الفصل التاسع
السكان والغذاء والحرية
العصر الراهن لا تعوزه الأحداث المروعة والمثيرة
للاشمئزاز، غير أن استمرار حالة الجوع واسعة النطاق في
عالم يَتوافر فيه قَدْر غير مسبوق من الرخاء، يُعَد من
أسوأ تلك الأحداث. المجاعات تدهم الكثير من البلدان
بقسوة، مثيرة «شراسة تفوق ضراوة الغضب عشر مرات، ورعب
كأنه الجحيم» (إذا استعرنا كلمات جون ميلتون). زد على
هذا أن الجوع الشامل المتوطن يتسبب في بؤس عظيم ترزح
تحته أنحاء كثيرة من العالم؛ يصيب بالوهن الملايين،
ويقتل أعدادًا غفيرة منهم بانتظام تثبته الإحصاءات، وإن
ما يجعل هذا الجوع المستشري أكثر من مأساة أو تراجيديا
هو طريقتنا في قبوله والتسامح معه وكأنه جزء طبيعة
العالم الحديث، وكأننا نعيش تراجيديا هي القدر ولا سبيل
لاتقائها.
وسبق أن دفعت ضد الحكم على طبيعة وشراسة مشكلات الجوع
ونقص الغذاء والمجاعات بالتركيز فقط على المنتج من
الغذاء. ولكن يجب أن يكون المنتَج من الغذاء عاملًا
واحدًا فقط من بين المتغيرات التي يمكنها، من بين أمور
أخرى، أن تؤثر في مدى انتشار الجوع. وأكثر من هذا أن
السِّعر الذي يمكن أن يشتري به المستهلكون الغذاء سوف
يُؤثِّر فيه حجم المُنتَج من الغذاء. علاوة على هذا
فإننا حين نفكر في مشكلات الغذاء على مستوى الكوكب
(وليس على المستوى المحلي القومي) لا نجد، كما هو واضح،
أي فرصة للحصول على الغذاء عن طريق خارج «الاقتصاد».
ولهذه الأسباب يشيع الخوف من أن نصيب الفرد من إنتاج
الغذاء آخِذ في التناقص في العالم، وهو خوف لا يمكن أن
نرفضه دون تفكير أو تدبير.
هل هناك أزمة غذاء عالمي؟
ولكن هل لهذا الخوف ما يبرره؟ هل المنتج الغذائي
العالمي يتناقص قياسًا إلى تعداد السكان في العالم،
وكأننا نرى «سباقًا» بين الاثنين؟ إن الخوف من أن
هذا بالتحديد هو ما يحدث، أو وشيك الوقوع، بدا
راسخًا على الرغم من عدم توافُر دليل قوي نسبيًّا
يؤكده. ونذكر على سبيل المثال أن مالتوس تَوقَّع
قبل قرنين أن إنتاج الغذاء يخسر السباق، وأن كوارث
مروعة ستحدث جراء اختلال التوازن في «التناسب بين
الغذاء والزيادة الطبيعية للسكان». وكان مقتنعًا
تمامًا في عالمه، عالم أواخر القرن الثامن عشر، أن
«الفترة التي يتجاوز فيها عدد الناس قدرة وسائلهم
لتوفير مقومات الرزق حلت بنا من زمان».
١ ولكن العالم زاد قرابة ستة أمثال ما
كان عليه منذ أن نشر مالتوس كتابه الأول الشهير
«مقال عن السكان» عام ١٧٩٨م، ومع هذا فإن نصيب
الفرد من إنتاج واستهلاك الغذاء أعلى كثيرًا عمَّا
كان عليه أيام مالتوس. وحدث هذا مقترنًا بزيادة غير
مسبوقة بوجه عام في مستويات المعيشة.
بيد أن خطأ مالتوس الشديد في تشخيصه للزيادة
السكانية المفترضة في عصره، وتكهنه بشأن النتائج
المروعة المترتبة على النمو السكاني لا يعني أن
جميع المخاوف المتعلقة بموضوع الزيادة السكانية لا
بد أنها، وفي جميع الأزمان، خاطئة. ولكن ماذا عن
الحاضر؟ هل إنتاج الغذاء في سبيله حقيقة لأن يخسر
السباق مع النمو السكاني؟ يعرض الجدول
٩-١ مؤشرات عن نصيب الفرد من الإنتاج
الغذائي (على أساس إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة
التابعة للأمم المتحدة) للعالم إجمالًا ولبعض
المناطق الرئيسية على أساس متوسطات ثلاث سنوات
(تفاديًا للوقوع في الخطأ نتيجة التقلبات السنوية).
ويمثل متوسط الأعوام ١٩٧٩–١٩٨١م سنة الأساس (١٠٠).
وتمتد قيم المؤشر حتى عامي ١٩٩٦-١٩٩٧م (وإضافة
أرقام عام ١٩٩٨م لا تُغيِّر شيئًا من الصورة
الأساسية). والملاحَظ أن الأمر ليس قاصرًا على عدم
وجود انخفاض حقيقي في نصيب الفرد من منتَج الغذاء
في العالم (وإنما العكس تمامًا)، بل إن أكبر
الزيادات في نصيب الفرد موجودة في أكثر المناطق
كثافة سكانية في العالَم الثالث (خاصة الصين والهند
وبقية آسيا).
جدول ٩-١: مؤشرات نصيب الفرد من إنتاج الغذاء حسب الأقاليم
*
الأقاليم |
١٩٧٤ / ١٩٧٦م |
١٩٧٩ / ١٩٨١م |
١٩٨٤ / ١٩٨٦م |
١٩٩٤ / ١٩٩٦م |
١٩٩٦ / ١٩٩٧م |
العالم |
٩٧٫٤ |
١٠٠٫٠ |
١٠٤٫٤ |
١٠٨٫٤ |
١١١٫٠ |
أفريقيا |
١٠٤٫٩ |
١٠٠٫٠ |
٩٥٫٤ |
٩٨٫٤ |
٩٦٫٠ |
آسيا |
٩٤٫٧ |
١٠٠٫٠ |
١١١٫٦ |
١٣٨٫٧ |
١٤٤٫٣ |
الهند |
٩٦٫٥ |
١٠٠٫٠ |
١١٠٫٧ |
١٢٨٫٧ |
١٣٠٫٥ |
الصين |
٩٠٫١ |
١٠٠٫٠ |
١٢٠٫٧ |
١٧٧٫٧ |
١٩٢٫٣ |
أوروبا |
٩٤٫٧ |
١٠٠٫٠ |
١٠٧٫٢ |
١٠٢٫٣ |
١٠٥٫٠ |
شمال ووسط أمريكا |
٩٠٫١ |
١٠٠٫٠ |
٩٩٫١ |
٩٩٫٤ |
١٠٠٫٠ |
الولايات المتحدة |
٨٩٫٨ |
١٠٠٫٠ |
٩٩٫٣ |
١٠٢٫٥ |
١٠٣٫٩ |
أمريكا الجنوبية |
٩٤٫٠ |
١٠٠٫٠ |
١٠٢٫٨ |
١١٤٫٠ |
١١٧٫٢ |
*
ملاحظة: متوسط الأعوام ١٩٧٩–١٩٨١م هو
الأساس، ومتوسطات الأعوام الثلاثة من كل
١٩٨٤–١٩٨٦م، ١٩٩٤–١٩٩٦م، ١٩٩٦-١٩٩٧م مصدرها
الأمم المتحدة (١٩٩٥–١٩٩٨م) جدول ٤.
المصادر: الأمم المتحدة، منظمة الغذاء
والزراعة، «النشرة الإحصائية ربع السنوية»،
١٩٩٥م و١٩٩٨م؛ ومنظمة الغذاء والزراعة،
النشرة الشهرية للإحصاءات، أغسطس
١٩٨٤م.
غير أن منتَج أفريقيا من الغذاء انخفض (وسبق أن
عقَّبتُ على هذا) كما أن تَفشِّي الفقر في أفريقيا
يضعها في موقف ضعيف جدًّا. ولكن مشكلات أفريقيا
جنوب الصحراء، التي ناقشناها سابقًا، تُعبِّر بشكل
أساسي عن أزمة اقتصادية عامة (وهي في الحقيقة أزمة
تشتمل على عناصر قوية اجتماعية وسياسية واقتصادية).
وليست تحديدًا أزمة إنتاج غذائي. وتدخل قصة إنتاج
الغذاء ضمن أزمة أكبر يتعين تناولها في إطار
أوسع.
