الحرية الفردية التزام اجتماعي
وطبيعي أن هذه مسألة لسيت جديدة، بل كانت موضوعًا لمناقشات بين فقهاء الدين. ثمة حجة تقول: إن الربَّ لديه أسبابه لكي يَبتلينا بهذه الأمور، بيد أنها حجة لا نملك نحن إزاءها ما يُدعِّمها فكريًّا بقوة. أما أنا كرجل لا ديني لستُ في وَضْع يسمح لي بتقييم المزايا الدينية لهذه الحجة، ولكنني أستطيع تقييم قُوَّة الدَّعْوى التي تَرى أن الواجب يقتضي من الناس أنفسهم أن يَتحمَّلوا المسئولية لتطوير وتَغْيِير العالَم الذي نعيش فيه. وإن قبول هذه العلاقة الأساسية لا شأن له بالتقوى أو عدمها. إننا كبشر نعيش معًا بالمعنى الواسع للكلمة، لا نستطيع التهرب من التفكير في أن الأحداث المُروِّعة التي تُحيط بنا هي في جوهرها وطبيعتها مشكلاتنا نحن. إنها مسئوليتنا، سواء أكانت مشكلاتنا أم مشكلات أي جهة أخرى.
التكافل بين الحرية والمسئولية
هذا السؤال عن المسئولية يُثير سؤالًا آخَر. ألا ينبغي أن يكون المرء — رجلًا أو امرأة — مسئولًا بالكامل عمَّا يحدث له؟ لماذا يتولَّى آخَرون مسئولية التأثير في حياته؟ إن هذا الفكر، في صورة أو أخرى، يستثير على ما يبدو الكثيرين من المُعلِّقين السياسيين، كما أن فكرة الاعتماد على النَّفْس تتلاءم تمامًا مع مناخ العصر الراهن. وهناك مَن يمضي إلى أبعد من ذلك ويدفع بأن الاعتماد على الآخَرِين لا يُمثِّل فقط إشكالية أخلاقية، بل إنه نَهْج انهزامي عمليًّا؛ إذ يُهدِر المبادرة والجهد الفَردِيَّين، بل ويهدر حتى احترام الذات. مَن أفضل مِن الإنسان نفسه للاعتماد عليه التماسًا لإنجاز المصالح الذاتية أو حل المشكلات الذاتية؟
إن الاهتمامات التي تضفي قوة على هذا النَّهج في التفكير يمكن في الحقيقة أن تكون مهمة للغاية. وإن تقسيم المسئولية على نحو يَضع عبء إنجاز مصلحة المرء على كاهل شخص آخَر يمكن أن يُؤدِّي إلى فُقدان أشياء كثيرة في صورة حفز ومُشارَكة ومعرفة للذات، وهي أمور يَكون المرء نفسه في وَضْع فريد يُؤهِّله لإنجازها. ومن ثَم فإن تأكيد المسئولية الاجتماعية على نحو يُعفِي الفرد من المسئولية لا يمكن أن يكون مُعوِّقًا بدرجة أو بأخرى. إذن لا بد من المسئولية الفردية.
ولعل الأفضل ألا نناقِش الاعتماد فقط — ودُون استثناء — على المسئولية الفردية إلا بعد بيان وإقرار دَورِها الجوهري على الرغم من معقوليتها ونِطاقها المحدود. ولكن الحريات الموضوعية التي نَتمتَّع بها لممارسة مسئولياتنا مَشروطة إلى أقصى حدٍّ بالظروف الشخصية والاجتماعية والبيئية. إن الطفل الذي أنكر عليه المجتمع فُرَص التَّعلُّم في مدرسة أوَّلِيَّة ليس محرومًا فقط، بل مُعاقٌ أيضًا على مدى حياته «كشخص عاجز عن أداء أمور أساسية تستلزم قدرة على القراءة والكتابة، ومعرفة مبادئ الحساب». كذلك حال البالغ الذي تعوزه وسائل العلاج الطبي من سوء التغذية والضعف العام، الَّذي يعاني منه ليس فقط ضحية لحالة مَرَضِيَّة كان في الإمكان مَنعُها، ولا من احتمال وَفاة في الإمكان الحيلولة دونها، بل إنه أيضًا محروم من الحرية في عمل أمور مختلفة — لنفسه وللآخَرِين — يمكن أن يكون راغبًا فيها كشخص مسئول. وإن العامل الذي يعمل بنظام السُّخرة والمولود في مجتمَع شبه عبودي، وكذا الفتاة التي تعاني الإذلال منذ طفولتها ويخنقها مجتمع قامِع، والعامل الزراعي المُعدَم الذي لا حَوْل له ولا طَوْل يَعيش عاطلًا من أي وسيلة لكسب الرِّزْق أو الدَّخْل، جميع هؤلاء مَحرُومون ليس فقط من الرفاه، بل أيضًا من القُدْرة على بناء حياة مسئولة. ونعرف أن مثل هذه الحياة المسئولة مشروطة بِتوافُر قَدْر مُعيَّن من الحريات الأساسية؛ إن المسئولية تقتضي الحرية.
