المجاعات والأزمات الأخرى
نحن نعيش في عالَم يسوده، على نطاق واسع، الجوع ونقص التغذية والمَجاعات المتكررة. وكثيرًا ما يقال — وإن ضمنًا — أن ليس باستطاعتنا الكثير الذي نعمله لمعالَجة هذه الأوضاع المُوئِسة. وهناك من لا يكفُّون عن تكرار القول إن هذه الأمراض يمكن أن تسوء وتتفاقم أكثر على المدى الطويل، خصوصًا مع زيادة النمو السكاني في العالم. وتنعكس حالة من التشاؤم الصامتة في ردود الأفعال الدولية إزاء مَظاهر البؤس هذه في عالَم اليوم. وإن الافتقار إلى الحرية، على نحو ما هو واضح في مُعالَجة الجوع، يمكن أن يُؤدِّي ذاته إلى نزعة من القدرية وانعدام أي محاولات جادَّة لعلاج حالات البؤس التي نشاهدها.
وهذا الفصل معنيٌّ تحديدًا بالمجاعات وغيرها من أزمات عابرة يمكن أن تتضمن حالات جوع واضحة، وإن تضمنت فجأة حالة من الحرمان شديد القسوة لقطاع كبير من السكان (مثل الأزمات الأخيرة في شرق وجنوب آسيا)؛ إذ يَتعيَّن أن نُميِّز بين المجاعات والأزمات التي من هذا النوع، وبين مشكلات الجوع والفقر المُتوطِّنَين والتي يمكن أن تُفضي إلى معاناة مُطَّرِدة، ولكنها لا تَتضمَّن حدوث أي انفجار جديد لحالة من الحرمان المُفرِط الذي يصيب فجأة قطاعًا من السكان. إننا حتى حين نحلل حالة نقص الغذاء المتوطنة والحرمان المُطَّرد على مدًى طويل في دراستنا هذه (خاصة الفصل التاسع)؛ فإننا سوف نعتمد على بعض المفاهيم التي توفرها لنا دراسة المجاعات (في هذا الفصل).
إننا لكي نقضي على الجوع في العالم الحديث، يتعيَّن بشكل حاسم فَهْم أسباب حدوث المَجاعات ضمن إطار تفكير عامٍّ وملائم، وليس فقط في ضوء توازن ميكانيكي بين الغذاء والسكان. والشيء الحاسم في تحليل الجوع هو الحرية الموضوعية للفرد وللأسرة لتأكيد ملكيتهم لكمية كافية من الغذاء، وهو ما يتحقق سواء عن طريق أن يزرع المرء غذاءه بنفسه (كما يفعل المزارِعون)، أو عن طريق شرائه من السوق. وقد يحدث أن يتضور المرء جوعًا رغمًا عنه بسبب فَقْده للدخل (بسبب البطالة مثلًا أو انهيار سوق السِّلع التي ينتجها ويبيعها لكسب الرزق). ولكن نجد من ناحية أخرى أنه حتى مع الانخفاض الحادِّ في إمدادات بلد أو قُطر ما بحاجته من الغذاء؛ فإن باستطاعة كل فرد أن ينقذ نفسه من الموت جوعًا عن طريق أسلوب أفضل في اقتسام المتاح من الغذاء (عن طريق خَلْق وظائف إضافية ودخل إضافي لمن يحتمل أن يكونوا ضحايا المجاعة). ويمكن استكمال هذا النهج ليكون أكثر كفاءة عن طريق استيراد الغذاء من الخارج. ولكن أمكن الحيلولة دون وقوع مجاعات كثيرة وشيكة من دون الاستيراد؛ الاكتفاء بالاقتسام المتعادِل للكميات المنخفِضة من إمدادات الغذاء المحلية. وحَرِي أن ينصب الاهتمام على القدرة الاقتصادية والحُرِّية الموضوعية للأُسَر وللأفراد لشراء ما يكفيهم من غذاء دون الاكتفاء بالتركيز فقط على كمية الغذاء في البلد المعني.
وتبرز هنا الحاجة إلى عمل تحليل سياسي واقتصادي علاوة على إنجاز فَهْم أكثر شمولًا واكتمالًا للأزمات والكوارث الأخرى غير المجاعات. وخير مثال هو نوع الأزمة التي عانت منها أخيرًا بعضُ بلدان شرق وجنوب شرق آسيا؛ إذ نلاحظ في هذه الأزمات، مثلما في المجاعات، أن بعض قطاعات السكان خسروا أنصبتهم الاقتصادية فجأة على غير توقُّع. ونجد أن سرعة وشدة الحرمان في هذه الأزمات، «وعدم توقع حدوث كارثة» تختلف جميعها عن ظاهرة الفقر العامة المتواترة، مثلما تختلف المجاعات عن الجوع المتوطن.
الاستحقاق والتكافل
لا يرتبط الجوع فقط بإنتاج الطعام والتوسع الزراعي، بل، ويرتبط كذلك بالأداء الوظيفي للاقتصاد في مجموعه، وكذلك — وعلى نحو أعم — بإدارة وتفعيل التنظيمات السياسية والاجتماعية التي يُمكنُها على نحو مباشر وغير مباشر أن تُؤثِّر في قدرة الناس على تحصيل الغذاء وتحقيق حاجتهم من الصحة والتغذية. علاوة على هذا فإن بالإمكان إنجاز الكثير من خلال سياسة حكومية مقبولة ومعقولة. ولكن من الأهمية بمكان تكامُل دور الحكومة مع الأداء الوظيفي الكفء للمؤسَّسات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، ويتفاوت هذا بين التجارة والأسواق إلى الأداء الوظيفي النَّشط للأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والمؤسَّسات التي تُدعِّم وتُيسِّر المناقشات العامة المبنية على المعلومات، بما في ذلك الإعلام النشط بكل وسائله.
ولكن ما الذي يحدد استحقاق الأسرة؟ الأمر رهن مُؤثِّرات مختلفة ومتمايزة. أولًا: هناك الهِبَة التي تُوفِّر مصدرًا للدخل: أي ملكية موارد إنتاجية وثروة تَفرِض لنفسها سِعرًا داخل السوق. وتُمثِّل قوة العمل الهِبة الوحيدة ومصدر الدخل الوحيد الأهم للغالبية العظمى من الناس. والمعروف أن غالبية شعوب العالم لديها مورد آخَر قليل غير قوة العمل، والذي يمكن أن يجمع بينه وبين قدر مُتفاوَت من المهارة والخبرة. ولكن يمكن القول بوجه عام إن قوة العمل والأرض وغيرهما من مَوارد تُؤلِّف معًا سَلَّة الأرصدة المملوكة.
