أهمية الديمقراطية
تحيط بشاطئ البنغال على الطرف الجنوبي من بنجلاديش وغرب البنغال في الهند غابة معروفة باسم سوندربان، أي «الغابة الجميلة». وهذه هي الموئل الطبيعي لنمر البنغال الملكي المشهور، وهو حيوان مَهيب يَتَّسِم بالرشاقة والسرعة والقوة مع قَدْر من الوحشية القاسية. ولم يَبقَ من هذا الحيوان سوى عدد قليل الآن، وما تبقَّى على قيد الحياة يحميه حظر بقانون يمنع صيده. وتشتهر غابة السوندربان أيضًا بعسل النحل الذي تنتجه عناقيد ضخمة من خلايا نحل طبيعية. واعتاد الناس الذين يسكنون المنطقة، وهم في فَقر مُدْقِع، أن يَنفذوا إلى داخل الغابة لجمع العسل الذي يَجْنُون من بيعه أسعارًا معقولة في أسواق الحضر — إذ يصل السعر تقريبًا إلى روبية؛ أي ما يساوي خمسين سنتًا أمريكيًّا للزجاجة — ولكن يَتعيَّن على جامِعي العسل أيضًا الفرار من وجه النمور. والمعروف أنه في أحسن السنوات حالًا تفتك النمور بحوالي خمسين شخصًا من جامعي العسل. وربما يزيد هذا الرقم كثيرًا إذا سارت الأمور على غير ما يرام. وهكذا تحظى النمور بالحماية، بينما لا شيء يحمي البشر البؤساء الذين يحاولون التقاط رزقهم عن طريق العمل وسط تلك الغابات — التي هي غابات عميقة ممتدة وجميلة تستهوي النفوس — وأيضًا مَكْمَن خطر قاتل.
هذه مجرد صورة توضيحية لقوة الاحتياجات الاقتصادية في كثير من بلدان العالَم الثالث. وليس عسيرًا الإحساس بأن هذه القوة تَرْجُح بالضرورة أي مزاعم أخرى، بما في ذلك مزاعم دُعاة الحرية السياسية والحقوق المدنية. فإذا كان الفقر يدفع البشر إلى إتيان مثل هذه المخاطر المخيفة — وربما أن يَلقوا حتفهم في ميتةٍ مروعة — من أجل دولار أو دولارَي عسل، وقد يبدو من شاذِّ القول أن نركز على مسألة حريتهم الشخصية وحريتهم السياسية. وتَمضي الحجة لتقول يجب أن تُعطى الأولوية يقينًا لاستيفاء المتطلبات الاقتصادية حتى إن انطوت على حل وسط للحريات السياسية. وليس عسيرًا أن ندرك أن تركيز الاهتمام على الديمقراطية والحرية السياسية ضربٌ من التَّرَف لا يتحمله بلد فقير.
الضرورات الاقتصادية والحريات السياسية
تسمع مثل هذه الآراء مرارًا وتكرارًا في المناقشات الدولية. لماذا القلق بشأن نقاد الحريات السياسية إذا سلمنا بالكثافة الطاغية التي لا تُقاوَم للضرورات الاقتصادية؟ إن مثل هذا السؤال وأسئلة أخرى وثيقة الصلة به، والتي تعكس شكوكًا بشأن الضرورة المُلِحَّة للحرية السياسية والحقوق المدنية. حَوَّمت في سماء مؤتمر فيينا للحقوق الإنسانية المنعقد في ربيع عام ١٩٩٣م. وساق أعضاء الوفود الممثلة لعديد من البلدان حججًا ضد المصادقة العامة على الحقوق السياسية والمدنية الأساسية في كل المعمورة، خاصة في العالَم الثالث. وكان التأكيد على ضرورة أن يَنصبَّ الاهتمام على «الحقوق الاقتصادية» وثيقة الصلة بالاحتياجات المادية المهمة.