لذلك، فإن الحجة الداعية إلى مساندة اجتماعية لتوسيع نطاق حرية الناس ممكن اعتبارها حجة داعية إلى المسئولية الفردية وليست ضدها. إن علاقة الحرية بالمسئولية علاقة في الاتجاهين معًا. وغني عن البيان أن المرء من دون حرية موضوعية، ومن دون قُدرة على عمل شيء لا يمكن أن يكون مسئولًا عن عمل أي شيء. ولكن توفر الحرية والقدرة معًا لعمل شيء ما في الواقع العملي يعني أننا نفرض حتى على الإنسان واجبًا بأن يفكر فيما إذا كان ينجز هذا العمل أم لا، وهذا يتضمن بطبيعة الحال مسئولية فردية. وهنا تكون الحرية ضرورية وكافية للمسئولية.
وليس البديل عن الاعتماد الكامل، وفقط على المسئولية الفردية، هو كما يَفتَرِض حتى البعض أحيانًا، ما يُسمَّى دولة التدليل ورعاية الأطفال؛ إذ ثمة فارِق بين «التدليل ورعاية الأطفال» في معادَلة الاختيارات الفردية، وبين خلق المزيد من الفُرص للاختيار واتخاذ قرارات موضوعية من جانب أفراد يَتحلَّون بالقدرة على العمل المسئول، وعلى هذا الأساس. وطبيعي أن الالتزام الاجتماعي إزاء الحرية الفردية ليس في حاجة إلى أن ينفذ فقط من خلال الدولة، بل لا بد أن يَتضمَّن أيضًا مؤسَّسات أخرى: منظمات اجتماعية وسياسية، وتنظيمات تتخذ المجتمع المحلي أساسًا لها، والقوى الفاعلة غير الحكومية من مختلف الأنواع، والإعلام وغير ذلك من الوسائل الأخرى للفهم وللاتصالات العامة، وكذا المؤسَّسات التي تهيئ الفرصة لعمل الأسواق لتؤدي وظيفتها والعلاقات التعاقدية. ولكن النظرة المحدودة الضَّيِّقة على نحو تَعسُّفي إلى المسئولية الفردية — وكأن الفرد في جزيرة من نسج الخيال حصينة ولا عائق يعوقه — ينبغي توسيع نطاقها. ويَتأتَّى هذا ليس فقط باعترافنا بدور الدولة بل أيضًا بإقرار وظائف المؤسَّسات والقوى الفاعلة والمُؤثِّرة الأخرى.
العدالة والحرية والمسئولية
- أولًا: دفعتُ بأَوَّلِيَّة الحريات الموضوعية عند الحكم على المصلحة الفردية وعند تقييم الإنجازات أو العثرات الاجتماعية. والجدير بالذِّكْر هو أن منظور الحرية ليس في حاجة إلى أن يكون إجرائيًّا فقط (وإن كانت العمليات مُهمَّة، من بين أمور أخرى، في تقييم ما حدث). وأكدت أن الهم الأساسي يَتعلَّق بقدرتنا على أن نبني نوع الحياة التي نملك مبررًا لنعتبرها قيمة.٤ وهذا نهج يمكن أن يهيئ لنا نظرة مختلفة تمامًا عن التنمية-التطوير، يَنأَى بنا عن النهج المعتاد الذي يُركِّز على إجمالي الناتج القومي، أو على التقدم التقاني أو التصنيع. وهذه جميعها ذات أهمية مشروطة دون أن تكون الخصائص المُحدَّدة للتنمية-التطوير.٥
-
ثانيًا: يمكن للمنظور المُوجَّه إلى الحرية
أن يلائم تباينات واختلافات كثيرة داخل
النهج العام؛ إذ لا مناص من التسليم
بأن الحريات أنواع مختلفة، وهناك،
تحديدًا، التمييز المهم الذي سبق أن
ناقشناه، بين «جانب الفرصة» و«جانب
العملية» للحرية. وعلى الرغم من أن
هذين العنصرين المختلفين المُكوِّنَين
للحرية يَمضِيان معًا في غالب الأحيان،
إلا أن هذا يحدث أحيانًا؛ ولهذا فإن
قدرًا كبيرًا رَهنُ ما نوليه من ثِقَل
