التنمية: الوسائل والغايات
ليسمح لي القارئ بأن أبدأ بالتمييز بين مَوقفَين عامَّيْن من عملية التنمية، قد نَجدُهما في كل من التحليل الاقتصادي المهني وفي المناقَشات والحوارات العامة. يرى أحد المَوقِفَين التنمية باعتبارها عملية «خيارية» مصبوغة بقدر كبير من «الدَّم والعَرَق والدُّموع». عالَم تقتضي فيه الحكمة التزامًا بالواقعية القاسية. إنها تستلزم بوجه خاصٍّ إغفالًا محسوبًا لاهتمامات مُتبايِنة تبدو في نظر البعض «خرقاء». واعتمادًا على نوع الخطر القاتل الذي يُفضِّله المؤلف، فإن الغوايات التي يتعين مقاومتها يمكن أن تتضمن توافُر شبكات ضمان اجتماعي لحماية أشد الناس فقرًا، وتهيئة الخدمات الاجتماعية لأوسع قدر من السكان، والتَّخلِّي عن المبادئ التوجيهية المؤسَّسية الصارمة استجابة لمشاق وصعوبات محدَّدة، وإيثار — في وقت مبكر جدًّا — الحقوق السياسية والمدنية و«ترف» الديمقراطية. ويؤكد أصحاب هذا النَّهج المَوقِفي الصارم أن هذه الأمور يمكن دعمها في فترة تالية بعد أن تكون عملية التنمية قد حقَّقَت ثمارًا كافية؛ إن ما هو مطلوب هنا والآن «واقعية قاسية ونظم». وجدير بالملاحَظة أن النظريات المختلفة التي تتقاسم هذه النظرة العامة تتباين الواحدة منها عن الأخرى من حيث الإشارة إلى مجالات الحُمق المتمايزة التي يَتعيَّن تحاشيها والتي تتراوح من حُمق مالي إلى استرخاء سياسي، ومن نفَقات مالية اجتماعية وفيرة إلى إعانة فقر متواضعة.
إن هذا الموقف القائم على الضربات العنيفة يَتباين مع نظرة بديلة ترى التنمية في جوهرها عملية «ودية». واعتمادًا على الصيغة المُحدَّدة لهذا الموقف يتجلَّى لنا تجانُس العملية على النحو الذي جسدته أمور مثل التحويلات ذات النفع المتبادَل (الذي حدثنا عنه آدم سميث باستفاضة)، أو تنشيط شبكات الضمان الاجتماعي، أو الحريات السياسية، أو التنمية الاجتماعية. أو توليفات على هذا النحو أو ذاك من هذه الأنشطة الداعمة.
الدور التأسيسي والدور الأداتي للحرية
وليسمح لي القارئ بأن أشير هنا إلى مثال ناقشته بإيجاز في المقدمة (والذي يتضمن مسألة غالبًا ما تثيرها الأدبيات عن التنمية)، ويتعلق بتوضيح كيف أن الإقرار بالدور «التأسيسي» للحرية يمكن أن يغير التحليل التنموي. والمُلاحَظ في إطار الآراء ضيقة الأفق عن التنمية (في ضوء نمو إجمالي الناتج القومي مثلًا أو التصنيع) غالبًا ما يثار سؤال عَمَّا إذا كانت حرية المشاركة السياسية والمُعارَضة «تفضي أو لا تفضي إلى التنمية». ولكن هذا السؤال في ضوء النظرة الأساسية عن التنمية كحرية سوف يبدو صياغة قاصرة؛ إذ يعيبه غياب الفهم الحاسم بأن المشارَكة السياسية والمعارَضة جزءان تأسيسيان من عملية التنمية ذاتها. إن المرءَ، حتى لو كان من أكثر الناس ثراء، إذا ما حيل بينه وبين التعبير بحرية عن رأيه أو إذا حظرت عليه المشاركة في الحوارات العامة أو في اتخاذ القرارات العامة؛ فإنه يصبح بذلك محرومًا من شيء يراه عن حق شيئًا قيمًا. وإن عملية التنمية إذا ما حكمنا عليها على أساس تعزيز الحرية البشرية فلا بد أن تتضمن إزاحة هذا الحرمان الذي يعانيه المرء. إننا حتى لو افترضنا أنه ليست لديه مصلحة مباشرة في ممارسة حقه في حرية التعبير أو في حرية المشاركة، فإن هذا الوضع — على الرغم من هذا — سيظل يمثل حرمانًا من حريات المرء؛ لأنه بلا خيار إزاء هذه الأمور. لذلك لا يسع التنمية، التي هي تعزيز للحرية، إلا أن تعالج مثل هذا الحرمان. وجدير بالذِّكْر أن الصلة الوثيقة التي تربط الحرمان من الحريات السياسية الأساسية أو الحقوق المدنية، بالفهم الملائم للتنمية، يجب ألا تحددها من خلال المساهمة غير المباشرة للقسمات الأخرى للتنمية (من مثل زيادة إجمالي الناتج القومي أو دعم التصنيع)؛ ذلك أن هذه الحريات جزء من لحمة وسدى إثراء عملية التنمية.