واضح أنه لا توجد أزمة كبرى في إنتاج الغذاء
العالمي في وقتنا الراهن. وطبيعي أن مُعدَّل التوسع
في إنتاج الغذاء يَتغيَّر ويتفاوت مع الزمن (وفي
بعض سنوات الشدة حين يسوء المناخ يحدث نقص في
الغذاء مما يهيئ لدعاة الذُّعر فرصة سانحة لمدة عام
أو عامين) ولكن الاتجاه العام اتجاه صاعد.
الحوافز الاقتصادية وإنتاج الغذاء
ومن المهم أيضًا الإشارة إلى أن تلك الزيادة في
إنتاج الغذاء العالمي حدثت على الرغم من الاتجاه
الحاد في هبوط الأسعار العالمية للغذاء من حيث
القيمة الحقيقية كما يوضح الجدول
٩-٢. ويشمل الجدول فترة تزيد على خمس
وأربعين سنة من ١٩٥٠–١٩٥٢م إلى ١٩٩٥–١٩٩٧م. واقتضى
هذا هبوطًا في الحوافز الاقتصادية لإنتاج المزيد من
الغذاء في مناطق كثيرة لإنتاج الغذاء التجاري في
العالم، بما في ذلك أمريكا الشمالية.
وطبيعي أن أسعار الغذاء تتقلب على المدى القصير،
وغالبًا ما صدرت بيانات مذعورة كرد فعل للزيادة في
منتصف تسعينيات القرن العشرين. ولكن هذه كانت زيادة
طفيفة مقارنة بانخفاض كبير تتابع منذ ١٩٧٠م (انظر
الشكل
٩-١). حقًّا هناك اتجاه
طويل المدى للهبوط، ولا شيء حتى الآن يشير إلى أن
اتجاه الانخفاض طويل المدى للأسعار النسبية للغذاء
قد أخذ مَنحًى عكسيًّا. والملاحظ في العام الماضي،
خلال ١٩٩٩م، أن الأسعار العالمية للقمح وللحبوب
انخفضت ثانية بنسبة ٢٠ بالمائة و١٤بالمائة بالنسبة
إلى كل منهما.
٢
جدول ٩-٢: أسعار الغذاء بسعر ١٩٩٠م للدولار الأمريكي
في الأعوام من ١٩٥٠–١٩٥٢م إلى ١٩٩٥–١٩٩٧م
*
الغذاء |
١٩٥٠–١٩٥٢م |
١٩٩٥–١٩٩٧م |
٪ تغير |
القمح |
٤٢٧٫٦ |
١٥٩٫٣ |
٦٢٫٧− |
الأرز |
٧٩٨٫٧ |
٢٨٢٫٣ |
٦٤٫٢− |
الذُّرَة الرفيعة |
٣٢٨٫٧ |
١١٠٫٩ |
٦٦٫٢− |
الذُّرَة |
٣٧٢٫٠ |
١١٩٫١ |
٦٨٫٠− |
*
ملاحظة: الوحدات مثبتة على أساس سعر
الدولار الأمريكي عام ١٩٩٠م للطن المتري،
مع التعديل حسب مؤشر قيمة وحدة التصنيع
G5(MUV).
(المصدر: البنك الدولي، أسواق السلع
والبلدان النامية نوفمبر، ١٩٨٨م، جدول أ ١
(واشنطن العاصمة)؛ البنك الدولي، توقعات
الأسعار للسلع الأولية الرئيسية، مجلد ٢،
الجداول أ ٥، أ ١٠، أ ١٥، (واشنطن العاصمة
١٩٩٣م).)
ونحن لا نستطيع، في سياق تحليل اقتصادي للوضع
الراهن، أن نغفل الأثر السلبي لانخفاض الأسعار
العالمية للغذاء على إنتاج الغذاء. والمثير حقًّا
أن المنتَج العالمي من الغذاء استمر على الرغم من
هذا في الزيادة متقدمًا على النمو السكاني.
والحقيقة أنه تم إنتاج غذاء أكثر (دون علاج نقص
الدخل الذي يعاني منه الجوعى في العالم)؛ ولهذا فإن
بيع الغذاء سيمثل مشكلة أكبر مما ينعكس في انخفاض
أسعار الغذاء. ولا غرابة في أن أضخم زيادة إنما
مصدرها المناطق التي فيها أسواق الغذاء المحلية
منعزلة نسبيًّا (مثل الصين والهند) عن الأسواق
العالمية وعن الاتجاه الهابط للأسعار العالمية
للغذاء.
ومن المهم أن ننظر إلى إنتاج الغذاء باعتباره
نتيجة للفعالية البشرية، وأن تفهم الحوافز المؤثرة
في قرارات وأفعال الناس. إن الإنتاج التجاري
للغذاء، شأن الأنشطة الاقتصادية الأخرى، يتأثر
بالأسواق وبالأسعار. والمُلاحَظ في وقتنا هذا أن
نقص الطلب وهبوط أسعار الغذاء أدَّيَا إلى كَبْح
إنتاج العالم للغذاء، ويعكس هذا بدوره فَقْر بعض
مَن هم في حاجة ماسَّة إليه. ولكن الدراسات
التقانية عن فرص إنتاج مزيد من الغذاء (إذا …
وحالمَا يزداد الطلب) تكشف عن إمكان توافُر فرص
مهمة وموضوعية جدًّا تحقق زيادة في إنتاج الغذاء
للفرد بوتيرة أسرع كثيرًا من نصيب الفرد. ولقد
استمرت في الحقيقة زيادة غلة الهكتار في كل مناطق
العالم، كما زاد متوسط المنتَج في العالم ككل
بحوالي ٤٢٫٦ كيلوجرامًا لكل هكتار في السنة خلال
الأعوام ١٩٨١–١٩٩٣م.
٣ والملاحظ على أساس الإنتاج العالمي
للغذاء أن ٩٤ بالمائة من الزيادة في إنتاج الحبوب
فيما بين عامي ١٩٧٠م و١٩٩٠م إنما تعكس زيادة في
غَلَّة الوحدة من الأرض، وأن ٦ بالمائة فقط ترجع
إلى زيادة المساحة.
٤ ولنا أن نتوقع مع زيادة الطلب على
الغذاء أن تستمر عملية تكثيف الزراعة، خاصة أن
الفوارق من حيث غلة كل هكتار لا تزال كبيرة جدًّا
بين المناطق المختلفة من العالم.
بعيدًا عن نصيب الفرد من المنتَج
الغذائي
كل هذا لا ينفي الحاجة إلى الحدِّ من الزيادة
السكانية. حقًّا إن التحدي البيئي ليس مُجرَّد
تَحدِّي الإنتاج الغذائي؛ إذ ثَمَّة قضايا أخرى
كثيرة مُتعلِّقة بالنمو والاكتظاظ السكاني. ولكن
هذا يشير إلى ضعف مبررات التشاؤم الشديد والظن بأن
المنتج الغذائي سيبدأ عاجلًا في التناقص ليتخلف عن
النمو السكاني. إن الميل إلى التركيز على إنتاج
الغذاء فقط، مُغفِلين استحقاقات الغذاء، يمكن أن
يكون مُعوِّقًا للغاية. ويمكن لصناع السياسة أن
يخطئهم التوفيق إذا انعزلوا عن الحالة الحقيقية
للجوع — بل وخطر المجاعات — بسبب أوضاع مواتية
للمنتج الغذائي.
مثال ذلك ما حدث في مجاعة البنغال عام ١٩٤٣م؛ إذ
وقع المديرون تحت تأثير حقيقة أن المنتَج الغذائي
لا يواجه نقصًا كبيرًا (وهو صحيح)؛ ولهذا أخفقوا في
التنبؤ، بل وظلوا لبضعة شهور يرفضون الاعتراف
بالمجاعة المحتمَلة إلى أن دهمت البنغال كلها عاصفة عاتية.
٥ وهكذا مثلما حدث بالنسبة إلى «نزعة
التشاؤم المالتوسية»، إذ أخطأه التوفيق كمتنبئ
بالوضع الغذائي في العالم، كذلك الحال بالنسبة إلى
ما يمكن أن تسميه «نزعة التفاؤل المالتوسية» التي
يمكن أن تفتك بالملايين حين يقع المسئولون أسرى
منظور خاطئ عن نصيب الفرد من المنتَج الغذائي،
ويغفلون البوادر الأولى المنذرة بكارثة ومجاعة. إن
نظرية نسيء فهمها يمكن أن تقتل، وها هو المنظور
المالتوسي عن نسبة الغذاء إلى السكان مخضب بدماء
كثيرة.
النمو السكاني والدفاع من أسلوب القسر
إذا كانت مخاوف مالتوس بعيدة المدى بشأن المنتج
الغذائي لا أساس لها أو سابقة لأوانها، إلا أن هناك
مبررات جيدة للقلق بشأن معدل نمو السكان في العالم
بعامة، وثمة شك ضئيل في أن معدل نمو السكان في
العالم قد تسارع على مدى القرن الماضي بنسبة كبيرة.
