الفقر كحرمان من القدرة
- (١)
يمكن تحديد معنى الفقر بصورة مقبولة عقلًا في ضوء الحرمان من القدرة. ويركز هذا النهج على مظاهر الحرمان المهمة جوهريًّا (على عكس الدخل، إذ إنه مهم فقط من حيث هو أداة).
- (٢)
تُوجَد مؤثرات على الحرمان من القدرات، ومن ثَم على الفقر الحقيقي، عند انخفاض الدخل (الدخل ليس الأداة الوحيدة لتوليد القدرات).
- (٣) العلاقة الأداتية بين الدخل المنخفض والقدرة المنخفضة مُتغيِّرة بين المجتمعات المختلفة، بل وبين الأُسَر المختلفة والأفراد المختلفين؛ «إذ إن أثر الدخل في القدرات مشروط ورهن بأمور أخرى».٢
والحالة الثالثة مهمة، على وجه الخصوص، عند التفكير في تقدير الفعل العام الهادف إلى خفض مظاهر الفقر أو عدم المساواة. وناقشت الدراسة (الفصل الثالث) الأسباب المختلفة للتباينات المشروطة. ونرى من المفيد أن نُؤكِّد بعضها تحديدًا في سياق صياغة السياسة العملية.
- أولًا: العلاقة بين الدَّخْل والقدرة تتأثَّر بقوة بعمر الشخص (أي الحاجات النوعية التي يحتاج إليها المُسِنُّ والطفل أو الصبي)، وتتأثر بنوع الجنس والدور الاجتماعي لكل من الجنسين (مثل المسئوليات الاجتماعية للأمومة والالتزامات التي تفرضها تقاليد الأسرة)، وبالموقع (مثل احتمالات التَّعرُّض للامتهان، أو الجفاف، أو عدم الأمن، أو العنف في بعض الأحياء داخل المدينة)، وبالمناخ الذي تَسوده أمراض مُعدية (مثل أمراض مُعدية متوطنة)، وبمتغيرات أخرى ليس للمرء عليها سلطان، أو سلطان محدود.٣ وغني عن البيان أن هذه المُتغيِّرات المعيارية مهمة بخاصة عند عمل مُقارَنات بين جماعات سكانية، جرى تقسيمها حسب العمر أو الجنس أو الموقع وغير ذلك.
- ثانيًا: يمكن أن يحدث «تزاوُج» للأضرار بين: (١) الحرمان من الدخل، (٢) عُسْر في تحويل الدخل إلى أداء وظيفي.٤ ونعرف أن الإعاقات؛ من مثل العمر، أو العجز، أو المرض من شأنها أن تنقص قدرة المرء على اكتساب الدخل،٥ ولكنها تُفاقِم من صعوبة تحويل الدخل إلى قدرة؛ حيث إن الكهل أو العاجز أو المريض مرضًا عضالًا يمكن أن يكون في حاجة إلى دخل أكبر (مثال ذلك الحاجَة إلى جراحة ترقيعية للعلاج) من أجل إنجاز الوظائف المطلوبة نفسها (حتى حين يكون هذا الإنجاز ممكنًا وميسورًا).٦ يفضي هذا إلى احتمال أن يكون «الفقر الحقيقي» (من حيث الحرمان من القدرة) أكثر شدة وحدة مما يظهر في حَيِّز الدَّخْل. ويمكن أن يصبح هذا سببًا حاسمًا للقلق عند تقدير النشاط العام اللازم لمساعدة المسنين والجماعات الأخرى عن طريق «تحويل» المشكلات، بالإضافة إلى انخفاض الدخل.