ثانيًا: هناك مُؤثِّر مُهِم يتألَّف من إمكانات الإنتاج واستخدامها، وهذا هو مصدر التكنولوجيا؛ إذ تحدد التكنولوجيا المتاحة إمكانات الإنتاج التي تَتأثَّر بالمعرفة المتاحة، وكذا بقدرة الناس على تنظيم تلك المَعارف والإفادة بها عمليًّا.
ويستلزم توليد الاستحقاقات الاستخدام المباشر للهبة الطبيعية الموجودة في صورة أرضٍ أو عملٍ لإنتاج الغذاء — كما هي الحال في الزراعة — أو بدلًا عن ذلك، يمكن لأسرة أو لفرد أن يكتسبوا القدرة على شراء الغذاء عن طريق الحصول على دَخْل في صورة أَجْر. ويتوقف هذا على فُرَص العمالة ومُعدَّلات الأجور السائدة. ويعتمد هذا بدوره على إمكانات الإنتاج، في الزراعة وفي الصناعة وفي الأنشطة الأخرى. والمعروف أن غالبية الناس في العالَم لا ينتجون مُباشرة الغذاء، بل يَكتسبون قُدرتَهم على توفير الغذاء بفضل الحصول على عمل لإنتاج سلع أخرى، الأمر الذي يَتبايَن من إنتاج محاصيل تجارية إلى مُنتجَات حرفية أو سلع صناعية أو خدمات متنوعة، وجميعها تنطوي على مهنٍ جدُّ مُتبايِنَة. ويمكن لمَظاهر التكافل هذه أن تكون محور دراسة تحليل المجاعات بما أن أعدادًا كبيرة من الناس يمكن أن يَخسروا القدرة على التَّحكُّم في غذائهم بسبب مشكلات تتعلق بإنتاج سلع أخرى غير الغذاء.
ثالثًا: يعتمد الكثير جدًّا على شروط التبادل. القدرة على بيع وشراء السلع، وتحديد الأسعار النسبية للمنتجات المختلفة (مثال: المنتجات الحرفية مقابل السلع الغذائية). ومع إدراكنا للأهمية المحورية، بل الفريدة — في الحقيقة — لقُوَّة العمل كَهِبَة طبيعية للغالبية العظمى من الناس يصبح ضروريًّا بشكل حاسم أن نُركِّز اهتمامنا على تشغيل أسواق العمل. هل يجد الباحث عن وظيفة عملًا وفقًا للأجور السائدة؟ كذلك هل يستطيع الحرفي والعاملون من أَجْل توفير الخدمات أن يدبروا أَمْرَهم لبيع ما يحاولون بيعه؟ وما هي الأسعار النسبية لذلك «مقارنًا بسعر الغذاء في السوق».
أسباب المجاعة
الفشل في تنظيم الاستحقاقات، والمُؤدِّي إلى حدوث مَجاعات، يمكن أن ينشأ عن أسباب متباينة. ويَتعيَّن أن نضع في الحسبان هذا التباين في الأسباب المُتقدِّمة على الحدث عند محاولة علاج المجاعات، بل ومنع وقوعها. وتعكس المجاعات حالة أزمة مشتركة، وإن لم تعكس بالضرورة أسبابًا مشتركة.
والمُلاحظ بالنسبة إلى مَن لا ينتجون غذاءهم بأنفسهم (مثل العمَّال الصناعيين أو عُمَّال الخدمات) أو إلى مَن لا يملكون الغذاء الذي يُنتِجونه (مثل العمال الزراعيين الأُجَراء) أن قدرتهم على تحصيل غذائهم من السوق رَهْن بما يتكسبونه، وأسعار الغذاء السائدة، وما يحتاجون إليه من نَفقات ضرورية في غير مجال الغذاء. وتَعتَمد قُدرتُهم على تَوفير الغذاء على الوضع الاقتصادي: العمالة، ونِسَب الأجور للعمال الأُجَراء، وإنتاج السلع الأخرى وأسعارها بالنسبة إلى الحرفيين وعمال الخدمات وغيرهم.
ويمكن أن تحدث المجاعات أيضًا دون حدوث أي انخفاض في إنتاج أو توافُر الغذاء. إن العامل يمكن أن يَتدهور وضعه إلى حدِّ الموت جوعًا بسبب التعطل، علاوة على عدم وجود نظام لشبكات الأمن الاجتماعي (مثل التأمين ضد البطالة). ويمكن أن يحدث هذا بسهولة، بل ويمكن في الحقيقة أن تقع مَجاعة ضخمة حقيقية على الرغم من عدم حدوث نقص كبير في مستوى الغذاء المتاح في الاقتصاد ككل.
ومثال لحالة ثالثة من نوع آخر، يحدث أحيانًا أن يكتشف بعض العمال أن «مهنتهم إلى زوال» مع حدوث تحولات في الاقتصاد وتَحوُّل أنماط، ومواقع الأنشطة التي تُدِر عليهم ربحًا. حدث هذا على سبيل المثال في أفريقيا جنوب الصحراء مع تَغيُّر الظروف البيئية والمناخية. كان بالإمكان في السابق أن يبقى العمال الإنتاجيون من دون عمل أو من دون إيراد، ولا مخرج أمامهم خاصة مع انعدام نظم الضمان الاجتماعي.
اتقاء المجاعات
حيث إن المجاعات مُقترِنة بفقدان جماعة مِهَنية أو أكثر لاستحقاقاتها في أقاليم بذاتها، فإن حالة الجوع الناجمة يمكن اتقاؤها بالعمل على نحو مَنهجي مُنْتَظم على إعادة خلق حد أدنى لمستوى الدخل والاستحقاقات للمُضارِين بالتغيرات الاقتصادية. وإن الأعداد التي شَمِلَها الحدث، وهي غالبًا كبيرة العدد، إنما تُمثِّل عادة قطاعات صغيرة من إجمالي السُّكان؛ لذلك فإن الحد الأدنى لمستويات القوة الشرائية اللازم لتَجنُّب المجاعة يمكن أن يكون ضئيلًا. معنى هذا أن كلفة مثل هذا الإجراء العام لاتقاء المجاعة ستكون عمليًّا متواضعة حتى بالنسبة إلى البلدان الفقيرة شريطة الالتزام بإجراءات وتنظيمات منتظمة وفعَّالة في الوقت المناسب.
