الأسواق والدولة والفرصة الاجتماعية
يقول تي إتش هكسلي في كتابه «العلم والثقافة»: «المصير التقليدي للحقائق الجديدة أن تبدأ في صورة بدعة وتنتهي في صورة خرافة.» ويبدو أن شيئًا شبيهًا جدًّا بهذا حدث بالنسبة إلى حقيقة أهمية الأسواق في الحياة الاقتصادية؛ إذ جاء حين من الزمن — ليس بعيدًا جدًّا — وقتما كان كل اقتصادي شاب «يعرف» ما هي المجالات التي يكون فيها لمنظومات السوق حدود خطرة. واعتادت جميع المراجع الدراسية أن تكرر قائمة بذاتها من «النواقص». وغالبًا ما كان الرفض الفكري لآلية السوق يفضي إلى مقترحات جذرية لمناهج مختلفة تمامًا لتنظيم العالم «تشتمل أحيانًا على بيروقراطية راسخة مكينة وأعباء مالية لا يتخيلها عقل». ويأتي هذا من دون دراسة جادَّة لإمكان أن تشتمل المقترحات البديلة على إخفاقات أكبر مما كان متوقَّعًا من السوق. وكثيرًا ما كان يظهر اهتمام ضئيل بالمشكلات الجديدة الإضافية التي يمكن أن تخلقها التنظيمات البديلة.
وتَغيَّر المناخ الفكري جذريًّا على مدى العقود القليلة الأخيرة وانقلب الوضع. وها هي فضائل آلية السوق موضع تسليم عام وكأنها معيار قياسي. وتبدو مواصفاتها غير ذات أهمية. وأصبحت أي إشارة إلى نواقص آلية السوق تبدو، في الحالة المزاجية الراهنة، أسلوبًا قديمًا باليًا ومناقضًا لثقافة العصر. ونلحظ أن كل مجموعة من التحيزات تفسح الطريق لنقيض آخر يتمثل في مجموعة من المفاهيم المسبقة. وهكذا نرى عقيدة الأمس غير المدروسة تصبح بدعة اليوم، وقد تحولت بدعة الأمس إلى أسطورة جديدة.
الأسواق والحرية والعمل
- أولًا: يمكن أن نجد أشكالًا مختلفة للعمل العبودي في كثير من بلدان آسيا وأفريقيا، علاوة على إنكار ثابت ومُطَّرد للحرية الأساسية في البحث عن عمل مأجور بعيدًا عن الرؤساء التقليديين. ويحدث أحيانًا أن تنشر الصحف الهندية تقارير تفيد بأن ملاك الأراضي من أبناء الطبقة العليا في منطقة من أكثر مناطق الهند تخلفًا (مثل بيهار) يعمدون إلى ترويع — عن طريق عمليات قتل واغتصاب منتقاة — أسر العمال المُسخَّرِين رَهْن الأرض. إن هذا الوضع ينطوي بطبيعة الحال على قضية جنائية وتجريم؛ إذ لماذا مثل هذه الأحداث تحظى باهتمام وانتباه وسائل الإعلام (والتي يمكن أن تتمثل أخيرًا في سبب يدعو إلى إمكان تغيير الوضع حتى في داخل هذه المجتمعات المرعبة)، لكن الأنشطة الإجرامية ترتكز على وضع اقتصادي أساسي يتضمن معركة من أجل حرية العمالة، وكذا حرية ملكية الأرض التي يعمل عليها قسرًا العمال «المسخرون» رهن الأرض، وتطرد تلك التنظيمات على الرغم من عدم مشروعيتها (نتيجة تشريع صادر بعد الاستقلال ولم ينفذ إلا جزئيًّا). وحظي هذا الوضع بدراسة مكثفة في الهند أكثر من غيرها، ولكن لا تزال ثمة شواهد على وجود مشكلات مماثلة في العديد من البلدان الأخرى.
- ثانيًا: (ولننتقل الآن إلى مثال مختلف
للغاية) ليس بالإمكان أن نفهم جيدًا
وعلى نحو كامل فشل الاشتراكية
البيروقراطية في شرق أوروبا وفي
الاتحاد السوفييتي في ضوء المشكلات
الاقتصادية وحدها، وإخفاقها في توليد
دخول أو غير ذلك من نتائج من مثل
متوسطات الأعمار المتوَقَّعة. حقًّا إن
البلدان الشيوعية حققت إنجازات ناجحة
فيما يتعلق بمتوسطات الأعمار
المتوقَّعة. ونحن نسوق هذا الرأي على
أساس نِسبي حسب ما أوضحت الإحصاءات
السكانية الخاصة بالاتحاد السوفييتي
والصين قبل الإصلاح وفيتنام وكوريا
وغيرها. والواقع أن العديد من البلدان
الشيوعية سابقًا تعاني الآن وضعًا أسوأ
كثيرًا مما كانت عليه في ظل الحكم
الشيوعي — وربما لا نجد من بينها ما هو
أسوأ من روسيا ذاتها — (إذ انخفض متوسط
الأعمار عند الميلاد بالنسبة إلى
الرجال الروس إلى حوالي ثمانٍ وخمسين
سنة، وهو أقل كثيرًا من نظيره في الهند
أو باكستان).٥ ومع هذا لا يزال الناس
عازفين عن الاقتراع للعودة إلى
التنظيمات السابقة على نحو ما تُشِير
نتائج الانتخابات. وأكثر من هذا أن
الأحزاب الجديدة التي وَرِثَت الوضع
والنَّابعة من الوضع القديم لا تقترح
مثل هذه العودة (وتطالب فقط بأقل قدر
من عمليات إعادة تأسيس جذرية).
ويتعين عند تقدير ما حدث أن نعترف — بطبيعة الحال — بقصور فعالية النظام الشيوعي. ولكن ثمة أيضًا قضية مباشرة أكثر ألا وهي غياب الحرية داخل نظام أَلْغى الأسواق في كثير من مجالات النشاط، كذلك لم يكن بالإمكان السماح للناس باستخدام الأسواق حتى وإن كانت قائمة. مثال ذلك أنه كان بالإمكان الحيلولة دونهم والتماس عمل من خلال عملية تعبئة مطردة (بما في ذلك إرسال بعض غير المرغوب فيهم للعمل حيث يريد لهم رؤساؤهم). وحسب هذا الفهم نرى أن فريدريك هاييك كان على صواب حين وصف الاقتصادات الشيوعية بأنها «الطريق إلى العبودية» على الرغم مما في هذه اللغة من قسوة٦ — وفي سياق مغاير — وإن كان غير مقطوع الصلة — لَحَظ ميشال كاليسكي (الاقتصادي البولندي العظيم الذي عاد إلى بولندا وقوبل بحماس كبير مع تأسيس النظام الشيوعي) في معرض إجابته عن سؤال صحافي عن تَقدُّم بولندا من الرأسمالية إلى الاشتراكية: «نعم، نجحنا في القضاء على الرأسمالية، وأصبح كل ما علينا أن نعمله الآن هو القضاء على الإقطاع.»
- ثالثًا: وكما ناقشنا في الفصل الأول عند
الحديث عن وضع مُؤسِف يتعلق بعمل
الأطفال (وهو وضع سائد، على سبيل
المثال، في باكستان أو الهند أو
بنجلاديش). توجد هنا قضية عبودية
وسُخرة ثاوية؛ حيث يعمل كثيرون من
الأطفال لإنجاز مَهام شاقَّة ومُجهِدة،
ويُجْبَرون على أدائها قسرًا. وربما
ترجع هذه العبودية إلى الحرمان
الاقتصادي للعائلات التي وفد منها
هؤلاء الأطفال. وقد نجد أحيانًا
الأبوين أنفسهما يعانيان من السُّخرة
ذاتها حيث يعملان. وتبلغ هذه القضية
المثيرة للاشمئزاز ذروتها في تشغيل
الأطفال حين يجبر الأطفال كرهًا على
أداء أعمال بأساليب وحشية بربرية؛ إذ
العوائق كلها تَحُول دون حرية الأطفال
في الالتحاق بمدرسة على وجه الخصوص.
ويحدث هذا ليس فقط بسبب ضعف برامج
التعليم الأولي في هذه المناطق، بل
وأيضًا في بعض الحالات، بسبب الحرمان
من فرصة اختيار لكي يقرر الطفل
«وأبواه» ماذا يريدون أن
يفعلوا.