ونعرف أن سكان العالم عاشوا ملايين السنين حتى بلغ
تعدادهم البليون نسمة، ثم بعد ١٢٣ سنة أكملوا
البليون الثاني. ومضت بعد ذلك ٣٢ سنة ليكتمل
البليون الثالث. و١٤ سنة لاكتمال الرابع، ثم ١٣ سنة
ليكمل سكان العالم البليون الخامس، مع وعد باكتمال
البليون السادس مع نهاية ١١ سنة (حسب توقعات الأمم المتحدة).
٦ ولقد زاد عدد سكان الكرة الأرضية حوالي
٩٢٣ مليون نسمة (١٩٨٠–١٩٩٠م فقط)، وهذه زيادة تكاد
تعادل حجم إجمالي السكان في العالم كله زمن
مالتوس.
وإذا استمر الوضع على هذه الحال، فإن العالم
يقينًا سوف يكتظ بسكانه على نحو مهول قبل نهاية
القرن ٢١. ومع هذا فهناك مؤشرات كثيرة واضحة تفيد
بأن معدل نمو السكان في العالم بادئ في الانخفاض،
ولكن السؤال هو: هل ستقوى الأسباب الكامنة وراء هذا
الانخفاض؟ وإذا كان كذلك، فبأي معدل؟ وليس دون هذا
أهمية أن نسأل عمَّا إذا كان هناك ما يتعين أن
نعمله عن طريق السياسة العامة لمساعدة عملية
الإبطاء.
هذا موضوع اختلفت وانقسمت الآراء بشأنه بشدة.
ولكن توجد مدرسة فكرية تؤيد، وإن ضمنًا، اتباع حل
قسري لحسم هذه المشكلة، وظهرت أخيرًا حركات عملية
عدة في هذا الاتجاه: أشهرها الصين ومجموعة سياساتها
التي طبقتها منذ عام ١٩٧٩م. وتثير مسألة الإجبار أو
القسر ثلاثة أسئلة مختلفة:
- (١)
هل الإجبار مقبول أصلًا في هذا
المجال؟
- (٢)
في حالة غياب أسلوب القسر، هل سيكون
النمو السكاني سريعًا على نحو غير
مقبول؟
- (٣)
هل من المحتمل أن تكون سياسة القسر فعالة
وتُحقِّق نتائجها المرجوة دون آثار جانبية
ضارة؟
القسر وحقوق التناسل
إمكان قبول سياسة القسر، فيما يتعلق بموضوع
القرارات الأسرية، يثير أسئلة عميقة للغاية. ويمكن
أن تصدر معارضة هذه السياسة من جانب كل من يعطون
الأولوية للأسرة؛ كي تقرر هي عدد من تنجبهم من
أطفال (إذ إن هذا قرار أُسري في جوهره حسب هذه
النظرة) وكذا من يدفعون بأن هذا أمر موكول حَسْمُه
أساسًا للأم المحتملة مستقبلًا (خاصة حين يَتعلَّق
الموضوع بالإجهاض أو بغيره من أمور ترتبط مباشرة
بجسد المرأة). ولا ريب في أن الوضع الأخير نراه
صراحة في سياق تأكيد حق الإجهاض (وتطبيق أسلوب
تنظيم النسل بعامة). ولكن هناك رأيًا مقابلًا يرى
أن نترك الأمر للمرأة لكي تقرر أنها لا تريد
الإجهاض إذا كانت هذه هي رغبتها (مهما كانت
حالتها). وها هنا نكون إزاء شيء موضوعي يقاوم مكانة
وأهمية حقوق التناسل.
٧
ويسود الحوارات السياسية المعاصرة في كل أنحاء
العالم خِطاب الحقوق. ولكن هذه الحوارات تنطوي على
غموض بشأن معنى «الحقوق»، خاصَّة إذا ما كانت
الإشارة هنا إلى حقوق أَقرَّتها مؤسَّسات ومن ثم
لها قوة القانون، أم أن الأمر موكول إلى القوة
الإرشادية لحقوق مِعيارية يمكن أن تسبق عملية
التمكين الشرعي. إن التمييز بين المعنيين ليس واضح
المعالم تمامًا. ولكن ثمة قضية واضحة تتعلق بما إذا
كانت الحقوق ذات أهمية معيارية أصيلة، وليست
مُجرَّد علاقة أداتية وثيقة داخل سياق
تشريعي.
وجدير بالذِّكْر أن القول بأن الحقوق ذات قيمة
أصيلة في ذاتها، وربما سابقة على التشريع؛ قول
أنكره كثيرون من فلاسفة السياسة، خاصة النفعيين. إن
جيرمي بنتام بالتحديد من أبرز من وصفوا فكرة الحقوق
الطبيعية بأنها هراء. ووصف مفهوم «الحقوق الطبيعية
الأصيلة التي يمكن انتزاعها بالقانون». بأنه «هراء
يقف على عكازين». لقد اعتاد بنتام أن يرى الحقوق
جملة باعتبارها أدوات، وعُنِي بأدوارها المؤسساتية
لبلوغ أهداف محددة (من بينها تعزيز المنفعة
المتراكمة).
ويمكن لنا أن نلحظ تباينًا حادًّا بين نهجين في
التعامل مع الحقوق، إذا كان لنا أن ننظر إلى الحقوق
بعامة، بما في ذلك حقوق التناسل، في ضوء فلسفة
بنتام فإن بحث ما إذا كان القسر سيكون أو لن يكون
مقبولًا في هذا المجال سوف يتعارض تمامًا مع
النتائج المترتبة عليه خاصة نتائج المنفعة. ويتم
هذا دون إلحاق أي أهمية مهما كانت لإنجاز أو انتهاك
الحقوق المفترضة ذاتها. ولكن في مقابل هذا فإننا
إذا نظرنا إلى الحقوق لا باعتبارها مهمة فقط بل وأن
لها أيضًا أولوية على أي حساب للنتائج، إذن يتعين
قبول الحقوق دون أي شروط. وهذا هو ما تُقرِّره
بالعقل نظرية التحرير بالنسبة للحقوق المُحدَّدة
بوضوح والتي نراها ملائمة بغض النظر عن النتائج
المترتبة عليها. ومن ثم تعتبر هذه الحقوق عناصر
ملائمة وصحيحة من التنظيمات الاجتماعية بغضِّ النظر
عن نتائجها.
وسبق لي في موضع آخر أن دفَعتُ ضد القول بضرورة
اختيار أحد النهجين دون الآخر في هذا التقسيم
الثنائي. وعرضتُ حججًا لمنظومة مترابطة منطقًا
تُجسد إنجاز الحقوق بين أهداف أخرى.
٨ وتشترك هذه المنظومة مع مذهب المنفعة
في نهج منطقي التسلسل (ولكنه يختلف عنه في أنه لا
يحصر انتباهنا في إطار نتائج المنفعة وحدها).
وتشترك مع المذهب التحرري في إعطاء أهمية أصلية
للحقوق (ولكن تختلف عنه من حيث إنها لا توليها
أهمية كاملة بغض النظر عن نتائج أخرى). وإن مثل هذه
المنظومة «منظومة الحقوق الهادفة» لها خصائص تستهوي
الفكر مثلما يتميز بالمرونة، وتوفر غاية في
المتناول وهو ما حاولت مناقشته في موضع آخر.
٩
لن أعيد هنا الحجج المُؤيِّدة لنهج الحقوق
الهادفة (وإن كنت سأنتهز الفرصة لأقول كلمات قليلة
عن هذا النهج في الفصل التالي). ولكن من العسير أن
نعتقد عند مقارنته بمذهب المنفعة، أنه كافٍ لتفسير
مساندتنا للحقوق على اختلاف أنواعها (بما في ذلك
حقوق الخصوصية والاستقلال الذاتي والحرية) وأن يكون
التفسير قاصرًا في ضوء النتائج النافعة دون سواها.
إن حقوق الأقليات غالبًا ما يَتعيَّن الحفاظ عليها
ضد تَطفُّل اضطهاد الأغلبية وما تجنيه من مكاسب
كثيرة نافعة. ونذكر ما قاله جون ستيوارت مل وهو من
أبرز النفعيين: يحدث أحيانًا ألَّا يكون هناك تكافؤ
بين المنفعة وليدة الأنشطة المختلفة من مثل (كما
قال مل) «شعور شخص إزاء رأيه الخاص، وشعور آخَر
بغضب من هذا الرأي.»