-
ثالثًا: يثير التوزيع داخل الأسرة مزيدًا من
التعقيدات لنهج الدخل في تقدير الفقر؛ إذ
لو كان الدخل مستخدمًا على نحو غير متكافئ
بالنسبة إلى مصلحة بعض أعضاء الأسرة من دون
آخَرِين (كأن يكون هناك على سبيل المثال
نوع من التفضيل المنتظم للولد من حيث حصته
من موارد الأسرة)، فإن مدى حرمان أعضاء
الأسرة الذين أصابهم الإهمال (البنات كمثال
في هذه الحالة) لا ينعكس بوضوح كافٍ في ضوء
دخل الأسرة. وهذه مسألة موضوعية في سياقات
كثيرة؛ إذ يظهر الانحياز إلى الجنس بالفعل
في صورة عامل رئيسي في توزيع حصص الأسرة في
كثير من بلدان آسيا وشمال أفريقيا. وأمكن
الكشف عن حرمان البنات (من حيث النسبة
الأعلى في الوفيات والمرض وسوء التغذية
والإهمال الطبي وغيرها) تأسيسًا على مسألة
الحرمان من القدرة أكثر مما هي الحال على
أساس تحليل الدخل.٧وواضح أن هذه المسألة ليست محورية في سياق حالة عدم المساواة والفقر في أوروبا وشمال أمريكا. ولكن الافتراض المسبق — والضمني في الغالب — بأن مسألة عدم المساواة بين الجنسين لا تصدق من حيث المستوى الأساسي على «البلدان الغربية» يمكن أن يكون، إلى حدٍّ ما، افتراضًا مضللًا. مثال ذلك أن لإيطاليا أعلى المعدلات «غير المعترف بها» لعمل المرأة مقابل عمل مُعتَرف به يَرِد في الحسابات القومية المعيارية.٨ وجدير بالذِّكْر أن حساب المُستهلِك من الجهد والوقت وما يرتبط به من نقص في الحرية له تأثيره على تحليل الفقر، حتى داخل أوروبا وشمال أمريكا. ونجد في غالبية أنحاء العالم طرقًا أخرى ترى من المهم إدراج مظاهر التفرقة القائمة داخل الأسرة ضمن الاعتبارات وثيقة الصلة بالسياسة العامة.
-
رابعًا: الحرمان النسبي من حيث الدخل يمكن أن
يفضي إلى حرمان مُطلَق من حيث القدرات. أن
يكون المرء فقيرًا نسبيًّا في بلد غني قد
يمثل عقبة كبرى للقدرة، حتى وإن كان دخل
المرء المُطلَق عاليًا في ضوء المعايير
العالمية. والملاحظ في بلد معروف بالوفرة
تكون ثَمَّة حاجة أكبر إلى الدخل لشراء ما
يكفي من سلع لبلوغ المستوى نفسه للأداء
الوظيفي الاجتماعي. وإن هذا الرأي — وقد
كان آدم سميث هو الرائد في تحديد معالمه في
كتابه «ثروة الأمم» (١٧٧٦م) — رأْيٌ
مِحْورَي للفهم السوسيولوجي لمعنى الفقر،
وأجرى تحليلًا له كل من دبليو جي رونسيمان،
وبيتر تاونسند وآخرين.٩مثال ذلك، أن الصعوبات التي تُواجِهها بعض الجماعات البشرية في سبيل المشاركة في حياة المجتمع يمكن أن تكون حاسمة بالنسبة إلى دراسة عن «الاستبعاد الاجتماعي»، وأن الحاجة إلى المشاركة في حياة المجتمع يمكن أن تستلزم مطالب من أجل معدات حديثة (التليفزيون ومسجلات الفيديو كاسيت والسيارات وغيرها) وذلك في بلد يشيع فيه استخدام هذه الأجهزة (على خلاف ما هو لازم في بلدان أقل وفرة). ويفرض هذا ضغوطًا على الشخص الفقير نسبيًّا في بلد غني، حتى وإن كان مستوى دخل هذا الشخص مرتفعًا أكثر مُقارَنة بآخرين في بلدان أقل وفرة.١٠ والحقيقة أن ظاهرة الجوع المثيرة للتناقض في البلدان الغنية — حتى في الولايات المتحدة — لها أثرها إلى حدٍّ ما على هذه الاحتياجات السلعية المنافسة من هذه النفقات.١١
وإن تحليل الفقر، تأسيسًا على منظور القدرة، من شأنه أن يعزز فهم طبيعة وأسباب الفقر والحرمان، إذ ينأى بالاهتمام الأول بعيدًا عن الوسائل (ووسيلة مُحدَّدة تحظى بكل الاهتمام وهي الدخل) إلى الغايات التي لدى الناس ومبررًا للسعي إليها، ومن ثم في المقابل إلى الحريات في إشباع هذه الغايات. وتوضح الأمثلة المعروضة بإيجاز هذا الفهم الإضافي الواضح المترَتِّب على هذا التوسيع الأساسي؛ إذ ننظر إلى مظاهر الحرمان على مستوى أكثر أساسية، مستوى أقرب إلى المتطلبات المعلوماتية للعدالة الاجتماعية، وهكذا تتضح صلة المنظور الوثيقة والملائمة لفقر القدرة.