ويكاد الاقتصاديون في جنوب شرق آسيا ينقسمون في الرأي بسبب قضية عمل الأطفال؛ إذ دفع البعض بأن مجرد إلغاء عمل الأطفال دون عمل أي شيء لتعزيز الأوضاع الاقتصادية للأسر المعنية ربما لا يكون في مصلحة الأطفال أنفسهم. وها هنا يقينًا قضية مثيرة للجدل. ولكن تطابق عمل الأطفال دائمًا مع العبودية في صورتها العقلية يجعل منها في مثل هذه الحالات عملية اختيار. إن صرامة وقسوة العبودية تتولد عنهما قضية حية تحفز إلى تنفيذ قوي ونَشِط لإصدار تشريعات ضد العبودية وضد تشغيل الأطفال. إن نظام عمل الأطفال، على الرغم مما فيه ذاتيًّا من سوء يبدو أشد إمعانًا في اللاأخلاقية والكراهية؛ نظرًا لتطابقه مع السخرة والعبودية.
- رابعًا: تُمثِّل حرية المرأة في البحث عن عمل
خارج الأسرة قضية رئيسية في كثير من
بلدان العالَم الثالث. والملاحَظ أن
ثقافات كثيرة تنكر — بشكل نسقي — على
المرأة هذه الحرية. وهذا وحده انتهاك
لحرية المرأة وللمساواة بين الجنسين،
وطبيعي أن غياب هذه الحرية يمثل عملًا
ضد تمكين المرأة اقتصاديًّا علاوة على
ما له من نتائج أخرى كثيرة. وجدير
بالذِّكْر أنه باستثناء الآثار
المباشرة لعمالة السوق وما تضيفه
للمرأة من استقلال اقتصادي، فإن عمل
المرأة في الخارج مهم أيضًا لكي تستطيع
المرأة عقد «صفقة» أفضل فيما يتعلق
بالتوزيعات داخل المنزل.٧ وغني عن البيان أن عمل
المرأة في البيت يمكن أن يكون من نوع
العمل الذي يقصم الظهر، ولكن نادرًا ما
تلقى تكريمًا أو حتى اعترافًا «ونادرًا
ما تؤجر عليه». كذلك فإن إنكار حق
المرأة في العمل خارج البيت يمثل
انتهاكًا كبيرًا لحرية المرأة.٨
والملاحظ أن حظر عمل المرأة في الخارج يمكن أن ينفذ بطريقة وحشية قاسية وسافرة (كما هي الحال في أفغانستان الآن كمثال). ولكن الحظر يمكن أن يحدث أحيانًا بشكل ضمني عن طريق قوة التقليد وسلطان التماثل الاجتماعي. وربما لا نجد أحيانًا بأي معنى ظاهر حظرًا صريحًا على المرأة في التماس عمل لها خارج البيت، ولكن المرأة مع هذا تنشأ وتتربى على قيم تقليدية تبث في نفسها الروع والخوف من كسر التقاليد وصدمة الآخرين. وتشكل المدركات الاجتماعية السائدة عن «السواء» و«اللياقة» والملاءمة محور هذه المسألة.
وترتبط هذه القضية بقضايا مهمة أخرى موضع اهتمام هذا الكتاب، نذكر منها بخاصة الحاجة إلى حوار مفتوح بشأن القضايا الاجتماعية، وجدوى الأنشطة الجماعية لإحداث تغييرات اجتماعية موضوعية. ولقد بدأَت تنظيمات المرأة للقيام بدور مهم للغاية في سبيل إنجاز هذا التحول في بلدان كثيرة في العالم. أذكر هنا على سبيل المثال رابطة النساء العاملات في مهن حرة (SEWA) ولها دور فعال للغاية لخلق مناخ فكري مغاير، وليس فقط مُجرَّد تحقيق المزيد من عمالة المرأة في جزء من الهند، بيد أننا إذ نؤكد على أهمية التعاملات التجارية وحق المشاركة الاقتصادية (بما في ذلك حق التماس عمل بحرية) وكذا الأهمية المباشرة للحريات وثيقة الصلة بالسوق، يجب ألا يغيب عن أنظارنا الطابع التكميلي لهذه الحريات مع الحريات المتولدة عن تشغيل وتنشيط المؤسسات الأخرى (غير السوقية).٩ وغني عن البيان أن تكاملية المؤسسات المختلفة — خاصة التكامل بين السوق والتنظيمات غير السوقية — تُمثِّل كذلك موضوعًا محورًا في هذا الكتاب.
الأسواق والفعالية
سوق العمل يمكن أن يكون عامِل تحرير في سياقات كثيرة مختلفة، كما أن الحرية الأساسية للمُعامَلات يمكن أن تكون ذات أهمية محورية، بِغَض النظر عمَّا يمكن أو لا يمكن لآلية السوق أن تنجزه، من حيث الدخل أو المنافع أو غير ذلك من نتائج. ولكن من المهم كذلك دراسة هذه النتائج اللاحقة. وسوف أنتقل الآن إلى هذه القضية المختلفة.
وكم هو عسير الدفاع عن افتراض مسبق يفيد بأن الأنانية صفة عامة. وثمة أيضًا ظروف أكثر تعقدًا من تلك التي يفترضها نموذج آرو-ديبرو «والتي تشتمل على مظاهر تكافل أكثر مباشرة بين مصالح الأفراد المختلفين»، وهي ظروف يمكن فيها أن يكون سلوك الحرص على المصلحة الذاتية أقل كفاءة في توليد نتائج فعالة؛ ولهذا فإنه إذا كان ضروريًّا حقًّا افتراض نزعة أنانية عامة لإثبات كفاءة نتائج نموذج آرو-ديبرو، إذن يمكن اعتبار هذا قيدًا خطيرًا يعيب هذا النهج، بَيْدَ أنَّ بالإمكان تَجنُّب هذا القيد موضوعيًّا، وذلك بدراسة متطلبات الفعالية في ضوء الحريات الفردية بدلًا من الاقتصار على المنافع وحدها.
مزاوجة الأضرار وعدم المساواة في الحريات
حسب هذا المعنى يمكن توسيع نطاق النتيجة الأساسية بشأن فعالية السوق لتشمل منظور الحريات الموضوعية، بَيْدَ أنَّ نتائج الفعالية هذه لا تفيدنا شيئًا عن مساواة الدخل أو عن مساواة توزيع الحريات. إن الوضع يكون فعالًا بمعنى أن منفعة إنسان ما أو حريته الموضوعية يمكن أن تَتعزَّز من دون أن تعترض منفعة أو حرية شخص آخر، مع إمكان حدوث مظاهر لعدم مساواة كبيرة في توزيع المنافع والحريات.
وإنه لأمر جدير بالاهتمام والتفكير في آنٍ واحد في كل من فعالية الحرية لآلية السوق من ناحية، وخَطَر مشكلات عدم المساواة في الحرية من ناحية أخرى. ويَتعيَّن تناوُل مشكلات المساواة خاصة عند مُعالَجة مظاهر الحرمان والفقر الخطيرة. وجدير بالذِّكْر أن التدخل الاجتماعي بما في ذلك الدعم الحكومي سيكون له، في هذا السياق، دور مهم. وهذا هو تحديدًا ما تحاول إنجازه إلى حد كبير منظومات الأمن الاجتماعي في دولة الرفاه عن طريق برامج متنوعة من بينها التدبيرات الاجتماعية للرعاية الصحية والدعم العام للعاطلين والمعوزين … إلخ، ولكن تظل الحاجة ماثلة من أجل الاهتمام في آنٍ واحد بأوجه الفعالية والمساواة للمشكلة؛ وذلك لأن التدخل بدافع المساواة في عمل آلية السوق يمكن أن يضعف إنجازات الفعالية حتى وهي تدعم المساواة. ومن المهم أن يكون واضحًا ضرورة العمل في آنٍ واحد عند التفكير في الجوانب المختلفة للتقييم الاجتماعي وللعدالة.
وسبق التصدي في هذا الكتاب في معرض سياقات أخرى لضرورة تزامُن التفكير في الأهداف المتمايزة، وهذا ما حدث — على سبيل المثال — في الفصل الرابع حين قارنَّا بين الالتزام الاجتماعي في أوروبا لدرجة أكبر (أي أكبر من الولايات المتحدة) من أجل ضمان الحد الأدنى للدخل والرعاية الصحية، وبين التزام الولايات المتحدة بدرجة أكبر (أكبر من أوروبا) بالحفاظ على مستوى أعلى للعمالة. وهذان الطرازان من الالتزام يمكن، إلى حد كبير، الجمع بينهما. ولكن يمكنهما أيضًا ولو جزئيًّا أن يَتعارضَا. وبقدر ما يكون هناك من تعارُض بقدر ما يكون من المهم شَرْط تزامُن التفكير في المسألتين معًا بغية الوصول إلى أولويات اجتماعية شاملة والاهتمام بكل من الفعالية والمساواة.