١٠ وينطبق في هذا السياق افتقاد التكافؤ
على الأهمية التي يوليها الوالدان لقرار بشأن تحديد
عدد الأطفال، ومقارنة تلك الأهمية التي يوليها
آخرون، ومن بينهم المسئولون عن إدارة دفَّة الحكم
إزاء الموضوع نفسه. ويمكن القول عمومًا إن مسألة
النظر إلى الأهمية الأصيلة للاستقلال الذاتي
والحرية ليست من السهل التخلص منها، ويمكن أن
تتضارب بسهولة مع المبالغة القصوى في نتائج المنفعة
(دون اعتبار لعملية توليد المنافع).
١١
وهكذا، ليس مستساغًا حصر التحليل المترابط
للنتائج في إطار المنافع فقط وبخاصة استبعاد إنجاز
أو انتهاك الحقوق ذات الصلة بالحريات والاستقلال
الذاتي. ولكن ليس معقولًا أيضًا افتراض حصانة هذه
الحقوق، كما هي الحال في الصياغة التحريرية، إزاء
النتائج المترتبة عليها — مهما كانت هذه النتائج
مروعة — والملاحظ في إطار حقوق التناسل أن الدفع
بأهميتها لا يستلزم القول بأهميتها الشاملة الطاغية
ممَّا يوجب حمايتها تمامًا حتى وإن أفضت إلى كوارث
أو بؤس شامل وجوع عام. عمومًا، فإن النتائج
المترتبة على التمتع بحق وممارسته يجب أن يكون لها
في نهاية المطاف أثرها في إمكان القبول العام
والشامل لهذا الحق.
وسبق أن ناقشنا آثار النمو السكاني على مشكلة
الغذاء والجوع، وتبين أن لا أساس واقعيًّا للانزعاج
الشديد هنا والآن؛ ولكن إذا اطَّردَت عملية
الانفجار السكاني فإن العالم سيصبح على الأرجح في
وضع أكثر صعوبة من حيث الغذاء. وهناك علاوة على هذا
مشكلات أخرى مرتبطة بالنمو السكاني، من بينها
اكتظاظ المدن بالسكان وكذلك التحديات البيئية على
المستويين المحلي والكوكبي.
١٢ ومن الأهمية بمكان أن ندرس الآفاق
المحتملة لخفض النمو السكاني وأن نستشرفها الآن.
وينقلنا هذا إلى السؤال الثاني من الأسئلة
الثلاثة.
التحليل المالتوسي
يُعتَبر مالتوس صاحب الفضل الحقيقي في أنه قدَّم
التحليل الرائد عن احتمال تزايد السكان كثيرًا
جدًّا. واحتمال أن تؤدي هذه الزيادة المُطَّرِدة في
السكان إلى «نقص مُطَّرد للسعادة». ولكن للحقيقة
فإن هذا الرأي أشيع قبل مالتوس من قبل كوندورسيه
عالم الرياضيات الفرنسي ومفكر عصر التنوير الذي كان
أول من عرض لب السيناريو الذي يشكل أساسًا لتحليل
مالتوس لمشكلة السكان؛ إذ قال: «إنه مع زيادة أعداد
الناس بحيث يتجاوز عددهم وسائل إعاشتهم، سوف يترتب
على هذا، إما نقص مطرد في السعادة وفي الناس، وهي
حركة انتكاسية، أو أن يحدث على الأقل نوع من
التذبذب ما بين الخير والشر».
١٣
أحب مالتوس تحليل كوندورسيه واستلهمه واقتبسه مع
الموافَقة عليه كثيرًا في مقاله الشهير عن السكان.
واختلف رأي الاثنين فيما يتعلق بنظرة كل منهما إلى
سلوك الخصوبة. تنبأ كوندورسيه بحدوث انخفاض طوعي في
معدلات الخصوبة، كما تنبأ بظهور معايير جديدة خاصة
بأُسر ذات حجم صغير تأسيسًا على «تقدم العقل».
وتوقع أن يحين زمن «سيعرف فيه الناس أنه إذا كان
عليهم واجب إزاء من لم يولدوا بعد، فإن هذا الواجب
ليس أن يَهبوهم وجودًا في الحياة بل سعادة». إن هذا
النمط في التفكير العقلي مدعومًا بالتوسع في
التعليم خاصة تعليم الإناث (إذ كان كوندورسيه من
أول وأهم الدعاة لهذا) سوف يقود الناس، حسب تفكير
كوندورسيه، إلى خفض معدلات الخصوبة وتكوين أسر
صغيرة. وإن الناس سيختارون ذلك طوعًا بدلًا من أن
يزحموا العالم عن حمق بكائنات بائسة لا نفع منها.
١٤ وبعد أن حدد كوندورسيه المشكلة أشار
إلى حلها المرجح.
ظن مالتوس أن هذا كله غير مُرجح الحل. ورأى بعامة
أن ثمة فرصة محدودة لحل المشكلات الاجتماعية عن
طريق قرارات عقلانية من قبل الناس أصحاب الشأن.
وكان مالتوس مقنعًا فيما يتعلق بالنتائج
المُترتِّبة على النمو السكاني، بحتمية تجاوُز عدد
السكان المعروض من الغذاء. وهنا وحسب هذا السياق
اعتبر أن حدود إنتاج الغذاء غير مرنة نسبيًّا. وبدا
مالتوس مرتابًا، خاصة فيما يتعلق بتنظيم الأسرة؛ إذ
بينما يشير إلى «القيد الأخلاقي» لأسلوب بديل لخفض
الضغط السكاني (أو بديل عن البؤس وارتفاع نسبة
الوفيات) رأَى أن الأمل ضئيل في أن يجري تنفيذ هذا
القيد اختياريًّا.
ولكن الملاحَظ أن آراء مالتوس بشأن ما هو حتمي
تَغيَّرت مع السنين، وبدا أقل يقينًا بشأن تكهناته
الباكرة مع تقدُّم السنين. ونجد ميلًا لدى مؤسَّسة
مالتوس الدراسية الحديثة إلى تأكيد عناصر «التحول»
في موقفه. وثمة في الحقيقة أساس للتمييز بين مالتوس
في باكر عهده، ومالتوس المتقدم في العمر. ولكن عدم
ثقته في سلطة العقل مقابل قوة القهر الاقتصادي في
دفع الناس طوعًا إلى اختيار تأسيس أمر صغيرة ظل دون
تعديل إلى حدٍّ كبير. ونقرأ في أحد كتبه الأخيرة
الصادر عام ١٨٣٠م — وقد توفي عام ١٨٣٤م — إصراره
على النتيجة التي انتهى إليها وهي:
«ليس من مبرر على الإطلاق لافتراض أن ثمة أي
شيء آخر، غير تَعذُّر تدبير ضرورات الحياة
الكامنة، هو الذي سينفر تلك الأعداد الغفيرة من
الناس من الزواج المبكر أو يجعلهم عاجزين عن
رعاية أسر ضخمة في صحة جيدة».
١٥
إنه بسبب فقدان الثقة هذه في النهج الإرادي حدد
مالتوس الحاجة إلى خفض قسري في معدلات نمو السكان،
وظن أن هذا لن يتحقق إلا إذا أكرَهَت الطبيعة الناس
على ذلك. إن انخفاض مستويات المعيشة الناجم عن
النمو السكاني لن يؤدي فقط إلى زيادة الوفيات زيادة
جذرية (وهو ما أسماه مالتوس «الكبح الإيجابي»)، بل
سيُجبِر الناس أيضًا من خلال الفقر الاقتصادي
المُدقِع إلى تكوين أُسَر أصغر حجمًا. والحلقة
الأساسية في هذه الحجة هي اقتناع مالتوس — وهذه هي
النقطة المهمة — بأن مُعدَّل النمو السكاني لا يمكن
خفْضُه خفضًا حقيقيًّا ومؤثرًا «بأي شيء غير
تَعذُّر توفير ضرورات الحياة بقدر كافٍ».
١٦ إن معارَضة مالتوس لقوانين الفقراء
ومُسانَدة المعوزين وثيقة الصلة بإيمانه بتلك
الرابطة بين الفقر والنمو السكاني المنخفض.
والمُلاحَظ أن تاريخ العالم — منذ جدل مالتوس —
كوندورسيه — لم يأتِ متطابقًا مع وجهة نظر مالتوس؛
ذلك أن معدلات الخصوبة انخفَضَت انخفاضًا كبيرًا
بفضل التطور الاجتماعي والاقتصادي. حدث هذا في
أوروبا وفي أمريكا الشمالية، ويحدث الآن على نطاق
كبير في آسيا، كما يَحدُث بدرجة كبيرة في أمريكا
اللاتينية. وظَلَّت معدلات الخصوبة هي الأعلى،
وثابتة نسبيًّا في أقل البلاد نموًّا، خاصة في
أفريقيا جنوب الصحراء، وهذه هي البلدان التي لم
تُحقِّق بَعدُ قدرًا كبيرًا من التطور الاقتصادي أو
الاجتماعي. وهذه أيضًا هي البلدان التي استمرت
فقيرة ومُتخلِّفة من حيث مستوى التعليم الأساسي،
والرعاية الصحية، ومتوسِّط العمر المتوقَّع.