إننا لكي نُكوِّن فكرة عن الأحجام المَعنِيَّة نفترض الآتي: إذا كان من المُحتمَل أن يُمثِّل العدد المُحتَمل من ضحايا المجاعة ١٠ في المائة، كمثال، من إجمالي عدد سُكَّان البلد (والمجاعة عادة تُصِيب نسبة أقل من ذلك كثيرًا). فإن حصة هؤلاء الفقراء من إجمالي الدَّخْل لن تزيد، فرضًا، في الظروف العادية على ٣ في المائة من إجمالي الناتج القومي. كذلك فإن حِصَّتهم العادية من استهلاك الغذاء ربما لا تزيد على ٤ أو ٥ في المائة من الاستهلاك القومي للغذاء. معنى هذا أن الموارد اللازمة لإعادة توليد دخل كامل لهم، أو لإعادة إمدادهم بحِصَّتهم العادية من استهلاك الغذاء، ابتداء من الصفر، لن تكون كبيرة جدًّا شريطة التنظيم الكفء للإجراءات الوقائية. وطبيعي أن ضحايا المَجاعة لديهم دائمًا بعض الموارد المتبقية (مما يعني أن استحقاقاتهم لن يُعاد تكوينها من الصفر). ومن ثَمَّ صافي المُتطلِّبات من الموارد يمكن أن يكون أقل من ذلك.
واتقاء المجاعات يَعتمد اعتمادًا كبيرًا على الترتيبات السياسية لحماية الاستحقاقات. وتُوَفِّر البلدان الغنية هذه الحماية عن طريق برامج ضد الفقر، وكذا التأمين ضد البطالة. ولكن غالبية البلدان النامية ليست لديها أي منظومة عامَّة للتأمين ضد البطالة. غير أن بعضها يُوفِّر بالفعل نظامًا عامًّا لعمالة الطوارئ لتطبيقه عند حدوث حالات تَعطُّل عن العمل واسعة النطاق بسبب كوارث طبيعية أو غير طبيعية. ويمكن للإنفاق الحكومي التعويضي لخلق عمالة أن يساعد على نحو فعال جدًّا لتفادي حدوث مجاعة وشيكة. وهذه هي السبيل في الحقيقة التي أمكن بها اتقاء مجاعات مُحتمَلة في الهند منذ بداية الاستقلال. ويعتمد هذا الأسلوب أساسًا على خلق عمالة مقابلة. مثال ذلك أنه في عام ١٩٧٣م عَمدَت حكومة الهند إلى تَعويض البطالة المُقتَرِنة بشيوع حالة من الجَفاف الحادِّ في ماهارا شترا إلى خَلق خمسة ملايين وظيفة مُؤقَّتة. ويُمثِّل هذا العدد في واقعه قدرًا كبيرًا جدًّا (خاصة إذا حَسبنا أيضًا عددَ أفراد أُسَر العمال). وكانت النتيجة مُثيرة وغير مُتوقَّعة؛ لم تحدث أي زيادة واضحة في الوفيات على الإطلاق، بل ولم يحدث أي تَدهْور واضح في عدد المصابين بنقص غذائي، هذا على الرغم من الهبوط الحادِّ (الذي بلغ في مناطق كثيرة ٧٠ في المائة أو أكثر) في إنتاج الغذاء على نطاق واسع في الإقليم.
المجاعة والاغتراب
الاقتصاد السياسي عن أسباب المجاعات واتقائها؛ يَتضمَّن إنشاء مُؤسَّسات وتنظيمات، ولكنه علاوة على هذا يعتمد على إدراك وفَهْم مُصاحِبَين لممارَسة القوة والسُّلطة. ويعتمد بوجه خاص على اغتراب أو عُزْلة الحكام عن المحكومين. وحتى إن بدا أن السبب المباشر لمَجاعة ما مختلف تمامًا عن هذا؛ فإن المسافة الاجتماعية أو السياسية بين الحكام والمحكومين يمكن أن يكون لها دور حاسم في عدم اتقاء المجاعة.
ما سبب هذه الكارثة إذن؟ في رواية «الإنسان والسوبرمان» من تأليف برنارد شو نقرأ أن السيد مالون، وهو أمريكي ثري من أصل أيرلندي يرفض وصف مجاعات أيرلندا، التي حدثت في أربعينيات القرن ال ١٩، بأنها «مجاعة». ويقول لزوجة ابنه وتدعى فيوليت، إن أباه «مات من الجوع في طاعون ٤٧». وعندما تقول فيوليت متسائلة «المجاعة؟» يجيب مالون قائلًا: «لا، الجوع. عندما يكون بلد ما مليئًا بالغذاء ويُصدِّره لا يمكن أن تكون هناك مجاعة.»
ثمة أشياء عديدة خاطئة في عبارة مالون الشائكة. إن الشيء الصحيح يقينًا أن الغذاء كان يجري تصديره من أيرلندا الجائعة إلى إنجلترا المُستمتِعة بالرخاء. ولكن ليس صحيحًا أن أيرلندا كانت مليئة بالغذاء (الحقيقة أن تَلازُم وجود الجوع مع تصدير الغذاء ظاهرة شائعة في مجاعات كثيرة). كذلك إذا أخذنا كلمتي «جوع» أو «يتضور جوعًا، أو يموت جوعًا» بمعناهما القديم المستخدم سابقًا — وأصبح لغة ميتة الآن — ويعني أن يقضي الناس حياتهم من دون غذاء، ممَّا يُودِي تحديدًا بحياتهم جوعًا، فإن من العسير أن ننكر أنه قد أصابت أيرلندا مجاعة بالفعل آنذاك حسب المفهوم من الكلمات.
ولكن مالون كان يشير إلى نقطة أخرى أكثر عمقًا على نحو ما تسمح به اللغة؛ إذ تتعلق القضية المحورية بدور الفعالية البشرية كسبب في حدوث ودوام المجاعات؛ إذ لو كانت المجاعات الأيرلندية حدثًا كان في الإمكان اتقاؤه تمامًا، وإذا كان تحديدًا من يتصدرون السلطة عملوا على منعها، فإن الاتهام بترك «الأيرلندي» يموت جوعًا اتهام يكشف عن ذكاء. إن إصبع الاتهام لا يمكن إلا أن يشير هنا إلى دور السياسة العامة وقُدْرَتها على مَنْع أو عدم منع حدوث المجاعات، كما يشير إلى المؤثرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تحدد طبيعة السياسة العامة. وإن قضايا السياسة المطلوبةُ دراستها تتعلق بأفعال خاصة بالإهمال وأخرى خاصة بالتصدي للمسئولية. وحيث إن المجاعات اطَّرد حدوثُها في بلدان مختلفة حتى في ظل عالمنا الحديث الذي يشهد رخاءً شاملًا غير مسبوق، فإن المسائل المتعلقة بالسياسات العامة ومدى فعاليتها تظل وثيقة الصلة بموضوعنا اليوم مثلما كانت منذ ١٥٠ سنة مضت.
وحدث هذا على نطاق واسع في أيرلندا خلال أربعينيات القرن ١٩؛ حيث كانت السفن تبحر تباعًا مُحمَّلة بالقمح والشوفان والماشية والخنازير والبيض والزبد متجهة إلى إنجلترا التي لم يصبها أذًى بسبب المجاعة التي نُكِبَت بها أيرلندا. ولقد كان تصدير الغذاء من أيرلندا إلى إنجلترا — في ذروة المجاعة — سببًا في الشعور بمرارة قاسية داخل أيرلندا، بل ولا يزال أثرها ممتدًّا حتى اليوم، وهو ما يَتجلَّى في عدم الثقة المُتبادَلة بين إنجلترا وأيرلندا.