الأسواق وجماعات المصالح
إن الدور الذي تؤديه الأسواق يجب ألا يعتمد فقط على ما يمكنها أن تفعله، بل وأيضًا على ما هو مسموح لها بأن تفعله، والمعروف أن الأداء السَّلِس للأسواق يخدم مصالح الكثيرين، ولكن هناك أيضًا جماعات يمكن أن يلحق هذا الأداء الضرر بمصالحهم الثابتة. وإذا حدث وكانت هذه الجماعات الأخيرة أقوى سُلطة ونفوذًا من الناحية السياسية فسوف يكون بإمكانها أن تُحاوِل بيان أن الأسواق لا تَحظَى بوَضْع ملائم داخل الاقتصاد. وها هنا نكون إزاء مشكلة جد خطيرة عندما تزدهر وحدات الإنتاج الاحتكارية. على الرغم من حالة اللافعالية وأنماط القصور المختلفة. بفضل الابتعاد عن المنافسة المحلية أو الأجنبية. وينطوي هذا الإنتاج المدعوم اصطناعيًّا على ارتفاع لأسعار المُنتَج أو تَدنِّي نوعية المُنتَج. وهذا يمكن أن يفرض على السكان بعامة تضحية كبيرة، بَيْدَ أنَّ وجود جماعة منظمة من الصناعيين وذوي نفوذ سياسي يمكنهم العمل على ضمان وحماية أرباحهم.
وجدير بالإشارة هنا أن شكوى آدم سميث بشأن الاستخدام المقيد للأسواق في بريطانيا القرن الثامن عشر لم تكن معنية فقط بإبراز المزايا الاجتماعية للأداء الجيد للأسواق، بل وأيضًا بتحديد أثر الفوائد المكتسبة لضمان عزل أرباحهم المتضخمة عن نتائج المنافَسة التي تتهددها بالخطر. حقًّا رأى آدم سميث أن الحاجة إلى فَهْم عمل الأسواق تُمثِّل إلى حدٍّ كبير ترياقًا ضد الحجج التي تستخدمها بشكل منتظم الفوائد المكتسبة ضد إعطاء المنافسة دورًا ملائمًا. واستهدفت حجج سميث الفكرية جزئيًّا معارضة قوية وفعالية الدفاع انطلاقًا من فوائد راسخة.
وكما ترى فإن الكثير من القيود التي تفسد الأداء الوظيفي للاقتصادات في البلدان النامية اليوم. أو حتى البلدان التي وصفت بالأمس بالبلدان الاشتراكية — هي بمعنى عام من هذا الطراز «قبل الرأسمالي». وسواء اعتبرنا حظر بعض أنماط التجارة المحلية أو التبادل الدولي، أو الحفاظ على التقنيات وطرق الإنتاج البالية في مشروعات الأعمال التي تملكها وتديرها «البورجوازية المحمية» إلا أننا نجد تماثلًا نوعيًّا بين الدعوى الكاسحة للمنافسة المقيدة وازدهار القيم وعادات الفكر قبل الرأسمالية، إن متطرفي الأمس من مثل آدم سميث (الذي ألهمت أفكاره الكثيرين من نشطاء الثورة الفرنسية)، أو دافيد ريكاردو (الذي قاوم دفاع مالتوس عن الإسهام الإنتاجي لكبار الملاك النيام)، أو كارل ماركس (الذي اعتبر الرأسمالية التنافسية قوة رئيسية للتغيير التقدمي في العالم) لا يناصرون إلا في حدود ضيقة الحُجج المناهضة للسوق — بعادة — التي أطلقها قادة الفكر قبل الرأسمالي.
إن من دواعي سخرية تاريخ الأفكار أن نرى بعض مَن يَدْعُون إلى سياسات مُتطرِّفة يرتَدُّون غالبًا إلى مواقع اقتصادية قديمة سبق أن رفضها تمامًا آدم سميث، وريكاردو، وماركس، وإن ميشال كايسكي الذي أبدى امتعاضًا مرًّا إزاء بولندا المثقلة بالقيود (الذي قال نجحنا في القضاء على الرأسمالية وأضحى علينا الآن القضاء على الإقطاع) والذي أشرنا إليه في السابق إنما ننظر بتقدير إلى رأيه في ضوء ما قلناه. ولا غرابة في أن البورجوازية المحمية غالبًا ما تبذل قصارى جهدها لتشجيع ودَعْم وَهْم نَزْعة التطرف والحداثة؛ وذلك بحثِّها على أن تستعيد من الماضي البعيد المواقف العامة المناهضة للسوق.
ويجب ألا يقتصر التصدي لمثل هذا النفوذ والتأثيرات على مُجرَّد مقاومة — وربما فضح (إذا استخدمنا كلمة بالية) — الباحِثِين عن الربح، أو التربح من الأسواق الأسيرة، بل وأيضًا نأخذ حُجَجهم الفكرية موضوعًا للفحص والتدقيق. ويملك علم الاقتصاد تراثًا عريقًا في هذا الاتجاه النقدي، يمتد بجذوره حتى آدم سميث الذي عمد في آنٍ واحد إلى توجيه إصبع الاتهام إلى مرتكبي هذه الأفعال وواصل فَضْح زيف مزاعمهم دفاعًا عن فرضية المنافع الاجتماعية عن طريق منافسة مرفوضة. وأكد سميث أن الفوائد المكتَسَبة تنزع إلى الفوز بسبب «معرفتها الأفضل بمصلحتها الخاصة» (وليس معرفتها بالمصلحة العامة) وقال:
وليس ثمة من سبب يقضي بضرورة فوز الفوائد المكتسبة، إذا ما سمح المجتمع بالحوار والحُجج الصريحة العامَّة؛ إذ يمكن أن يكون هناك، كما أوضحَتْ حجة باريتو الشهيرة، ألف شخص لا تمثل فوائدهم إلا إصابة ضئيلة بسبب السياسة التي تُفْرِط في تغذية مصلحة رجل أعمال واحد. ولكن ما إن تَتضِح الصورة حتى نرى الغالبية تُعارِض هذه الحجة الخاصة. ويمثل هذا مجالًا مثاليًّا لمزيد من الحوار العام بشأن المزاعم والمزاعم المُضادَّة المتعلِّقة بالجوانب المختلفة. ويمكن أيضًا، في صورة اختبار للديمقراطية الصريحة أن تحظى المصلحة العامة بآفاق رائعة للفوز ضد المُرافعة الحماسية لتلك الزمرة الصغيرة من المصالح المكتسبة. ويبين هنا أيضًا، مثلما وضح في مجالات أخرى كثيرة، درسناها في الكتاب، أن العِلاج يكمن في المزيد من الحرية، بما في ذلك حرية الحوار العام والمشارَكة في القرارات السياسية. وأعود لأقول إن الحرية من نوع واحد (وهي هنا الحرية السياسية) يمكن اعتبارها عاملًا يساعد على تحقيق الحرية من الأنواع الأخرى (خاصة حرية الانفتاح الاقتصادي).
الحاجة للتَّدقيق النقدي لدور الأسواق
الملاحظ في البلدان التي يُسمح فيها بتحصيل فائدة، يحدد القانون بعامة أعلى نسبة يمكن الحصول عليها دون التعرض للعقاب، وذلك لمنع ابتزاز الفائدة الربوية …
وحَرِي أن ندرك أن الدرس المستفاد من تحليل سميث لآلية السوق ليس الالتزام بأي استراتيجية تقفز بنا إلى نتائج خاصة بالسياسة تفضي إلى موقف «مؤيد» أو «مناهض» بعامة للأسواق. إننا بعد إقرارنا بدور التجارة والتبادل في حياة البشر لا يزال علينا أن ندرس حقيقة ماهية النتائج الأخرى المترتبة على مبادَلات وصفقات السوق؛ إذ يَتعيَّن أن نقيِّم نقديًّا الإمكانات العقلية مع الاهتمام الكافي بالظروف الطارئة التي يمكن أن تكون وثيقة الصلة بتقييم جميع نتائج تشجيع السوق أو تقييد عملها. وإذا كان مثال الجزار — البقال — الخباز يشير إلى وضْع شائع جدًّا يدعم فيه التبادل على نحو مشترك مصالحنا المتكاملة، إلا أن مثال المُسرِف والخيالي يوضِّح لنا أن هذا ربما لا يكون مجديًا بالطريقة ذاتها في كل حالة من الحالات؛ ولهذا لا مَفرَّ من ضرورة الدراسة النقدية الفاحصة والمدققة.
الحاجة لنَهْج مُتعدِّد الجوانب
وهكذا يَتعيَّن النظر إلى الجمع بين توسيع نطاق استخدام السوق وتنمية وتطوير الفرص الاجتماعية باعتباره جزءًا من نهج أعم وأشمل والذي يؤكد أيضًا على الحريات من الأنواع الأخرى (الحقوق الديمقراطية، وضمانات الأمن الاجتماعي، وفرص التعاون … إلخ). ويلحظ القارئ في هذا الكتاب أن تحديد الحريات الأداتية المختلفة (مثل الاستحقاقات الاقتصادية، والحريات الديمقراطية، والفرص الاجتماعية، وضمانات الشفافية، والأمن الوقائي) يرتكز على الاعتراف بدور كل منها، وكذا الاعتراف بالتكامل فيما بينها. وطبيعي أن محور اهتمام النقد يمكن أن يتباين من بلد إلى آخر حسب البلد موضوع البحث، وذلك في ضوء الخبرة الخاصة للبلد المعني. مثال ذلك قد يكون إهمال الفُرص الاجتماعية في الهند هو محور اهتمام النقد على نحو مُغايِر لما هو في الصين. هذا بينما افتقاد الحريات الديمقراطية يمكن أن يكون، وبشكل ملائم أكثر محور اهتمام النقد في الصين أكثر مما هو في الهند.
