية مما يجعل أي توقع عقلاني لعمل تقدم اجتماعي وسلوك عام ما هو إلا محض أوهام؟
إن استخدام التفكير العقلاني المسئول والأفكار عن العدالة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمحورية الحرية الفردية. ليس معنى هذا الزعم بأن الناس جميعًا ومن دون استثناء يستلهمون أفكارهم عن العدالة أو يستعينون بقواهم المتعلقة بالتفكير العقلاني الاجتماعي الحساس عند تقرير كيف يمارسون حريتهم. ولكن توافر حس العدالة من بين المهام والهموم التي يمكن أن تحفز الناس وغالبًا ما يفعلون. ولا ريب في أن القيم الاجتماعية يمكن أن تؤدي — وأدت بالفعل — دورًا مهمًّا في نجاح مختلف أشكال التنظيم الاجتماعي، بما في ذلك آلية السوق والسياسات الديمقراطية والحقوق السياسية والمدنية الأولية، وتوفير المنافع العامة الأساسية ومؤسسات النشاط العام والمعارضة العامة.
إن أشخاصًا مختلفين يمكن أن يتبعوا أساليب مختلفة في تفسير الأفكار الأخلاقية بما في ذلك الأفكار عن العدالة الاجتماعية. ويمكن أن يكونوا أيضًا بعيدين عمَّا هو يقيني أو متفق عليه في كيفية تنظيم أفكارهم في هذا الشأن. بَيْدَ أنَّ الأفكار الأساسية عن العدالة ليست غريبة عن الكائنات الاجتماعية ممن تؤرقهم مصالحهم الخاصة، ولكنهم قادرون أيضًا على التفكير في أمر أبناء الأسرة والجيران ورفاقهم من المواطنين وأيضًا آخرين في العالم. إن التجربة الفكرية التي تتضمن «المتفرج المحايد» والتي قدم آدم سميث تحليلًا جميلًا عنها (والتي يَستَهِلُّها بسؤال قوي مُعبِّر: كيف يمكن أن يفيد منها «المتفرج المحايد؟») ما هي إلا صياغة لفكرة دارجة وشائعة تطرأ على أذهاننا جميعًا. إن فكرة العدالة أو الإنصاف لم نصطنع لها — افتعالًا — حيزًا في العقل البشري نتيجة إلحاح لا يتوقف أو خطب وَعِظات رنَّانة. إن هذا الحَيِّز موجود مسبقًا، والمسألة هي أن نفيد على نحو مُنظَّم ومعرفي وفعَّال من الاهتمامات العامة للناس.
دور القيم في الرأسمالية
غالبًا ما يعتبر الناس الرأسمالية تنظيمًا يعمل فقط على أساس الرغبة النَّهِمَة لكل فرد، غير أن الدور الفاعل والكفء للاقتصاد الرأسمالي إنما يعتمد في الواقع على منظومات قوية من القيم والمعايير. والحقيقة أن القول إن الرأسمالية ما هي إلا نظام قائم على تَجمُّع سلوك نَهِم هو قول يَغُض إلى أقصى حد من قَدْر أخلاق الرأسمالية التي أسهمت — بجدارة — بإنجازاتها التي لا يدانيها شك.
وكان واضحًا — بطبيعة الحال — في نظر المدافعين الأوائل عن الرأسمالية أن هناك شيئًا آخر غير الأطماع الطليقة يتضمنه ظهور وتَطوُّر النظام الرأسمالي. إن الليبراليين في مانشستر لم يُحارِبوا فقط من أجل انتصار النَّهم وحب الذات. لقد جسَّد مفهومهم عن الإنسانية نطاقًا أعم وأرحب من القيم، وبينما كانوا شديدي التفاؤل إزاء ما يمكن أن يفعله البشر وما سوف يفعلونه (إذا ما تُركوا لأنفسهم)، كانوا كذلك على صواب إذ رأوا قدرًا من التلقائية في المشاعر المتبادلة بين الناس، وإذ آمنوا بإمكان تَوفُّر فَهْم مستنير لمعنى الحاجة إلى سلوك مُتبادَل النفع (من دون إقحام سلطة الدولة دائمًا).
ولكن الأخلاق الرأسمالية، على الرغم من فعاليتها، محدودة للغاية في بعض المجالات التي تتعلق — تحديدًا — بقضايا المظالم الاقتصادية وحماية البيئة، والحاجة إلى التعاون بين الأنواع المختلفة العاملة خارج السوق. ولكن الرأسمالية داخل نطاقها تعمل بكفاءة من خلال منظومة أخلاقية تهيئ لنا الرؤية والثقة اللازمتين للاستخدام الناجح لآلية السوق والمؤسسات ذات الصلة.