هذا النَّهْج سائد راسخ في التحليل، ودافع عنه بقوة وشراسة في مؤتمر فيينا أعضاء الوفود الرسمية لعدد من البلدان النامية بقيادة الصين وسنغافورة وغيرهما من بلدان شرق آسيا، ولكن لم تعارضه الهند وغيرها من جنوب وغرب آسيا. ولم تعارضه كذلك الحكومات الأفريقية. ويتضمن هذا النهج في التحليل تلك العبارات الإنشائية التي طالما تتكرر: أيهما أولًا؛ القضاء على الفقر والبؤس، أم كفالة الحرية السياسية والحقوق المدنية التي لا يفيد بهما الناس كثيرًا بأي حال من الأحوال؟
غلبة الحريات السياسية والديمقراطية
- (١)
أهميتها المباشرة في الحياة الإنسانية في الاقتران بالقدرات الأساسية (بما في ذلك المشاركة السياسية والاجتماعية).
- (٢)
دورها الأداتي لتعزيز الحجج التي يُدْلي بها الناس عند التعبير ودعم مطالباتهم بالاهتمام السياسي (بما في ذلك مطالباتهم بشأن الاحتياجات الاقتصادية).
- (٣)
دورها البنائي في صياغة المفاهيم عن «الاحتياجات» (بما في ذلك فَهْم «الاحتياجات الاقتصادية» في سياق اجتماعي).
وسوف نناقش الآن هذه الاعتبارات المختلفة. ولكن يَتعيَّن أولًا أن ندرس الحجج التي يعرضها مَن يرون أن هناك تناقضًا حقيقيًّا بين الحرية السياسية والحقوق الديمقراطية من ناحية، وإيفاء الاحتياجات الاقتصادية الأساسية من ناحية أخرى.
حُجَج مُناهِضة للحريات السياسية والحقوق المدنية
- أولًا: الزعم بأن هذه الحريات والحقوق تعيق النمو الاقتصادي والتنمية. وسبق أن عرضنا هذا الاعتقاد في الفصل الأول، وهو الاعتقاد المُسمَّى «فرضية لي» (على اسم لي كوان رئيس وزراء سنغافورة السابق والذي صاغه ببلاغة).
- ثانيا: هناك مَن دفع بأن الناس إذا ما أُعْطِيَت لهم حرية الاختيار بين أن تتوافر لهم الحريات السياسية أو إيفاء الحاجات الاقتصادية، فإنهم جميعًا سيختارون الثانية. وبناء على هذا التفكير ثمة تناقُض بين ممارسة الديمقراطية وتبريرها، ومن دواعي السخرية أن الغالبية سوف تَتَّجِه إلى رفض الديمقراطية، إذا ما كان لها حق الاختيار ولكن ثمة ضرب مُخالِف لهذه الحجة، وإن كان وثيق الصلة بها يزعم أن القضية الحقيقية ليست فيما يختاره الناس فعلًا، بل فيما لديهم سببٌ لاختياره. وحيث إن الناس لديهم سبب لكي يريدوا، أولًا وقبل كل شيء، إلغاء الحرمان والبؤس الاقتصاديين، فإن لديهم كل مبرر لعدم التَّشبُّث بالحريات السياسية التي ربما تعترض طريق أولوياتهم الحقيقية. وينطوي هذا القياس على مُقدِّمة مهمة تقضي بأن ثمة تناقضًا مسبقًا بين الحريات السياسية وإيفاء الاحتياجات الاقتصادية. وحسب هذا الفهم فإن هذه الصياغة للحجة الثانية إنما هي مبنية على الأولى (أي على مدى صدق فرضية لي).