التَّكافُل والمصالح العامة
إن مَن نَزعُوا إلى القول بأن آلية السوق هي أفضل حل لكل مشكلة اقتصادية ربما هم بحاجة إلى بحث الحدود التي تمتد إليها هذه الآلية. وسبق لي أن عَقَّبْت على قضايا المساواة والحاجة إلى تَجاوُز اعتبارات الفعالية. وحاولت في هذا السياق أن أناقش لماذا قد يستلزم هذا استكمال آلية السوق بأنشطة مؤسَّسية أخرى. ولكن حتى مع تَحقُّق الفعالية فإن آلية السوق يمكن أن تكون أحيانًا أقل كفاءة خاصة مع وجود ما نسميه «المصالح العامة».
وثَمَّة حالات أخرى مزيج. مثال ذلك المنافع المشتركة داخل المجتمع مثل التعليم الأساسي الذي يمكن أن يتجاوز مكاسب الشخص المتعلم؛ ذلك لأن التعليم الأساسي يحتوي على عنصر المصلحة العامة أيضًا (ويمكن اعتباره شبه مصلحة عامة). ولا ريب في أن الأشخاص الذين يتلقون التعليم يفيدون به. ولكن علاوة على هذا فإن التوسُّع العام في التعليم وفي معرفة القراءة والكتابة داخل إقليم ما من شأنه أن ييسر عملية التغير الاجتماعي (بما في ذلك خفض نسبة الخصوبة والوفيات، وهو ما سوف نناقشه بإسهاب في الفصلين ٨، ٩). ويساعد التعليم الأساسي بالإضافة إلى هذا على تعزيز التقدم الاقتصادي الذي يفيد منه آخرون. وغني عن البيان أن المدى الفعال لهذه الخدمات ربما يستلزم توافر أنشطة وتدابير تعاونية من جانب الدولة أو السلطات المحلية. حقًّا لقد قامت الدولة بدور مهم في سبيل التوسع في التعليم الأساسي في كل أنحاء العالم. وجدير بالذِّكْر أن الانتشار السريع لمعرفة القراءة والكتابة في التاريخ الماضي للبلدان الغنية اليوم (في الغرب وفي اليابان وفي بقية شرق آسيا) اعتمد على انخفاض كُلفة التعليم العام في ترابُط مع ما أسهم به في تحقيق منافع عامة.
وهكذا، فإن حجة «المصالح العامة» تتجاوز آلية السوق وتستكمل الوضع اللازم لتدبير الاحتياطي الاجتماعي النابع من الحاجة إلى توافُر القدرات الأساسية من مثل الرعاية الصحية الأولية، وفرص التعليم الأساسي. إن اعتبارات الفعالية، حسب هذا الفهم، تتكامل مع حجة المساواة لدعم المساعدة العامة لتوفير التعليم الأساسي ومنشآت الصحة العامة وغيرها من المصالح العامة (أو شبه العامة).
الاحتياطات العامة والحوافز
إن أيَّ تحويل صافٍ — إعادة توزيع الدَّخل أو توفير الخدمات العامة مجانًا — يمكن أن يُؤثِّر في منظومة حوافز الاقتصاد. مثال ذلك أن هناك مَن دفع بقوة بأن التأمين السَّخِي ضد البطالة يمكن أن يُضعِف من حَلِّ مشكلة المُتعطِّل في بحثه عن وظيفة، وأن هذا هو ما حدث بالفعل في أوروبا. وتأسيسًا على حجة المساواة الواضحة إزاء مثل هذا التأمين يمكن أن نلمس هنا قضية صعبة، إذا ما ثَبت أن التناقض المُحتمَل واقعي وضخم كميًّا، ولكن حيث إن المرء يبحث عن عمل لأسباب عديدة. وليس فقط للحصول على دخل. فإن إبدال الأجر المفتقد جزئيًّا بدعم عام يمكن ألا يكون في واقع الأمر بالقَدْر الذي يَحُول دون التماس عمل على نحو ما يفترض البعض. والحقيقة أنه لا يزال غير واضح حتى الآن مدى وحجم النتائج المُثبِّطة للتأمين ضد البطالة. ومع هذا فإن الأمر في حاجة إلى دراسة تجريبية للتأكد من قوة الآثار المناهضة للحافز، وذلك حتى يتيسر إجراء مُناقَشة عامة قائمة على معلومات لمناقشة هذه القضايا المتعلقة بالسياسة العامة، بما في ذلك اختيار تَوازُن ملائم بين المساواة والفعالية.
وتوجد في غالبية البلدان النامية تدابير قليلة بشأن التأمين ضد البطالة بوجه عام. ولكن مشكلة الحافز ليست غائبة عن التفكير. ويمكن إثارة تساؤلات حتى بالنسبة إلى الرعاية الطبية والخدمات الصحية المجانية، أو المُؤسَّسات التعليمية المجانية. وتتعلق هذه الأسئلة بما يلي: (١) مدى حاجة المستفيدين لهذه الخدمات. و(٢) مدى قدرة الشخص على سداد كلفة هذه الخدمات بنفسه (وهل يمكن أن يقوم بالسداد مع انعدام أي تدابير عامة مجانية؟) إن مَن يصفون هذه التدابير الاجتماعية الأساسية (الاهتمام الطبي والتعليم … إلخ) بأنها حق لا يقبل التصرف للمواطنين سوف ينزعون إلى اعتبار هذا الضرب من التساؤلات نوعًا من العِناد، بل وربما إنكارًا مؤسفًا للمبادئ المعيارية للمجتمع «المعاصر». وهذا وضع يُمْكِن يقينًا الدفاع عنه إلى حدٍّ محدود. ولكن مع التسليم بمحدودية الموارد الاقتصادية ستكون هنا خيارات جادَّة يتعذَّر إغفالها جملة على أساس مبدأ ما «اجتماعي» اقتصادي مسبق. وعلى أي حال يَتعيَّن التصدي لقضية الحافز، حتى وإن كان هذا فقط؛ لأن مدى الدعم الاجتماعي الذي يمكن أن يوفره المجتمع إنما يتوقَّف جزئيًّا على التكاليف والحوافز.
الحوافز والقدرات والأداء الوظيفي
من العسير التغلب تمامًا على المشكلة الأساسية للحوافز، ويكاد يكون من المستحيل، بوجه عام، التماس بعض المؤشرات التي تكون في وقت واحد ذات صلة بتحديد الحرمان ولا تؤدي — عند استخدامها أساسًا للدعم العام — إلى أي نتائج حافزية. بَيْدَ أنَّ مدى النتائج المترتبة على الحافز يمكن أن تتغير حسب طبيعة المعايير المستخدمة وشكلها.
وجدير بالذِّكْر هنا أن بؤرة المعلومات في تحليل الفقر في هذا الكتاب تَضمَّنتْ تَحوُّل الاهتمام من الدخل المنخفض إلى الحرمان من القدرات الأساسية. وحجتنا المحورية لهذا التحول حجة أساسية وليست استراتيجية. ودفعت بأن الحرمان من القدرة من حيث هو معيار لقياس الضرر أهم من انخفاض الدخل؛ حيث إن الدخل مهم كأداة وقيمته المشتقة مشروطة بالكثير من الظروف الاجتماعية والاقتصادية. ولنا الآن أن نستكمل هذه الحجة باقتراح يقضي بأن التركيز على الحرمان من القدرة له بعض الفائدة للحيلولة دون تشوهات الحافز بالمقارنة بالعمل على أساس انخفاض الدخل واعتباره معيارًا للتحويل وللدعم المالي. وتضاف هذه الحجة الأداتية إلى السبب الرئيسي للتركيز على القدرات.
ويتعين أن ينطلق تقدير القدرات أولًا على أساس ملاحظة الأداء الوظيفي الفعلي للشخص، وذلك لاستكماله بمعلومات أخرى. ونلمس حدوث قفزة هنا (من الأداء الوظيفي إلى القدرات). ولكن حري ألا تكون قفزة كبيرة، وذلك فقط لأن تقييم الأداء الوظيفي الفعلي هو إحدى وسائلنا لتقدير كيف يقيم شخص ما اختياراته؛ إذ لو أن شخصًا مات قبل الأوان أو يعاني مرضًا مؤلمًا عضالًا فسوف يكون، في أغلب الحالات، مشروعًا استنتاج أنه كان يعاني مشكلة قدرة.