١٧
ويمكن تفسير الانخفاض العام في معدلات الخصوبة
بأساليب مغايرة، والملاحَظ أن الرابطة الإيجابية
بين التنمية وخفض الخصوبة غالبًا ما نجتزئها في
شعار أخرس غير ذي دلالة «التنمية خير أداة لمنع
الحمل». وعلى الرغم من أن هذا الفكر الكليل ينطوي
على قدر من الصدق، إلا أن هناك عناصر مختلفة تتكون
منها التنمية. وهذه هي العناصر التي عايشها الغرب
ومن بينها زيادة دخل الفرد، والتوسع في التعليم،
ومزيد من استقلالية المرأة، وخفض معدلات الوفيات
وانتشار فرص تنظيم الأسرة (وهي عناصر مما نسميه
التنمية أو التطور الاجتماعي). ومن ثم نحن بحاجة
إلى تحليل تمييزي.
تطوير اقتصادي أم اجتماعي؟
نظريات عديدة تحدثنا عن سبب انخفاض الخصوبة. أذكر
من بين أهم الأمثلة نموذج جاري بيكر عن تحديد
الخصوبة. وعلى الرغم من أن بيكر عرض نظريته
باعتبارها «امتدادًا» لتحليل مالتوس، وأن تحليله
يشارك تحليل مالتوس في كثير من القسمات (بما في ذلك
تراث النظر إلى الأسرة باعتبارها وحدة اتخاذ قرار
واحدة بدون أي تقسيمات داخلها) فإن بيكر نفى
النتيجة التي انتهى إليها مالتوس والتي تقول إن
الرخاء يزيد النمو السكاني لا يُخفضه. ولكن تحليل
بيكر يفيد بأن نتائج التطوير الاقتصادي وآثاره على
الاستثمار لتحسين «نوعية» الأطفال (مثل الاستثمار
في التعليم) لها دور مهم في هذا الشأن.
١٨
ونجد في مقابل نهج بيكر، النظريات الاجتماعية عن
انخفاض الخصوبة والتي تبرز تغيرات في مجال
الأفضليات كنتيجة للتطوير الاجتماعي من التوسع في
التعليم بعامة وتعليم الأنثى بخاصة.
١٩ وهذه هي إحدى العلاقات التي أكدها
كوندورسيه. ولكن علينا أن نمايز بين: (١) تغيرات في
عدد الأطفال الذين ترغب فيهم الأسرة على الرغم من
عدم تغير الأفضليات بسبب أثر تكاليف ومنافع
التغيير. (٢) التحولات في هذه الأفضليات نتيجة
التغير الاجتماعي من مثل تعديل المعايير الاجتماعية
المقبولة، وزيادة الاهتمام بالمرأة ضمن جماع أهداف
الأسرة. وأكد كوندورسيه على الثانية بينما أكد بيكر
على الأولى.
وهناك أيضًا قضية بسيطة تتعلق بتوافر إمكانات ضبط
النسل ونشر المعارف والتقانة ذات الصلة في هذا
المجال. وعلى الرغم مما أحاط بهذا الموضوع من شكوك
في السابق فقد أصبح واضحًا الآن أن المعارف والقدرة
على توفير الإمكانات عمليًّا تحدث فارقًا مهمًّا في
سلوك الأسرة نحو الخصوبة في البلدان التي ترتفع
فيها معدلات المواليد وتندر فيها إمكانات تنظيم الأسرة.
٢٠ مثال ذلك أن الانخفاض الحادَّ الذي طرأ
على الخصوبة في بنجلاديش ربطه الباحثون بحركة تنظيم
الأسرة وبخاصة توافُر المعارف والمرافق المعينة.
وجدير بالذِّكْر أن بنجلاديش استطاعت أن تخفض معدل
الخصوبة فيها من ٦٫١ إلى ٣٫٤ خلال عقد ونصف (ما بين
١٩٨٠م و١٩٩٦م).
٢١ ويؤكد هذا الإنجاز زيف الاعتقاد بأن
الناس في البلدان الأقل نموًّا لن تقبل طواعية
تنظيم الأسرة. ومع هذا لا يزال أمام بنجلاديش طريق
طويل، وأن عليها أن تمضي في هذا الطريق (مع استمرار
انخفاض معدل الخصوبة سريعًا) بغية الاقتراب من
المستوى البديل (الذي يصل بإجمالي معدلات الخصوبة
إلى حوالي ٢٫٠ أو ٢٫١). ولكن إلى حين يتحقق هذا لا
يزال ثمة شيء إضافي أكثر من مجرد توفير إمكانات ضبط
النسل سنكون بحاجة إلى استكماله.
تمكين المرأة الشابة
نهج تحليلي واحد برز بقوة كبيرة خلال السنوات
الأخيرة يرى في تمكين المرأة دورًا محوريًّا فيما
يتعلق بقرارات الأسرة وفي نشوء معايير اجتماعية
جديدة. ولكن، ما دامت هذه المتغيرات المختلفة، كما
تفيد البيانات التاريخية ذات الصلة، نتجه إلى
التحرك معًا، فإنه ليس يسيرًا فَصْل نتائج النمو
الاقتصادي عن نتائج التغيرات الاجتماعية (تأسيسًا
على ما يسميه الإحصائيون «ارتباط المتغيرات
المستقلة ضمن معادلة انحدار معينة
multicollinearity»).
وسوف أواصل هذا التمييز هنا، وأمضي به إلى ما هو
أبعد مع استخدام المقارنات المقطعية بدلًا من
المقارنات الزمنية. ولكن ما يجب أن يكون واضحًا
تمامًا هو أن بعض الأمور «غير تعذر توفير ضرورات
الحياة بقدر كافٍ»، جعلت الناس تختار وبشكل حاسم
تكوين أسر صغيرة. ليس هناك من سبب يوضح لماذا
البلدان النامية ذات الخصوبة العالية عاجزة عن
التزام طرق اتبعها غيرها وأدت إلى خفض معدلات
الخصوبة بفضل عملية تجمع بين التطوير الاقتصادي
والاجتماعي (بغض النظر عن ماهية الدور المحدد الذي
يقوم به أي مكون من مكونات عملية التطوير).
ولكن حري أن نكون أكثر وضوحًا بشأن المحددات
الحاسمة في تغيير مناخ الخصوبة. تتوفر لدينا الآن
دلائل إحصائية واسعة النطاق مبنية على المقارنة بين
بلدان وأقاليم مختلفة (أي دراسات تقوم على مقارنات
مقطعية) والتي تربط تعليم المرأة (بما في ذلك محو
الأمية) وخفض الخصوبة على نطاق بلدان مختلفة في العالم.
٢٢ وثمة عوامل أخرى موضوعة في الاعتبار،
من بينها مشارَكة المرأة فيما يُسمَّى أنشطة تدرُّ
عائدًا خارج البيت، وفرصة المرأة لاكتساب دخل
مستقل، وحقوق الملكية للمرأة، ومكانة ووضع المرأة
في الثقافة الاجتماعية. وسبق لي أن عرضت هذه
القضايا في هذا الكتاب، ولكن ثمة حاجة لربط هذه
المناقشات ببعضها.
لوحظت هذه الروابط في المقارنات بين البلدان،
وكذا في المقارنات داخل بلد كبير، مثلما هي الحال
بين المقاطعات المختلفة في الهند. وإن أحدث وأشمل
دراسة في هذا الشأن هي المساهمة الإحصائية بَالِغة
الأهمية التي أعدتها كل من مامتا مورتي، وآن كاترين
جويو، وجين دريز، والتي ناقشناها في الفصل الثامن.
٢٣ وأشرنا في معرض حديثنا إلى أن هذا
التحليل تضمن عديدًا من المتغيرات. وإن أهم هذه
المتغيرات جميعًا من حيث الدلالة الإحصائية وأثرها
على الخصوبة: (١) محو أمية الأنثى. (٢) مشارَكة
الأنثى في قوة العمل. وتنبع أهمية فعالية المرأة
قوية واضحة في هذا التحليل، خاصة عند المقارنة مع
الآثار الأضعف لمتغيرات ذات صلة بالتطوير
الاقتصادي.