وتتمايز هذه الفكرة الأساسية عن الحجة «الأداتية» من حيث إن هذه الحريات والحقوق يمكن أيضًا أن تكون أداة شديدة الفعالية والكفاءة للإسهام في التَّقدُّم الاقتصادي. ولا ريب في أن الرابطة الأداتية مهمة بالمثل (وهو ما سنناقشه تحديدًا في الفصلين الخامس والسادس) ولكن أهمية ودلالة الدور الأداتي للحرية السياسية كوسيلة للتنمية لا تقلل أبدًا من الأهمية القيمية للحرية كغاية للتنمية.
وحري أن ندرك أن الأهمية الجوهرية والأصيلة للحرية البشرية باعتبارها الهدف الأسمى للتنمية لا بد من تمييزها عن الفعالية الأداتية للحرية بأنواعها المختلفة التي تعمل على النهوض بالحرية البشرية وتعزيزها. وحيث إن اهتمامي في الفصل الأخير ينصبُّ أساسًا على الأهمية الجوهرية للحرية، فإنني سوف أركز الآن أكثر على فعالية الحرية كوسيلة، وليس كغاية فحسب. ويُعنى الدور الأداتي للحرية بالطريقة التي تسهم بها الأنواع المختلفة من الحقوق والفرص والصلاحيات لتوسيع نطاق الحرية الإنسانية بعامة، ومن ثم دعم وتعزيز التنمية. وهذا لا يتعلق فقط بالرابطة الواضحة والمتمثلة في أن توسيع نطاق الحرية بأنواعها المختلفة سوف يسهم بالضرورة في التنمية، ما دامت التنمية ذاتها يمكن النظر إليها باعتبارها توسيعًا للحرية الإنسانية بعامة. ذلك أن الرابطة الأداتية تنطوي على ما هو أكثر كثيرًا من هذه الرابطة التأسيسية؛ إذ تكمن فعالية الحرية — كأداة — في حقيقة أن الأنواع المختلفة من الحريات ترتبط بعلاقات متداخلة فيما بين الواحدة والأخرى، ثم إن نمطًا بذاته من الحرية يمكن أن يُسهم مساهمة بالغة في تقدم الأنماط الأخرى للحرية. وهكذا توجد روابط تجريبية تجمع بين الدورين وتربط نوعين من الحرية بالأنواع الأخرى.
الحريات الأداتية
إنني إذ أعرض في هذا الكتاب عددًا من الدراسات التجريبية، سوف تتهيأ لي فرصة مناقَشة عدد من الحريات الأداتية التي تسهم، على نحو مباشر أو غير مباشر، في مجمل الحرية التي يتمتع بها الناس ليحيوا بالطريقة التي يودون أن يعيشوا بها. وتتضمن المناقشة متنوعات عديدة ومتباينة من الأدوات. ولكن قد يكون ملائمًا أن نحدد خمسة أنماط متمايزة للحرية التي يمكن أن نراها جديرة حقًّا بأن نؤكد عليها في هذا المنظور الأداتي. وهذه ليست على الإطلاق قائمة جامعة مانعة؛ بيد أنها يمكن أن تساعدنا على التركيز على بعض قضايا مُحدَّدة للسياسة، التي تستأهل اهتمامًا خاصًّا في هذه الأيام.