وطبيعي ألا يصح هذا في بعض الحالات. مثال ذلك أن ينتحر شخص ما، أو أن يموت جوعًا لا بسبب ضرورة بل بسبب قرار اتخذه بالصيام. ولكن هذه أحداث نادرًا ما تقع، ويمكن تحليلها على أساس معلومات تكميلية، والتي يمكن، في حالة الصيام، أن تتعلق بممارسات دينية، أو استراتيجيات سياسية أو أسباب أخرى للصيام. ولكن من الصواب من حيث المبدأ تجاوز الأداء الوظيفي المختار من أجل تقدير قدرة الشخص. ولكن إلى أي مدى يمكن أن نمضي فذلك رهن الظروف. إن السياسة العامة بين الناس، شأن سياسة الدولة بمعناها الفني، هي فن الممكن. وهذا معنى مهم يجب أن نتذكره عند الجمع بين الاستبصارات النظرية والقراءات الواقعية للجدوى العملية. ولكن ما يهم أن نؤكده هو أنه على الرغم من حصر التركيز المعلوماتي في إطار الأداء الوظيفي (طول العمر والوضع الصحي ومعرفة القراءة والكتابة … إلخ)، إلا أننا لدينا قياس يفيدنا بالمعلومات عن الحرمان أكثر مما تفيدنا إحصاءات الدخل.
- أولًا: يمكن عادة أن يحجم الناس عن رفض التعليم أو تشجيع المرض أو إبقاء حالة نقص التغذية استنادًا إلى أسس مرحلية خالصة. إن أولويات التفكير والاختيار تميل إلى العمل بجدية ضد تعمد اطِّراد هذه الحالات من مظاهر الحرمان. وهناك استثناءات بطبيعة الحال. ونجد بين أكثر الحسابات مأساوية عن تجارب إعانات المجاعات تقارير بين الحين والآخر تُحدِّثُنا عن بعض الآباء والأمهات الذين يتركون طفلًا من بين أبناء الأسرة يعاني جوعًا شديدًا، حتى تكون الأسرة أهلًا للحصول على دعم غذائي (في صورة حصص غذائية يحملها المستفيد إلى المنزل)، وهكذا وكأنهم يعاملون الطفل كأنه بطاقة للحصول على طعام،٤٤ بَيْدَ أنَّ مثل هذه النتائج التي تحفز الناس بوجه عام للإبقاء على البعض في حالة من نقص التغذية، أو البقاء من دون علاج، أو البقاء أُمِّيين حالات نادرة؛ وذلك لأسباب غير مثيرة للدهشة.
- ثانيًا: العوامل السببية، التي تُشكِّل أساسًا لبعض مظاهر الحرمان الوظيفي، يمكن أن تكون أعمق كثيرًا من الحرمان من الدَّخْل، ويمكن أن تكون عَصِيَّة للغاية على التَّكيُّف لأسباب تكتيكية خالصة. مثال ذلك حالات العجز البدني، أو الشيخوخة، أو خصائص الجنوسة (gender) وما شابه؛ إذ تُمثِّل جميعها مصادر خطيرة ومُحدَّدة لإعاقة القدرة؛ نظرًا إلى أنها خارج سيطرة الأشخاص المعنيين. كذلك هي وللسبب نفسه، ليست عرضة للتشوش وفقًا للحافز شأن القسمات القابلة للتكيف. ويحد هذا من التشوشات الحافزية للإعانات الموجهة تأسيسًا على هذه القسمات.
- ثالثًا: وهناك أيضًا مسألة أكبر إلى حد ما وهي أن المستفيدين أنفسهم ينزعون إلى الاهتمام بما تحقق من أداء وظيفي وقدرات (ونوع الحياة المقترنة بهذا الإنجاز) أكثر من الاهتمام بمجرد كسب مزيد من النقود. وهكذا يمكن للسياسة العامة في تقديرها، الذي تستند فيه إلى متغيرات أوثق صلة باهتمامات الأفراد فيما يتخذونه من قرارات، أن تستخدم القرارات الشخصية كأدوات انتخاب. وترتبط هذه المسألة باستخدام الاختيار الذاتي في معرض تقديم المساعدة العامة مع شرط أساسي هو العمل والجهد على نحو ما هو متبع عند تقديم مساعدات الغوث من المجاعات. وطبيعي أن المُعْوِزين والمحتاجين حقًّا إلى المال ستكون لديهم رغبة قوية في العمل وبذل الجهد لما يوفره لهم هذا طوعيًّا من فُرَص للعمل (غالبًا ما يكون بأجر منخفض) كشكل من أشكال الإعانة العامة.٤٥ وسبق استخدام هذا الطراز بنجاح في تحديد الأهداف لتوفير وقاية من المَجاعات. ويمكن أن يكون له دور أكبر في تعزيز الفرص الاقتصادية للمحرومين ذوي الأجسام الصحية والسليمة.٤٦ ويتمثل المبرر المنطقي لهذا النهج في واقع أن خيارات المستفيدين تحكمها اعتبارات أوسع من مُجرَّد اكتساب أقصى حد من الدخل. وحيث إن الأفراد المَعنِيِّين يركزون أكثر على مجمل الفرص (بما في ذلك الكلفة البشرية للجهد وكذا المنفعة المترتبة على الدخل الزائد). فإن بإمكان السياسة العامة أن تفيد بهذا الاهتمام وتستخدمه بذكاء.
- رابعًا: التحول في تركيز الاهتمام من ذوي الدخل المنخفض إلى إعاقات القُدْرة يدفعنا مباشرة إلى مزيد من التأكيد على العمل من أجل توفير المنشآت اللازمة لمثل الخدمات الصحية والبرامج التعليمية.٤٧ وهذه الخدمات بطبيعتها غير قابلة للتعديل أو للبيع، علاوة على أنها لا تفيد الشخص كثيرًا ما لم يكن عمليًّا في حاجة إليها؛ ولهذا نرى أن هذه الإجراءات تتضمن ذاتيًّا ما يجعلها أكثر ملاءمة.٤٨ وغني عن البيان أن هذه القسمة المميزة للتدابير المُوجَّهة مُباشَرة إلى القُدرة تجعل إنجاز الهدف أيسر عن طريق الحد من نطاق التشوشات الحافزية.
الاستهداف واختيار الوسائل
ولكن على الرغم من هذه المزايا فإن قرار استهداف إعاقات القدرة بدلًا من انخفاض الدخل لا يلغي بذاته الحاجة إلى الحكم على الفقر الاقتصادي للمستفيدين المحتملين؛ وذلك لأنه لا تزال هناك مسألة أخرى هي كيف يجري توزيع مخصصات المؤن العامة. ونذكر بوجه خاص مسألة سداد تكاليف الخدمات العامة وفقًا للقدرة على الدفع، وهي المسألة التي ستعيد إلينا الحاجة إلى التأكد من دخل المستفيد المحتمل.
والملاحظ أن تدبير الخدمات العامة اتجهت أكثر فأكثر نحو اختبار الوسائل، وهو ما نراه في مختلف أنحاء العالم. وهذه مسألة من السهل فهمها من حيث المبدأ على الأقل. إنها تقلل من العبء المالي، كما أن الرصيد المالي العام ذاته يمكن توسيع نطاق الإفادة به ليشمل المعوز اقتصاديًّا إذا ما استطعنا أن نجعل الميسور نسبيًّا يسدد كلفة المنافع التي يتلقاها (أو نحفزه ليقدم مساهمة مهمة ضمن الكلفة العامة). وإن الشيء الأصعب في التأكد منه هو اختبار الوسيلة بطريقة فعالة وبدقة مقبولة بحيث لا تفضي إلى نتائج معاكسة.
ويجب أن نميز بوضوح بين مشكلتين مختلفتين تتعلقان بالحافز عند تدبير الرعاية الصحية أو التعليم على أساس اختبار الوسائل، وترتبط هاتان المشكلتان بالمعلومات بشأن، (١) إعاقة قدرة الشخص (الحالة المرضية البدنية كمثال). و(٢) ظروف الشخص الاقتصادية «وقدرته على السداد». أما فيما يتعلق بالمشكلة الأولى فإن شكل المساعدة وقابليتها للتبادل يُحْدِثان فارقًا مهمًّا. وكما سبق أن قلنا فإن الدعم الاجتماعي نعطيه على أساس التشخيص المباشر لحاجة بذاتها (مثال، بعد بحث ومراجعة الشخص ومعرفة أنه يعاني حالة مَرضية بعينها). ويجري تقديمها مجانًا في صورة خدمات مُحدَّدة وغير قابلة للتحويل (كأن يعالج طبيًّا من هذا المرض). هنا في هذه الحالة سوف ينخفض كثيرًا إمكان تشوش معلومات النوع الأول. ونلحظ تغايرًا هنا فيما يتعلق بتقديم نقود قابلة للتبادل لتمويل العلاج الطبي، وهو أمر يستلزم مزيدًا من التدقيق غير المباشر، وها هنا تكون برامج الخدمات المباشرة مثل الرعاية الصحية والتعليم المدرسي أقل عرضة لاستخدامها استخدامًا سيئًا.