وأهمية نسبية لمختلف العناصر.٦كذلك يمكن للنهج الموجه إلى الحرية أن يمضي بدرجات تأكيد مختلفة على الدعاوى النِّسبية الخاصة بالكفاءة والمساواة. قد يحدث تَنازُع بين: (١) توفُّر قدر أقل من عدم المساواة في الحريات. و(٢) الحصول على أكبر قدر ممكن من الحرية للجميع بِغَضِّ النظر عن حالات عدم المساواة. ويسمح النهج المشترَك بصياغة مجموعة من النظريات المختلفة عن العدالة، التي تلتزم النهج العام نفسه. وطبيعي أن التنازع بين الاعتبار المُوجَّه للمساواة والاعتبار المُوجَّه إلى الفعالية والكفاءة ليس «خاصًّا» بمنظور الحريات، إنه ينشأ سَواء ركَّزْنا على الحريات أو على أسلوب آخَر للحكم على الميزة الفردية (على أساس «السعادة» كمثال أو «المنافع» أو «الموارد» أو «المنافع الأولية» التي تتحقق للشخص). والملاحَظ في النظريات المعيارية عن العدالة أنه يجري تناوُل هذا التنازع عن طريق اقتراح بعض صيغ خاصَّة جدًّا من مثل المطلب النفعي لزيادة مُجْمَل المنافع إلى أقصى حدٍّ ممكن بِغَض النظر عن توزيعها، أو «مبدأ الاختلاف عند راولس» الذي يشترط تحقيق أقصى زيادة في الميزان لمن هو أسوأ حالًا دون اعتبار لأثر ذلك على ميزان الآخرين.٧
لم أدافع في المقابل عن صيغة مُحدَّدة «لحسم» هذه المسألة، وركَّزتُ بدلًا من ذلك على الاعتراف بقوة وشرعية المَوضُوعين الجمعي والإفرادي. وإن هذا الاعتراف نفسه، مقترنًا بالحاجة إلى أن نُولي اهتمامًا كبيرًا بكل من القضيتين، يوجه اهتمامنا بقوة نحو الصلة الوثيقة لبعض القضايا الأساسية، وإن كانت مُغْفَلة في السياسة العامة التي تُعالِج قضايا الفقر وعدم المساواة والأداء الاجتماعي منظورًا إليها من منظور الحرية. وإن العلاقة الوثيقة لكل من الأحكام الجمعية والإفرادية في تقييم عملية التنمية هي علاقة محورية وحاسمة لفهم تحديات التنمية. ولكن هذا لا يستلزم منا أن نصنف جميع الخبرات التنموية في منظومة خطية واحدة. وأعتقد أن الشيء المهم إلى أقصى حدٍّ، والذي لا غِنى عنه، هو توفُّر فَهْم ملائم وصحيح عن الأساس المعلوماتي للتقييم؛ نوع المعلومات التي نريدها للدراسة لكي يَتسنَّى تقييم ما يجري وما الذي كان مصيره على نحو خطر الإهمال.
وواقع الحال أننا، كما ناقشنا في السابق٨ على مستوى النظرية البحتة عن العدالة، سوف نخطئ أن نَحصُر أنفسنا قبل الأوان داخل منظومة مُحدَّدة «لتقدير وزن» بعض هذه المهام المتنافسة. مما سوف يُقيد بشدة مساحة اتخاذ القرار على نحو ديمقراطي لحسم هذا الوضع المحوري. إن الأفكار الأساسية عن العدالة يمكن أن تُفرِز بعض القضايا الرئيسية باعتبارها وثيقة الصِّلَة لا محالة. ولكنني أكدتُ أن ليس بإمكانها أن تنتهي، على نحو مقبول عقلًا، باختيار وحيد لصيغ مُحدَّدة تمامًا على الأوزان النِّسبية باعتبارها المُخطَّط الوحيد «للمجتمع العادل».٩مثال ذلك أن المجتمع الذي يسمح بوقوع مجاعات بينما في الإمكان اتقاؤها هو مجتمع ظالِم على نحو واضح. بَيْدَ أنَّ هذا التشخيص يجب ألا يستند إلى اعتقاد بأن نمطًا فريدًا لتوزيع الغذاء أو الدَّخل أو الاستحقاقات بين الجميع في هذا البلد سيكون عادلًا تمامًا، مقترنًا بتوزيعات أخرى دقيقة (كلها منظمة على نحو كامل متكافئ). إن أعظم ما يَكشِف عن الصِّلَة الوثيقة بالأفكار عن العدالة يَكمُن في تحديد الظُّلم الصارخ المُتفشِّي الذي يمكن عقد اتفاق بشأنه على أساس مِن تفكير عقلاني وليس مُجرَّد استخلاص بعض الصِّيَغ الموجودة عن الكيفية التي ينبغي أن يُدار بها العالم تحديدًا.