فَقْر الدَّخل وفَقْر القُدرة
إذا كان من المهم التمييز من حيث المفهوم بين فكرة الفقر كنقص في القُدرة والفقر كنقص في الدَّخل، فإنه ليس في الإمكان ربط المنظوريْن بعضهما ببعض ما دام الدَّخل وسيلة مهمة للحصول على القدرات. وحيث إن القُدرات المُعزَّزة من أجل بناء الحياة تنزع طبيعيًّا إلى توسيع قدرة المرء ليكون أكثر إنتاجية، وأقدر على الحصول على دخل أكبر، فإن لنا أيضًا أن نَتوقَّع وجود رابطة تسير في الاتجاه، من تَحسُّن القدرة إلى المزيد من امتلاك السُّلطة وليس العكس.
ويمكن أن تكون الرابطة الأخيرة مهمة للقضاء على فقر الدخل. إن الأمر لا يقتصر على أن — كمثال — توافُر تعليم أساسي أفضل ورعاية صحية أفضل من شأنهما أن يُؤدِّيَا إلى تحسُّن نوعية الحياة مباشرة، بل إنهما أيضًا يزيدان من قدرة الشخص على الحصول على الدَّخل والتحرر من فقر الدخل أيضًا. وكلما زاد المدى الذي يَتحقَّق بفضل التعليم الأساسي والرعاية الصحية، أصبح من المُرجَّح أكثر أن تَتوافَر لمن يَتوقَّع حالة من الفقر فُرصة أفضل للتغلُّب على ما يعانيه من عَوز.
وطبيعي أن الهند شديدة التنوع من حيث التنمية البشرية؛ إذ توجد فيها بعض المناطق (خاصة ولاية كيرالا) مستويات التعليم والرعاية الصحية والإصلاح الزراعي فيها أعلى من غيرها (ونذكر على الأخص بيهار، وأوتار براديش، وراجاستان، ومادهيا براديش). واتخذت القيود أشكالًا مختلفة في الولايات المختلفة، ويمكن القول: إن كيرالا عانت مما كان سائدًا حتى عهد قريب جدًّا من سياسات مناهضة للسوق، مع الشك الشديد في التوسُّع الاقتصادي المرتكز على السوق من دون ضوابط؛ ولهذا لم تَستخدِم مواردها البشرية في سبيل زيادة النمو الاقتصادي، وهو ما كان في الإمكان عمله في الماضي تأسيسًا على استراتيجية اقتصادية أكثر تكاملية، وهذا ما تحاوله الآن. ونجد، من ناحية أخرى، بعض الولايات الشمالية قد عانت انخفاضًا في مستوى التنمية الاجتماعية مع درجات مُختلِفَة من السيطرة والفُرص المرتكزة على السوق، وأن الحاجة إلى إدراك الصلة الوثيقة للطابع التكاملي ضرورية جدًّا من أجل علاج الانتكاسات المختلفة.
وإذا كان من المهم تأكيد هذه الروابط بين فقر الدَّخْل وفقر القدرة، فإنه من المهم أيضًا ألا تغيب عن نظرنا حقيقة أساسية وهي: أن خفض فَقْر الدَّخل وحده ربما لا يكون الحافز النهائي للسياسة المناهضة للفقر. وثمة خطر من النظر إلى الفقر بمعنى ضيق ومحدود هو الحرمان من الدخل، ثم تبرير الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية وغير ذلك على أساس أنها وسائل جديدة لبلوغ الغاية وهي خفض دخل الفقر؛ إذ إن هذا خَلْط بين الوسائل والغايات. إن القضايا التأسيسية الرئيسية تُلزِمنا — لأسباب ناقشناها في السابق — بأن نفهم الفقر والحرمان في ضوء الحياة التي يمكن للناس عمليًّا أن يَحْيَوها، والحريات التي يمكن فعليًّا أن يحظوا بها. لذا فإن توسيع نطاق القدرات البشرية يتطابق مباشرة مع هذه الاعتبارات الأساسية. كذلك، فإن تعزيز القدرات البشرية يقترن أيضًا بتوسيع الأنشطة الإنتاجية واكتساب القدرة. وتُؤسِّس هذه الرابطة علاقة مهمة غير مباشرة تساعد من خلالها عملية تحسين القدرة، بشكل مباشر وغير مباشر معًا، على إثراء الحياة الإنسانية، وجعل مظاهر الحرمان البشري أكثر ندرة وأقل حِدَّة. إن الروابط الأداتية، مع أهميتها، لا يمكنها أن تحل محل الحاجة إلى فَهْم أساسي لطبيعة وخصائص الفقر.
