التحف الصينية والفنانون الصينيون في الشرق الإسلامي
أوجزنا في الصفحات السابقة تاريخ العلاقة التجارية والسياسية بين الصين والشرق الأدنى،
ونريد
الآن أن نستعرض بعض النصوص الأدبية والتاريخية، وأن نلم ببعض نتائج الحفائر الأثرية،
لنتبين إلى
أي حد كان الفنانون الصينيون قد امتد نشاطهم إلى الشرق الأدنى، فاشتغل بعضهم في ربوعه،
وأتيح لهم
أن يؤثروا تأثيرًا مباشرًا في الفنانين المسلمين.
والمعروف أن العرب حين فتحوا فرغانة وجدوا فيها شيئًا كثيرًا من بدائع التحف الصينية،
ولا غرو
فإن هذه الأقاليم تقع على مقربة من حدود الصين، وكان أهلها متصلين بالصين منذ العصور
القديمة، كما
أن صنَّاعًا من الصينيين كانوا بين الأسرى الذين وقعوا في يد العرب حين فتحوا تلك الأصقاع.
وقد أشار الطبري إلى بعض طرف الصين حين ذكر فتح مدينة كش من أعمال سمرقند على يد
خالد بن
إبراهيم والي بلخ سنة (١٣٤ﻫ/٧٥١م)، فقال:
وفي هذه السنة غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كش، فقتل الأخريد ملكها … وأخذ أبو داود
من الأخريد وأصحابه حين قتلهم من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة التي لم ير مثلها،
ومن
السروج الصينية ومتاع الصين كله من الديباج وغيره، ومن طرف الصين شيئًا كثيرًا.
١
وكان في بغداد منذ نهاية القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) سوق خاصة لبيع التحف
الصينية.
وقد كتب اليعقوبي في وصف بغداد:
وينقسم طرق الجانب الشرقي — وهو عسكر المهدي — خمسة أقسام، فطريق مستقيم إلى الرصافة
الذي
فيه قصر المهدي والمسجد الجامع، وطريق في السوق التي يقال لها: سوق خضير، وهي معدن طرائف
الصين.
٢
وفي المصادر الصينية نص تاريخي يشير إلى وجود فنانين صينيين بمدينة الكوفة في منتصف
القرن
الثامن الميلادي، فإن الكاتب الصيني «توهوان» كان في الأسر عند العرب سنة ٧٥١م، ونجح
في الهرب سنة
٧٦٢؛ ففر على سفينة تجارية إلى كنتون، ومنها إلى وطنه سينجان فو، ثم تحدث عن مدينة الكوفة
في كتاب
له، وذكر أن صنَّاعًا من بني وطنه كانوا أسرى فيها وأنهم علموا الصناع المسلمين نسج الأقمشة
الحريرية الخفيفة، وصناعة التحف الذهبية والفضية، فضلًا عن النقش والتصوير.
٣ وقد يكون في حديث هذا الكاتب الصيني شيء من المبالغة، ولكن له مغزاه على كل
حال.
وأشار ابن خرداذبه المتوفَّى سنة (٢٣٥ﻫ/٨٤٩م) في كتابه المسالك والممالك إلى بعض
ثغور الصين
وما يستورد منها، ثم أجمل القول عن صادرات تلك الأقاليم، فكتب:
والذي يجيء في هذا البحر الشرقي من الصين الحرير والفرند،
٤ والكيمخاو،
٥ والمسك، والعود، والسروج، والسمور
٦ والغضار
٧ … إلخ.
٨
وتحدث الجاحظ (المتوفَّى سنة ٢٥٥ﻫ/٨٦٩م) في كتابه «البخلاء»
٩ عن أصدقاء زاروا رجلًا عنده مائدة من حجر العقيق وآنية صينية ملمعة.
١٠
وقد عثر في أنقاض مدينة سامرا على أنواع من الفخار والخزف الصيني الذي يرجع عهده
إلى أسرة تنج،
١١ وفي القسم الإسلامي من متاحف الدولة في برلين مجموعة طيبة من هذا الخزف الصيني الذي
عثرت عليه البعثة الألمانية في حفائر سامرا، والمعروف أن سامرا ظلت عاصمة العالم الإسلامي
نحو
خمسين عامًا من القرن الثالث الهجري.