أخلاق قطاع الأعمال والثقة والعقود
إن ما لا يثير الدهشة أو مفاجأة في زيورخ أو لندن أو باريس ربما يبدو، على الرغم من هذا، إشكاليًّا تمامًا في القاهرة أو بومباي أو لاجوس «أو موسكو»، وذلك في صراع المنافسة من أجل إرساء دعائم المعايير والمؤسسات اللازمة لاقتصاد سُوق فاعِل وكفء. وأكثر من هذا فإن مشكلة الفساد السياسي والاقتصادي في إيطاليا، التي نوقشت كثيرًا خلال السنوات الأخيرة (وأدَّت إلى تغييرات جذرية في التوازن السياسي داخل إيطاليا) وثيقة الصلة بالطبيعة الثنائية للاقتصاد الإيطالي؛ حيث توجد عناصر من «التخلف» في بعض قطاعات الاقتصاد مع الرأسمالية الدينامية في عنفوانها في قطاعات أخرى من الاقتصاد نفسه.
والملاحَظ في المشكلات الاقتصادية التي عاناها الاتحاد السوفييتي السابق وبلدان شرق أوروبا أن غياب الهياكل المؤسسية والقوانين السلوكية التي تُعَد محورية لقيام رأسمالية ناجحة كان سببًا مهمًّا للغاية. ثمة حاجة إلى استحداث منظومة بديلة من المؤسَّسات والتشريعات التي تتميز بمَنطِقها الخاص وولاءاتها، والتي يمكن اعتبارها معيارًا مُوحَّدًا في الاقتصادات الرأسمالية المتطورة. بَيْدَ أنَّ من العسير تأسيس هذا كله فجأة كجزء من «الرأسمالية القائمة على التخطيط». إن مثل هذه التغييرات تحتاج إلى بعض الوقت حتى تعمل وتؤدي وظيفتها، وهذا درس وعاه أخيرًا بعد الآلام الشديدة كل من الاتحاد السوفييتي السابق وبعض بلدان شرق أوروبا؛ إذ تَوارَت أهمية المؤسسات والخبرات السلوكية هناك وراء فورة الحماس الأولى والافتتان بزعم أن عمليات السوق تلقائية.
إن الحاجة إلى تطويرات مؤسسية حاجة لها رابطة واضحة تجمع بينها وبين دور تشريعات السلوك؛ حيث إن المؤسسات القائمة على تنظيمات مشتركة بين الأشخاص وتفاهمات متبادلة تعمل على أساس أنماط السلوك المشتركة والثقة المتبادلة والثقة في أخلاق الطرف الآخر. وجدير بالذكر أن الاعتماد على قواعد السلوك يمكن أن يكون ضمنيًّا لا صراحة، بل ضمنيًّا إلى حدٍّ كبير حتى إننا يمكن أن نغفل أهميته بسهولة في مواقف لا تمثل الثقة فيها أي مشكلة. ولكن حيثما بدت في صورة إشكالية يصبح إغفال الحاجة إليها كارثيًّا. والملاحظ أن ظهور عمليات تماثل أسلوب المافيا في الاتحاد السوفييتي السابق أثار أخيرًا الانتباه، ولكن التعامل مع هذه القضية يستلزم منا أن ندرس سوابقها ومقدماتها السلوكية، بما في ذلك تحليل آدم سميث للدور بعيد المدى «لقواعد السلوك الراسخة والمعترف بها».
اختلاف المعايير والمؤسسات داخل اقتصاد السوق
تتباين القواعد والسنن السلوكية حتى داخل الاقتصادات الرأسمالية المتطورة، وكذلك تتباين فعاليتها في النهوض بالأداء الاقتصادي. وإذا كانت الرأسمالية حققت نجاحًا كبيرًا في تعزيز المنتج وزيادة الإنتاجية على نحو كبير للغاية في العالم الحديث، إلا أن خبرات البلدان المختلفة لا تزال شديدة التباين. وجدير بالملاحَظة أن نجاحات الاقتصادات الآسيوية (في العقود الأخيرة) ونجاح اليابان على وجه أخص (الذي يعود إلى فترة زمنية أطول) يثير أسئلة مهمة عن الصياغة النموذجية للرأسمالية في النظرية الاقتصادية التقليدية. إننا إذ نعد الرأسمالية منظومة لِجَنْي أقصى قدر من الربح الخالص القائمة على الملكية الفردية لرأس المال إنما نترك الكثير جدًّا من العوامل التي جعلت هذا النظام ناجحًا للغاية في زيادة الإنتاجية وفي توليد الدخل.
المؤسَّسات ومعايير السلوك والمافيا
حتى نختتم مناقشتنا للجوانب المختلفة لدور القيم في نجاح الرأسمالية يجب أن نعتبر أن منظومة الأخلاق التي تُشكِّل ركيزة الرأسمالية تَتضمَّن ما هو أكثر كثيرًا من إجازة الذاتية الجشعة. إن نجاح الرأسمالية في تغيير المستوى العام للرخاء الاقتصادي في العالم اعتمد على أخلاقيات وسنن سلوكية جعلت صفقات السوق عملًا اقتصاديًّا فعالًا. وإذا شاءت البلدان النامية أن تفيد من الفُرص التي تتيحها لها آلية السوق وأن تستخدم التجارة والتبادلات على نحو أوسع نطاقًا، فإن عليها أن تهتم ليس فقط بفضائل السلوك المُتَّصف بالحكمة، بل أيضًا بدور القيم المكملة من مثل القيم التي تَخلُق وتُعزِّز الثقة وتُجَنِّب غوايات الفساد المستشرية، وأن تصطنع بديلًا فاعلًا ومؤثرًا يغنيها عن أسلوب الإكراه بفرض عقوبات قانونية.