عدم مساواة في ماذا؟
ومع هذا، فإن محاولات استئصال عدم المساواة يمكن في حالات كثيرة أن تُسبِّب خسارة للغالبية العظمى، وربما للكل في بعض الأحيان. وقد يظهر هذا النوع من التضارب في صورة معتدلة أو شديدة اعتمادًا على الظروف. لذلك يتعين على نماذج العدالة — ومن بينها «المشاهد المتجرد من الغرض»، أو «الوضع الأصلي»، أو «الرفض غير المبرر عقلانيًّا» أن تلتفت إلى هذه الاعتبارات المختلفة.
وتوجد، مع هذا، فئة مغايرة من التضاربات تتعلق باختيار «الحيز»، أو المتغير المحوري الذي يشكل أساسًا لتقييم وفحص حالة اللامساواة. ويرتبط هذا بموضوعنا في الفصل السابق. ويمكن أن تختلف اللامساواة في الدخول عن اللامساواة في «حيازات» أخرى عديدة (أي تأسيسًا على متغيرات أخرى وثيقة الصلة)، مثل الرفاهية والحرية وأوجه أخرى لنوعية الحياة (بما في ذلك الصحة وطول العمر). وأكثر من هذا، أن الإنجازات التراكمية يمكن أن تأخذ أشكالًا مختلفة اعتمادًا على الحيز الذي تتشكل فيه، أو تجري فيه عملية الجمع. «مثال ذلك أن ترتيب المجتمعات على أساس متوسط الدخل يمكن أن يختلف عن ترتيبها وفق متوسط الشروط الصحية».
وجدير بالذِّكْر أن التناقض بين المنظورات المختلفة عن الدخل والقدرة يؤثر مباشرة على الحيز الذي تجري فيه دراسة اللامساواة والكفاءة، مثال ذلك شخص يحصل على دخل مرتفع ولكن ليست لديه فرصة للمشاركة السياسية، ليس «فقيرًا» بالمعنى المعتاد، ولكن كما هو واضح، فقير من حيث حرمانه من حرية مهمة. كذلك لو أن شخصًا كان أغنى كثيرًا من غالبية المحيطين به، ولكنه يعاني علة مزمنة يستلزم علاجها تكلفة باهظة جدًّا يصبح، وعلى نحو واضح، محرومًا إزاء وسيلة مهمة وتعنيه، حتى وإن لم نصنفه فقيرًا في الإحصاءات العادية عن توزيع الدخل. وأيضًا شخص محروم من فرصة العمل ولكن الدولة تقدم له صدقة «في صورة إعانة بطالة»، يمكن أن يبدو في نَظرِنا أقل حرمانًا داخل حيز الدخل عمَّا يبدو في ضوء الفرصة القيمة — التي يراها موضع تقدير وذات قيمة عالية — للحصول على عمل. ونظرًا إلى الأهمية الخاصة للبطالة في بعض البلدان في العالم (بما في ذلك أوروبا المعاصرة)، فإننا نراها مجالًا آخر نحن في مسيس الحاجة إلى أن ندرك التناقض فيه بين مَنظورَي الدخل والقدرة في سياق تقدير حالة اللامساواة.
البطالة والحرمان من القدرة
ويثير التباين بين غرب أوروبا والولايات المتحدة مسألة أخرى مهمة، وتُعَد من نواحٍ أخرى أكثر تعميمًا، إذ يبدو أن الأخلاق الاجتماعية الأمريكية، ترى أن من الممكن أن تكون غير واعية بقوة المعوزين والفقراء، بحيث يكون عسيرًا عليها قبول ما تفعله أوروبا الغربية بإنشاء دولة الرفاه. ولكن هذه الأخلاق الأمريكية ذاتها ترى أن ارتفاع البطالة بحيث تتجاوز النسبة عشرة في المائة، كما هي الحال في أوروبا، أمر لا يمكن التسامح معه. لقد استمرَّت أوروبا في قبول حالة التعطل من العمل وزيادتها بقدر كبير من رباطة الجأش. ويرتكز هذا التباين على اختلاف في الاتجاهات والمواقف من المسئوليات الاجتماعية والفردية. وهو ما سوف أعود إليه.