وجدير بالذِّكْر أن حركة الغذاء من أيرلندا إلى إنجلترا خلال فترة المجاعات ليس وراءها أي سر اقتصادي؛ إذ إن قُوى السوق تشجع دائمًا حركة الغذاء إلى الأماكن التي يقطنها القادرون على دفع السعر الأعلى. وهكذا كان الإنجليزي الميسور قادرًا على هذا قياسًا إلى حال الأيرلندي الذي طحنه الفقر. وبالمثل في عام ١٩٧٣م كان بإمكان سكان أديس أبابا شراء الأغذية التي لا يقدر على شرائها الجياع والتعساء سكان مقاطعة ووللو.
وحري بنا ألا نقفز من هذا إلى نتيجة مفادها أن الأسلوب الصحيح للقضاء على المجاعة هو وقف صفقات وتعاملات السوق. حقًّا إن مثل هذا الإجراء في بعض الحالات يمكن أن يفيد ويحقق هدفًا محدودًا (إذ كان في الإمكان مساعدة المستهلكين الأيرلنديين إذا قُيدت الحركة العكسية للأغذية المتجهة إلى إنجلترا). بَيْدَ أنَّ هذا بوجه عام سيترك المشكلة الأساسية كما هي دون علاج، وأعني بها مشكلة الفقر والجوع التي يعانيها ضحايا المجاعة. ولكن تغيير الوضع يستلزم سياسات أكثر إيجابية، ليس فقط السياسة السلبية التي تقضي بحظر تعاملات السوق في أنواع بعينها. إن السياسات الإيجابية التي تعمل على إعادة توليد الدخل المفقود للجائع (عن طريق برامج عمالة عامة كمثال)، يمكن أن تؤدي تلقائيًّا إلى الحدِّ من أو وقف الحركة العكسية للغذاء ما دام المشترون المحليون في استطاعتهم طلب ما يحتاجون إليه.
والمعروف أن حكومة المملكة المتحدة قَدَّمت مساعدة ضئيلة للغاية لتخفيف حدة العوز والجوع بين الأيرلنديين خلال فترة المجاعة. وسبق أن شهدت الإمبراطورية أحداثًا مماثلة، ولكن الفارق هنا أن أيرلندا جزء من الجزر البريطانية ذاتها. وها هنا نلمس حالة الاغتراب الثقافي المقابل لحالة اللاتماثل السياسية الخالصة. ونجد للاغتراب هنا بعض الدلالة (هذا على الرغم من أن الاغتراب الثقافي هو سياسي أيضًا بالمعنى الواسع).
ومن المهم في هذا السياق أن نتذكر أنه بحلول أربعينيات القرن ١٩، ومع بداية المجاعة في أيرلندا، وُضِعَ نظام شامل للإغاثة من الفقر. في بريطانيا، وخاص ببريطانيا ذاتها. ونالت إنجلترا أيضًا حصتها من الفقر بل كانت حياة العامل الإنجليزي أبعد من أن تكون حياة رخاء ويُسر. وجدير بالذِّكْر أن عام ١٨٤٥م، وهو العام الذي بدأت معه سلسلة المجاعات الأيرلندية، هو أيضًا العام الذي كتب فيه فريدريك أنجلز دراسته الكلاسيكية عن الفقر والبؤس الاقتصادي للعمال الإنجليز تحت عنوان «ظروف الطبقة العاملة في إنجلترا» وصدر الكتاب عام ١٨٤٥م». ولكن كان لا يزال ثمة التزام بمنع حدوث مجاعة صريحة داخل إنجلترا. ولكنَّ التزامًا كهذا لم يكن قائمًا بالنسبة إلى الإمبراطورية، ولا حتى بالنسبة إلى أيرلندا. والمُلاحَظ أيضًا أنه حتى قوانين الفقراء أعطَت للمعوز الإنجليزي حقوقًا أكثر من الحقوق التي حصل عليها المعوز الأيرلندي بموجب قوانين الفقر الأضعف، التي صدرت من أجل أيرلندا.
وحين ننظر إلى خلفية المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي تصوغ السياسة العامة، والتي سمحت في هذه الحالة بحدوث المجاعات، يكون من المهم تقييم الشعور بالانفصال والتفوق الذي ميز الموقف البريطاني تجاه الأيرلنديين. إن الجذور الثقافية للمجاعات الأيرلندية تعود في التاريخ إلى العهد الذي كتب فيه إدموند سبنسر «الملكة الجان» المنشورة عام ١٥٩٠م، وربما إلى ما قبل ذلك. والملاحظ أن الاتجاه إلى لوم الضحايا، وهو ما تزخر به رواية الملكة الجان، امتد على مدى مجاعات أربعينيات القرن ١٩.
الإنتاج والتنويع والنمو
أعود الآن إلى علم اقتصاد اتقاء المجاعة. من المفيد لاتقاء المجاعات أن يكون لدينا اقتصاد غني ونامٍ. ولا ريب في أن التوسع الاقتصادي يقلل الحاجة إلى حماية الاستحقاقات، كما يعزز إتاحة الموارد لإنجاز تلك الحماية. وهذا درس واضح الأهمية بالنسبة إلى أفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث كان نقص النمو الاقتصادي الشامل عاملًا أساسيًّا وراء الحرمان. والمعروف أن التعرض السهل للمجاعات يكون في أعلى درجاته حين يكون السكان في حالة فقر عام شامل، وعندما يتعذر على احتياطي المال العام توفير ضمانات.
ومع أهمية زيادة المُنتَج الغذائي إلا أن القضية الرئيسية تتعلق بنمو الاقتصاد في مجموعه ما دام الغذاء سلعة للشراء في السوق العالمية. إن البلد يستطيع شراء غذائه من الخارج إذا ما توافَرت لديه الوسائل لهذا (تأسيسًا على الإنتاج الصناعي كمثال). وإذا قارَنَّا، على سبيل المثال. نصيب الفرد من إنتاج الغذاء في ١٩٩٣–١٩٩٥م، ونصيبه في ١٩٧٩–١٩٨١م، في بلدان مختلفة في آسيا وأفريقيا نجد حدوث انخفاض بنسبة ١٫٧ في المائة في جنوب كوريا، و١٢٫٤ في المائة في اليابان، و٣٣٫٥ في المائة في بتسوانا، و٥٨ في المائة في سنغافورة. ومع هذا لا نلحظ أي زيادة في الجوع في هذه الاقتصادات؛ لأنها تَمتَّعَت بتوسع سريع في نصيب الفرد من الدَّخْل الحقيقي عن طريق وسائل أخرى (من مثل الصناعات والتعدين)، وأضحت أغنى على أي حال. وأدَّى اقتسام الدخل الزائد إلى جعل مواطني هذه البلدان أقدر على تأمين الغذاء لأنفسهم عمَّا كانوا في السابق، على الرغم من هبوط المُنتَج الغذائي. ونجد النقيض حتى على الرغم من عدم انخفاض، أو حدوث انخفاض ضئيل في نصيب الفرد من إنتاج الغذاء في اقتصادات أخرى مثل السودان (٧٫٧ في المائة زيادة)، أو بوركينا فاسو (٢٩٫٤ في المائة زيادة)؛ إذ عانت هذه الاقتصادات من تعرضها الشديد للجوع بسبب حالة الفقر العام وضعف الاستحقاقات الاقتصادية لكثير من الجماعات المهمة الكبيرة. ولذلك فإن من المهم التركيز على العمليات الفعلية التي تكفل للفرد أو للأسرة قدرة على التحكم وضمان غذائه.