وسوف أبحث تحديدًا الأنماط التالية من الحريات الأداتية: (١) الحريات السياسية، (٢) التسهيلات الاقتصادية، (٣) الفرص الاجتماعية، (٤) ضمانات الشفافية، (٥) الأمن الوقائي. وتميل هذه الحريات الأداتية إلى المساهَمة في القدرة العامة للشخص على الحياة بحرية أكثر، ولكنها تفيد كذلك من حيث إنها يكمل بعضها بعضًا. وإذا كان يَتعيَّن من ناحية أن يُعنَى تحليل التنمية بالموضوعات والأهداف التي تجعل هذه الحريات، تأسيسًا على نتائجها، أمرًا مهمًّا، إلا أنه يتعين كذلك الوعي بالروابط التجريبية التي توثِّق الرابطة بين الأنماط المتمايزة للحرية وتجمعها معًا على نحو يدعم أهميتها المشتركة. إن هذه الروابط في حقيقتها روابط محورية من أجل الوصول إلى فهم أكثر اكتمالًا للدور الأداتي للحرية. وغنيٌّ عن البيان أن الزعم بأن الحرية ليست فقط مُجرَّد هدف أَوَّلي للتنمية، وإنما أيضًا هي الوسيلة الأساسية للتنمية، زَعْمٌ قائم على هذه الروابط المشتركة.
وليسمح لي القارئ بتعليق صغير على كل من هذه الحريات الأداتية: أولًا: الحرية السياسية حسب المنهج العام لها (شاملة ما يُسمَّى الحقوق المدنية) تشير إلى الفُرص المتاحة للناس لكي يُحدِّدوا مَن له الحكم، وعلى أي المبادئ يحكم، كما تَتضمَّن أيضًا إمكان النظر نظرة فاحصة للسُّلطات وانتقادها، وأن يتمتعوا بحرية التعبير السياسي وإصدار صُحف دون رقابة، وحرية الاختيار بين أحزاب سياسية مختلفة، وهكذا … إلخ. وتشتمل كذلك على الاستحقاقات السياسية المقترنة بنظم الحكم الديمقراطية بأوسع معانيها (من مثل الفرص للحوار والاختلاف والنقد السياسي وكذا حق الاقتراع وحق المشاركة في انتخاب أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية).
وتشير التسهيلات الاقتصادية إلى الفرص التي يتمتع بها كل طرف لاستخدام موارده الاقتصادية والانتفاع بها لفرض الاستهلاك أو الإنتاج أو التبادل التجاري. وتعتمد الاستحقاقات الاقتصادية للمرء على الموارد المملوكة أو المتاحة له لاستخدامها وفق شروط التبادل التجاري؛ مثل: الأسعار المناسبة، ونُظُم تشغيل وإدارة الأسواق. وما دامت عملية التنمية الاقتصادية تُفضِي إلى زيادة دخل البلاد وثروتها. فسوف ينعكس هذا كله فيما يقابله من دعم وتعزيز للاستحقاقات الاقتصادية للسكان. وحَرِيٌّ بأن يكون واضحًا أنه من حيث العلاقة بين الدَّخْل القومي والثروة القومية من ناحية، والاستحقاقات الاقتصادية للأفراد (أو العائلات) من ناحية أخرى، فإن اعتبارات التوزيع تكون مُهِمَّة علاوة على اعتبارات التجميع؛ ذلك أن كيفية توزيع الدخول الإضافية المنتجة من شأنها أن تكشف عن فارق واضح.