-
(١)
تشوش المعلومات: إن أي منظومة تحاول الإمساك ﺑ «الغشاشين» الذين يَدَّعون أن ظروفهم الاقتصادية أقل من الحقيقة سوف يقعون في الخطأ بين الحين والآخر، ويحرمون الصادقين من الحصول على ما يستحقون. وليس أقل من ذلك أهمية أن هذا الأسلوب سوف يثبط من همة المستحقين للمساعدة أصلًا «فلا يتقدمون بطلب للحصول على مستحقاتهم». وليس بالإمكان، في ضوء حالة لاتماثلية المعلومات، القضاء على الغش من دون تَعرُّض بعض المستفيدين الأمناء لقدر من المخاطرة.٥٠ والمُلاحَظ أنه عند محاولة إلغاء الخطأ من «طراز ١» الذي يفضي إلى إدراج غير المحتاج ضمن المحتاجين فعلًا، فإن من المُرجَّح الوقوع في أخطاء من «طراز ٢» هي عدم إدراج بعض المحتاجين فعلًا في قائمة المحتاجين.
-
(٢)
تشوش الحافز: المعلومات المشوشة كثيرة، لكنها لا تستطيع وحدها أن تُغيِّر الواقع الاقتصادي الحقيقي. بَيْدَ أنَّ الدعم المستهدف يمكن أن يُؤثِّر أيضًا في السلوك الاقتصادي للناس. مثال ذلك أن تَوقُّع المرء أن يفقد الدعم، إذا كان يكسب كثيرًا من شأنه أن يعيق الأنشطة الاقتصادية. وسوف يكون طبيعيًّا أن نتوقع حدوث قدر من التحايلات ذات الدلالة والمسببة للتشوش إذا ما كانت أهلية المرء للمساعدة تَتحدَّد تأسيسًا على مُتغيِّر «مثل الدخل» الذي يُمكِن تعديله بِحُرِّية عن طريق تغيير سلوك المرء الاقتصادي؛ لذا يتعين أن تتضمن التكاليف الاجتماعية للتحايلات السلوكية إجراءات من بينها فقدان ثمار الأنشطة الاقتصادية التي امتنع عنها المرء.
-
(٣)
عدم الانتفاع ووصمة العار: منظومة الدعم التي تشترط تحديد الشخص على أنه فقير (وتنظر إليه كمنتفِع مُحدَّد من بين العاجزِين عن إعالة أنفسهم) سيكون لها بعض الآثار في احترام المرء لنفسه واحترام الآخرين له. وهذا يمكن أن يفسد سعي المرء من أجل التماس العون. ولكنَّ هناك أيضًا كلفة وخسارة مباشرتين في الشعور بوصمة عارٍ وأن يكون كذلك فعلًا. وحيث إن مسألة احترام الذات غالبًا ما يعدُّها المسئولون عن السياسة مصلحة هامشية (وتُعَد ضربًا من الاهتمام المتكلف)؛ لذلك أَجِدُني حرًّا في الإشارة إلى حجة جون راولس التي ترى أن احترام الذات «ربما يكون أهم المصالح الأساسية» التي يتعين أن تركز عليها أي نظرية عن العدالة باعتبارها إنصافًا ونزاهة.٥١
-
(٤)
التكاليف الإدارية والفساد: يمكن أن يتضمن إجراء الاستهداف تكاليف إدارية كبيرة — في صورة إنفاق موارد وتسويفات بيروقراطية — ويمكن أن يتضمن كذلك خسائر تتعلق بالخصوصية الفردية والاستقلال الذاتي للمرء عند الحاجة إلى بيانات شاملة، علاوة على برنامج بحث وتَحَرٍّ ومتابَعة من جانب الشرطة. وهناك علاوة على هذا تكاليف اجتماعية تَتمثَّل في عدم تماثُل السُّلطة التي يَتمتَّع بها سادة البيروقراطية في مُواجَهة مُقدِّمي التماسات من أجل الإعانة. وحَرِيٌّ أن نضيف أن هناك إمكانًا أكبر للفساد هنا؛ حيث إن هؤلاء السادة المشار إليهم يكتسبون داخل منظومة الاستهداف سلطة منح المنافع للمستفيدين ممن هم على استعداد لدفع مال تيسيرًا لأعمالهم.
-
(٥)
الاستدامة السياسية ونوعية الخدمات: المستفيدون من الدعم الاجتماعي المستهدف غالبًا ما يكونون عناصر ضعيفة سياسيًّا، وربما لا يملكون قدرة على استدامة البرامج داخل حلبة الصراع السياسي أو على الحفاظ على نوعية الخدمات. وكان هذا الرأي في الولايات المتحدة أساسًا ارتكزَت عليه حجج شهيرة تدعو من أجل توافر برامج «شاملة» تلقى دعمًا أوسع نطاقًا بدلًا من البرامج مثقلة الأهداف والمقتصرة فقط على الفقراء.٥٢ ولكنَّ شيئًا من هذه الحجة يتعلق بالبُلدان الأفقر حالًا أيضًا.
ليس الهدف من عرض هذه المشكلات الإيحاء بأن الاستهداف لا بد أن يكون غير مُحدَّد المعالم والموضوع أو أن يكون دائمًا إشكاليًّا، بل فقط بيان أن ثمة اعتبارات وآراء تتعارض مع الحجة البسيطة الداعية إلى أقصى قدر من الاستهداف. والاستهداف في واقع الأمر هو محاولة، وليس نتيجة. وجدير بالذِّكْر أنه حتى حين يكون الحصاد المستهدف بنجاح صائبًا فلن يلزم عن هذا بالضرورة القول إن المحاولات في صورة برامج مستهدفة سوف تحقق النتائج نفسها. والمعروف أن مسألة اختبار الوسائل والاستهداف الكثيف اكتسبت تأييدًا كبيرًا في الدوائر العامة (تأسيسًا على تفكير أوَّلي)؛ لذلك فإن من الجدير أيضًا تأكيد النتائج المثبطة والمسببة للاضطراب في هذه السياسة المقترحة.
الفعالية والأساس المعلوماتي
ربما يكون من المستحيل أن نحاول التماس حالة للمصادقة الشاملة أو الرفض الشامل لاختبار الوسائل على أساس حجج شديدة العمومية. وتتمثل أهمية المناقشة السابقة، من حيث صلتها بالموضوع، بعرض الحجج المناقضة القائمة جنبًا إلى جنب مع الحجج المؤيدة لإجراء اختبار دقيق ومتطابق للوسائل. وهنا تصبح عمليًّا (كما هي الحال في مجالات أخرى عرضنا لها) الحلول الوسط ضرورة. وسوف نخطئ إذا حاولنا، في دراسة عامة كهذه، التماس «صيغة» مُحدَّدة للحل الأوسط الأمثل. ولعل النهج الصواب أن نكون حساسين إزاء الظروف المحيطة، سواء طبيعة الخدمات العامة المزمع تقديمها أو خصائص المجتمع الذي سنقدم فيه هذه الخدمات. ويتعين أن يشتمل هذا الأخير على جماع القيم السلوكية على اختلاف أنواعها والتي تؤثر في الخيارات والحوافز الفردية.
بيد أن القضايا الأساسية التي نواجهها هنا تتسم بقدر عام من الأهمية بالنسبة إلى النهج الرئيسي المُتَّبَع في هذا الكتاب وتشتمل على كل من أهمية الفعالية (النظر إلى الناس باعتبارهم عناصر فاعلة وليسوا مجرد مَرْضى)، وتركيز الاهتمام معلوماتيًّا على الحرمان من القُدْرة (وليس الفقر إلى الدَّخْل وحده). وتتعلق المسألة الأولى بالحاجة (التي أكدناها في طول هذا الكتاب وعرضه) إلى أن ننظر إلى الناس — بمن في ذلك المنتفعون — باعتبارهم عناصر فاعلة وليسوا مجرد مرضى لا حول ولا طول لهم. إن موضوعات «الاستهداف» هم أنفسهم عناصر نشطة، ويمكن لأنشطتهم أن تجعل إنجازات عملية الاستهداف مختلفة تمامًا عن محاولات الاستهداف (لأسباب سبقت مناقشتها).
وتتعلق المسألة الثانية بالجوانب المعلوماتية للاستهداف. وتتضمن هذه إمكان تحديد الخصائص وثيقة الصلة بنظام الحصص المختار. وجدير بالملاحظة هنا أن تَحوُّل الاهتمام من مجرد الفقر إلى الدخل إلى الحرمان من القدرات يساعدنا في مهمة إمكان التحديد، وإذا كان نهج اختبار الوسائل لا يزال يشترط تطابق الدخل والقدرة على السداد، إلا أن النهج الآخر يفيد من التشخيص المباشر لإعاقة القدرة (من مثل المرض أو الأمية). وهذا جانب مهم للغاية لدور المعلومات في اتخاذ الاحتياطات العامة للمساعدة.