والمُلاحَظ أن الاتجاه إلى التفكير في زيادة المزروع من الغذاء باعتباره الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة الغذاء اتجاه قوي وله إغراءاته وغالبًا ما يكون له مُبرِّره المنطقي. ولكن الصورة أكثر تعقدًا من ذلك فيما يَتعلَّق بالفُرص الاقتصادية البديلة وإمكانات التجارة الدولية. أما من حيث نقص النمو وهو المسألة التي تعنينا هنا، وتُمثِّل القسمة الرئيسية لمشكلات أفريقيا جنوب الصحراء، فإنه ليس مقتصرًا على نمو وزيادة المنتَج الغذائي من حيث هو، بل النقص العام في النمو الاقتصادي جملة (الذي تُمثِّل مشكلة المنتج الغذائي جانبًا واحدًا منه). إن أفريقيا جنوب الصحراء في مَسيس الحاجة وبشدة إلى بنية إنتاجية أكثر تنوعًا، خاصة إذا عرفنا التقلبات المناخية غير المُطمْئِنة من ناحية، وإمكان التوسُّع في المجالات الأخرى للنشاط الإنتاجي من ناحية أخرى. إن الاستراتيجية التي كثيرًا ما يُروَّج لها والداعية إلى التركيز فقط على التوسع في الزراعة — خاصة المحاصيل الغذائية — هي أشبه بمن يضع كل البيض في سلة واحدة، ومن ثَم فإن مَخاطر مثل هذه السياسة كبيرة جدًّا في الحقيقة.
وطبيعي أن ليس مُرجَّحًا أن تحدَّ أفريقيا جنوب الصحراء فجأة على المدى القصير من اعتمادها على إنتاج الغذاء كمصدر للدخل. ولكن يمكن السماح بقدر من التنويع سريعًا. ومع هذا فإن الحد من الاعتماد المُفرِط على محاصيل قليلة يمكن أن يُدعِّم الأمان للدخول، ويمكن لأفريقيا جنوب الصحراء، على المدى البعيد، أن تَلْحق برَكْب التوسع الاقتصادي الذي تحقق في كثير من بلدان العالم الأخرى. ولكي تحقق ذلك لا بد أن تُعْنى بشدة بالبحث عن واستخدام مصادر للدخل وللنمو خارج إنتاج الغذاء بل وخارج مجال الزراعة.
طريق العمالة ومسألة الفعالية
- (١)
دَعْم الدولة لخلق دَخْل وعمالة.
- (٢)
تشغيل الأسواق الخاصة للغذاء والقوى العاملة.
- (٣)
الاعتماد على التجارة ومشروعات الأعمال في صورتها الطبيعية.
إنَّ تكامُل الأدوار بين المؤسَّسات الاجتماعية المختلفة — بما في ذلك التنظيمات الخاصة بالسوق أو غير المَعنية بالسوق — أمر شديد الأهمية كضمان نَهْج عام مُلائم لاتقاء المجاعات، مثلما هي مهمة جدًّا في واقع الأمر للتنمية الاقتصادية بعامة.
الديمقراطية واتقاء المجاعة
أشرتُ في مُستَهَل هذا الكتاب إلى دَور الديمقراطية في اتِّقاء المجاعات، وحجتي وثيقة الصلة تحديدًا بالحوافز السياسية وليدة الانتخابات وسياسات تَعدُّد الأحزاب والحريات الصحافية. والشيء المُؤكَّد عن يقين أنه لم تَحدُث أبدًا مَجاعة في ظل ديمقراطية تَعدُّد الأحزاب تُؤدِّي دورها الحقيقي بكفاءة.
تُرى هل هذا الاقتران التاريخي الملحوظ هو اقتران سببي أم أنه مُجرَّد حدَث عارِضٍ؟ إن احتمال أن تكون الرابطة بين الحقوق السياسية الديمقراطية وانعدام حدوث المجاعات «علاقة زائفة» قول يبدو مقبولًا إذا فكَّرْنا في أن البلدان الديمقراطية بلدان غنية، ومن ثَمَّ ربما مَنيعة ضد المجاعات لأسباب أخرى. ولكن غياب المجاعات يصدق كذلك بالنسبة إلى البلدان الديمقراطية الفقيرة جدًّا؛ مثل الهند، أو بتسوانا، أو زيمبابوي.
وواضح أنه لو أخفقت حكومتا بتسوانا وزيمبابوي في النهوض بإجراء في الوقت المناسب لتعرَّضتَا لنقد قاسٍ وضغط شديد من قِبل المعارَضة، علاوة على قصف كثيف من الصحافة. ولكن حكومَتَي إثيوبيا والسودان لم تكونَا لتعبآ بكل هذا؛ ولهذا افتقد هذان البلدان الحوافز السياسية التي تُوفِّرها المؤسَّسات الديمقراطية. وواضح أن المجاعات في السودان وفي إثيوبيا — وفي كثير من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء — اعتمدَت على الحصانة السياسية التي يتمتع بها قادة البلدان الاستبدادية، ويصدق هذا على ما يبدو على الوضع الراهن في كوريا الجنوبية أيضًا.
الحوافز والمعلومات واتقاء المجاعات
ليس عسيرًا تَلمُّس الرابطة السببية بين الديمقراطية وعدم وقوع مجاعات. إن المجاعات تَقتل ملايين البشر في أقطار مختلفة في العالم، ولكنها لا تقتل الحُكَّام. لم يحدث أن كان من ضحايا المجاعات الملوك، ورؤساء الجمهوريات، والبيروقراطيون، ورؤساء الإدارات، وقادة الجيوش. وإذا انعدمَت الانتخابات وأحزاب المعارَضة، وافتَقدَت البلاد مجالًا للنَّقْد العام دون رقابة؛ فإن رجال السلطة لن يعانوا من جراء سياستهم الفاشلة حتى يَعمَلوا على اتقاء المجاعة. ولكن الديمقراطية على النقيض سَتُوسِّع من نطاق أضرار المجاعة لتصيب الحكام والقادة السياسيين أيضًا. ويُشكِّل هذا الاحتمال حافزًا سياسيًّا يُحفِّزهم على محاولة اتقاء المجاعة «إذ تتطابق الحجة السياسية مع الحجة الاقتصادية في هذه المرحلة» فسوف تختفي يقينًا المجاعات الوشيكة.