إن تَوافُر التمويل وسبل الوصول إليه يمكن أن يكون له أثر حاسم في الاستحقاقات الاقتصادية التي تستطيع أن تؤمنها عمليًّا العناصر الاقتصادية الفاعلة. ويصدق هذا، سواء بالنسبة إلى المشروعات الكبرى (حيث يعمل مئات الآلاف) أو بالنِّسبة إلى المؤسَّسات الصغرى التي تعمل اعتمادًا على قروض ائتمانية صغيرة. ولا ريب في أن أي عجز ائتماني يمكن أن يُؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في الاستحقاقات الاقتصادية المُعتمَدة على مثل هذا القرض الائتماني.
وتُشير الفرص الاجتماعية إلى الترتيبات التي يتخذها المجتمع بالنسبة إلى موضوعات التعليم والرعاية الصحية وغيرها، والتي تُؤثِّر في الحرية الموضوعية للفرد من أجل حياة أفضل. وهذه التسهيلات ليست مُهمَّة فقط من أجل صياغة حياة خاصة (كأن ينعم المرء بحياة صحية ويتجنب الأمراض التي يمكن تَوقِّيها كما يَتجنَّب الموت المُبكِّر)، بل مهمة أيضًا لتحقيق مُشارَكة أكثر فعالية وكفاءة في الأنشطة الاقتصادية والسياسية. مثال ذلك، الأمية التي يمكن أن تكون عائقًا كبيرًا يَحُول دون المشاركة في الأنشطة الاقتصادية التي تستلزم إنتاجًا وفق مواصفات مُحدَّدة، أو تتطلب إدارة من نوعية صارمة (وهو ما نراه يتزايد باطراد في التجارة المُعَولَمة). كذلك بالمثل يمكن إعاقة المُشارَكة السياسية بسبب العجز عن قِراءة الصُّحف أو عن الاتصال كتابة بالآخَرين المُشاركِين في الأنشطة السياسية.
وأنتقل الآن إلى الفئة الرابعة، يتعامل الأفراد بعضهم مع بعض من خلال التفاعل الاجتماعي على أساس من الافتراض المسبق تقديريًّا بشأن ما هو مطروح عليهم وما يستطيعون تَوقُّعه. وحسب هذا المعنى يعمل المجتمع على أساس من الثقة المُفتَرضة مسبقًا. وتتعلق ضمانات الشفافية بالحاجة إلى الصراحة التي يَتوقَّعها الناس: حرية التعامل المشترك وفق ضمانات تَكفُل الاطلاع والوضوح. وإذا حدَث أن انتُهِكَت هذه الثقة على نحو خَطَر فإن نقص الصراحة يمكن أن يُؤدِّي إلى الإضرار بحياة كثيرين، سواء من الأطراف المباشرين أو أطراف وسيطة. وهكذا يمكن أن تمثل ضمانات الشفافية (بما في ذلك حق الاطلاع) فئة مهمة بين فئات الحرية الأداتية. وطبيعي أن لهذه الضمانات دورها الأداتي الواضح للحيلولة دون الفساد واللامسئولية المالية والتعاملات السرية.
أخيرًا، ليس المهم مدى الإجادة في تشغيل منظومة اقتصادية؛ ذلك أن بعض الناس يمكن أن يكونوا على شفا التعرض لخطر، وثمة إمكان فعلي للوقوع فريسة لحرمانٍ نتيجة حدوث تغيرات مادية تضر بحياتهم؛ لهذا يكون الأمن الوقائي لازمًا لتوفير شبكة ضمان اجتماعي للحيلولة دون وقوع مَن أصابهم ضَرَر فريسة لفقر مُدقِع، بل وفريسة لمجاعة أو للموت في بعض الحالات. ويتضمن مجال الأمن الوقائي توافر ترتيبات مؤسسية ثابتة من مثل إعانات البطالة وإضافات أو تكملات قانونية للدخول تضاف إلى دخول المُعْوزين. هذا علاوة على ترتيبات مُخصَّصة لأغراض مُحدَّدة مثل مساعدات الإغاثة في حالة المجاعات أو توفير عمالة عامة للطوارئ بهدف توليد دخل للمعدمين.