- ثالثًا: كثيرًا ما يدفع البعض بأن التأكيد على الحرية السياسية والحريات الاجتماعية والديمقراطية إنما يمثل تحديدًا أولوية «غربية» والذي يَتعارَض مع القيم الآسيوية التي مِنَ المفترض أنها رهن النظام والانضباط، أكثر مما هي رهن الحرية. مثال ذلك أن الرقابة على الصحافة، كما يقال، قد تَكون مَقبولة أكثر داخل مجتمع آسيوي (نظرًا للتأكيد على النظام والانضباط) على عكس الحال في الغرب. وأذكر أنه في مؤتمر فيينا عام ١٩٩٣م حذَّر وزير خارجية سنغافورة من أن «الإقرار العالمي الشامل بأن حقوق الإنسان مَثَل أعلى يمكن أن يكون ضارًّا إذا ما استخدمنا النَّزْعة العالمية الشاملة لإنكار أو إخفاء حقيقة التنوع». وأكثر من هذا أن المُتحدِّث باسم وزارة الخارجية الصينية سجَّل عبارة يبدو أنها سائدة في الصين وفي غيرها من بلدان آسيا؛ إذ قال: «يجب على الأفراد أن يُولوا حقوق الدولة أولوية على حقوقهم هم.»٢
الديمقراطية والنمو الاقتصادي
هل نظام الحكم الاستبدادي مُثمِر فعلًا بالدرجة نفسها؟ الشيء المُؤكَّد أن بعض الدول الاستبدادية نسبيًّا (مثل كوريا الجنوبية، وسنغافورة في عهد لي، والصين بعد الإصلاح) حَقَّقتْ معدلات نمو اقتصادي أسرع من بلدان أقل منها استبدادًا (من ذلك الهند، وكوستاريكا، وجامايكا). ولكن فرضية لِي تَنْبني في الواقع على أساس معلومات انتقائية ومحدودة جدًّا، على أساس اختبار إحصائي عام شامل للبيانات واسعة النطاق والميسورة. ونحن لا نستطيع في الحقيقة أن نأخذ النمو الاقتصادي المرتفع في الصين، أو كوريا الجنوبية في آسيا كبُرهان حاسم على أن نظام الحكم الاستبدادي ناجح في النهوض بالنمو الاقتصادي؛ إذ هذا لا يختلف عن قدرتنا على استنتاج النقيض لذلك على أساس واقع أن البلد الأفريقي الأسرع نموًّا (وواحد من أسرع البلدان نموًّا في العالم) أي بوتسوانا باعتبارها واحة الديمقراطية على سطح هذه القارة المضطربة. إن قدرًا كبيرًا من الحكم هنا رهن الظروف المُعيَّنة والمحددة.
علاوة على هذا، فإننا حين نكون بصدد الحكم على التنمية الاقتصادية لا يكفينا النظر فقط إلى نمو إجمالي الناتج المحلي أو إلى بعض المؤشرات الأخرى للتوسع الاقتصادي إجمالًا، وإنما يَتعيَّن النظر أيضًا إلى أثر الديمقراطية في الحريات السياسية على حياة وقدرات المواطنين. وكم هو مُهِم بخاصَّة في هذا السياق أن ندرس الرابطة بين الحقوق السياسية والمدنية من ناحية، والحيلولة دون وقوع كوارث كبيرة (مثل المجاعات) من ناحية أخرى. إن الحقوق السياسية والمدنية تُهيِّئ للناس فرصة للانتباه بقوة إلى الاحتياجات العامة وإلى المطالبة بنشاط عام ملائم. وجدير بالذكر أن استجابة النظام الحاكم إزاء معاناة الناس الحادَّة تتوقف غالبًا على الضغط الذي يُمارِسه الناس على الحكومة. وهذا هو مضمار مُمارَسة الحقوق السياسية (الاقتراع والانتقاد والاحتجاج … إلخ)، وهو ما يُشكِّل فارقًا حقيقيًّا. وهذا جزء من الدور الأداتي للديمقراطية والحريات السياسية. وسوف أعود ثانية إلى هذه المسألة المهمة بعد ذلك في هذا الفصل.
هل يعبأ الفقراء بالديمقراطية والحقوق السياسية؟
أنتقل الآن إلى السؤال الثاني: هل مواطنو بلدان العالَم الثالث غير مُبالِين بالحقوق السياسية والديمقراطية؟ هذا الزعم الذي يتكرر غالبًا مبني، كما قلنا، على شواهد تجريبية ضعيفة (تمامًا مثل فرضية لي). وإن السبيل الوحيد للتحقق من صِدْقه أن نطرح الأمر لاختبار ديمقراطي في انتخابات حرة مع تَوفُّر حرية المعارضة والتعبير، وهذا تحديدًا ما لا يسمح به مُؤيِّدو الحكم الاستبدادي. وليس واضحًا بالمرة كيف يمكن مُراجعة هذا الرأي بينما لا يَتمتَّع المُواطن العادي إلا بفرصة سياسية محدودة للتعبير عن رأيه في هذا الشأن، بل وبِفُرصة أقل لشَجْب مزاعم أصحاب السلطان. والشيء اليقيني هو أن الحط من قدر هذه الحقوق والحريات هو جزء من منظومة القيم لدى قادة الحكم في كثير من بلدان العالَم الثالث. ويمكن القول بأن هذا الرأي هو رأي الناس، يعني التسليم جدلًا بمسألة غاية في الأهمية.