-
ثالثًا: ليس مهمًّا حتى في حدود قُلقِنا بشأن
الظلم الصارخ المُتفشِّي. معرفة إلى أي
مدًى في ضوء الحجج الأخلاقية التأسيسية
لا بد أن يتوقف في الممارسة العملية
ظهور اعتراف مُشترَك بذلك الظلم على
نقاش صريح مفتوح بشأن القضايا والجدوى.
إن مظاهر عدم المساواة المُفرِطة في
شئون العِرق والجنوسة والطبقة غالبًا
ما تَظلُّ باقية في إطار الفهم
الضِّمْني المتمثل في عبارة «لا بديل»
(هذا إذا استخدمنا عبارة مارجريت تاتشر
التي راجت على يديها على الرغم من
اختلاف السياق)، مثال ذلك يُلاحَظ في
المجتمعات التي تَفشَّى فيها الانحياز
ضد الأنثى وبدَا كأنه إحدى المسلَّمات،
أنَّ فَهْم الناس لحتمية هذا الوضع
ربما يَستلزِم معرفة تجريبية ودراسات
تحليلية. وهذه عملية تقتضي جهدًا
ومُثابرة للتحدِّي في كثير من الأحيان.١٠ ولا ريب في أن دور النقاش
العام من خلال الجدل بشأن حكمة
التقاليد والأعراف فيما يتعلق بالمسائل
العملية والأحكام التقييمية يمكن أن
يمثل دورًا محوريًّا من حيث الاعتراف
بالظلم القائم.
ومع التسليم بدور الحوارات والنقاشات العامة وضرورتها لصوغ واستخدام قيمنا الاجتماعية (التي تتعامل مع دعاوى متنافسة عن المبادئ والمعايير المختلفة) فإن الحقوق المدنية الأساسية والحريات السياسية لا غنى عنها من أجل نشوء قيم اجتماعية. والحقيقة أن حرية المشارَكة في التقييم النَّقْدي، وفي عملية صياغة القيم هي من أهم الحريات الحاسمة للوجود الاجتماعي؛ إذ ليس بالإمكان حَسْم أمر اختيار القيم الاجتماعية بمجرَّد صدورها عن سُلطة لها الهيمنة على دعامات الحكم. وإنما يتعين علينا، كما عرضنا سابقًا، النظر في سؤال كثيرًا ما يَتكرَّر في الدراسات الخاصة بالتنمية ويأخذ وجهة خاطئة من أساسها: هل الديمقراطية والحقوق السياسية والمدنية الأساسية تُسهِم في النهوض بعملية التنمية-التطوير؟ أو بمعنى أصح أن ندرك أن نشوء ورسوخ هذه الحقوق يُمثِّل عاملًا تأسيسيًّا لعملية التنمية-التطوير.
وهذه النقطة مستقلة تمامًا عن الدور الأداتي للديمقراطية والحقوق السياسية الأساسية لتوفير الأمن والحماية لجماعات المستضعفين؛ ذلك أن ممارسة هذه الحقوق يمكن أن تساعد في الحقيقة في جعل الدول أقدر على الاستجابة لأزمة المستضعفين، مما يسهم في اتقاء وقوع كوارث اقتصادية من مثل المجاعات. ولكن بعيدًا عن هذا الإطار فإن الدعم العام للحريات السياسية والمدنية يمثل عاملًا محوريًّا لعملية التنمية-التطوير ذاتها. إن الحريات وثيقة الصلة بموضوعنا هذا تتضمن حرية العمل كمواطِنِين لهم شأنهم، ولأصواتهم اعتبار، وليسوا مُجرَّد بشر يحيون خانعين قانعين بحظهم الجيد من طعام، ولباس، وكرم ضيافة. إن الدور الأداتي للديمقراطية ولحقوق الإنسان مهم ولا يدانيه أي ريب؛ ولهذا يَتعيَّن أن نُميِّزه عمَّا له من أهمية تأسيسية.