الرعاية الصحية ونسبة الوفيات
أثارت حالة عدم المساواة بين الجماعات العِرْقية المختلفة في الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا في المرحلة الأخيرة. مثال ذلك أنه لُوحظ في حَيِّز الدَّخْل أن الأمريكان الأفارقة أفقر كثيرًا وعلى نحو متعمَّد من الأمريكان البيض. ونرى هذا كثيرًا كمثال على الحرمان النِّسبي للأمريكان الأفارقة داخل الأمة، ولكن من دون مقارنته بالشعوب الأفقر في بقية العالم. حقًّا إننا إذا قارنَّا الأمريكان الأفارقة بسكان بلدان العالَم الثالث، فسنجد أنهم أغنى كثيرًا من حيث الدخل، حتى بعدَ ملاحظة فوارق الأسعار. وإذا نظرْنَا على هذا النحو إلى حرمان السود الأمريكِيِّين، فسيبدو لنا واهيًا بل لا قيمة له من المنظور الدولي.
وإن توسيع قاعدة المعلومات لتمتد من الدخل إلى القدرات الأساسية من شأنه أن يثري فهمنا عن اللامساواة وعن الفقر بوسائل جذرية للغاية. والمُلاحَظ أننا حين ركَّزْنَا على القدرة على التَّوظُّف وتوافُر مزايا التوظف المقترنة بهذه القدرة، بدت الصورة الأوروبية كابية للغاية، وأننا حين نُحوِّل انتباهنا إلى القدرة على البقاء، بَدتْ صورة حالة اللامساواة الأمريكية مكثفة للغاية. ونحن إذ نبرز بوضوح هذه الفوارق والأولويات المقترنة بكل منها، فإننا سوف نشهد تباينًا في المواقف والاتجاهات إزاء المسئوليات الاجتماعية والفردية على جانبي الأطلسي، إذ نجد في الأولويات الرسمية الأمريكية التزامًا محدودًا للغاية من أجل توفير الرعاية الصحية الأساسية للجميع. ويبدو لنا أن مئات الملايين من الناس (أكثر من ٤٠ مليون نسمة في الحقيقة) من دون أي نوع من الحماية أو التأمين في المجال الطبي في الولايات المتحدة. وربما نجد لدى نسبة كبيرة من هؤلاء الذين لا يشملهم تأمين أسبابًا اختيارية لعدم الحصول على تأمين، إلا أن الغالبية العظمى من غير المؤمَّن عليهم تعوزهم في الواقع القدرة على الحصول على تأمين طبي بسبب الظروف الاقتصادية، أو في بعض الأحيان بسبب ظروف طبية قائمة مسبقًا يتجنبها الأفراد الراغبون في التأمين. وثَمَّة وضع مقابل لهذا في أوروبا؛ حيث تعد التغطية الطبية حقًّا أساسيًّا للمواطنة بغض النظر عن الوسائل، مستقلًّا عن الظروف القائمة مسبقًا. والشيء المرجح للغاية أن هذا الوضع الأوروبي سيكون غير محتمل سياسيًّا، ونلحظ كذلك أن حدود الدعم الحكومي للمرضى والفقراء شديدة الصرامة في الولايات المتحدة، بحيث لا يمكن قبوله في أوروبا. كذلك الحال بالنسبة إلى الالتزامات الاجتماعية تجاه المرافق العامة؛ إذ تتباين من تنظيمات الرعاية الصحية إلى التنظيمات الخاصة بالتعليم، التي تعتبرها دولة الرفاه في أوروبا أمرًا مسلمًا به.
ونجد من ناحية أخرى، أن معدلات البطالة التي تتجاوز رقم العشرة والتي تحتملها أوروبا الآن، ستكون على الأرجح تمامًا (كما أكدنا في السابق) بمنزلة ديناميت سياسي داخل أمريكا؛ حيث إن معدلات البطالة من هذا الحجم تمثل سخرية بقدرة الناس على مساعدة أنفسهم. وأعتقد أنه لا توجد حكومة في الولايات المتحدة يمكن أن تخرج سالمة دُون أذًى إذا ما تضاعَف مستوى البطالة الراهن، الذي من شأنه أن يجعل نسبة البطالة في الولايات المتحدة دون مستواها الآن في إيطاليا أو فرنسا أو ألمانيا. ويبدو أن طبيعة الالتزامات السياسية بالنسبة إلى كل من هذه البلدان — ونقصها كذلك — يختلفان بشكل أساسي ما بين أمريكا وأوروبا. وتستلزم هذه الفوارق أن نرى حالة عدم المساواة في ضوء حالات الفشل بذاتها للقدرات الأساسية.