إن أخطر التحديات التي تواجه الرأسمالية في عالمنا المعاصر تتضمن قضايا عدم المساواة (خاصة قضايا الفقر الطاحن المُدقِع في عالم يحظى برخاء غير مسبوق) وقضايا «المنافع العامة» (أي المنافع المشتركة بين الناس مثل البيئة). ولا ريب في أن حل هذه المشكلات يستلزم قيام مؤسَّسات تَتجاوَز بنا نطاق اقتصاد السوق الرأسمالية، بَيْدَ أنَّ مدى اقتصاد السوق الرأسمالية ذاته قابِل للامتداد والاتساع بأساليب كبيرة عن طريق تطوير صحيح لأخلاق حريصة وحساسة لكل هذه الاهتمامات. وطبيعي أن تَواؤُم آلية السوق مع نطاق واسع من القيم يُمثِّل مسألة غاية في الأهمية، ويَتعيَّن مواجهتها في اقتران بمحاولة لاستكشاف مدى اتساع التنظيمات المؤسَّسية إلى ما بعد حدود آلية السوق الخالصة.
ومع تسليمنا بأن المافيا تنظيمٌ يثير الاشمئزاز، فإن علينا أن نفهم الأساس الاقتصادي لنفوذه، وذلك باستكمال اعترافنا بقوة البندقية والقنبلة بفهم بعض الأنشطة الاقتصادية التي جعلت المافيا جزءًا وثيق الصلة وظيفيًّا بالاقتصاد. إن هذه الجاذبية الوظيفية سوف تَتوقَّف عندما يُصبِح دَور المافيا في مجال الاقتصاد شيئًا زائدًا لا لزوم له. وسوف يكون كذلك عندما يَتضافر نفوذ الإنفاذ القانوني للعقود مع الامتثال السلوكي لجانب الثقة المتبادَلة وللقواعد والسنن السلوكية المعيارية. وهكذا نجد رابطة عامة تربط بين الظهور المحدود لمعايير مشروعات الأعمال وقبضة الجريمة المنظمة في مثل هذه الاقتصادات.
البيئة والقوانين المنظمة والقيم
نوقشت باستفاضة خلال الفترة الأخيرة الحاجة إلى تجاوُز قواعد السوق، وذلك في سياق حماية البيئة. وكانت هناك بعض التنظيمات والكثير من المُقترَحات بشأن إصدار قوانين مُنظمة حكومية واشتراك حوافز ملائمة عن طريق الضرائب والإعانات المالية. ولكن تبقى هناك أيضًا مسألة السلوك الأخلاقي ذات العلاقة بمعايير البيئة الصديقة. وتتلاءَم هذه المسألة تمامًا مع نمط الاعتبارات التي ناقشها آدم سميث بإسهاب في كتابه «نظرية العواطف الأخلاقية»، هذا على الرغم من أن حماية البيئة لم تكن مشكلة مُحدَّدة وغالبة آنذاك «بل ولم تكن مشكلة أولاها آدم سميث اهتمامًا صريحًا».
إن «المسرفِين والخيالِيِّين» في يومنا هذا مُتورِّطون في تلويث الهواء والماء، وإن التحليل العام الذي قدمه سميث لهذه الظاهرة وثيق الصلة بفهمنا للمشكلات والصعاب المترتبة على نشاطهم، وكذا الأساليب المختلفة الممكنة للعلاج. ونرى أن من الأهمية بمكان مناقشة دور القوانين المنظمة والقيود السلوكية الخاصة بكل من هذه الحالات. إن التحدي البيئي جزء من مشكلة أعم ذات صلة بتخصيص حصص الموارد من «المنافع العامة»؛ حيث يجري الاستمتاع بالسلع على نحو مُشترَك وعام، لا عن طريق مستهلك واحد مستقل. وحري بنا لضمان توافُر المنافع العامة على نحو فعَّال ألا نقنع ببحث إمكان نشاط الدولة فقط، بل أن ندرس أيضًا الدَّوْر الذي يمكن أن تؤديه عملية تطوير القيم الاجتماعية وتَوافُر الحس بالمسئولية، ممَّا يُقلِّل من الحاجة إلى اللجوء إلى فعل قسري من جانب الدولة. مثال ذلك أن تطوير أخلاق بيئية يمكن أن يسهم بدور بديل عن الدور المقترح أن تؤديه القوانين بطريقة الإجبار.