العلاقات المتداخلة والتكاملية
هذه الحريات الأداتية تعزز بشكل مباشر قدرات الناس، ولكنها أيضًا تكمل بعضها بعضًا، بل وتستطيع أكثر من هذا أن تقوي وترسخ بعضها بعضًا. ومن الأهمية بمكان أن تدرك هذه الروابط المتداخلة عند التفكير في سياسات التنمية والتطوير.
كذلك بالمثل، فإن خلق الفرص الاجتماعية عن طريق توفير الخدمات؛ من مثل: التعليم، والرعاية الصحية، وتطوير صحافة حرة ونشطة وفعالة، يمكن أن يسهم في كل من التنمية الاقتصادية وخفض معدلات الوفيات بنسب كبيرة. ولا ريب في أن خفض مُعدَّلات الوفيات يمكن بدوره أن يساعد في خفض معدلات المواليد ويقوي من أثر التعليم الأساسي على السلوك المتعلق بالخصوبة، ويتجلَّى بخاصة عند تعليم الإناث القراءة والكتابة والتعليم المدرسي.
الصين والهند ومَظاهر التباين المختلفة
الدَّور المحوري للحريات الفردية في عملية التنمية والتطوير يجعل من الأهمية بمكان أن تدرس محدداتها. ويتعين أن نُولِي اهتمامًا موضوعيًّا للمؤثرات الاجتماعية بما في ذلك أعمال الدولة التي تساعد على تحديد طبيعة ومدى الحريات الفردية. إن الترتيبات الاجتماعية يمكن أن تكون حاسمة من حيث أهميتها لضمان وتوسيع نطاق حرية الفرد. وتتأثر الحريات الفردية من ناحية بالضمانات الاجتماعية للحريات والتسامح وإمكان التبادل التجاري وعقد الصفقات. وتتأثر أيضًا، من ناحية أخرى، بالمُساندة العامَّة الموضوعية لتوفير هذه التسهيلات (مثل الرعاية الأساسية للصحة أو التعليم الأساسي) التي تُعتبَر تسهيلات حاسمة لتشكيل واستخدام القدرات البشرية. وثمة حاجة لأن نولي اهتمامًا لكل من نمطي المحددات للحريات الفردية.
كذلك كانت الأوضاع الصحية في الصين أفضل كثيرًا منها في الهند، بسبب الالتزام الاجتماعي من قِبَل النظام الحاكم قبل الإصلاح إزاء الرعاية الصحية والتعليم على السواء. وكم هو غريب أن هذا الالتزام وإن بدا غير ذي علاقة على الإطلاق بدوره المساعد في تحقيق نمو اقتصادي مُوجِّه للسوق، إلا أنه خَلَق فرصًا اجتماعية كان من اليسير استخدامها كقوى دينامية مُهيَّأة للحركة بعد أن تَحوَّلَت البلاد إلى اقتصاد السوق. ولكن تَخلُّف الهند واقتران هذا التخلُّف بالتركيز النخبوي على التعليم العالي والإهمال واسع النطاق للتعليم المدرسي، علاوة على إهماله الموضوعي للرعاية الصحية الأساسية، كل هذا تَرَك البلاد في وضْع سيئ لا يهيئها للمشارَكة على نطاق كبير في التوسع الاقتصادي. وطبيعي أن المقارَنة بين الهند والصين لها أوجه أخرى كثيرة «من بينها اختلاف النظام السياسي في كل منها والتباين الشديد جدًّا داخل الهند للفرص الاجتماعية من مثل تعلم القراءة والكتابة والرعاية الصحية». وسوف نتناول هذه القضايا بالدراسة فيما بعد. ولكن لأن الاختلاف الجذري لمستويات الاستعداد الاجتماعي في الصين عن الهند كان وثيق الصلة بالتنمية واسعة النطاق الموجهة للسوق؛ لهذا كان قَمِينًا بأن نَذكُره حتى في المرحلة الأولى من التحليل.