الحكمة المالية والحاجة إلى التكامل
أنتقل الآن إلى مشكلة الحكمة المالية التي أصبحت همًّا رئيسيًّا في كل أنحاء العالم خلال العقود الأخيرة. والملاحَظ أن المطالَبة بالتزام النزعة المحافظة في الشئون المالية أضحت قوية جدًّا الآن بعد الآثار المدمرة للتضخم المفرط وعدم الاستقرار التي حظيت بالدراسة والمناقشة على أوسع نطاق. حقًّا إن المالية موضوع يحظى فيه المحافظون بقدر من الميزة الواضحة، كما أن التزام الحكمة في هذا المجال يمكن أن يتخذ بسهولة صبغة محافظة. بيد أننا يجب أن نكون واضحين بطبيعة المطالبات المالية من جانب النزعة المحافظة ولماذا.
إن بيت القصيد للنزعة المحافظة المالية ليس تلك الميزة، التي تبدو واضحة في ظاهر الأمر، أن «يعيش المرء في حدود قدراته» على الرغم مما في هذا الرأي من جاذبية بلاغية. لكن وكما عَبَّر عن ذلك السيد ميكاوبر ببلاغة أيضًا في رواية دافيد كوبرفيلد للروائي شارلز ديكنز؛ إذ قال: «الدخل السنوي عشرون جنيهًا، والإنفاق السنوي تسعة عشر فاصل ستة، النتيجة هي السعادة. الدخل السنوي عشرون جنيهًا، والإنفاق السنوي عشرون جنيهًا فاصل ستة، والحاصل بؤس». ولقد استخدم كثيرون من المُحافِظِين المَعنِيِّين بالمالية هذه المماثَلة بشأن القدرة على الإيفاء بالدين، ولعل مارجريت تاتشر كانت أكثرهم بلاغة. بيد أن هذه الحجة لا تهيئ لنا قاعدة واضحة لسياسة الدولة؛ إذ على عكس ما ذهب إليه السيد ميكاوبر تستطيع الدولة أن تستمر في الإنفاق أكثر من دخلها، وذلك عن طريق الاستدانة وغير ذلك من وسائل. وهذا ما تفعله في الحقيقة جميع البلدان.
إن القضية الحقيقية ليست ما إذا كان هذا يمكن أن يحدث على هذا النحو (ويمكن يقينًا أن يحدث) بل ما هي نتائج الإنفاق الزائد. لذلك فإن القضية الأساسية التي يَتعيَّن التصدي لها هي الأهمية المترتبة على ما يمكن أن نسميه أحيانًا «الاستقرار الاقتصادي الكلي أو الماكرو»، خصوصًا في حالة عدم وجود ضغط تضخمي خطير. وتكمن قضية النزعة المحافظة المالية، إلى حد كبير، في الإقرار بأن استقرار الأسعار مهم ويمكن أن يواجه خطرًا مميتًا بسبب التساهل واللامسئولية في شئون المال.
ولكن الراديكالية في حالة التضخم صفر لا تظهر هنا، سواء كنهج حكيم أو حتى باعتبارها قراءة ملائمة وصحيحة لمتطلبات النزعة المحافظة المالية، ويتجلى لنا بوضوح تام «حجب» قضايا مميزة في عملية التثبيت المطردة بانتهاء موازنة الميزانية في الولايات المتحدة الذي أدَّى منذ فترة غير بعيدة إلى إخفاقات جزئية للحكومة الأمريكية (وأخطار وقوع المزيد من حالات الإيقاف الأوسع نطاقًا). وأفضى هذا إلى حل وسط غير مستقر بين البيت الأبيض والكونجرس، ونجاح هذا الحل الوسط مشروط بأداء اقتصاد الولايات المتحدة على المدى القصير. ومن ثَمَّ يَتعيَّن التمييز بين الراديكالية المناهضة للعجز وبين النزعة المحافظة المالية الأصيلة. وهناك شاهد قوي في الحقيقة على خفض العجز الضخم في الميزانية، وهو ما نلمسه في كثير من بلدان العالم (إذ يتفاقم الوضع سوءًا بسبب الأعباء الضخمة للدَّيْن القومي ومعدَّلات تصاعده المرتفعة). ولكن حَرِي ألَّا نخلط بين هذه الحجة والنزعة المتطرفة في محاولة إلغاء عجز الميزانية تمامًا وبسرعة كبيرة (من دون اعتبار للكلفة الاجتماعية المحتملة).
ولدى أوروبا أكثر من سبب لكي تكون مَعنِيَّة بعجز الميزانية أكثر من الولايات المتحدة. أولًا: كان عجز ميزانية الولايات المتحدة لسنوات طويلة، وحتى الآن عجزًا متوسطًا، وأدنى من «المعايير» التي حددتها اتفاقية ماسترخت للاتحاد النقدي الأوروبي، (حيث عجز الميزانية لا يزيد على ٣ في المائة من إجمالي الناتج المحلي). ويبدو أنه لا يوجد عجز الآن، ولكن في المقابل واجهت غالبية البلدان الأوروبية، ولا تزال، حالات عجز موضوعية. ويبذل العديد من هذه البلدان الآن محاولات جادَّة لخفض مستويات العجز الضخم (وتعد إيطاليا أوضح مثال لهذا في السنوات الأخيرة).
وإذا كان ثمة مسألة لا تزال عالقة فهي الأولويات الشاملة للسياسات الأوروبية، وهي مسألة سبقت مناقشتها في الفصل الرابع. ومناط الأمر هنا هل من المهم والمفيد أن نعطي أولوية مُطلَقة لهدف واحد فقط، ليكن مثلًا تَجنُّب التضخم (وهذه أولوية حدَّدتْها أكثر البنوك المركزية في غرب أوروبا)، هذا بينما ندعُ مستويات البطالة المرتفعة جدًّا. إذا كان تحليلنا في هذا الكتاب صائبًا، فإن على السياسة العامة في أوروبا أن تعطي أولوية حقيقية لموضوع القضاء على الحرمان من القدرة المترتبة على حالة البطالة الشديدة.
والمُلاحَظ أن النزعة المحافظة المالية لديها مبرر منطقي مقبول وتفرض شروطًا قوية، غير أن متطلباتها يجب تفسيرها في ضوء الأهداف الشاملة للسياسة العامة. إن دور الإنفاق العام في توليد وضمان الكثير من القدرات الأساسية يلزم الاهتمام به وأن يكون نصب الأعين؛ إذ يجب وضعه في الحسبان قرين الحاجة الأداتية للاستقرار الاقتصادي الكلي (الماكرو). حقًّا يجب تقدير المطلب الأخير داخل إطار عام شامل الأهداف الاجتماعية.
ولا ريب في أن قضايا السياسة العامة المختلفة يمكن أن تظهر في نهاية المطاف مهمة للغاية اعتمادًا على السياق الخاص بها؛ إذ ربما تكون القضية المهمة جدًّا في أوروبا هي الوضع شديد الخطورة للبطالة الواسعة (توشك أن تكون ١٢ في المائة في العديد من البلدان الكبرى). وتواجه الولايات المتحدة تَحدِّيًا حاسمًا يتمثل في انعدام أي تأمين طبي أو تغطية آمنة لأعداد كبيرة جدًّا من الناس (الولايات المتحدة وحدها من بين البلدان الغنية التي تعاني هذه المشكلة، علاوة على أن عدد غير المؤمن عليهم طبيًّا يزيد على أربعين مليونًا). وتعاني الهند حالة فشل واسع النطاق للسياسة العامة المتمثِّلة في الإهمال المُفرِط لمحو الأمية (نصفُ السكان البالغين وثُلثَا النساء البالغات لا يزالون أُمِّيين). ولكن في شرق وجنوب شرق آسيا فإن النظام المالي يبدو — أكثر فأكثر — في حاجة إلى التزام شامل بالقواعد والقوانين، كما يبدو كذلك أن ثمة حاجة إلى وضع منظومة وقائية يُمكِنها التَّصدِّي، ومواجهة أي خسائر مفاجئة في الثقة بعملة البلد أو فُرَص الاستثمار فيها (على نحو ما تَبيَّن خلال التجارب الأخيرة لهذه البلدان معًا اضطرها إلى التماس عمليات إنقاذ ضخمة من صندوق النقد الدولي). معنى هذا أن المشكلات مختلفة، وأن كلًّا منها يستلزم، خاصة مع تَعقُّدها، دراسة جادَّة للأهداف وللأدوات التي تحددها السياسة العامة. إن الحاجة إلى نزعة محافظة مالية — مع أهميتها — تتلاءم مع هذه الصورة المتنوعة والشاملة ولا يمكن أن تظل مكتفية بنفسها — في عزلة — شأن التزام الحكومة أو البنك المركزي. كذلك فإن التدقيق والتقدير المقارَن للمجالات البديلة للإنفاق العام هو من المسائل الحاسمة.