الحصافة والتعاطف والالتزام
مصطلح «الاختيار العقلاني» يجري، استخدامه ببساطة مثيرة في بعض دراسات علم الاقتصاد وعلم السياسة (ولكن بدرجة أقل في الفلسفة للدلالة على نظام الاختيار النَّسقي القائم فقط على الميزة الشخصية). وإذا تَحدَّدت الميزة الشخصية على أساس محدود وضيق، فإن هذا النمط من صياغة النماذج على نحو عقلاني سوف يجعل من العسير توقُّع أن تفكيرنا في الأخلاق، أو العدالة، أو مصلحة أجيال المستقبل سيكون له دور كبير في اختياراتنا وأفعالنا.
يمكن توضيح التمايز بمثال: إذا ساعدْتَ فقيرًا؛ لأن فَقْرَه يجعلك تشعر بالتعاسة الشديدة، فإن هذا سيكون منك بمنزلة تَصرُّف قائم على التعاطف. ولكن إذا كان حضور الفقير الجائع يجعلك لا تشعر بالتعاسة ولكن يحفزك على أن تَعقِد العزم على تغيير النظام الذي تراه ظالمًا، فإن هذا يكون منك تصرفًا مبنيًّا على الالتزام.
الاختيار الحافزي والبقاء التطوري
إن القيم التي تؤثر فينا يمكن أن تظهر بأساليب مختلفة تمامًا.
- أولًا: يمكن أن تكون وليدة تأمُّل وتحليل. ويمكن أن ترتبط التأملات مباشرة باهتماماتنا ومسئولياتنا (على نحو ما أكد كانط وسميث)، أو أن ترتبط بصورة غير مباشرة بنتائج السلوك الخير (مثال ذلك الميزات التي تعود على المرء بفضل سمعته الطيبة أو تشجيع الثقة).
- ثانيًا: يمكن أن تنشأ من رغبتنا الإرادية في الالتزام بالأعراف، وأن تفكر وتعمل وفق ما تراه من عاداتنا وتقاليدنا.٤٩ هذا النمط من «السلوك التوافقي» يمكن أن يوسع نطاق الاستدلال العقلي ومداه، ليتجاوز حدود التقييم النقدي الذاتي للفرد ما دام باستطاعتنا أن نباري الآخرين في عمل وجدوا أسبابًا تُبرِّر لهم عمله.٥٠
- ثالثًا: يمكن أن يكون للمناقشة العامة تأثير قوي في صياغة القيم. وأشار الاقتصادي العظيم في جامعة شيكاغو فرانك نايت إلى أن القيم «أُسِّسَت أو صُودِق عليها وأصبح معترَفًا بها من خلال المناقَشة التي هي في آنٍ واحد نشاط اجتماعي وفكري وإبداعي.»٥١ وأوضح جيمس بوكانان في سياق الاختيار العام ما يلي: «تعريف الديمقراطية بأنها «الحكم عن طريق المناقَشة» يعني ضمنًا أن القيم الفردية يمكن أن تتغير، وهي بالفعل تتغير، خلال عملية اتخاذ القرار.»٥٢
- رابعًا: يمكن للانتخاب التطوُّري أن يكون له دَور حاسم. إن أنماط السلوك يمكن أن تبقى وتَزدَهِر بفضل دورها في تحقيق نتائج مُتَّسِقَة منطقيًّا. وإن كلًّا من فئات الاختيار السلوكي هذه (الاختيار على أساس التأمل، والسلوك التوافقي، والنقاش العام والانتخاب التطوري) تتطلب اهتمامًا وانتباهًا. كما أنه عند التصور المفاهيمي للسلوك البشري ثمة حالة تقتضي معالجتها معًا على نحو مُشترَك وأيضًا على نحو فردي. وغَني عن البيان أن دَور القيم في السلوك الاجتماعي يتلاءَم تمامًا مع هذه الشبكة العامة.
القيم الأخلاقية وصوغ السياسة
أنتقل الآن من مناقَشة الأخلاق والمعايير عند الناس في صورتها العامة إلى القيم وثيقة الصلة بصوغ السياسة العامة. إن لدى صُنَّاع السياسة مجموعتين مُتمايِزَتين، وإن كانتَا مُتداخلتَين، من الأسباب للاهتمام بقيم العدالة الاجتماعية:
- السبب الأول: والأكثر مباشرة، هو أن العدالة مفهوم محوري في تحديد أهداف وغايات السياسة العامة، كما أنه محوري أيضًا في اتخاذ القرار في شأن الأدوات الملائمة لإنجاز الغايات المختارة. وجدير بالذِّكْر أن أفكارنا عن العدالة، وبخاصة قواعد المعلومات الخاصة بأسلوب مُحدَّد لتناول ودراسة العدالة يمكن أن تكون حاسمة في الاقتناع بالسياسة العامة وبلوغ مداها.
- السبب الثاني: وهو سبب غير مباشر، يفيد بأن جميع السياسات العامة رهن كيفية سلوك الأفراد والجماعات في المجتمع. إن هذه السلوكيات تَتأثَّر، من بين أمور أخرى، بفهمنا وتأويلنا مُتطلَّبات الأخلاق الاجتماعية. ومن المهم عند صوغ السياسة العامة ألا نكتفي فقط بتقدير مُتطلَّبات العدالة ونطاق القيم عند اختيار أهداف وأولويات السياسة العامة، بل أيضًا أن نفهم قيم الجمهور في إطارها العام بما في ذلك فهمهم للعدالة.