الفقر والحرمان في الهند وأفريقيا جنوب الصحراء
مقارنات لمعدل وفيات الأطفال | مقارنة معدل محو الأمية بين الكبار | |||||
---|---|---|---|---|---|---|
الإقليم | السكان (بالمليون) | معدل وفيات الأطفال (من كل ألف مولود) | الإقليم | السكان (بالمليون) | معدل محو الأمية بين الكبار (إناث/ذكور) | |
الهند | الهند | ٨٤٦٫٣ | ٨٠ | الهند | ٨٤٦٫٣ | ٣٩ / ٦٤ |
أوريسا | ٣١٫٧ | ١٢٤ | راجاستان | ٤٤٫٠ | ٢٠ / ٥٥ | |
أسوأ ثلاث ولايات هندية | مادهيا | ٦٦٫٢ | ١١٧ | بيهار | ٨٦٫٤ | ٢٣ / ٥٢ |
أوتار براديش | ١٣٩٫١ | ٩٧ | أوتار براديش | ١٣٩٫١ | ٢٥ /٥٦ | |
جانجام (أوريسا) | ٣٫٢ | ١٦٤ | بارمار (راجاستان) | ١٫٤ | ٨ / ٣٧ | |
أسوأ مقاطعة في كل من أسوأ الولايات الهندية | تيكا مجار (مادهيا براديش) | ٠٫٩ | ١٥٢ | كيشانجاني (بيهار) | ١٫٠ | ١٠ / ٣٣ |
هارودي (أوتار براديش) | ٢٫٧ | ١٢٩ | باهريتس (أوتار براديش) | ٢٫٨ | ١١ / ٣٦ | |
أسوأ ثلاثة بلدان | مالي | ٨٫٧ | ١٦١ | بوركينا فاسو | ٩٫٢ | ١٠ / ٣١ |
في أفريقيا | موزمبيق | ١٦٫١ | ١٤٩ | سيراليون | ٤٫٣ | ١٢ / ٣٥ |
جنوب الصحراء | غينيا بيساو | ١٫٠ | ١٤٨ | بنين | ٤٫٨ | ١٧ / ٣٥ |
أفريقيا جنوب الصحراء | أفريقيا جنوب الصحراء | ٤٨٨٫٩ | ١٠٤ | أفريقيا جنوب الصحراء | ٤٨٨٫٩ | ٤٠ / ٦٣ |
وحَرِي بنا أن نلحظ أيضًا أن ثمة مشكلة مشتركة بين الهند وأفريقيا جنوب الصحراء وهي توطن الأمية على نحو مزمن، وهي قسمة شأنها شأن متوسط العمر المتوقَّع تفصل شرق آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء عن بقية العالم. وكما يشير الجدول ١–٤ فإن معدل معرفة القراءة والكتابة متماثل إلى حد كبير في المنطقتين؛ إذ يوضح الجدول تَماثُل عدد الأميين من البالغين في كل من الهند وأفريقيا جنوب الصحراء.
عدم المساواة بين الجنسين والفاقد النسوي
وحظيت حال الهند بدراسة شاملة ومستفيضة أكثر من غيرها؛ «إذ إن عدد الباحثين في الهند العاكفين على هذه المشكلة أكبر من نظرائهم في أي بلد آخر». وثمة شواهد مُماثِلة على الإهمال النسبي لصحة وغذاء الأطفال الإناث في البلدان الأخرى أيضًا. وأكثر من هذا أننا نجد في الصين بعض الدلائل التي تُؤكِّد أن مدى الإهمال زاد زيادة حادَّة في السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد فَرْض قيود إجبارية لتنظيم الأسرة (سياسة طفل واحد في بعض أنحاء الصين)، هذا علاوة على بعض الإصلاحات الأخرى التي جرى تطبيقها حوالي عام ١٩٧٩م. ونشهد في الصين أيضًا بعض علامات جديدة مشئومة من مثل الزيادة الحادة في النِّسب المسجَّلة لميلاد الذكور إلى الإناث، التي تشذ كثيرًا عن بقية العالَم. ويمكن أن يدلَّ هذا على احتمال «إخفاء» إناث الأطفال المولودات حديثًا «لتَجنُّب صرامة تنفيذ القيود الإلزامية لتنظيم الأسرة». ويبدو أن الانحياز شديد الوطأة ضد الأنثى داخل الأسرة يتمثل كذلك في حالات الإجهاض الانتقائية على أساس الجنس، التي شاعت في الصين مع التقدم التكنولوجي.