ولكن يَتعيَّن أن نشير أيضًا إلى وجود مُعوِّقات حقيقية تعاني منها الصين عند مُقارنَتها بالهند؛ نظرًا لأنها تفتقر إلى الحريات الديمقراطية. ويتضح ذلك تحديدًا عندما تصل إلى مرونة السياسة الاقتصادية واستجابة العمل العام إزاء الأزمة الاجتماعية وكوارث غير متوقعة. وربما يتمثل أهم مظهر للمفارَقة في واقع أن الصين واجهت دائمًا ما يُعْتَبر يقينًا أضخم مجاعة سجلها التاريخ (حيث تُوفِّي قرابة ثلاثين مليون نسمة خلال المجاعة التي أعقبت فشل خطة «قفزة كبرى إلى الأمام» فيما بين عامي ١٩٥٨م–١٩٦١م)؛ هذا بينما لم تُواجِه الهند أي مجاعة منذ الاستقلال عام ١٩٤٧م. وطبيعي أنه حين تمضي الأمور برخاء، ربما يَقِلُّ الشعور بافتقاد القدرة الوقائية للديمقراطية، بينما يمكن أن تكون الأخطار مُترَبِّصة (على نحو ما كشفَتْ لنا الخبرات الأخيرة لبعض اقتصادات شرق وجنوب شرق آسيا). وهذه المسألة سوف نناقشها أيضًا بتفاصيل أكثر في هذا الكتاب.
وثمة روابط متداخلة ومختلفة كثيرة جدًّا تربط بين حريات أداتية متمايزة. وتُعْتَبر الأدوار الخاصة بكل منها وتأثيرها المُميز والمحدد بعضها على بعض من المظاهر المهمة لعملية التنمية والتطوير. وسوف تَتهيَّأ فرصة في الأبواب التالية من الكتاب لمناقشة عدد من هذه الروابط المتداخلة ومَرْماها بعيد المدى، بَيْدَ أنَّني رغبةً مني في توضيح كيف تُؤثِّر وتعمل هذه الروابط المتداخلة أرجو أن يسمح لي القارئ بأن أمضي شوطًا أطول قليلًا لبيان التأثيرات المتباينة في متوسط الأعمار وتوقُّعات الحياة منذ الميلاد، وهي قدرات يقيمها الناس جميعًا دون اختلاف تقريبًا في كل أرجاء الأرض.
الترتيبات الاجتماعية بوساطة النمو
إن أثر الترتيبات الاجتماعية في الحرية من أجل البقاء يمكن أن يكون قويًّا للغاية، ويمكن أن يتأثر بروابط أداتية شديدة الاختلاف. ويذهب البعض أحيانًا إلى أن هذا تفكير غير مُنفَصِل عن النمو الاقتصادي (في صورة زيادة مستوى دخل الفرد) ما دامت هناك علاقة وثيقة بين دخل الفرد وطول الحياة. وهناك مَن دَفَع، في حقيقة الأمر، بأننا نخطئ إذ نشعر بالقلق إزاء اختلاف إنجازات الدَّخل وفُرَص البقاء ما دمنا رأَيْنَا أن الرابطة الإحصائية بينهما رابطة وثيقة تمامًا. وهذا صحيح تمامًا إذا نَظَرْنا إلى الروابط الإحصائية بين البلدان في عُزْلة، ولكن هذه العلاقة الإحصائية بحاجة إلى مزيد من الفحص والدرس قبل اعتبارها أساسًا مقنعًا لرفض القول بأن الترتيبات الاجتماعية ذات علاقة وثيقة «تتجاوز الوفرة المرتكزة على الدخل».