ومن المهم، إلى حد ما، الإشارة إلى أن الحكومة الهندية برئاسة أنديرا غاندي حين حاولَت ترويج حجة مُماثِلة في الهند تُبرِّر بها «حالة الطوارئ» أخطأها التوفيق وأعلنت في منتصف السبعينيات إجراء انتخابات أدَّت إلى انقسام المُقترِعين على هذه المسألة تحديدًا. وشهدت هذه الانتخابات المصيرية صراعًا حاميًا بشأن إمكان قبول «الطوارئ». وظهر رفض حاسم لفكرة قمع الحقوق السياسية والمدنية الأساسية. وكشف الناخب الهندي — وهو من أفقر الناس في العالَم — عن أنه ليس دون سواه اهتمامًا وحماسًا للاحتجاج ضد إنكار الحريات والحقوق الأساسية، وأنه في معارضته هذه يقف على قدم المساواة مع معارضته وشكواه من الفقر الاقتصادي. والمُلاحَظ أننا حين نضع مسألة أن الفقراء بعامَّة لا يَعبئُون بالحقوق المدنية والسياسية موضع اختبار، فإن الشواهد تأتي على نقيض هذا الزعم تمامًا. ويمكن بيان أوجه نظر تُدعِّم هذا الرأي حين نتابع الصراع من أجل الحريات الديمقراطية في كوريا الجنوبية، وتايلاند، وبنجلاديش، وباكستان، وبورما (أو ميانامار) وغيرها من بلدان آسيا. وبالمِثل إذ نجد الحرية السياسية مرفوضة على نطاق واسع في أفريقيا، فقد ظهرت حركات واحتجاجات ضد هذا الواقع كلما سَمَحت الظروف بذلك، حتى على الرغم من أن الدكتاتوريين العسكريين عمدوا إلى السماح بقليل من الفرص في هذا الشأن.
ولكن ماذا عن الصياغة الأخرى لهذه الحجة التي تزعم، ويا للسخرية، أن الفقير لديه كل المُبرِّر للتَّخلِّي عن الحقوق السياسية والديمقراطية لمصلحة الوفاء باحتياجاته الاقتصادية؟ هذه الحجة، كما سبق أن أَشرْنا، هي امتداد لفرضية لي. وحيث إن هذه الفرضية لا تجد سندًا تجريبيًّا يدعمها، فإن القياس غير وارد هنا لتأييد هذه الحجة.
الأهمية الأداتية للحرية السياسية
أنتقل الآن من النقد السلبي للحقوق السياسية إلى بيان قيمتها الإيجابية. إن أهمية الحرية السياسية كجزء من القدرات الأساسية ناقشناها في الأبواب السابقة. ولنا الحق في أن نُقيِّم الحرية السياسية، وحرية التعبير والفعل في حياتنا. وليس من المرفوض عقلًا أن يُقيِّم الناس — وهم كائنات اجتماعية — المشارَكة غير المقيدة في الأنشطة السياسية والاجتماعية. كذلك فإن صياغتنا لقيمنا على أساس من المعلومات وبِحُرِّية تستلزم انفتاحًا في الاتصال وسَوق الحجج، كما تَستلزِم توافُر الحريات السياسية والحقوق المدنية باعتبارها شرطًا محوريًّا لهذه العملية. علاوة على هذا فإننا نريد حرية تعبير وخيارًا ديمقراطيًّا حتى يَتسنَّى لنا أن نعبِّر صراحة وعلنًا عمَّا نراه ذا قيمة وعن حَقِّنا في المُطالبة بالاهتمام بما نقول.