- رابعًا: إن نهجًا في بحث ودراسة العدالة والتنمية، ويركز على الحريات الموضوعية، لا بد له لزومًا أن يضع في بؤرة الاهتمام فعالية الأفراد وأحكامهم؛ إذ لا يمكن النَّظَر إليهم باعتبارهم مُجرَّد حالات مَرَضية سيتلقون منافع عملية التنمية-التطوير، وإنما يَتعيَّن على البالغين المسئولين أن يَتحمَّلوا مسئولية الرفاه الخاص بحياتهم. وإن عليهم هم أن يُقرِّروا كيف يفيدون بقدراتهم، ولكن القدرات التي يتمتع بها المرء عمليًّا (وليس نظريًّا) تتوقف على طبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يمكن أن تكون حاسمة بالنسبة إلى الحريات الفردية. وهنا لا يمكن للمجتمع أو الدولة أن يَتملَّصَا من المسئولية.
إنها مسئولية مُشترَكة بين أبناء المجتمع، كمثال، العمل على إنهاء نظام عَمَل السُّخْرة؛ حيث يَشيع هذا الأسلوب، وأن يَتحرَّر العمال من رِبْقَة السُّخْرة حتى يتسنَّى لهم بمحض حريتهم قبولُ العمل في أي مكان. وإنها لَمسئولية المجتمع كذلك أن تتشابك السياسات الاقتصادية مع مهمة توفير فُرَص واسعة للعمالة والتي يَتوقَّف عليها بشكل حاسم قدرة الاقتصاد والمجتمع على البقاء واطراد الحياة. ولكن في نهاية المطاف هي مسئولية الفرد أن يقرر كيف يفيد من فرص العمالة المتاحة له، وأي اختيارات يختارها لنفسه للعمل. وبالمثل فإن حرمان طفل من فُرَص التعليم الأساسي، أو حرمان مريض من الرعاية الصحية الضرورية؛ يُمثِّل إخفاقًا لمعنى المسئولية الاجتماعية. ولكن الاستخدام المحدَّد والدقيق للمُكتَسبات التعليمية، أو للإنجازات الصحية لا يمكن إلا أن يكون أمرًا للشخص نفسه أن يُحدِّده.
كذلك الحال بالنسبة إلى مسألة تمكين المرأة عن طريق فرص العمالة والتنظيمات الخاصة بالتعليم، وحقوق الملكية وغير ذلك؛ إذ إن هذا من شأنه أن يعطي المرأة حُرِّيَّة أكبر للتأثير في أمور كثيرة مُتبايِنة من مثل تقسيم الرعاية الصحية ودور وحق كل شخص داخل الأسرة، وأيضًا تقسيم حصص الغذاء والسلع الأخرى، والاستعدادات الخاصَّة بالعمل علاوة على التأثير في مُعدَّلات الخصوبة. بَيْدَ أنَّ مُمارَسة هذه الحرية المدعومة اجتماعيًّا هي في نهاية المطاف أمرٌ مَوكول للمرأة نفسها. وثمة تَنبُّؤات إحصائية بشأن سبيل استخدام هذه الحرية (مثال ذلك التنبؤ بأن تعليم الأنثى، والفُرص المتاحة لها للعمل سوف يُؤدِّيان إلى خَفْض معدلات الخصوبة والحد من تكرار الحَمل لمرات عديدة). وواضح أن هذه التنبؤات لا تنفي حقيقة أن المعوَّل عليه، كما هو مُتوقَّع مسبقًا، هو ممارَسة المرأة ذاتها للحرية المدعومة اجتماعيًّا.