ومن الأهمية بمكان أن نؤكد أن هذه النتيجة؛ إذ أثبتت صحتها دراسات تجريبية أخرى لن تُوضِّح أن متوسط العمر المُتوقَّع لا يعززه نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي، بل سوف تفيد أن الرابطة أَمْيل إلى التحقق عمليًّا من خلال الإنفاق العام على الرعاية الصحية، ومن خلال النجاح في القضاء على الفقر. وإن الفكرة الأساسية هنا هي أن أثر النمو الاقتصادي يتوقَّف إلى حد كبير على كيفية الإفادة بثمار النمو الاقتصادي. ويفيدنا هذا أيضًا لتفسير لماذا استطاعت بعض الاقتصادات، مثل اقتصاد كوريا الجنوبية وتايوان، أن تزيد متوسط العمر المتوقَّع بسرعة كبيرة بفضل النمو الاقتصادي.
لقد كانت إنجازات اقتصادات شرق آسيا موضوع دراسات نقدية فاحصة — وحملات انتقادية أيضًا — على مدى الأعوام القليلة الأخيرة. ويرجع هذا جزئيًّا إلى طبيعة وقسوة ما سُمِّي «الأزمة الاقتصادية الآسيوية». إنها أزمة خطيرة حقًّا وتكشف عن مَواطن فشل مُحدَّدة عانت منها هذه الاقتصادات التي اعتاد الناس النظر إليها سابقًا، عن خطأ، باعتبارها اقتصادات ناجحة بكل المقاييس. وسوف أنتهز الفرصة للتفكير في المشكلات الخاصة، ومَواطن الفشل المحدَّدة التي انطوت عليها الأزمة الاقتصادية الآسيوية (خاصة في الفصلين ٦، ٧). بيد أننا نُخطِئ إذا لم نرَ الإنجازات الضخمة التي حققتها اقتصادات شرق وجنوب شرق آسيا على مَدى العقود الطويلة، التي غَيَّرت جذريًّا حياة ومتوسِّط أعمار شعوبها. إن المشكلات التي تواجهها هذه البلدان الآن (ربما كانت كامنة خافية لزمن طويل) والتي تقتضي أن نوليها اهتمامنا (بما في ذلك الحاجة العامة إلى الحريات السياسية والمُشارَكة الصريحة الحرة علاوة على الأمن الوقائي). حَرِي بألا تحفزنا إلى إغفال إنجازات هذه البلدان في المجالات التي حققوا فيها أداء جيدًا ونجاحًا بارزًا.
ونجد هنا مظهرين مهمين ومتداخلين للتباين:
-
(١)
بالنسبة إلى اقتصادات النمو الاقتصادي المرتفع، يتمثل التباين في:
- (أ)
تلك التي حققت نجاحًا كبيرًا في زيادة طول ونوعية الحياة (مثل كوريا الجنوبية وتايوان) و…
- (ب)
تلك التي لم تُحقِّق نجاحًا مناسبًا في هذه المجالات الأخرى (مثل البرازيل).
- (أ)
-
(٢)
بالنسبة إلى الاقتصادات التي حققت نجاحًا كبيرًا في زيادة طول ونوعية الحياة، يتمثل التباين في:
- (أ)
تلك التي حققت نجاحًا كبيرًا في مجال النمو الاقتصادي المرتفع (مثل كوريا الجنوبية وتايوان)، و…
- (ب)
تلك التي لم تحقق قدرًا كبيرًا من النجاح في مجال إنجاز نمو اقتصادي مرتفع (مثل سريلانكا والصين قبل الإصلاح وولاية كيرالا الهندية).
- (أ)
الخدمات العامة والدُّخول المنخفضة والتكاليف النِّسبية
ومن الواضح أن العملية بواسطة النمو تَحظَى بميزة على العملية البديلة المُوجَّهة بواسطة الدعم؛ ذلك أن بإمكانها في نهاية المطاف أن تُقدِّم حصادًا أوفر نظرًا لوجود مظاهر حرمان أكثر — غير الوفيات المُبكِّرة، أو الاحتمالات العالية للإصابة بالأمراض، أو الأمية — والتي ترتبط مباشرة بانخفاض الدخل (من مثل نقص الملبس والمأوى). وإنه لمن الأفضل، كما هو واضح، أن يحظى الناس بدخل عالٍ وعمر أطول (وغير ذلك من مؤشِّرات دالَّة على جودة الحياة) بدلًا من أن يقتصر الأمر على طول العمر فقط. وهذه نقطة جديرة بأن نؤكد عليها؛ نظرًا لخطر الاقتناع المُبالغ فيه بالإحصاءات عن متوسطات الأعمار المُتوقَّعة وغير ذلك من مؤشرات أساسية لنوعية الحياة.