واتساقًا مع ما ذهب إليه هذا التحليل، يمكن أن
يكون التطوير الاقتصادي أكثر كثيرًا من مجرد «أفضل
مانع حمل». ولكن التطوير الاجتماعي — خاصة التعليم
وعمالة المرأة — يمكن أن يكون فعالًا جدًّا في
الحقيقة. إن مقاطعات كثيرة هي من أغنى مقاطعات
الهند، مثل البنجاب وهاريانا بها معدلات خصوبة أعلى
كثيرًا من نظيرتها في مقاطعات الجنوب؛ حيث دخل
الفرد أقل كثيرًا، ولكن نسبة تَعلُّم الأنثى وفرصها
للتوظف أعلى كثيرًا جدًّا. والحقيقة أن المقارنة
بين قرابة ثلاثمائة مقاطعة هندية تكشف عن أن مستوى
الدخل الحقيقي للفرد يكاد يكون عديم الأثر عند
مقارنته بالفارق الكبير والفعَّال الناجم عن تعلُّم
المرأة واستقلالها الاقتصادي. وإذا كان البحث
الأصلي المقدَّم من مورني-جويو-دريز اعتمد على
التعداد السكاني لعام ١٩٨١م، إلا أن النتائج التي
انتهى إليها البحث أكدتها الدراسة التحليلية التي
أعدتها دريز ومورتي عن التعداد السكاني لعام ١٩٩١م
(وهو ما ذكرناه آنفًا).
النظرة من خارج والقيم والاتصال
يجب أن نمايز الدليل القوي الداعم لهذه العلاقات
الإحصائية عن التفسير الاجتماعي الثقافي لهذه
المؤثرات بما في ذلك ما سبق أن أشرنا إليه وهو أن
كلًّا من التعليم واكتساب دخل من خارج البيت يزيدان
الاستقلال الذاتي للمرأة في اتخاذ القرار. وتوجد في
الواقع سبل كثيرة مختلفة يمكن للتعليم المدرسي أن
يعزز من خلالها سلطة قرار المرأة الشابة داخل
الأسرة: من حيث تأثيرها في وضعها الاجتماعي،
وقدرتها على الاستقلال، وسلطتها في التعبير
ومعارفها عن العالم الخارجي، ومهارتها في التأثير
على قرارات الجماعة، وغير ذلك.
وأود أن أشير إلى أن الدراسات وفَّرت بعض الحجج
المعارِضة للاعتقاد بأن الاستقلال الذاتي للمرأة
يزداد مع تعلمها المدرسي، وأن هذا يساعد على خفض
معدلات الخصوبة. وبرز الدليل المعارض فقط من خلال
دراسات عن دخل الأسرة (على نقيض الدراسات داخل المقاطعات)
٢٤ وإذا كان مدى شمول المعلومات في هذه
الدراسات صغيرًا نسبيًّا أصغر كثيرًا من دراسة
مورتي، وجويو، ودريز التي شملت كل الهند، إلا أننا
نخطئ إذ نرفض الدليل المعارض مقدمًا.
ولكن ما نأخذه باعتباره وحدة التحليل الصحيحة
يسبب فارقًا واضحًا. إننا إذا افترضنا أن نفوذ
المرأة يزداد مع المستوى العام لمعرفة القراءة
والكتابة في إقليم ما (عن طريق مناقشة اجتماعية
مبنية على معلومات وصياغة القيم) فإن دراسة عن داخل
الأسرة لن تمسك بهذا التأثير. والجديرة ملاحظته أن
المُقارَنات داخل المقاطعة التي بحثتْها وتحقَّقَت
منها مورتي، وجويو، ودريز تجسد العلاقات «الخارجية»
بالنسبة للأسرة ولكنها «داخلية» بالنسبة للإقليم
مثل الاتصال بين أُسَر مختلفة في إقليم ما.
٢٥ لذلك فإن أهمية النِّقاش العام وتبادُل
الآراء أراه من أهم الأفكار العامة التي يعرضها هذا
الكتاب.
إلى أي مدى يفيد القسر؟
ما مدى ما تُحقِّقه هذه المؤثرات مقارَنة بما
يتحقق عن طريق سياسات القسر من النوع الذي حاولته
الصين؟ حاولت الصين منذ عهد الإصلاح عام ١٩٧٩م
تطبيق سياسة «طفل واحد للأسرة»، في أنحاء كثيرة من
البلاد. وكثيرًا ما ترفض الحكومة أيضًا تقديم إسكان
أو منافع ذات صلة إلى الأسر التي أنجبت أطفالًا
كثيرين، وبهذا تُعاقِب الأطفال مثلما تُعاقِب
الكبار الناشزين. والمعروف أن إجمالي معدل الخصوبة
في الصين (قياس متوسط عدد الأطفال الذين تلدهم
امرأة) بلغ الآن ١٫٩، وهو أقل كثيرًا من نظيره في
الهند، وهو ٣٫١، وأقل كثيرًا أيضًا من ٥٫٠ وهو
المتوسط المرجح للبلدان ذات الدخل المنخفض غير
الصين والهند.
٢٦
ويستهوي المثال الصيني كثيرين ممن يستبد بهم
الذُّعر عند التفكير في «القنبلة السكانية»
ويلتمسون حلًّا سريعًا. ومن المهم عند التفكير في
مدى قبول هذه الطريق أن نشير أولًا إلى أن هذه
العملية كلفت المجتمع ثمنًا من بينه انتهاك حقوق
ذات أهمية جوهرية أصيلة؛ إذ من الملاحَظ أن فرض
القيد الخاص بحجم الأسرة كان في بعض الأحيان عقابًا
شديد القسوة. وأشير هنا إلى مقال حديث العهد صادر
في مجلة نيويورك تايمز، يحكي عن فظائع اقترنت
بتنفيذ هذا القانون قسرًا.
٢٧ وأبدت جماعات حقوق الإنسان وتنظيمات
المرأة اهتمامًا خاصًّا بما تنطوي عليه هذه العملية
من فقدان للحرية.
٢٨
ثانيًا: علاوة على القضية الأساسية الخاصة بحرية
التناسل وغيرها من الحريات، ثَمَّة نتائج أخرى
يتعين التفكير فيها عند تقييم التنظيم القصري
للنسل. إننا نكون في غالب الأحيان إزاء نتائج
اجتماعية مروِّعة تترتب على مثل هذا النهج القسري،
بما في ذلك أساليب رد الفعل من جانِب السكان
الرافضين حين تفرض عليهم السلطات هذا التنظيم
غصبًا. مثال ذلك المطالبة «بأسرة ذات طفل وحيد»
يمكن أن يؤدي إلى إهمال الأطفال أو إلى ما هو أسوأ
من ذلك. مما يزيد من معدل وفيات الأطفال. علاوة على
هذا فإن الملاحَظ في بلد يفضل بقوة الأطفال الذكور
— وهذه خاصية مشتركة بين الصين والهند وبلدان كثيرة
في آسيا وشمال أفريقيا — ستتحول سياسة السماح بطفل
واحد للأسرة إلى سياسة مدمرة للبنات. مثال ذلك ما
يحدث من إهمال قاتل لإناث الأطفال. ويبدو أن هذا هو
ما حدث على نطاق واسع في الصين.
ثالثًا: إن أي تغير في سلوك التناسل المفروض
قسرًا ليس بحاجة إلى أن يكون مستقرًّا ثابتًا.
وأذكر هنا ما قاله متحدث باسم مفوضية الدولة لتنظيم
الأسرة في الصين لبعض الصحافيين:
«معدلات الإنجاب المنخفضة الآن ليست ثابتة في
الصين. سبب ذلك أن مفهوم الإنجاب لدى قطاعات
واسعة من الناس لم يطرأ عليه أي تغير أساسي.»
٢٩
رابعًا: ليس واضحًا على الإطلاق كم مُعدَّل خفض
الخصوبة الإضافي الذي حققته الصين بهذه الوسائل
القسرية. إنه من المعقول قبول أن الكثير من برامج
الصين الاقتصادية والاجتماعية كانت ذات قيمة كبيرة
في خفض الخصوبة، بما في ذلك برامج التوسع في
التعليم (للرجال والنساء على السواء) وبرامج توفير
الرعاية الصحية عامة، وتوفير المزيد من فرص تشغيل
المرأة، ثم أخيرًا البرامج التي حفزت النمو
الاقتصادي السريع. إن هذه العوامل ذاتها أسهمت في
خفض معدلات المواليد. وغير واضح كم حجم الخفض في
معدلات الخصوبة حققتها الصين لأسباب أخرى إضافية
مثل أسلوب القسر. إننا حتى مع انتفاء مظاهر القسر
لنا أن نتوقع أن يصبح معدل الخصوبة الصيني أقل
كثيرًا من متوسط نظيره في الهند تأسيسًا على
إنجازات الصين المهمة في التعليم والرعاية الصحية
وفرص العمل للإناث وغيرها من عناصر التطوير
الاجتماعي.