وتتعلق القضية الثانية بالمعلومات: إن الصحافة الحُرَّة، وممارسة الديمقراطية تُسهِمان كثيرًا في إبراز المعلومات التي يمكن أن تُؤثِّر كثيرًا في السياسات من أَجْل اتقاء المجاعة (مثال ذلك المعلومات عن الآثار الباكرة لحالات الجَفاف، والفيضانات، وعن الطبيعة، وأثر البطالة). والمصدر الأول والأساسي جدًّا للمعلومات الرئيسية من مجالات بعيدة عن مجاعة وشيكة هو ما تُقدِّمه وسائل الإعلام الإخبارية خاصة حين تتوافر حوافز — بفضل نظام ديمقراطي — تحفز إلى إبراز الوقائع التي يمكن أن تحرج الحكومة (وقائع تنزع الحكومات التسلطية عادة إلى حَجْبها رقابيًّا). حقًّا، أود أن أؤكد أن الصحافة الحرة والمعارَضة السياسية النشطة تُؤلِّفان أفضل نظام للإنذار المبكر بالنسبة إلى بلد تهدده المجاعات.
والمعروف أن ما سُمِّي «خطوة كبيرة إلى الأمام»، والتي بَدأتْ في أواخر الخمسينيات، أُصِيبَت بفشل كامل. ولكن الحكومة الصينية رفضَت التسليم بذلك، وواصلت بجمود عقائدي السياسات الكارثية نفسها لسنوات ثلاث أخرى. وكَم هو عسير تَخيُّل إمكان حدوث شيء كهذا في بلد يلتزم بنظام الاقتراع بانتظام، ويملك صحافة حرة مستقلة. ولكن الحكومة خلال هذه الكارثة المُروِّعة لم تُواجِه ضغطًا من جانب الصحافة الخاضعة لسيطرة الحكومة، ولم تُواجِه أحزابًا معارِضَة لعدم وجودها.
الدور الوقائي للديمقراطية
تظل هذه المسائل وثيقة الصلة في عالمنا المعاصر، حتى في صين اليوم التي حقَّقت نجاحًا اقتصاديًّا. وجدير بالذِّكْر أنه منذ الإصلاحات الاقتصادية في عام ١٩٧٩م كشفت تصريحات الرسميين الصينيين عن قَدْر كبير من التسليم بأهمية الحوافز الاقتصادية دون اعتراف مماثل بدور الحوافز السياسية. وعندما تمضي الأمور سَلِسة لن يكون ثَمة شعور بافتقاد دور الديمقراطية المتسامح كثيرًا، ولكن ما أن تقع أخطاء كبيرة في السياسة حتى تصبح هذه الثغرة كارثية حقًّا. ويتعين الحكم في هذا الضوء على أهمية ودلالة حركات الديمقراطية في الصين المعاصرة.
لقد كانت الحركات القومية مناهضة بقوة للاستعمار، ولكنها لم تكن دائمًا متجهة وبإصرار نحو الديمقراطية، ولم يحدث إلا أخيرًا فقط أن حظي التأكيد على قيمة الديمقراطية ببعض التقدير السياسي في كثير من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. ولم تسهم الحرب الباردة التي كانت دائرة في العالم بأي دور كان في هذا الوسط السياسي، إذ كانت الولايات المتحدة والغرب مستعدين لمساندة الحكومات غير الديمقراطية إذا كانت معادية تمامًا للشيوعية. وكان الاتحاد السوفييتي والصين على استعداد لمساندة الحكومات التي تنزع إلى الانحياز إلى جانب أي منهما دون اعتبار لموقفها المعادي للمساواة في سياساتها المحلية. وطبيعي أن كانت الاحتجاجات الدولية قليلة جدًّا مع حظْر الأحزاب المعارضة وكبْت الصحافة.
ولكن لا يسعنا أن ننكر وجود حكومات أفريقية، حتى داخل دول الحزب الواحد تتحرك بحافز قوي تجاه تجنب الكوارث والمجاعات. وتتباين الأمثلة على هذا من بلد صغير مثل الرأس الأخضر (كيب فيرد) وحتى تنزانيا. ولكن غياب المعارَضة وكذا كبْت الصحافة الحُرَّة من شأنه أن يهيئ لكل من هذه الحكومات حصانة ضد النقد والضغط السياسي الذي يترجمه الواقع إلى سياسات تتسم بفقدان الحس والقسوة الشديدة. وكثيرًا ما تأخذ المجتمعات أمر المجاعات كشيء مُسلَّم به. وشاع إلقاء اللوم بسبب الكوارث على أسباب طبيعية وعلى خيانة بلدان أخرى. وتكشف بلدان؛ مثل السودان، والصومال، وإثيوبيا، والعديد من بلدان الساحل وغيرها كيف تسير الأمور في اتجاه خاطئ من دون نظام يسمح بأحزاب معارضة، وصحافة وإعلام يُتمتمان بالحرية دون رقيب.
وليس معنى هذا أن ننكر أن المجاعات في هذه البلدان اقترنت في غالب الأحيان بفشل المحاصيل. والمعروف أنه حين يفشل محصول فإنه لا يؤثر فقط في المعروض من الغذاء، بل يدمر أيضًا العمالة ومعيشة كَمٍّ غفير جدًّا من الناس. غير أن فشل المحاصيل ليس منفصلًا عن السياسة العامة (مثل تحديد الحكومة للأسعار النسبية أو السياسة الخاصة ببحوث الري والزراعة). علاوة على هذا فإن في الإمكان — حتى مع فشل المحاصيل — تجنُّب حدوث مجاعة عن طريق سياسة ذكية حذرة لإعادة التوزيع (بما في ذلك خلق عمالة مؤقتة). والحقيقة أن البلدان الديمقراطية، كما أسلفنا، مثل بتسوانا، أو الهند، أو زيمبابوي نجحت تمامًا في اتقاء المجاعات، على الرغم من النقص الحاد في المنتج الغذائي واستحقاقات قطاعات كبيرة من السكان. هذا بينما تعاني البلدان غير الديمقراطية مجاعات تعجز عن تفاديها على الرغم من أن أوضاعها الغذائية أفضل كثيرًا. ونحن لن نجانب العقل إذا خلصنا من هذا كله إلى القول بأن الديمقراطية يمكن أن تكون عاملًا إيجابيًّا للغاية يؤثر في اتقاء المجاعات في عالمنا المعاصر.