ملاحظات ختامية
يعيش الأفراد ويعملون وسط عالَم من المؤسسات. وتتوقف فرصنا وتوقُّعاتنا بشكل حاسم على أي من المؤسسات قائمة فعلًا وكيف تعمل. وهذه المؤسَّسات لا تسهم فقط من أجل حرياتنا؛ إذ يمكن تقييم أدوارها تقييمًا معقولًا ومقبولًا في ضوء إسهاماتها من أجل حريتنا. وإننا إذ نرى التطوير/التنمية حرية، فإن هذه الرؤية تهيئ لنا منظورًا يمكن على هديه أن نصدر تقييمنا على نحو منتظم عن المؤسسات.
وعلى الرغم من أن مُعلِّقين مختلفين آثَرُوا تركيز اهتمامهم على مؤسَّسات بذاتها (مثل السوق أو النظام الديمقراطي، أو الإعلام «الميديا» أو منظومة التوزيع العامة)، إلا أن الواجب يقتضي أن ننظر إليها جميعًا معًا في تكامل حتى يتسنى لنا أن نتبين ما الذي يمكن أو لا يمكن أن يفعلوا معًا في تضافر مع المؤسسات الأخرى؛ ذلك أننا نستطيع من خلال هذا المنظور المتكامل والموحد أن نقيِّم وندرس ونفحص المؤسسات المختلفة.
إن آلية السوق التي تثير اهتمامًا وحماسًا دفاعًا عنها أو ضدها هي تنظيم أو تدبير أساسي يمكن للناس من خلاله أن يتفاعلوا مع بعضهم والنهوض بأنشطة تبادلية النفع. وكم هو عسير حقيقة في ضوء هذا الفهم أن نفهم السبب في أن يقف أي نقد معقول ضد آلية السوق في ذاتها. إن المشكلة المنبثقة عن ذلك إنما تتبع نمطيًّا من مصادر أخرى — ليست هي السوق في ذاتها أو من حيث هي — وتشتمل على اهتمامات من مثل قصور الاستعداد للإفادة من صفقات وتعاملات السوق والحجب غير المقيد للمعلومات أو الاستخدام المتحرر من الضوابط للأنشطة. التي تسمح للقوي بأن يكون رأسمالًا ويزداد قوة بناء على عدم تناظر ميزة هذه الأنشطة. ويجب ألا نعالج هذا عن طريق قَمْع الأسواق بل السماح لها بأداء أفضل لوظيفتها، وبنزاهة أكثر، وباستكمال أوجه القصور على نحو ملائم. إن مجمل إنجازات السوق مشروطة في أعماقها بالتدابير والترتيبات السياسية والاجتماعية.
لقد حققت آلية السوق نجاحًا كبيرًا بموجب هذه الشروط التي وفرت فرصًا يمكن اقتسامها على نحو مشترَك ومعقول. وحين يغدو هذا أمرًا ممكنًا فإن توفير التعليم الأساسي وقيام منشآت طبية أولية وتوافُر الموارد (مثل الأراضي) التي يمكن أن تكون حاسمة بالنسبة إلى بعض الأنشطة الاقتصادية (مثل الزراعة). كل هذا يستلزم سياسات عامة ملائمة «تشتمل على التعليم المدرسي والرعاية الصحية والإصلاح الزراعي … إلخ». وطبيعي أن تستلزم هذه المنشآت والمَرافق غير السوقية نشاطًا عامًّا حذرًا ودقيقًا ومحددًا، حتى إن كان المطلب الغالب هو إجراء «إصلاح اقتصادي» لكي يهيئ فرصة أكبر للأسواق.
وعرضنا ودرسنا دراسة فاحصة في هذا الفصل. وفي الأبواب السابقة. عددًا من الأمثلة المختلفة لهذه التكاملية. وكم هو عسير الشك في فعالية إسهامات آلية السوق، كما أن النتائج الاقتصادية التقليدية التي كانت فيها حالة الرخاء أو الوفرة أو المنفعة هي أساس الحكم على الفعالية يمكن توسيع نطاقها لتشمل الفعالية والكفاءة في ضوء الحريات الفردية كذلك. بَيْدَ أنَّ نتائج الفعالية هذه لا تضمن، في ذاتها، المساواة في التوزيع. وتبدو المشكلة ضخمة على وجه الدقة والتحديد في سياق عدم المساواة في الحريات الموضوعية حين تتزاوج الأضرار (مثل مشكلة العاجز أو الشخص غير المدرَّب لكسب دخل، فإذا بهذه المشكلة تتفاقم وتتضاعف بسبب صعوبة استخدام هذا المرء للدخل من أجل القدرة على الحياة أيضًا). ومن ثم يتعين استكمال قدرات السوق بعيدة المدى بابتكار فرص اجتماعية أساسية من أجل المساواة الاجتماعية والعدالة.
والملاحَظ في سياق البلدان النامية عمومًا الحاجة إلى مبادرات في نطاق السياسة العامة لابتكار فرص اجتماعية مهمة بشكل حاسم. وكما ناقشنا سابقًا نستطيع أن نرى في ماضي البلدان الغنية اليوم تاريخًا واضحًا جدًّا للنشاط العام، يتناول كلًّا من التعليم والرعاية الصحية والإصلاح الزراعي وغير ذلك. وإن اقتسام هذه الفرص الاجتماعية على نطاق واسع جعل من الممكن للكتلة الغالبة من الناس أن تشارك مباشرة في عملية التوسع الاقتصادي.
ما الذي تحققه التنمية البشرية؟ إن خلق فرص اجتماعية يشكل إسهامًا مباشرًا للتوسع في القدرات البشرية ونوعية الحياة. وإن التوسع في الرعاية الصحية وفي التعليم والضمان الاجتماعي … إلخ، يسهم مباشرة في نوعية الحياة وازدهارها. وثمة شواهد لا حصر لها على أن البلد، حتى إن كان دخله ضعيفًا نسبيًّا، ولكنه يكفل الرعاية الصحية والتعليم للجميع، يمكنه بالفعل إنجاز نتائج باهرة من حيث طول ونوعية حياة جُملة سُكَّانه. ونعرف أن الرعاية الصحية والتعليم الأساسي وكذا التنمية البشرية بعامة تتسم بطبيعة كثيفة العمالة للغاية، وهذا ما يجعل هذه الإنجازات زهيدة الكلفة في المراحل الأولى من التنمية الاقتصادية حين تكون كلفة العمل منخفضة.
وجدير بالذِّكْر أن الأدبيات التجريبية المعاصرة تُؤكِّد بقوة على موضوع آخر هو أثر التعليم، خاصة تعليم الأنثى، في خفض معدلات الخصوبة. ويمكن بيان أن معدلات الخصوبة العالية هي، وبحق، مناوئة لنوعية الحياة الجيدة، خصوصًا بالنسبة إلى النساء صغيرات السن؛ نظرًا إلى أن تكرار الحمل وتنشئة الأطفال يقوضان بشدة رفاه وحرية الأم الشابة. وإن هذا الوضع تحديدًا هو ما يجعل مسألة تمكين المرأة (عن طريق فرص أكثر للعمل خارج المنزل وفرص أكثر لمزيد من مراحل التعليم … إلخ) مسألة فعالة جدًّا لخفض معدلات الخصوبة. ذلك لأن المرأة الشابة يكون لديها المبرر القوي لتخفيف معدلات حالات الوضع، فضلًا عن أن قُدرَتها على التأثير في قرارات الأسرة تزيد مع زيادة فُرَص تمكينها. وسوف أعود إلى هذه المسألة في الفصلين ٨، ٩.
كلما حاوَل المُشرِّع تنظيم الفوارق بين السادة والعاملين لديهم فإن مستشاريه دائمًا هم السادة؛ لذلك فإن التَّنْظيم حين يكون لصالح العاملين يكون دائمًا عادلًا وقائمًا على المساواة. ولكنه يكون أحيانًا على غير هذا النحو حين يكون لصالح السادة.
حَظَرَت بعض البلدان بالقانون الفائدة على النقود. ولكن حيث إن بالإمكان عمل شيء ما في أي مكان بالنقود فلا بد وأن يدفع مقابل هذا الاستخدام. وإن هذا التنظيم، بدلًا من مَنْعه تأسس بناء على خبرة زيادة شُرور الرِّبا. إنَّ المدين ملزم بالسداد، ليس فقط مقابل استخدام النقود بل مقابل المخاطرة التي يواجهها الدائن بقبوله تعويضًا عن هذا الاستخدام.