ملاحظات ختامية
وإذا كان ثَمَّة سبب للامتعاض، فإنه ينصبُّ على الأهمية النسبية التي توليها أغلب الدراسات الاقتصادية لحالة عدم المساواة داخل نطاق محدود، أعني اقتصاد اللامساواة. وتمثَّل أثر هذه المحدودية في أنها أسهمت في إهمال الوسائل الأخرى لرؤية عدم المساواة والمساواة كظاهرة بعيدة الأثر في صوغ السياسة الاقتصادية. وأدَّى التركيز المُفرط على فقر الدخل وعدم مساواة الدخل إلى تَعاظُم الجدل بشأن السياسة، وإغفال مظاهر الحرمان الأخرى المرتبطة بمتغيرات أخرى؛ من مثل: البطالة، واعتلال الصحة، ونقص التعليم، والاستبعاد الاجتماعي. ولسوء الحظ أن المطابقة بين عدم المساواة الاقتصادية وعدم المساواة في الدخل مسألة شائعة في الدراسات الاقتصادية، وترى الاثنين كمُترادِفَين. إنك إذا قلتُ لشخص ما إنك معنيٌّ باقتصاد اللامساواة، فسوف يفترض، كقاعدة عامة، أنك معنيٌّ بدراسة توزيع الدخل.
والعلاقة بين عدم مساواة الدخل وحالة اللامساواة في مجالات أخرى وثيقة الصلة يمكن أن تكون متنوعة ومشروطة بسبب المؤثرات الاقتصادية المختلفة غير الدخل، التي تؤثر على مظاهر عدم المساواة في المصالح الفردية والحريات الموضوعية. مثال ذلك، ارتفاع معدلات الوفيات بين الأمريكِيِّين الأفارقة مقابل الصينيين، أو الهنود في كيرالا الأشد فقرًا؛ إذ يمكن أن نلمس هنا أثر عوامل تعمل في اتجاه مضاد لحالة عدم المساواة في الدخل. وتشتمل هذه على قضايا خاصة بالسياسة العامة ذات مكونات اقتصادية فاعلة وقوية: تمويل الرعاية الصحية، وعمليات التأمين، وتوفير التعليم العام، والترتيبات الخاصة بالأمن المَحلِّي، وهكذا.
ويمكن أن تفيد في الواقع فوارق نِسَب الوفيات كمؤشر دالٍّ على مظاهر عدم مساواة شديدة العمق، التي تفرق بين الأعراق والطبقات والجنسين، وهو ما وضحته أمثلة كثيرة في هذا الفصل. نذكر على سبيل المثال التقديرات الخاصة بالفاقد النسوي؛ إذ تُوضِّح لنا المدى الكبير للأضرار التي تعانيها الأنثى في أنحاء كثيرة في العالم المعاصر، وتوضحها في جلاء لا تكشف عنه إحصاءات أخرى.
ونظرًا لأن الدخل الذي يكسبه أعضاء الأسرة يقتسمه معهم آخرون من أبناء الأسرة، فإننا، بالمثل، لا نستطيع أن نُحلِّل عدم المساواة بين الجنسين أساسًا في ضوء فوارق الدخل. ومن ثم نكون في حاجة إلى معلومات أكثر مما هو متاح عادة بشأن تقسيم استخدام المورد داخل الأسرة، حتى نحصل على فكرة أوضح عن مظاهر عدم المساواة في العطاء الاقتصادي. بَيْدَ أنَّ الإحصاءات الخاصة بنسب الوفيات، شأن مظاهر الحرمان الأخرى (من مثل نقص التغذية أو الأمية) يمكنها أن تقدم لنا صورة مباشرة عن عدم المساواة والفقر في عدد من الأبعاد الحاسمة. ويمكن الإفادة بهذه المعلومات أيضًا للربط بين مدى الحرمان النسبي للمرأة بالحالات القائمة لعدم المساواة في الفرص «لكسب دخل خارجي أو للالتحاق بالمدارس أو غير ذلك». وهكذا فإن كلًّا من القضايا الوصفية وقضايا السياسة يمكن معالجتها من خلال هذا المنظور الأعم عن عدم المساواة والفقر في ضوء الحرمان من القدرة.