إننا لكي «نستخرج» أثر هذه المتغيرات الاجتماعية،
المناقضة للقسر، نستطيع أن نلحظ كَمَّ التغاير وإلى
أي حدٍّ هو أكبر في الهند عنه في الصين. وأن نتدبر
وضع الولايات الهندية التي حققت تقدمًا نسبيًّا في
هذه المجالات الاجتماعية. ونذكر بوجه خاص هنا ولاية
كيرالا؛ إذ تكشف عن مقارنة مهمة مع الصين حيث يتمتع
الاثنان بمستويات عالية من التعليم الأساسي
والرعاية الصحية وغيرها، وتتقدم على الصين من حيث
المتوسط العام.
٣٠ وتحظى كيرالا أيضًا ببعض القسمات
الأخرى المميزة من حيث تمكين وفعالية المرأة، بما
في ذلك قدر أكبر من الإقرار، بحكم التقليد
التشريعي، بحقوق المرأة في الملكية والتي تتناول
جانبًا موضوعيًّا ومؤثرًا من المجتمع.
٣١
وجَدير بالملاحَظة أن نسبة المواليد في كيرالا ١٨
في الألف، وهي أقل من الصين (١٩ في الألف). وتحقق
هذا دون أي إكراه من الولاية. ويبلغ معدل الخصوبة
في كيرالا ١٫٧ مقارنًا بالصين ١٫٩ في منتصف
تسعينيات القرن العشرين. ويتسق هذا مع ما نتوقعه
بفضل تَقدُّم عوامل تساعد على الخفض الطوعي في نسب المواليد.
٣٢
سرعة خفض الخصوبة وآثاره الجانبية
جدير بالإشارة أيضًا أن ما أنجزته كيرالا من خفض
طوعي للخصوبة لم تصاحبه أي علامة لآثار معاكسة ضارة
على نحو ما لوحظ في حالة الصين. مثال ذلك ارتفاع
نسبة وفيات إناث الأطفال وانتشار إجهاض الحميل
الأنثى. ويبلغ معدل وفيات الرُّضع في كيرالا من بين
كل ألف حالة وَضْع (١٦ للبنات و١٧ للأولاد). وهذا
أقل كثيرًا من نظيره في الصين (٣٣ للبنات و٢٨
للأولاد). هذا على الرغم من أن كلًّا من الإقليمين
كانت معدَّلات وفيات الأطفال فيهما متماثلة عام
١٩٧٩م وقت الشروع في سياسة الطفل الواحد في الصين.
٣٣ ولا نجد في كيرالا ما نجده في الصين
اتجاهًا نحو الإجهاض الانتقائي للحميل
الأنثى.
ومن الضروري كذلك دراسة الزعم الذي يقال في سبيل
مساندة برامج ضبط النَّسل قسريًّا، ويفيد بأن الخفض
السريع لمعدلات الخصوبة بوسائل قسرية يكون أعلى
كثيرًا من معدلات الخفض الطوعي. بَيْدَ أنَّ هذا
التعميم هنا لا تدعمه تجربة كيرالا؛ ذلك أن نسبة
المواليد في كيرالا انخفضت من ٤٤ في الألف في
الخمسينيات، إلى ١٨ في الألف بحلول عام ١٩٩١م. وهذا
خفض ليس أقل سرعة مما حدث في الصين.
ولكن يمكن الدفع بأن النظر إلى هذه الفترة
الطويلة جدًّا ليس من الإنصاف في شيء لبيان فعالية
سياسة «الأسرة ذات الطفل الواحد» وغير ذلك من
سياسات قسرية، التي لم يبدأ تطبيقها إلا منذ عام
١٩٧٩م، والتي يجب مقارنتها بما حدث فيما بين ١٩٧٩م
تاريخ بدء تطبيق سياسة الطفل الواحد في الصين كان
مُعدَّل الخصوبة في كيرالا أعلى من الصين: ٣٫٠
مقابل ٢٫٨ للصين. وبحلول عام ١٩٩١م أصبح معدل
الخصوبة فيها ١٫٨ أي أقل كثيرًا من الصين، ٢٫٠، بعد
أن كانت أعلى منها في عام ١٩٧٩م. وعلى الرغم من
الميزة المضافة لسياسة الطفل الواحد وغيرها من
وسائل قسرية، يبدو أن معدل الخصوبة انخفض بسرعة
أبطأ كثيرًا في الصين عنه في كيرالا حتى خلال هذه
الفترة.
نذكر ولاية هندية أخرى هي ولاية تاميل نادو. لم
ينخفض معدل الخصوبة فيها ببطء، بل سريعًا من ٣٫٥ في
عام ١٩٧٩م إلى ٢٫٢ في عام ١٩٩١م. وتطبق ولاية تاميل
نادو برنامجًا لتنظيم الأسرة يتسم بالنشاط والتعاون
في آنٍ واحد، وبوسعها أن تستخدم لإنجاز هذا الغرض
وضعًا جيدًا نسبيًّا من حيث الإنجازات الاجتماعية
الموجودة في الهند: إنها من أعلى معدلات محو الأمية
بين الولايات الكبرى في الهند، وبها قدر مرتفع من
مُشارَكة الإناث في العمالة التي تدر عائدًا، علاوة
على معدل وفيات للأطفال منخفض نسبيًّا. ولم تستخدم
لا كيرالا ولا تاميل نادو أسلوب القسر المتبع في
الصين، وحققت الولايتان خفضًا في الخصوبة أسرع
كثيرًا مما حققته الصين منذ أن طبقت سياسة الطفل
الواحد وما يصاحبها من إجراءات.
وإذا نظرنا إلى داخل الهند فإن المقابلة بين
سجلات الولايات المختلفة تهيئ لنا مزيدًا من نفاذ
البصيرة إلى هذا الموضوع. والملاحَظ أنه في الوقت
الذي حققت فيه ولايتا كيرالا وتاميل نادو خفضًا
جذريًّا لمعدلات الخصوبة، نجد ولايات أخرى في
الشمال (مثل أوتار براديش، وبيهار، ومادهيا براديش،
وراجاستان) بها مستويات أدنى كثيرًا من التعليم.
وبخاصة تعليم الإناث، وفي الرعاية الصحية العامة.
وتوجد في هذه الولايات معدلات خصوبة عالية - ما بين
٤٫٤ و٥٫١.
٣٤ هذا على الرغم من اتجاه هذه الولايات
وبشكل ثابت ودائم إلى استخدام وسائل تنطوي على
الضغط والإرغام لتنظيم الأسرة بما في ذلك أسلوب
القسر (على نقيض النهج الطوعي التعاوني المستخدم في
كيرالا وتاميل نادو).
٣٥ وتمثل المقارنات بين أقاليم الهند
دعمًا قويًّا للنزعة الطوعية (التي تركز من بين
أمور أخرى على المشاركة النشطة للمرأة المتعلمة)
على نقيض أسلوب القسر.
إغراءات أسلوب الإكراه
بينما كانت الهند أكثر حذرًا من الصين في التفكير
في خيار ضَبْط النَّسل بوسائل قسرية، إلا أننا نجد
دلائل كثيرة على أن إمكان استخدام السياسات القسرية
يستهوي كثيرًا عديدين من الناشطين في الهند. ونذكر
هنا أن حكومة الهند في منتصف السبعينيات بزعامة
أنديرا غاندي حَاوَلت بَذْل كثير من الضغط في هذا
المجال مستخدمة الفُرَص القانونية التي هيَّأتْها
لنفسها من خلال إعلانها حالة «الطوارئ»، وتطبيق بعض
الحمايات المعيارية للحقوق المدنية والشخصية. وتوجد
في الولايات الشمالية كما ذكرنا سابقًا، قوانين
وتقاليد عديدة تفرض قسرًا إجراءات تنظيم الأسرة
خاصة بأسلوب لا رجعة عنه يتمثل في التعقيم الذي
ينصب غالبًا على المرأة.
٣٦
وحتى حين لا يكون القسر جزءًا من سياسة رسمية،
فإن إصرار الحكومة بشدة على «الوفاء بأهداف تنظيم
الأسرة» غالبًا ما يدفع المسئولين والعاملين في
مجال الرعاية الصحية على مختلف المستويات إلى
الاستعانة بكل أنواع أساليب الضغط التي تقارب الإكراه.