وحيث إن الدور الثاني (غير المباشر) للمفاهيم التشريعية أكثر تعقدًا، فيما يبدو (ولم يكن يقينًا موضوعًا للتحليل على قدم المساواة) فقد يكون مفيدًا أن نوضح دور معايير وأفكار العدالة في تحديد السلوك وكيف يُؤثِّر هذا في اتجاه السياسة العامة. وسبق أن أوضحنا (الفصلان ٨، ٩) هذه الرابطة من خلال مناقشتنا لأثر معايير سلوك الخصوبة. بَيْدَ أنَّني سأبحث الآن مثالًا آخر مهمًّا: تَفشِّي الفساد.
الفساد والحوافز وأخلاق قطاع الأعمال
انتشار الفساد يُعتَبر عن حق من أهم العوائق على طريق التقدم الاقتصادي الناجح في كثير من بلدان آسيا وأفريقيا على سبيل المثال. ذلك أن ارتفاع مستوى الفساد يمكن أن يجعل السياسات العامة عديمة الجدوى، كما يمكن أن يُحوِّل الاستثمار والأنشطة الاقتصادية بعيدًا عن المسارات الإنتاجية لتتجه نحو أنشطة سرية تدر عوائد مالية مرتفعة للغاية. ويمكن أن تُفضِي، علاوة على هذا، إلى تشجيع مُنظَّمات العنف مثل المافيا.
ومع هذا ليس الفساد ظاهرة جديدة، ولا الاقتراحات الخاصَّة بالتعامل معه. وتقدم لنا الحضارات القديمة شواهد على تَفشِّي الأنشطة غير المشروعة والفساد، وصدرت عن بعضها أعمال كثيرة مهمة تُحَدِّثُنا عن سُبل الحد من الفساد خاصة فساد موظَّفِي الدولة العموميين. وتكشف لنا هذه الدراسات التاريخية عن بصيرة نافذة بشأن سبل محاربة الفساد مما يفيدنا اليوم.
ما هو إذن السلوك «الفاسد»؟ يتضمن الفساد انتهاك القواعد والقوانين المعتمدة من أجل تحقيق كسب وربح شخصي. وواضح أن ليس بالإمكان استئصاله عن طريق حثِّ الناس لكي يكونوا أكثر اهتمامًا بمصالِحهم الذاتية، كذلك لا معنى لأن نحاول الحد من الفساد مُكتَفِين بمطالبة الناس كي يكونوا أقل اهتمامًا بمصالحهم الذاتية بشكل عام؛ إذ لا بد أن يكون هناك سبب مُحدَّد للتضحية بالكسب الشخصي.
من الممكن إلى حدٍّ ما أن نغير ميزان المكاسب والخسائر للسلوك الفاسد، وذلك عن طريق إصلاح تنظيمي:
- أولًا: إنشاء نُظُم تفتيش وعقاب، وهذا ما نراه واضحًا وسائدًا في كل العصور، مع الالتزام بقوانين محاربة الفساد. أذكر على سبيل المثال كواتيليا، المحلل السياسي الهندي، في القرن الرابع ق.م. مَيَّز كواتيليا بدقة بين أربعين وسيلة مختلفة لإغواء الموظف العام كي يفسد ماليًّا. ووصف كيف يمكن لنظام المراجَعة والتحريات السريعة مشفوعًا بعقوبات وجزاءات أن يَحُول دون هذه الأنشطة.٥٣ إن توفُّر منظومات قوانين وعقوبات واضحة مع قدرة على التنفيذ الصارم من شأنه أن يُغيِّر أنماط السلوك.
- ثانيًا: بعض القواعد التنظيمية لإدارة الحكم تُشجِّع الفساد حين تُعطِي لموظفيها سُلطة تقديرية تهيئ لهم سُلطة محاباة آخَرين — رجال قطاع الأعمال تحديدًا — بما يساوي أموالًا كثيرة لهم. وجدير بالذِّكْر أن الاقتصاد الخاضع لسيطرة مُبالَغ فيها (مثل نظام «إجازة راج license Raj» في الهند) هو عش مثالي لتربية خصبة للفساد. وهذا ما تؤكده أحداث جنوب آسيا أخيرًا، لكن حتى لو كانت هذه القواعد التنظيمية لإدارة الحكم غير ذات فاعلية في مجالات أخرى، فإن الخسارة الاجتماعية الناجمة عن الفساد تعتبر سببًا كافيًا لكي يتجنب المجتمع مثل هذه التنظيمات.