الدور البنائي للحرية السياسية
الأدوار الأدواتية للحرية السياسية وللحقوق المَدنِيَّة يمكن أن تكون أدوارًا بنائية للغاية، غير أن الرابطة بين الاحتياجات الاقتصادية والحريات السياسية يمكن أن تكون وجهًا بنائيًّا كذلك. إن مُمارَسة الحقوق السياسية الأساسية تجعل من المرجَّح أكثر ليس فقط حدوث استجابة من قبل السياسة للاحتياجات الاقتصادية ولكن أيضًا أن يشترط التصور المفاهيمي — بما في ذلك الفهم — للاحتياجات الاقتصادية، مُمارَسة هذه الحقوق. ويمكن في الحقيقة الدفع بأن توفُّر فَهْم صحيحٍ لماهية الاحتياجات الاقتصادية — من حيث المحتوى والقوة — يستلزم إجراء مناقَشة وتبادُل للآراء. وإن الحقوق السياسية والمَدنية، خاصة ما يتعلَّق منها بضمان صراحة في المناقَشة والجَدل، والحوار، والنقد، والاختلاف، والانشقاق هي حقوق محورية بالنسبة إلى عمليات توليد اختبارات قائمة على المعلومات والتفكير الجادِّ العميق. وهذه عمليات حاسمة لصياغة القيم والأولويات. ونحن بعامة لا نستطيع أن نأخذ الأفضليات كأمر مسلَّم به في استقلال عن المناقشات العامة؛ أي بغضِّ النظر عمَّا إذا كانت الحوارات وتبادُل الآراء مسموحًا بهما صراحة أم لا.
والجدير بالملاحَظة أننا غالبًا ما نَغض من قدر الحوار العام وفعاليته عند تقييم المشكلات الاجتماعية والسياسية. مثال ذلك أن المناقَشة العامة لها دَور مهم في خفض معدلات الخصوبة العالية التي تُمثِّل سِمَة سائدة في كثير من بلدان العالَم الثالث. وثَمَّة دلائل قوية في الواقع تَدلُّ على أن الانخفاض الحاد في معدلات الخصوبة، الذي شهدته الولايات التي ترتفع فيها نسبة معرفة القراءة والكتابة، إنما تأثَّر كثيرًا بالمناقشات العامة حول الآثار السيئة لمُعدَّلات الخصوبة المرتفعة، خصوصًا آثارها في حياة النساء الشابات، وأيضًا في المجتمع بعامة. وأصبح مُعدَّل الخصوبة في كيرالا الآن ١٫٧ (وهو مماثل لنظيره في بريطانيا وفرنسا وأقل منه في الصين الذي يصل إلى ١٫٩). ولم يتحقق هذا قسرًا أو نتيجة ضغوط، بل تحقق أساسًا نتيجة ظهور قِيَم جديدة، وهي عملية كان للحوارات السياسية والاجتماعية دور كبير فيها. إن ارتفاع مستوى معرفة القراءة والكتابة بين سكان كيرالا، خاصة النساء، وهو مستوى أعلى من أي من مقاطعات الصين، إنما أسهم كثيرًا في تيسير تلك الحوارات الاجتماعية والسياسية (سيطالع القارئ الكثير عن هذه النقطة في الفصل التالي).
وغني عن البيان أن هناك أنواعًا مختلفة من مَظاهر البؤس والحرمان. بعضها أكثر قابلية من الآخَر للعلاج الاجتماعي. وإن الصورة الكلية للحالة البشرية تُشكِّل الأساس الإجمالي لتحديد «حاجاتنا». مثال ذلك أن هناك أشياء كثيرة لدينا مُبرِّر قوي لكي نراها ذات قيمة إذا ما كانت مُجْدِية وعملية. بيد أننا لا نراها «احتياجات». إن مفهومنا عن الاحتياجات وثيق الصلة بأفكارنا عن طبيعة بعض مَظاهر الحرمان ومدى قابليتها للوقاية منها، كما أنها وثيقة الصلة، كذلك، بفهمنا لما يمكن أن نفيده منها. وواضح أن للحوارات العامة دورها الحاسم في صوغ هذا الفهم وتشكيل تلك المعتقدات؛ ولهذا فإن الحقوق السياسية، بما في ذلك حرية التعبير والحوار، ليست فقط محورية ولا غنى عنها لحفز الاستجابات الاجتماعية إزاء الحاجات الاقتصادية، بل إنها أيضًا محورية في صوغ مفاهيمنا عن الحاجات الاقتصادية ذاتها.