الشفافية والأمن والأزمة الاقتصادية الآسيوية
هذا الدور الوقائي للديمقراطية يتطابق تمامًا مع المطالَبة بما يُسمَّى «الأمن الوقائي» في بيان الأنماط المختلفة للحريات الأدائية. إن توافُر الحُكم الديمقراطي، بما في ذلك الانتخابات القائمة على التعددية الحزبية والإعلام المفتوح الحر، يجعل من المُرجَّح جدًّا تأسيس بعض الترتيبات والتنظيمات اللازمة للأمن الوقائي الذي تحققه الديمقراطية. وإن الدور الإيجابي للحقوق السياسية والمدنية يصدق تمامًا بالنسبة إلى اتقاء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية بعامة.
وجدير بالذِّكْر أن المجتمع لا يفتقد دور الديمقراطية ما دامت الأمور تجري سلسةً وعلى نحو روتيني جيد. ولكن تظهر الحاجة إلى الديمقراطية واضحة عندما تتعقد الأمور لسبب أو لآخر. وهنا تكتسب الحوافز السياسية التي يوفرها نظام الحكم الديمقراطي أهمية عملية كبيرة. وهنا يمكن أن نستفيد بعض الدروس الاقتصادية، وكذا السياسية المهمة. والمعروف أن كثيرين من الاقتصاديين التكنوقراط يوصون باستخدام الحوافز الاقتصادية (التي لا يمكن أن تكفلها النظم الديمقراطية). ولكن الحوافز الديمقراطية على أهميتها ليست بديلًا عن الحوافز السياسية، كما أن عدم وجود نظام ملائم للحوافز السياسية سوف يُمثِّل ثغرة لا يمكن ملؤها بواسطة تفعيل الحفز الاقتصادي.
هذه مسألة مهمة؛ لأن خطر فقدان الأمان الناجم عن تَحوُّلات في السياسة الاقتصادية، أو عن ظروف أخرى، أو نتيجة أخطاء في السياسة، ولم تبذل السلطة جهودًا لإصلاحها، هذا الخطر سيظل خلف ما يبدو في ظاهره كأنه اقتصاد صحيح وصحي. وجدير بالذِّكْر هنا أن المشكلات التي واجهت بلدان شرق وجنوب شرق آسيا أخيرًا تكشف، من بين أمور أخرى كثيرة، كأنها وقعت جزاءً وفاقًا لنظام الحكم غير الديمقراطي. ويتجلى هذا بوضوح في مجالين يثيران الاهتمام نذكر من بينهما إهمال نوعين من الحريات الأدائية التي سبق أن ناقشناها؛ أي «الأمن الوقائي» (الذي نعرض له الآن)، و«ضمان الشفافية» (وهو مهم لتوفير الأمن وتوفير حوافز للقوى الفاعلة الاقتصادية والسياسية).
-
أولًا: إن تطوُّر الأزمة المالية في بعض هذه
الاقتصادات ارتبط ارتباطًا وثيقًا بنقص
الشفافية في قطاع الأعمال. ونذكر بخاصة
نَقْص المشارَكة العامة في مراجعة
التنظيمات المالية وتنظيمات قطاع
الأعمال. وترتَّب على هذا الإخفاق غياب
منبر ديمقراطي فعال. إن الفرصة التي
كان يمكن أن توفرها العمليات
الديمقراطية لتحدي قبضة عائلات أو
جماعات مُحدَّدة من شأنها أن تُحدِث
فارقًا كبيرًا.
وإن نظام الإصلاح المالي الذي حاول صندوق النقد الدولي فرضه على الاقتصادات القاصرة والمقصرة ارتبط إلى حد كبير بنقص الانفتاح والصراحة ووجود روابط غير أخلاقية في قطاع الأعمال، وهي سمات تميزت بها بعض قطاعات هذه الاقتصادات. وطبيعي أن هذه السِّمات ترتبط بقوة بمنظومة عدم الشفافية في التنظيمات التجارية. ونحن نعرف أن المُودِع حين يُودِع ماله في مَصرف ما إنما يُودِعه على أمل استخدام وديعته، مع أموال أخرى، بوسائل لا تنطوي على مخاطَرة غير محسوبة ويمكن الكشف عنها صراحة. ولكن هذه الثقة كان مصيرها الانتهاك في غالب الأحيان، مما كان يستلزم تغيير الأوضاع. وحَرِي بي أن أذكر أنني هنا لستُ بصدد التعليق عمَّا إذا كانت إدارة صندوق النقد الدولي للأزمات صحيحة تمامًا أم لا، ولا ما إذا كان الإصرار على إصلاحات مباشرة كان في الإمكان إرجاؤه لأسباب معقولة أم لا إلى حين استعادة هذه الاقتصادات الثقة التي فقدتها.٤١ ولكن بغض النظر عن أفضل الوسائل لإجراء هذه التعديلات، إلا أن الشيء الذي لا مراء فيه هو دَور حرية الشفافية — أو بمعنى أصح انعدام الشفافية — في تطور الأزمة الآسيوية.
إن نمط المُخاطَرة والاستثمارات الخاطئة كان يمكن أن يكون موضوعًا لدراسة فاحصة أوسع وأَهَم لو كان في وُسْع النُّقاد الديمقراطيين أن يطالبوا بذلك في إندونيسيا، أو كوريا الجنوبية على سبيل المثال. ولكن أيٌّ من هذه البلدان كان لديه نظام ديمقراطي يسمح بأن تصدر مثل هذه المطالبات من خارج الحكومة؟ وهكذا تحولت بسهولة سلطة الحكم التي لا تقبل التَّحدِّي إلى تسليم أعمى بواقِع عدم المحاسبة وعدم الشفافية. وهذا واقع عززته روابط أُسرية قوية بين الحكومة وأرباب المال. وكان للطبيعة غير الديمقراطية للحكومات دور مهم في نشوء الأزمات الاقتصادية.