- ثالثًا: غواية الإفساد تكون أقوى حين يَتمتَّع الموظف العام بقدر كبير من السُّلطة، ولكنه هو نفسه فقير نسبيًّا. هذه هي الحال عند المستويات الدنيا للإدارة في كثير من الاقتصادات الخاضعة لسيطرة إدارية مُفرِطة. ويفسر لنا هذا لماذا ينتشر الفساد في كل أنحاء المستوى الأدنى في النظام البيروقراطي ليشمل صغار موظفي الدولة وكبارهم على السواء. وحاوَلت الصين في العصور القديمة أن تعالج جزئيًّا هذه المشكلة فقرَّرَت مَنْح كثير من البيروقراطيين بدلات مالية باسم «منحة محاربة الفساد» (وتسمى يانج-ليين) لتكون حافزًا لهم على البقاء نظيفي اليد وملتزمين بالقانون.٥٤
وطبيعي أن هذه الإغراءات وغيرها يمكن أن تكون لها فعالية، لكن من العسير أن تعتمد سياسة مُحارَبة الفساد بالكامل على حوافز مالية. إن خطوط الهجوم الثلاثة المشار إليها توًّا لها حدودها وقيودها. أولًا: نُظُم القبض على اللص غير مجدية في أغلب الأحيان؛ نظرًا لأن الرقابة والتفتيش ليسَا على مستوى الكفاءة دائمًا. وهناك أيضًا القضية المعقدة الخاصة بتوفير الحوافز الصحيحة لمن يقبضون على اللص «حتى لا يشتريهم اللصوص». ثانيًا: أي نظام حكم لا يسعه إلا أن يمنح بعض السلطة للموظفين، وهي سلطة لها بعض القيمة لدى الآخَرِين ممن سيحاولون إغراء الموظفين بالفساد. ولا ريب في أن بالإمكان الحد من نطاق هذه السُّلطة، ولكن أي قدر من السلطة التنفيذية مهيأ لاحتمال استخدامه استخدامًا سيئًا. ثالثًا: يُلاحَظ أنه حتى أثرياء الموظَّفِين يحاولون أن يكونوا أكثر ثراء، ويخاطرون في سبيل ذلك وهو ما يفعلونه إذا كان ثَمَن المخاطرة مرتفعًا. وهناك الكثير والكثير من الأمثلة على ذلك خلال السنوات الأخيرة في بلدان مختلفة.
ولكن هذه القيود ينبغي ألا تَمنعَنا من عمل ما يمكن عمله لجَعْل التغييرات التنظيمية كفئًا وفعَّالة، لكن الاعتماد فقط على حوافز رهن مكسب شخصي لا يمكن أن يقضي تمامًا على الفساد. وجدير بالذِّكْر أنه في المجتمعات التي نجد فيها السلوك الفاسد حسب المستوى النمطي سلوكًا غير معتاد، نلحظ أن الاعتماد إلى حد كبير رهن الإذعان لقوانين وأعراف السلوك وليس الحافز المالي للامتناع عن الفساد. ويحفزنا هذا إلى الاهتمام بالمعايير وبأنماط السلوك السائدة في مختلف البلدان.
ذهب أفلاطون في كتابه «القوانين» إلى أن الحس القوي بالواجب يساعد في منع الفساد، لكنه لحظ أيضًا — عن حق — أن هذا ليس «أمرًا سهلًا». ليست القضية هنا إحساسًا عامًّا بضرورة الالتزام بالواجب، ولكن الموقف المُحدَّد من القواعد والقوانين وضرورة الامتثال، وهو موقف له دوره المباشر بالنسبة إلى الفساد. ويندرج هذا كله تحت القاعدة العامة التي سمَّاها آدم سميث «آداب المجتمع». وتُعطِي هذه القاعدة الأولوية لمبادئ الأمانة والسلوك القويم لتكون من بين القيم التي تحظى باحترام وتقدير الشخص. ونجد في مجتمعات كثيرة أن احترام هذه القواعد يشكل حصنًا منيعًا ضد الفساد. والحقيقة أن الاختلاف بين الثقافات من حيث السلوك المبني على قواعد هو من أكثر مَظاهر التنوع إثارة في عالمنا المعاصر، سواء قارنَّا أنماط مشروعات الأعمال بين غرب أوروبا، وجنوب أو جنوب شرق آسيا، أو (داخل أوروبا ذاتها) بين سويسرا وأجزاء من إيطاليا.
وأكد هؤلاء المُعلِّقون أهمية المحاكاة واتباع الأعراف السائدة، وحَفَّزهم هذا إلى دراسة أثر «العواطف الأخلاقية» في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ولحظ آدم سميث ما يلي:
إننا حين نقرأ «القواعد الراسخة والمعتمدة للسلوك» ندرك أهمية سلوك الناس في مواقع القوة والسلطة. وهذا يجعل سلوك كبار الموظفين المدنيين — بخاصة — مهمًّا غاية الأهمية لترسيخ معايير السلوك. وهذه مشكلة عرضها في الصين عام ١٢٢ق.م. مُؤلِّفو كتاب هوي-نان تسو على النحو التالي:
أعتقد أن هذه الكلمة تحمل عَبَق الحكمة القديمة. السلوك الفاسد في «المستويات العليا» يُحدث آثارًا تتجاوز النتائج المباشرة لهذا السلوك. وإن الإصرار على أن نبدأ من القمة قول له معنى ومُبرِّر.