خفض نسبة الوفيات في بريطانيا القرن العشرين
الديمقراطية والحوافز السياسية
وإن البلد لا يغفل كثيرًا الأمن الذي تُوفِّره له الديمقراطية عندما يُحالفه الحظ ولا يواجه كوارث خطرة، وتجري أموره رُخاء. ولكن خطر عدم الاستقرار وفقدان الأمان الناجم عن تحولات في الظروف الاقتصادية أو غيرها أو ناجم عن أخطاء في السياسة لم يَتسنَّ تصحيحها فإنه قد يكون كامنًا وراء ما يبدو في ظاهر الأمر حالة صحية. وسوف تكون ثمة حاجة إلى مُعالَجة الجوانب السياسية للأزمة الاقتصادية الآسيوية التي حدثت أخيرًا، وذلك عندما نناقش بتفصيل أكثر هذه الرابطة (في الفصلين السادس والسابع).
ملاحظة ختامية
يعمد التحليل المعروض في هذا الفصل إلى تطوير الفكرة الأساسية القائلة بأن دعم وتعزيز الحرية الإنسانية هو في آنٍ واحد الهدف الرئيسي والوسيلة الأساسية للتنمية. ويرتبط هدف التنمية بتقييم الحريات الفعلية التي يتمتع بها الشعب صاحب الشأن. وتَعتَمِد القدرات الفردية بشكل حاسم على أمور كثيرة من بينها الترتيبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وحَرِي عند صوغ الترتيبات المُؤسَّسية الملائمة أن نضع في الاعتبار الأدوار الأداتية للأنماط المتمايزة للحرية بما يتجاوز كثيرًا الأهمية التأسيسية لعموم حرية الأفراد.
وتشتمل الأدوار الأداتية للحرية على مكونات عديدة متمايزة ولكنها متداخلة، مثل التسهيلات الاقتصادية والحريات السياسية والفرص الاجتماعية وضمانات الشفافية والأمن الوقائي. وإن هذه الحقوق والفرص والاستحقاقات الأداتية بينها روابط متداخلة والتي يمكنها أن تمضي في اتجاهات مختلفة. وتتأثر عملية التنمية على نحوٍ حاسم بهذه الروابط المتداخلة. والجدير بالملاحظة أنه في تطابق مع هذه الحريات العديدة المُتداخلة والمتشابكة ثمة حاجة إلى تطوير ودعم تَعدُّدية المؤسَّسات بما في ذلك المنظومات الديمقراطية والآليات التشريعية وهياكل السوق والخدمات التعليمية والصحية والميديا وغيرها من مرافق الاتصالات … إلخ. ويمكن لهذه المؤسَّسات أن تشتمل على مبادرات خاصة وترتيبات عامة، وكذلك المزيد من الهياكل المختلطة من مثل المنظَّمات غير الحكومية والكيانات التعاونية.
وتقضي وسائل وغايات التنمية والتطوير بأن يكون منظور الحرية هو محور المسرح. ويَتعيَّن النظر إلى الناس في هذا المنظور باعتبارهم عناصر مشاركة بفعالية ونشاط — شرط أن تتهيأ الفرصة لهم — في صوغ مَصيرهم الخاص، لا أن يكونوا عناصر قابلة في سلبية تتلقَّى ثمار برامج تنمية جذَّابة في ظاهرها. وتَتحمَّل الدولة كما يتحمل المجتمع عبء القيام بأدوار شاملة من أجل تعزيز وضمان القدرات البشرية. وهذا دور داعم وليس دور مَن يتلقى شيئًا جاهزًا. إن المنظور المعنيَّ بالوسائل والغايات ويَتَّخذ الحرية محورًا جدير بأن يحظى باهتمامنا.