ما الفارق الناتج عن تطبيق الحرية؟
وأكد العديدون من الاقتصاديين المعنيين بالتنمية أهمية حرية الاختيار باعتبارها معيارًا للتنمية. أذكر على سبيل المثال بيتر باور صاحب السِّجِل الكامل من «المعارَضة» في اقتصاد التنمية، والذي يتضمن كتابًا يُعبِّر عن بصيرة نافذة يحمل عنوان «المعارضة بشأن التنمية»، وجادَل بقوة دفاعًا عن التوصيف التالي للتنمية:
لماذا الفارق؟
من المهم في هذا السياق أن نسأل عمَّا إذا كان هناك فارق موضوعي بين التحليل التنموي الذي يركز (مثلما آثر لويس وكثيرون غيره أن يفعلوا ذلك) على زيادة نصيب الفرد من المنتج (مثل نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي)، وبين المزيد من التركيز الأساسي على التَّوسُّع في الحرية الفردية. وحيث إن الاثنين مُترابطان (كما أشار لويس عن صواب) لماذا هذان النهجان في دراسة التنمية — المترابطان على نحو لا مناص منه — لا يتطابقان موضوعيًّا؟ ما الفارق الناجم عن التركيز على الحرية؟
يظهر الفارق لسببين متمايزين، كل منهما مرتبط «بجانب العملية» و«جانب الفرصة» للحرية. أولًا: حيث إن الحرية معنية بعمليات اتخاذ القرار، وكذلك بفرص إنجاز منتج ذي قيمة، فإن نطاق اهتمامنا لا يمكن حصره فقط في إطار الناتج في صورة النهوض بنسبة عالية من المنتج أو الدخل أو توليد نسبة عالية من الاستهلاك (أو أي متغيرات أخرى ذات علاقة بمفهوم النمو الاقتصادي). وإن هذه العمليات من مِثل المشارَكة في القرارات السياسية والاختيار الاجتماعي لا يمكن اعتبارها — على أحسن الفروض — ضمن وسائل التنمية (أي من خلال مساهمتها في النمو الاقتصادي)، ولكن يَتعيَّن فَهمُها كأجزاء تكوينية تأسيسية في ذاتها من غايات التنمية.
إنني لا أريد أن أمضي إلى نهاية الطريق الذي سلكه هاييك (إذ فصل بين الحرية والاستفادة العملية بها). ولكن أود أن أؤكد أن للحرية وجوهًا كثيرة. وجه الحرية من حيث هي عملية، الذي يتعين أن نفكر فيه مقترنًا بوجه الفرصة، كما أن وجه الفرصة ذاته يتعين النظر إليه في ضوء الأهمية الأصلية، وكذا المشتقة أو التابعة. علاوة على هذا، فإن حرية المشاركة في النقاش العام وفي التفاعل الاجتماعي يمكن أن يكون لها دور تأسيسي في صوغ القيم والأخلاق. ولهذا نرى أن التركيز على الحرية يسبب فارقًا حقيقيًّا.
رأس المال البشري والقدرة البشرية
تُرى ما علاقة هذا التَّحوُّل في النظر إلى التنمية باعتبارها حرية على نحوٍ ما هو مَعروض في هذا الكتاب؟ أو يمكن أن نسأل، على نحو أكثر تحديدًا، ما العلاقة بين التَّوجُّه نحو «رأس المال البشري»، وتأكيد «القدرة البشرية»، الذي يمثل محور اهتمام هذا الكتاب؟ يبدو كِلا الاتجاهين يَضعان البشرية محور الاهتمام. ولكن هل هناك اختلافات والتقاءات؟ يمكن القول، مع قدر من المُخاطرة بالتبسيط المُخِل، إن الدراسات عن رأس المال البشري تنزع إلى التركيز على فعالية البشر في زيادة إمكانات الإنتاج. ولكن منظور القدرة البشرية يضع، من ناحية أخرى، في بؤرة الاهتمام قدرة — الحرية الموضوعية — الناس على بناء حياة لديهم أسباب للنظر إليها كشيء قيم، وعلى تعزيز خياراتهم الحقيقية. ولا ريب في أن المَنظورَين مُترابطان بالضرورة، ما داما مَعنِيَّين بدور البشر، وبخاصة قدراتهم الفعلية التي يحققونها ويكتسبونها. ولكن أداة قياس التقدير تُركِّز على إنجازات مختلفة.
إن الشخص إذا ما توفَّرت له السِّمات الشخصية والخلفية الاجتماعية والمُلابسات الاقتصادية … إلخ، تُصبح لديه القدرة على أداء أمور مُعيَّنة لديه المبرر لتقييمها. وقد يكون سبب التقييم مباشرًا (الأداء الوظيفي المُتضَمن يمكن أن يُثْرِي مباشرة حياته بأن يَتوفَّر له غذاء جيد أو صحة جيدة). وقد يكون غير مباشر (الأداء الوظيفي الفردي يمكن أن يسهم في مزيد من الإنتاج أو يحقق كسبًا في السوق). كذلك فإن منظور رأس المال البشري يمكن — من حيث المبدأ — تحديده على نحو عام جدًّا ليشمل كلًّا مِن نمطي التقييم. ولكن معناه تحدد — عن طريق العرف — في ضوء قيمة غير مباشرة: الخصائص البشرية التي يمكن توظيفها «كرأسمال» في الإنتاج (على نحو ما يحدث بالنسبة إلى رأس المال المادي). وحسب هذا المعنى فإن النظرة الأضيق إلى نهج رأس المال البشري تتطابق مع المنظور الأكثر شمولًا عن القدرة البشرية، الذي يمكن أن يشمل كلًّا من النتائج المباشرة وغير المباشرة المترتِّبة على القدرات البشرية.