إننا كي نفهم على نحو كامل تَحدِّي الفساد علينا أن نسقط من أذهاننا الافتراض المسبق القائل إن الأرباح الشخصية هي وَحْدَها فقط التي تُحرِّك الناس، أما القيم والمعايير فلا قيمة لها. لا، إنها ذات قيمة كما أوضحَتْ مَظاهر تَبايُن أنماط السلوك في المجتمعات المختلفة. ثمة فرصة للتغيير وإن بعض هذا التغيير يمكن أن يتراكم وأن ينتشر؛ إذ مثلما أن مُجرَّد وجود السلوك الفاسد من شأنه أن يُشجِّع على المزيد من السلوك الفاسد، كذلك فإن الحد من قبضة الفساد يمكن أن يُضعِف الفساد أكثر فأكثر. وحَرِي بنا أن ندرك، ونحن نحاول تغيير مناخ الفساد، أن كل دائرة خبيثة تستلزم — كنتيجة لها — ظهور دائرة فاضلة إذا انعكس الاتجاه.
ملاحظات ختامية
بدأنا هذا الفصل بدراسة فاحصة لبعض الحجج المُؤيِّدة لنزعة الشك في فكرة التقدم الاجتماعي المعتمد على العقل، وهي فكرة محورية للغاية بالنسبة إلى النَّهج المُتَّبع في كتابنا هذا. تتساءل إحدى الحجج عن إمكان عمل اختيار اجتماعي عقلاني، مشيرة بوجه خاص إلى «فرضية الاستحالة» المشهورة التي قال بها كينيث أرو. وتبين مع هذا أن القضية الحقيقية ليست إمكان عمل اختيار اجتماعي عقلاني، بل استخدام قاعدة معلومات ملائمة وكافية من أجل إصدار أحكام وقرارات اجتماعية. وهذا فَهْم مُهِم للقضية وليس تشاؤميًّا. وناقَشْنَا في الأبواب السابقة الدور الحاسم لقواعد المعلومات وقضية نالَت حَظَّها من التقييم الملائم في هذا الضوء.
وتُعبِّر الحجة الثانية عن الشك في التفكير تأسيسًا على النتائج المقصودة، وتُركِّز بدلًا من ذلك على الأهمية الطاغية للنتائج «غير المقصودة». وثمة ما يمكن أن نتعلمه من هذا الشك أيضًا، لكن الدرس الرئيسي المستفاد ليس جدوى التقدير العقلاني للخيارات الاجتماعية، بل الحاجة إلى استباق النتائج غير المقصودة، ولكن يمكن التنبؤ بها. إن المسألة هي ألا تطغى علينا قوة القصد، وكذلك ألا نغفل ما يُسمَّى آثارًا جانبية. وتشير الأمثلة التوضيحية التجريبية — وأكثرها من تجارب الصين — إلى أن سبب الفشل ليس عدم القدرة على تتبع الأسباب بل التشبث برؤية منحازة، ويستلزم الاستدلال العقلي الحساس المزيد من البحث.
وتَتعلَّق الحجة الثالثة بفهم الحوافز، وتأخذ شكل الدفاع عن أن البشر يعتمدون بشكل مطلق من دون أي وسطية على المحورية الذاتية والمصلحة الذاتية. ومن ثم وتأسيسًا على هذا الفرض المسبق تصبح القضية هي أن المنظومة الوحيدة المجدية بكفاءة هي اقتصاد السوق الرأسمالية دون سواها. بَيْدَ أنَّ هذه النظرة إلى طبيعة الحفز البشري ليس من اليسير دعمها تأسيسًا على ملاحظات تجريبية. وليس من الصواب أن نخلص إلى أن نجاح الرأسمالية — كنظام اقتصادي — يعتمد فقط على سلوك المصلحة الذاتية، وليس على منظومة قيم مُعقَّدة وحكيمة، تشتمل على عناصر أخرى من بينها إمكان الاعتماد على الآخر سلوكًا وقولًا، والثقة المُتبادَلة والأمانة في العمل «في مواجهة الغوايات المناقضة». إن كل منظومة اقتصادية تفرض متطلبات بالنسبة إلى أخلاقيات السلوك، وليست الرأسمالية استثناء من هذا. وإن القيم تهيئ نطاقًا مهمًّا للغاية للتأثير في سلوك الأفراد.
ولم يكن القصد، حين أكَّدتُ على الدَّور المحتمَل للقيم والمعايير في السلوك الفردي أن أدفع بأن الغالبية العظمى من الناس يُحرِّكُهم حسهم بالعدالة أكثر مما تُحرِّكهم مَهامُّهم الحصيفة والمادية. إنني أبعد ما أكون عن هذا. إننا حين نَضَع تَنبُّؤاتنا بشأن سلوك ما — سواء في عمل شخصي أو مشروع أعمال خاص أو خدمات عامة — يكون من المهم أن نَتجنَّب خطأ افتراض أن الناس أصحاب فضيلة بشكل فريد واستثنائي، ومن ثم حريصون كل الحرص على أن يلتزموا جانب العدل. والحقيقة أن الكثير من الممارَسات المُتعمَّدة الحسنة النية في الماضي أخفقَت وأفضَت إلى كارثة بسبب الاعتماد المُفرِط على السلوك الفردي الغيري. ونحن إذ نقرُّ بدور القيم الأعم والأشمل، يجب ألا نغفل الدور الواسع النطاق للالتماس الذَّكِي للمصلحة الذاتية، وكذا الطمع والجشع في صورتهما الفجة.