٣٧ ومن أمثلة ذلك أساليب التهديد أو
اشتراط التعقيم للإفادة من برامج محاربة الفقر أو
حرمان الأم من مزايا معينة إذا أنجبت أكثر من
طفلين، أو حجب إجراءات وخدمات صحية عن أشخاص لم يجر
تعقيمهم، أو حَظْر المشاركة في انتخابات الحكومات
المحلية بالنسبة إلى الأشخاص الذين لديهم أكثر من طفلين.
٣٨
وهناك من يُؤكِّد أحيانًا أنَّنا نخطئ إذ يستبد
بنا القلق في بلد فقير بشأن عدم مقبولية أسلوب
القسر — وهو تَرَف لا يليق إلا بالبلدان الغنية —
والزعم بأن الفقراء لا يضيقون بأسلوب القسر — وليس
واضحًا البتة على أي دليل تعتمد هذه الحجة. إن أكثر
الناس معاناة من هذه الإجراءات القسرية — الذين
يرغمون بقسوة على فعل أشياء لا يريدونها — هم
غالبًا من أفقر الناس وأكثر حرمانًا في المجتمع.
والملاحظ أن القوانين واللوائح التنظيمية والأسلوب
المتبع في تطبيق هذا هي جميعها تعتمد أسلوب العقاب
إزاء ممارسة المرأة لحرية التناسل. إن الممارسات
البربرية — من مثل محاولة تجميع النساء الفقيرات
للتعقيم وبأساليب ضغط مختلفة — جرى استخدامها في
الكثير من المناطق الريفية في شمال الهند كلما
اقترب موعد الوفاء بأهداف التعقيم.
إن مدى قبول القسر مع الفقراء لا يمكن اختباره
إلا من خلال مواجهة ديمقراطية، وهذه تحديدًا هي
الفرصة التي تعمد الحكومات الاستبدادية إلى حرمان
المواطنين منها. ولم يحدث مثل هذا الاختبار في
الصين، ولكن جرت محاولته في الهند خلال «فترات
الطوارئ» في السبعينيات عندما حاولت حكومة السيدة
أنديرا غاندي فرض تنظيم النسل إجباريًّا مع تعليق
العديد من الحقوق الشرعية والحريات المدنية. وكان
مصير هذه السياسة الهزيمة في الانتخابات العامة
التي أُجْرِيت بعد ذلك. وإن الاهتمام بالحرية
وبالحقوق الأساسية يمكن بيانه بوضوح في الحركات
السياسية المعاصرة في كثير من البلدان الأخرى في
آسيا وأفريقيا.
وهناك قسمة أخرى تميز رد فعل الناس إزاء أسلوب
القسر، ألا وهو الاقتراع بالرحيل — أو كما يقال
الاقتراع بالأقدام — إذ لحظ أخصائيو تنظيم الأسرة
في الهند أن برامج التنظيم الطوعي للمواليد في
الهند مُنِيَت بنكسة قاسية بسبب برنامج التعقيم
الجبري بعد أن استبد الشك بالناس إزاء كل حركة
تنظيم الأسرة. إن الإجراءات التي اتُّبِعَت خلال
فترة الطوارئ كان لها أثر مباشر ضعيف على معدلات
الخصوبة في بعض الولايات، ولكنها علاوة على هذا
أدَّت إلى فترة ركود طويلة بالنسبة لمعدل المواليد،
ولم تنته هذه الفترة إلا حوالي عام ١٩٨٥م.
٣٩
ملاحظة ختامية
غالبًا ما نبالغ في حجم المشكلة السكانية. ولكن
ثمة مبررات قوية تُحفِّزنا للبحث عن سبل ووسائل
لخفض معدلات الخصوبة في غالبية البلدان النامية.
ويتضمن النهج الجدير بأن نوليه اهتمامًا خاصًّا
رابطة قوية بين السياسات العامة الداعمة للمساواة
بين الجنسين وحرية المرأة (خاصة فرص التعليم
والرعاية الصحية والتوظيف) والمسئولية الفردية
للمرأة داخل الأسرة (على الرغم من سلطة اتخاذ
القرار للوالدين المحتملين وخاصة الأمهات).
٤٠ وتكمن فعالية هذا الطريق في الرابطة
الوثيقة بين رفاه المرأة الشابة وفعاليتها.
وتنطبق هذه الصورة العامة على البلدان النامية
كذلك على الرغم من فقرها. وليس ثَمَّة مبرر
لاستثنائها من ذلك. وإذا كان البعض يسوق حججًا ترى
أن الشعوب شديدة الفقر لا تعلي من قيمة الحرية
بعامة وحرية التناسل بخاصة؛ فإن العكس هو الصحيح
يقينًا حتى الآن. إن الناس يعلون من قيمة أشياء
كثيرة بالمثل، ولديهم كل الحق والمبرر لذلك من مثل
قيمة الرفاه والأمن. بَيْدَ أنَّ هذا لا يعني أنهم
غير مُبالِين إزاء الحقوق السياسية أو المدنية أو
حقوق التناسل.
وهناك شواهد ضعيفة على أن القسر يحقق نتائج أسرع
مما يمكن إنجازه عن طريق التغيير الاجتماعي
والتطوير الطوعي. إن تنظيم الأسرة قسريًّا يمكن أن
ترتب عليه أضرار خطيرة غير انتهاك حرية التناسل.
ونخص بالذكر هنا الأثر الضار على وفيات الرضع (خاصة
وفيات الإناث الرضع في بلدان ترسخ في ثقافتها
الاجتماعية الانحياز ضد الأنثى). وليس ثمة ما يبرر
هنا انتهاك الأهمية الأساسية لحقوق التناسل وفاءً
بهدف إنجاز نتائج أخرى جيدة.
وتتوافر لدينا الآن في ضوء تحليل السياسات شواهد
قوية مبنية على المقارنات داخل البلاد وداخل
الأقاليم في بلد كبير. وتؤكد هذه الشواهد أن تمكين
المرأة (بما في ذلك تعليم الإناث وتوفير فرص
العمالة للأنثى وحقوق الأنثى في الملكية) والتغيرات
الاجتماعية الأخرى (مثل خفض الوفيات) لها أثر قوي
في خفض معدل الخصوبة. حقًّا إنه لعسير إغفال ما
تتضمنه هذه التطورات من دروس سياسية. وواقع أن هذه
التطورات مرغوبة بشدة لأسباب أخرى كذلك (من بينها
خفض مَظاهر عدم المساواة بين الجنسين) يجعلها محور
اهتمام عند تحليل التطور والتنمية. كذلك فإن
الأخلاق الاجتماعية التي تعتبر سلوكًا معياريًّا
ليست مستقلة عن فهم وتقييم طبيعة المشكلة؛ ولهذا
نرى أن النقاش العام يحدث فارقًا كبيرًا.
وخفض معدل الخصوبة مهم ليس فقط لما يترتب عليه من
نتائج لصالح الرخاء الاقتصادي، بل وأيضًا بسبب أثر
ارتفاع نسبة الخصوبة في الحد من حرية الناس — خاصة
النساء في سن الشباب — من أن يعيشوا نوع الحياة
التي ينشدونها، ولديهم كل مبرر لاختيارهم هذا.
وواقع الحال أن الحياة الأكثر تضررًا بسبب تكرار
الحمل ورعاية وتربية الأطفال هي حياة المرأة الشابة
التي انحطَّ قدرها لتكون آلة ولودًا على نحو ما نرى
في بلدان كثيرة في عالمنا المعاصر. وامتد هذا
«التوازن» واطرد جزئيًّا بسبب تَدنِّي سلطة المرأة
الشابَّة من حيث اتخاذ القرار داخل الأسرة، وأيضًا
بسبب تقاليد عمياء ترى أن تكرار الحمل ممارَسة
مقبولة ليس من سبيل لنقدها (مثلما كانت الحال في
أوروبا حتى القرن الماضي)، ولا يرى المجتمع أي ظلم
في هذا. إن النهوض بتعليم المرأة وتهيئة فرص العمل
للأنثى وكفالة حريتها علاوة على النقاش العام
المفتوح والقائم على المعلومات. كل هذا يمكن أن
ينجز تغيرات جذرية في فهم معنى العدالة
والظلم.
وإن نظرة «التنمية باعتبارها حرية» عززتها هذه
الروابط التجريبية؛ نظرًا لأن حل مشكلة الزيادة
السكانية (شأن حل الكثير من المشكلات الاجتماعية
والاقتصادية الأخرى) يكمن في توسيع نطاق حرية الناس
ممن تتأثر مصالحهم مباشرة نتيجة الإفراط في الحمل
ورعاية وتنشئة الأطفال، أعني المرأة الشابة؛ ولهذا
فإن حل المشكلة السكانية يقتضي مزيدًا من الحرية
وليس أقل من هذا.