- ثانيًا: ما إن أفضت الأزمة المالية إلى كساد اقتصادي عام حتى أصبح المجتمَع يفتقد بشدة القوة الوقائية للديمقراطية، وهذه لا تختلف عن السُّلطة الوقائية للديمقراطية لاتقاء المجاعات في البلدان الديمقراطية. ولكن المحرومين الجدد لم تكن لديهم الفرصة اللازمة للإدلاء بآرائهم.٤٢ وإن انخفاض إجمالي الناتج القومي، على سبيل المثال، من ١٠ في المائة قد لا يبدو انخفاضًا كبيرًا جدًّا إذا جاء في أعقاب نمو اقتصادي في الماضي بحوالي ٥ أو ١٠ في المائة في السنة وعلى مدى بضعة عقود. ولكن هذا الانخفاض يمكن أن يتسبب في بؤس وهلاك حياة الملايين إذا لم يتقاسم الجميع عبء الانكماش، وتَرَك المجتمع هذا العبء كله يُلْقى على كاهل أضعف الناس قُدرةً على تَحمُّله وهُم العاطلون، أو مَن أصبحوا اقتصاديًّا في الوضع الجديد عمالة زائدة. وغني عن البيان أن المُستضعَفين في إندونيسيا لم يَفتقدوا الديمقراطية عندما كانت الأمور تسير رُخاء، ولكن هذه الثغرة ذاتها هي التي حَجبَت أصواتهم، وأفقدتهم كل قدرة أو فعالية مع نشوب الأزمة التي يتقاسمها المجتمَع كله على قدم المساواة. إن الدور الوقائي للديمقراطية يفتقده المجتمع بقوة حين تشتد حاجته إليه.
ملاحظات ختامية
يتضمن تحدي التنمية كلًّا من القضاء على الحرمان المُزمِن المتوطِّن، والحرمان الناجم عن فقر مفاجئ قاسٍ. ولكن مُتطلَّبات كل منهما بشأن المؤسَّسات والسياسات يمكن أن تكون مُتطلَّبات مُتمايزة، بل وغير متماثلة على الإطلاق. ومن ثم فإن النجاح في مجال لا يكفل النجاح في الآخِر. مثال ذلك لو تأملنا الأداء النسبي لكل من الصين والهند على نصف القرن الأخير، نجد واضحًا أن الصين أحرزت نجاحًا أكبر من الهند من حيث ارتفاع متوسط العمر المُتوقَّع وخفض نسبة الوفيات. والحقيقة أن أداءها الأعظم يعود تاريخيًّا إلى ما قبل الإصلاحات الاقتصادية لعام ١٩٧٩م (إن إجمالي التقدم الذي حققته الصين في سبيل تعزيز متوسط العمر المتوقَّع كان في حقيقة الأمر خلال فترة ما بعد الإصلاح أبطأ مما كان قبل الإصلاح). ولكن الهند تختلف عن الصين من حيث إن الهند أكثر تنوعًا، كما تُوجَد مناطق في الهند (مثل كيرالا) ارتفع فيها متوسط العمر على نحو أسرع من نظيره في الصين. ولكن على الرغم من ذلك، فإن المقارَنة بين البلدين إجمالًا من حيث الزيادة العامة في مُتوسِّط العمر المتوقَّع إنما هي لمصلحة الصين. ومع هذا، وكما أشرنا سابقًا، فإن الصين لها سِجِلٌّ أكبر من الهند من حيث المجاعات في التاريخ. ويكفي أن نَذكُر أن ثلاثين مليون نسمة لقوا حتفهم في المجاعات التي أعقبَت فَشَل خطة «قفزة إلى الأمام» خلال الفترة ١٩٥٨–١٩٦١م. ولكن اتقاء المجاعات وغيرها من أزمات كارثية هو نظام مختلف عن نظام الزيادة الكلية في متوسط العمر المتوقَّع وغيره من الإنجازات.
وتبرز لنا قضايا مماثلة تتعلق بفهم طبيعة الأزمات الاقتصادية من مثل أزمات شرق وجنوب شرق آسيا التي وقعت أخيرًا. ولنأخذ على سبيل المثال أزمة كل من إندونيسيا وتايلاند، بل وأزمة كوريا الجنوبية السابقة عليهما. ويمكن أن نتساءل في دهشة: لماذا كان انخفاض إجمالي المنتَج القومي في سنة بنسبة ٥ أو ١٠ في المائة، كمثال، حدثًا كارثيًّا إلى أقصى حد بينما البلد المعني حقق نموًّا ما بين ٥ أو ١٠ في المائة في السنة على مدى عقود؟ حقيقة الأمر أن هذا على المستوى التراكمي ليس وصفًا كارثيًّا في جوهره. ومع هذا فإن هذا الخفض البالغ ٥ أو ١٠ في المائة إن لم يتم تقاسمه على نحو متساوٍ بين الناس، فسوف يُلقَى العبء كله على كاهل القطاع الأكثر فقرًا من السكان، ومن ثم فإن هذا القطاع لن يتبقى له سوى النَّزْر اليسير جدًّا من الدَّخل (وليس مهمًّا هنا إجمالي النمو في الماضي). والملاحَظ أن مثل هذه الأزمات الاقتصادية العامة، شأن المجاعات، إنما تستشري على أساس قاعدة أن الشيطان يفترس من هو في آخر الرَّكْب. ويوضح لنا هذا، جزئيًّا، لماذا تمثل التنظيمات بشأن «الأمن الوقائي» في صورة شبكات أمن اجتماعي حرية أداتية مهمة؟ ولماذا نَعتبر الحريات السياسية في صورة فرص للمشاركة؟ وكذلك الحقوق المدنية والحريات إنما هي في نهاية المطاف أمر حاسم ولازم حتى بالنسبة إلى الحقوق الاقتصادية والبقاء.
ولقد عُنِي هذا الفصل أساسًا بمشكلة تَفادي المَجاعات واتقاء الأزمات الكارثية. ويمثل هذا جانبًا من عملية التنمية باعتبارها حرية؛ ذلك لأنَّه يَتضمَّن تعزيز الأمن والحماية اللذين ينعم بهما المواطنون. والرابطة هنا هي في آنٍ واحد تأسيسية وأداتية. أولًا: الوقاية من المجاعات والأوبئة والحرمان القاسي والمفاجئ. يمثل كل هذا تعزيزًا لفرصة أن يعيش المرء حياة آمنة ورَضِيَّة. وحسب هذا المعنى فإن اتقاء الأزمات الكاسحة والمُدمِّرة هو من صميم الحرية التي يرى الناس عن حق أنها ذات قيمة بالنسبة إليهم. ثانيًا: إن عملية اتقاء المجاعات وغيرها من الأزمات أفادت كثيرًا باستخدامها الحريات الأداتية؛ مثل فرصة الحوار المفتوح، والمراجعة العامة من قِبَل الجمهور والسياسة المُرتَكِزة على نظام انتخابي، والإعلام الحر من دون رقيب. مثال ذلك أن سياسة المعارَضة المنفتحة في بلد ديمقراطي تتجه إلى إرغام حكومة على اتخاذ خطوات فعالة في الوقت المناسب من أجل اتقاء المجاعات. ويحدث هذا بأسلوب لا تعهده التنظيمات غير الديمقراطية حال وقوع المجاعة، سواء في الصين، أو كمبوديا، أو إثيوبيا، أو الصومال (كما كانت الحال في الماضي) أو في كوريا الشمالية، أو السودان كما يحدث الآن. إن التنمية لها جوانب كثيرة، وكل منها يستلزم تحليلًا وتدقيقًا ملائمًا ومتمايزًا.