ولنتأمل معًا مثالًا: إذا كان التعليم من شأنه أن يجعل المرء أكثر كفاءة في إنتاج السلعة، فإن هذا يُمثِّل بوضوح تعزيزًا لرأس المال البشري. ويمثل هذا إضافة إلى قيمة الإنتاج في الاقتصاد، وكذلك إلى دخل الشخص المتعلم. ولكن يمكن لشخص ما، حتى بمستوى الدخل نفسه، أن يفيد بالتعليم. في القراءة والاتصال والمُحاجَّة، وفي القدرة على الاختيار بأسلوب أبعد عن الرسميات، وفي أن يأخذه الآخَرُون على نحو جادٍّ … إلخ. وهكذا تتجاوز فوائد التعليم دوره كرأسمال بشري في إنتاج السلع. والجَدير بالمُلاحَظة أن المَنظور الأوسع للقدرة البشرية يُثَبِّت ويقيِّم هذه الأدوار الإضافية أيضًا. معنى هذا أن المَنظورَين وَثِيقَا الارتباط ببعضهما، وإن ظَلَّا مُتمايِزَين.
وحَرِي أن نُدرِك أن التَّحوُّل المهم الذي حدث خلال السنوات الأخيرة، وأضفى قدرًا أكبر من الاعتراف بدور «رأس المال البشري» يفيد كثيرًا لفهم العلاقة الوثيقة بمنظور القدرة؛ إذ لو كان شخص ما بِمقدوره أن يصبح أكثر إنتاجية في إنتاج السِّلَع بفضل تَعليم أفضل وصحة أفضل … إلخ، فإن من الطبيعي أن نَتوقَّع له أن يكون قادرًا أيضًا، وبفضل هذه الوسائل ذاتها، أن يُحقِّق على نحو مباشر إنجازات أكثر، وأن تتوفر له الحرية لمزيد من الإنجاز، في سبيل التَّحكُّم في توجيه حياته.
ويتضمن منظور القدرة إلى حدٍّ ما، عودة إلى نَهْج موحَّد في دراسة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، الذي اسْتَهْلَه آدم سميث (في كل من «ثروة الأمم»، وفي «نظرية العواطف الأخلاقية»). ونلحظ أن سميث في تحليله العملية تحديد إمكانات الإنتاج أكَّد دَوْر التعليم، مثلما أكد تَقسيم العمل والتَّعلُّم من خلال العمل وتكوين المهارات. ولكنَّ تَطوُّر القدرة البشرية في بناء حياة قيمة (وأيضًا حياة أكثر إنتاجية) يُمثِّل فكرة محورية للغاية في التحليل الذي قَدَّمه سميث في كتابه «ثروة الأمم».
والحقيقة أن آدم سميث في مُحاجَّاته مع دافيد هيوم تَهيَّأتْ له الفرصة لَيؤكد على أننا إذ نرى البشر فقط من حيث استخدامهم في المجال الإنتاجي إنما نحط من قدر وقيمة الطبيعة البشرية:
وعلى الرغم من فائدة مفهوم رأس المال البشري، فإن من المهم أن ننظر إلى البشر من منظور أعم وأرحب. يجب أن نَتجاوز فكرة رأس المال البشري بعد اعترافنا بصلته الوثيقة بموضوعنا وبمداه. ولا ريب في أن التوسُّع المنشود يُمثِّل إضافة وشمولًا أكثر وليس بديلًا بأي معنى من المعاني عن منظور «رأس المال البشري».
ومن المهم أن ندرك أيضًا الدور الأدائي لتوسيع نطاق القدرة لتشمل التغيير الاجتماعي (متجاوزين التغير الاقتصادي). والحقيقة أن دور البشر حتى باعتبارهم أدوات تغيير يمكن أن يتجاوز كثيرًا حدود الإنتاج الاقتصادي (الذي يشير إليه منظور رأس المال البشري كقاعدة عامة) ليشمل التطوير الاجتماعي والسياسي. مثال ذلك، وكما سبق أن ذكرنا، أن التوسُّع في تعليم الإناث يمكن أن يحدَّ من عدم المساواة بين الجنسين في التوزيع داخل الأسرة، كما يساعد على خفض معدلات الخصوبة، وأيضًا نِسَب وفيات الأطفال. علاوة على هذا، فإن التوسُّع في التعليم الأساسي يمكن أن يُؤدِّي إلى تَحسُّن خصائص الحوارات العامة. وهذه جميعها إنجازات أداتية تُمثِّل في نهاية المطاف أهمية كبرى؛ أي تَخرُج بنا عن نطاق إنتاج السلع المُحدَّد حسب المعنى التقليدي.