تفعيل الديمقراطية
إن الديمقراطية يمكن أن يكون نطاقها أكثر شمولًا، وذلك بحكم صِلتها الجوهرية بالموضوع ودورها الوقائي وأهميتها البنائية. بيد أن عرض هذه الحجج عن مزايا الديمقراطيات لا يلغي أن ثَمَّة خطرًا في المُبالغة في الحديث عن فعاليتها. وكما سبق أن أشرنا فإن الحريات السياسية والحريات الاجتماعية والاقتصادية هي مزايا طوعية وتتوقف فعاليتها على أسلوب مُمارستها. ولقد نجحَت الديمقراطية بخاصة، في منع تلك الكوارث التي كان من اليسير فَهمُها، وحيث يتوافَر قدر من التعاطف المباشر. ولكن هناك مشكلات أخرى ليس يسيرًا إدراكها وتناوُلها، أذكر على سبيل المثال نجاح الهند في القضاء تمامًا على المجاعات الذي لا يُضاهيه أو يُقابله نجاح في القضاء على نقص التغذية المُتواتِر، ولا التخلص من داء الأمية الراسخ، ولا إلغاء مظاهر التفاوت في العلاقات بين الجنسين؛ إذ بينما من السهل تَسييس ورطة ضحايا المَجاعة نجد مَظاهر الحرمان الأخرى تستلزم دراسة وتحليلًا عَمِيقَيْن واستخدامًا أكثر كفاءة للاتصالات والمشارَكة السياسية؛ أي باختصار تستلزم ممارَسة كاملة للديمقراطية.
ويصدق قصور الممارَسة أيضًا على بعض مَظاهر الفشل في ديمقراطيات أكثر نضجًا. مثال ذلك، مَظاهر الحرمان غير العادية بين الأمريكِيِّين الأفارقة من حيث الرعاية الصحية، والتعليم، والبيئة الاجتماعية، ممَّا ساعَد على الارتفاع الاستثنائي في مُعدَّلات الوفيات بينهم. وواضح أن تفعيل الديمقراطية الأمريكية لم يَحُلْ دون حدوث ذلك؛ إذ يَتعيَّن النظر إلى الديمقراطية باعتبارها آلية خلق فرص، كما أن استخدام هذه الفُرص يستلزم نوعًا آخَر من التحليل يَتناول ممارسة الحقوق الديمقراطية والسياسية. ولا يَسعُنا في هذا الصدد أن نغفل تَدنِّي النسبة المئوية للمُقتَرِعين في الانتخابات الأمريكية، خصوصًا الأمريكِيِّين الأفارقة، هذا غير مَظاهر اللامبالاة والاغتراب. إن الديمقراطية ليست علاجًا تلقائيًّا للأمراض شأن عقار الكينين لعلاج الملاريا. إنها تفتح لنا فرصًا لكي نقتنصها بنشاط وجدية بُغْيَة إنجاز نتائج مُستهدَفة. وهذه بطبيعة الحال قسمة أساسية تُميِّز الحريات جميعًا. ومن ثم فإن مناط الأمر أساسًا هو كيف تجري عمليًّا وفعليًّا ممارستنا للحريات؟
ممارسة الحرية ودَور المعارَضة
مجال آخَر يدخل في نطاق موضوعنا هذا، وهو الإصرار على ظاهرة التفاوت والتمييز بين الجنسين. ويستلزم هذا المشارَكة بقوة سواء بالنَّقد أو الدعوة إلى الإصلاح. حقًّا إن هذه القضايا التي تَلقَى إهمالًا إذا ما أضحت موضوعًا للحوار العام والمواجهة الصريحة فإن السُّلطات الحاكمة ستضطر إلى الاستجابة بشكل أو بآخر. ويتجه الناس في ظل الديمقراطية إلى الحصول على ما يُطالِبون به ويَرفضون بشكل حاسم ما لا يريدونه. ولذلك نجد مَجالين في الهند كان مصيرهما الإهمال عادة — المساواة بين الجنسين، والتعليم الابتدائي — أصبحَا الآن موضع قدر كبير من اهتمام أحزاب المعارَضة. وأصبحَا، نتيجة لذلك، موضع اهتمام من جانب السُّلطتين التشريعية والتنفيذية. وعلى الرغم من أن النتائج النهائية لهذه الجهود لن تظهر للعيان إلا مستقبلًا، فإنَّنا لا نستطيع أن نَتجاهَل التحركات المختلفة الجارية بالفعل «بما في ذلك تشريع مُقتَرح يقضي بأن يكون ثلث أعضاء البرلمان على الأقل من النساء، وكذا وضع برنامج تعليمي مدرسي يوسع من نطاق حق التعليم الأَوَّلي ليشمل أعدادًا أكبر من الأطفال».