وعلى الرغم من الدور الحاسم للدخل في تحديد المزايا التي يتمتع بها أفراد مختلفون، فإن العلاقة بين الدَّخل «وغيره من الموارد» من ناحية، والإنجازات والحريات الفردية من ناحية أخرى ليست ثابتة وليست بأي معنى من المعاني تلقائية ولا يمكن مقاومتها؛ إذ ثمة أحداث طارئة مختلفة تفضي إلى تباينات منتظمة في «تَحوُّل» الدخل إلى ما يمكن أن نؤديه من وظائف مختلفة. ويؤثر هذا بدوره في أسلوب الحياة الذي يمكن أن نحظى به. وحاولت في هذا الفصل أن أوضِّح الوسائل المختلفة لظهور تباينات منتظمة في العلاقة بين الدخل المكتسب والحريات الموضوعية (في صورة القدرة على أن يعيش الناس الحياة التي لديهم المُبرِّر لاعتبارها قيمة)، ويتعين عند وضع سياسة عامة أن نولي اهتمامًا جادًّا، وبالقدر الواجب، لأدوار كل من التغايرات الشخصية والتنوعات البيئية، وتباينات المناخ الاجتماعي والاختلافات في المنظور إلى العلاقات والتوزيع داخل الأسرة.
وأكدت، علاوة على هذا، أن الحاجة إلى مناقشة تقييم القدرات المختلفة في ضوء الأولويات العامة تمثل رصيدًا واقعيًّا، يلزمنا أن نوضح ماهية أحكام القيمة في مجال يستحيل علينا فيه تَجنُّب أحكام القيمة ولا ينبغي علينا تجنبها. حقًّا إن المشارَكة العامة في هذه الحوادث بشأن القيمة — سواء على نحو سافر أو ضمني — تُمثِّل جانبًا حاسمًا في سبيل ممارَسة الديمقراطية والخيار الاجتماعي المسئول. ولا مفر في المسائل الخاصة بالحكم العام من وجود مناقشة عامة بشأن القيمة. وليس في الإمكان إبدال الجهد العام للتقييم بافتراض آخر مَهْما بدا ذكيًّا وبارعًا. إن بعض الافتراضات التي تبدو في ظاهرها أنها مفيدة ومجدية، إنما تؤدي دورها عن طريق إخفاء اختيار القيم والأهمية وراء ستار كثيف من الغموض المتعمد. مثال ذلك افتراض يأتي ضمنيًّا في الغالب ويقضي بأن شخصين لهما مَطلب وظيفي واحد يجب أن تتوافر لديهما العلاقة نفسها بين حزمة السلع والرفاه. هذا بِغضِّ النظر عمَّا إذا كان أحد الشخصين عليلًا والآخَر سليمًا، أو أن أحدهما مُعوَّق، والآخر صحيح البدن أو غير ذلك. وطبيعي أن مثل هذا الافتراض هو في الأساس وسيلة لتجنُّب الحاجة إلى التفكير في كثير من المؤثرات المُهِمَّة في الرفاه. ولكن هذا الهرب يصبح واضحًا شفافًا، كما حاولتُ أن أوضح، عندما نكمل بياناتنا عن الدَّخْل والسلعة بمعلومات من أنماط أخرى (بما في ذلك معلومات عن الحياة والموت).
وهكذا ترى أن مسألة المناقشة العامة والمشارَكة الاجتماعية مسألة محورية عند صوغ سياسة داخل إطار ديمقراطي. ولا ريب في أن استثمار الحقوق الديمقراطية — التي تشمل كلًّا من الحريات السياسية والحقوق المدنية — جانب حاسم من ممارسة صوغ السياسة الاقتصادية نفسها، علاوة على الأدوار الأخرى التي يمكن أن تؤديها. وغني عن البيان أن الحريات المشتركة لا يمكن إلا أن تكون في النَّهج المُوجَّه إلى الحرية أمرًا محوريًّا عند تحليل السياسة العامة.
Jean-Paul Fitoussi and R. Rosanvallon, Le Nouvel age des inegalites (Paris: Sevil, 1996); Edmund S. Phelps, Rewarding Work: How to Restore Participation and Self-Support to Free Enterprise (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1997). See also Paul Krugman, Technology, Trade and Factor Prices, NBER Working Paper no. 5355 (Cambridge, Mass.: National Bureau of Economic Research, 1995); Stephen Nickell, Unemployment and Labor Market Rigidities: Europe versus North America, Journal of Economics Perspectives n (1997); Richard Layard, Tackling Unemployment (London: Macmillan, 1999); Jean-Paul Fitoussi, Francesco Giavezzi, Assar Lindbeck, Franco Modigliani, Beniamino Moro, Dennis J. Snov/er, Robert Solow and Klaus Zimmermann, A Manifesto on Unemployment in the European Union, mimeographed, 1998.