- (١)
صِلَتها المباشرة الوثيقة برفاه وحرية الناس.
- (٢)
دورها غير المباشر من خلال التأثير في التغيير الاجتماعي.
- (٣)
دورها غير المباشر من خلال التأثير في الإنتاج الاقتصادي.
وغني عن البيان أن العلاقة الوثيقة لمنظور القدرة تُجسِّد كلًّا من هذه المساهمات. ونجد في المُقابل الدراسات التقليدية تنظر إلى رأس المال البشري في ضوء الدور الثالث فقط. وهنا شمول واضح ومُهم في الحقيقة. بَيْدَ أنَّ هناك أيضًا حاجة ماسَّة إلى تجاوز ذلك الدور المحدود والمُحدَّد لرأس المال البشري في فهم التنمية-التطوير باعتباره حرية.
ملاحظة ختامية
حاولتُ في هذا الكتاب أن أعرض وأُحلِّل وأدافع عن نَهْج مُحدَّد في دراسة التنمية باعتبارها عملية توسُّع في الحريات الموضوعية التي يَتمتَّع بها الناس. واستخدَمْنا منظور الحرية في كلٍّ من التحليل التقييمي لتقدير التغيير، والتحليل الوصفي التَّنبُّئي؛ لنرى الحرية عاملًا فعالًا وسببًا لتوليد تغيير سريع.
وناقشتُ أيضًا دلالات وآثار هذا النهج عند تحليل السياسة، وكذا لفهم الروابط العامة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وتُسهِم في عملية التنمية-التطوير مجموعة مختلفة من المؤسَّسات الاجتماعية. ويرتبط جميعها بعملية تشغيل وإدارة الأسواق، والإدارات الحكومية، والمؤسسات التشريعية، والأحزاب السياسية، والمُنظَّمات غير الحكومية، والمؤسسات القضائية، والمؤسسات الإعلامية، والمجتمع كله بعامة. ويَتحقَّق إسهامها في الواقع من خلال تأثيراتها في دَعْم وتعزيز الحُرِّيات الفردية. وتَستلزِم الدراسة التحليلية للتنمية تَوَفُّر فَهْم متكامل عن دور كل من هذه المؤسَّسات المختلفة وتفاعلاتها. كذلك فإن صياغة القيم وظهور وتَطوُّر الأخلاق الاجتماعية تُشكِّل جزءًا من عملية التنمية-التطوير التي تستحق الاهتمام في مُوازاة مع عملية إدارة وعمل الأسواق، والمؤسَّسات الأخرى. ودراستنا هذه ما هي إلا محاولة للفهم والتحقق من هذا الهيكل المتداخل، ولاستخلاص الدروس اللازمة لإنجاز التنمية-التطوير وفق هذا المنظور العام.
وجدير بالذِّكْر أنَّ من السمات المميزة للحرية أن لها جوانب متباينة تتعلق بمجموعة مختلفة من الأنشطة والمؤسَّسات. إنها لا تثمر نظرة إلى التنمية يمكن تَرجمتُها على نحو جاهز إلى «صيغ» بسيطة عن تَراكُم رأس المال أو انفتاح الأسواق أو إعداد تخطيط اقتصادي كفء، (على الرغم من أن كلًّا من هذه القسمات المُحدَّدة تدخل ضمن الصورة الأعم). إن المبدأ المُنظِّم الذي يضع كل قطعة أو جزء مختلف داخل كلٍّ موحَّد متكامل هو الهم الأكبر في عملية دعم وتعزيز الحريات الفردية والالتزام الاجتماعي؛ لكي يساعدنا على إنجاز الهدف. وإن هذه الوحدة شأن مهم. بيد أنَّنا في الوقت نفسه لا يَسعُنا إغفال حقيقة أن الحرية مفهوم مُتنوِّع الدلالة بطبيعته الأصيلة. ويَتضمَّن هذا المفهوم — كما أوضحنا بإسهاب — اعتبارات خاصَّة بالعمليات، وكذا بالفُرص الموضوعية المتاحة.
التنمية-التطوير التزام جليل الشأن ننجزه بإمكانات الحرية.