ويمكن الدفع في الواقع بأن مساهَمات الديمقراطية في الهند لم تقتصر بأي حال من الأحوال على منع الكوارث الاقتصادية من مثل المجاعات. وعلى الرغم من محدودية ممارَسة الديمقراطية في الهند، فإنها هيَّأت لها قدرًا من الاستقرار والأمن، وهو ما كان كثيرون، شَديدي التشاؤم إزاءه عندما استقَلَّت الهند عام ١٩٤٧م؛ إذ كانت الهند آنذاك نظامًا حاكمًا تَعُوزه التجربة، فضلًا عن تقسيم غير مستساغ، وانحيازات سياسية غير واضحة، علاوة على اتساع نطاق مَظاهر العنف والاضطرابات الاجتماعية. وبَدَت عسيرة الثقة في مستقبل هند موحدة وديمقراطية. ولكن بَعد مُضِي نِصْف قرن نَجد ديمقراطية أبلت بلاءً حسنًا على الرغم من الأحداث حُلْوها ومُرِّها. والجدير مُلاحظَته أن الاختلافات السياسية عُولِجَت جميعها في إطار إجراءات دستورية. وصَعدَت حكومات وسَقطَت أخرى وفقًا لقوانين انتخابية وقواعد برلمانية. وها هي الهند جماع فوارق واختلافات صعبة المِراس غير مُتوَقَّعة وغير مصقولة، ولكنها باقية وتعمل على نحو لافت للأنظار كوحدة سياسية تَحظَى بنظام ديمقراطي، إنها في حقيقة الأمر متماسكة بفضل ديمقراطيتها الفاعلة.
وبقيت الهند على الرغم من التحدي الهائل؛ إذ إن بها العديد من اللغات الأساسية، وبها عقائد دينية كثيرة ومتنوعة تنوُّعًا فريدًا من حيثُ الدِّيانة والثقافة. وطبيعي أن الفوارق الدينية والاختلافات الطائفية أمر عُرْضة للاستغلال من جانب السياسيين الطائفيين، ولقد استثمَرُوه بالفعل في مناسَبات عديدة (حتى خلال السنوات الأخيرة) مما أثار حالة من الذُّعر داخل البلاد. ولكن إذا كان هذا الذُّعر يَتبدَّى في صورة عُنف طائفي، وإذا كانت قطاعات كبيرة من الأمة تُدِين مثل هذه الأفعال، فإن هذا كله يُمثِّل في نهاية المَطاف الضمان الديمقراطي الرئيسي ضد الاستغلال الحزبي ضَيِّق الأفق للنزعة الطائفية. وهذا ضروري لبقاء ورَخاء بلد شديد التَّنوُّع مثل الهند التي بها غالبية هندوسية، ولكنها في الوقت نفسه ثالثُ بلد في العالَم من حيث حجم المسلمين فيها، وكذا ملايين المسيحيين، علاوة على السِّيخ، والبارسيين، أو الزرادشتيين، وأتباع الديانة اليانية.