والغرض من المناقشات التجريبية عن الفساد (ومن قبل عن سلوك الخصوبة) ليس مُجرَّد دراسة قضايا مهمة في ذاتها، لكن أيضًا توضيح أهمية المعايير والقيم في أنماط السلوك، وهو ما يمكن أن يكون حاسمًا بالنسبة إلى وضع السياسة العامة. وتفيد الأمثلة التوضيحية كذلك في بيان دور التفاعل العام في صياغة المفاهيم والأفكار عن العدالة. ووضح أنه يتعين عند وضع السياسة العامة أن نضع في الاعتبار فعالية «الجمهور» من أطر مختلفة. وجدير بالذِّكْر أن الروابط التجريبية لا تكشف لنا فقط عن مدى ونطاق مفاهيم العدالة والأخلاق التي يؤمن بها الناس، بل تُوضِّح كذلك إلى أي مَدًى تُعد عملية صياغة القيم عملية اجتماعية قائمة على التفاعلات العامة.
وأصبح جليًّا أن لدينا مبررًا قويًّا لأن نهتم بابتكار الظروف لتوفير المزيد من الفهم القائم على المعلومات والمناقَشة العامَّة المستنيرة. وهذا نهج له تأثيراته القوية على السياسة، مثال ذلك ما يَتعلَّق منها بحرية فكر وعمل المرأة الشابة، خاصة عن طريق التوسع في محو الأمية وفي التعليم المدرسي، وعن طريق تعزيز فرص العمالة للمرأة، والقدرة على اكتساب الرزق والتمكين الاقتصادي. وهناك أيضًا دور كبير لحرية الصحافة والإعلام «الميديا» من حيث قدرتهما على الوصول بهذه القضايا إلى جماهير كبيرة على قاعدة واسعة.
ولوحظ أن الوظيفة الحاسمة للمناقشات العامة لا يُعتَرَف بها أحيانًا إلا جزئيًّا. ففي الصين، وعلى الرغم من السيطرة على الصحافة في المجالات الأخرى، نجد أن قضايا حجم الأسرة نُوقِشَت على نطاق واسع، وبحث كبار القادة بجد واهتمام ظهور مجموعة أخرى من المَعايير المُتعلِّقة بحجم الأسرة، لكن ثمة اعتبارات مُماثِلة تنطبق على كثير من المجالات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى التي يفيد فيها كثيرًا النقاش العام والصريح. والمعروف أن حدود الإباحة (والتشجيع أيضًا) في الصين تعكس أولويات سياسة الدولة. إنه ينعكس في غرائب النجاح الجزئي في المجالات المختارة. مثال ذلك أن خفض معدلات الخصوبة في الصين اقترن بازدياد حدة الانحياز الجنوسي في مجال وفيات الرُّضَّع، وزيادة حادَّة في حالات الإجهاض على أساس اختيار الجنس. ولا ريب في أن خفض مُعدَّلات الخصوبة، الذي يتحقق لا عن طريق القسر وإنما عن طريق اتساع دائرة قبول العدالة بين الجنسين (والذي يتضمن بين أمور أخرى حرية المرأة في ألا تُرهِق نفسها بعمليات حَمْل وإنجاب أكثر من طاقتها علاوة على تربية الأطفال) ولا ريب أن هذا الخفض يُؤدِّي إلى قدر أقل من التوتر الداخلي.
وإنَّ دَور السياسة العامة ليس قاصرًا على محاوَلة تنفيذ الأولويات التي تُبرِزها القيم والتأكيدات الاجتماعية، بل أيضًا على تيسير وضمان نِقاش عام أكثر اكتمالًا. وثمة أنواع مختلفة من السياسات العامة التي تسهم إيجابًا في مدى المناقشات المفتوحة ونطاقها ونوعيتها. نذكر من بينها حرية الصحافة واستقلال الإعلام (ومن بين ذلك انعدام الرقابة)، والتوسع في التعليم الأساسي، وفتح المدارس (لتعليم الذكور والإناث على السواء)، وتعزيز الاستقلال الاقتصادي (خاصة عن طريق العمالة بما في ذلك عمالة النساء)، وغير ذلك من تَغيُّرات اجتماعية واقتصادية تساعد على جعل الأفراد مواطنين مشاركين. والفكرة المحورية في هذا النهج هي الفكرة التي ترى الجمهور العام مُشارِكًا نشطًا وفعالًا في عملية التغيير وليس مُجرَّد مُتلَقٍّ سلبي سَلِس الانقياد يطيع التعاليم أو يستسلم في رضا لما يتلقَّاه من عون ومساعدة.