ملاحظة ختامية
تمثل عملية تطوير وتعزيز نظام ديمقراطي عنصرًا جوهريًّا في عملية التنمية. وتتمثل أهمية الديمقراطية، كما أكَّدت، في ثلاث فضائل متمايزة: (١) أهميتها في طبيعتها الجوهرية، (٢) إسهاماتها الأداتية، (٣) دورها البنائي في ابتكار قيم ومعايير. وليس من سبيل لتقييم الصيغة الديمقراطية لنظام الحكم إلا بوضع هذه الفضائل الثلاث موضع الاعتبار.
ويجري استخدام الحريات السياسية والحقوق المدنية، على الرغم مِمَّا فيها من قيود استخدامًا فعالًا للغاية. والمُلاحظ حتى في المجالات التي لم يكن فيها استخدامها فعالًا بصورة كافية إلا أن الفرصة قائمة لتفعيلهما. وإن الدور الاختياري للحقوق السياسية والمدنية (في السماح، أو في الحقيقة التشجيع الحوارات والمناقشات المفتوحة، وسياسة المشاركة والمعارضة الحرة دون اضطهاد) يَصْدُق على نطاق واسع للغاية، حتى إن كانت أكثر فعالية وكفاءة في مجالات دون الأخرى. ومن الأهمية بمكان فائدتهما، الثابتة بالدليل والبرهان، في منع وقوع كوارث اقتصادية. والمُلاحَظ أنه حينما تسير الأمور رُخاء. ويكون كل شيء على ما يُرام، فإن الناس لا يشعرون بمسيس الحاجة إلى هذا الدور للديمقراطية. ولكنها تغدو مطلبًا ملحًّا لذاتها عندما تتغير الأمور لسبب أو لآخر (مثل الأزمة المالية الأخيرة في شرق وجنوب شرق آسيا التي ضربت بشدة اقتصادات عديدة وخلفت وراءها الكثيرين ضحية العَوَز والفقر). وتكتسب في هذا الوقت الحوافز السياسية التي يوفرها نظام الحكم الديمقراطي قيمة عملية كبرى.
ولكن مع إقرارنا بأهمية المؤسسات الديمقراطية، إلا أنه ليس بالإمكان اعتبارها أدوات تعمل آليًّا من أجل التنمية والتطوير. وإن استخدامها مشروط بما نُؤمِن به من قيم وأولويات، وباستثمارنا للفُرص المتاحة للتعبير والمُشاركة. وهنا يكون دور جماعات المُعارَضة المُنظَّمة مهمًّا خصوصًا في هذا السياق.
ومثلما هو مهم تأكيد الحاجة إلى الديمقراطية، فإنه من الأمور الحاسمة كذلك كَفالة وتأمين الشروط والظروف التي تضمن نطاق العملية الديمقراطية ومداها. وإذا كانت الديمقراطية على مثل هذا القَدْر من الأهمية، باعتبارها مصدرًا رئيسًا للفرصة الاجتماعية (وهذا اعتراف يستلزم دفاعًا قويًّا). فإن ثمة حاجة أيضًا إلى دراسة وفحص سبل ووسائل تفعيلها لكي تعمل على نحو جيد، وتحقق كل ما فيها من إمكانات. والمعروف أن إنجاز العدالة الاجتماعية لا يتوقَّف فقط على أشكال مُؤسَّسية (بما في ذلك القوانين واللوائح التنظيمية الديمقراطية)، بل وأيضًا على الممارسة الكفء والفعالة. وعَرضتُ أسبابي لكي أعتبر مسألة الممارَسة ذات أهمية محورية في المساهمات المتوقَّعة من الحقوق المدنية والحريات السياسية. وهذا تحدٍّ تُواجِهه كل من الديمقراطيات الراسخة مثلما هي الحال في الولايات المتحدة (خاصة فيما يتعلق بالمشاركة الفارقة للجماعات العرقية المختلفة) والديمقراطيات الأحدث عهدًا؛ إذ ثمة مشكلات مشتركة وأخرى متباينة.