١٢
ومما ذكره التاجر سليمان في رحلته التي أشرنا إليها أن عند الصينيين الغضار الجيد
يصنعون منه
أقداحًا في دقة القوارير الزجاجية مع أنها من الغضار.
١٣
ومر بنا أن الأمير الساماني نصر بن أحمد طلب إلى فنانين صينيين أن يوضحوا بالصور
بعض مخطوطات
الترجمة التي نظمها الشاعر رودكي لكتاب كليلة ودمنة.
١٤ والمعروف أن بلاد ما وراء النهر وبلاد التركستان كانت في عصر الدولة السامانية
(٢٦١–٣٨٩ﻫ/٧٧٤–٩٩٩م) أزهر الأقاليم الإسلامية؛ فكان بلاط أمرائها مجمع العلماء والأدباء
والفنانين، وذاع صيت بخارى وسمرقند في أنحاء العالم الإسلامي، ولا ريب في أن بعض الصناع
والفنانين
من أهل الصين كان يقيم في تلك الأقاليم ويكسب عيشه بالعمل فيها؛ فإن كثيرين من أهل الصين
كانوا
يهاجرون إلى الأقاليم الغربية في بلادهم وإلى آسيا الوسطى ثم إلى الأصقاع الشرقية من
الإمبراطورية
الإسلامية.
وقد جاء ما يؤيد ذلك في يوميات راهب صيني سافر إلى إيران بطريق آسيا الوسطى بين عامي
١٢٢١
و١٢٢٤ بعد الميلاد (٦١٨ و٦٢١ هجرية)؛ إذ كتب عند الكلام عن سمرقند: «إن الصناع الصينيين
كانوا
يعيشون هناك في كل مكان.»
١٥
وقد جاء في عدة مواضع من الشاهنامه ذكر التحف الواردة من الصين، من ذلك إشارة إلى
جارح أسود،
كان أكرم الجوارح على الملك بهرام، وكان الخاقان — ملك الصين — قد أهداه إليه «مع جملة
من الهدايا
والتحف وسائر ما يجلب من أرض الصين».
١٦
والمعروف أن أمير بغداد، حين لقب بمالك الدولة في سنة (٤٢٣ﻫ /١٠٣١م)، بعث للخليفة
ألطافًا
كثيرة، كان منها ثلاثمائة مبخر صيني.
١٧ وكان بين الكنوز الفنية التي جمعها خلفاء الفاطميين ووزراؤهم مقادير كبيرة من الخزف
الصيني، وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتابنا كنوز الفاطميين (ص٦٨–٧٠).
وذكر القزويني (٦٠٠–٦٨٢ﻫ/١٢٠٣–١٢٨٣م) في كتابه «آثار البلاد وأخبار العباد» أن التجار
كانوا
يصدرون من جاوة الأواني الصينية إلى كل بلاد الدنيا.
١٨
وجاء في كتاب جامع التواريخ للوزير رشيد الدين أن كثيرًا من المصورين الصينيين قدموا
إلى
إيران في عهد هولاكو وغازان والجايتو، كما انتشرت في دولتهم الكتب الموضحة بالصور الصينية.
والحق
أن هولاكو وخلفاءه كانوا يشملون رجال الفن برعايتهم، بل كانوا حين يخربون المدن في حروبهم
يعنون
بإنقاذ الفنانين وأرباب الصناعات، وكان المغول يرسلون إلى الصين وآسيا الوسطى كثيرًا
من الفنانين
والصناع الذين أبقوا على حياتهم حين كانوا يدمرون المدن في إيران والشرق الأدنى، ويمعنون
في
سكانها قتلًا، وكان بعض أولئك الصناع يفلح في العودة إلى وطنه بعد العمل مع الصينيين
والتأثر
بأساليبهم الفنية.
وتحدث الغزولي (المتوفَّى سنة ٨١٥ﻫ/١٤١٢م) في كتابه «مطالع البدور في منازل السرور»
عن البلور
وأنواعه وخواصه، وذكر أن منه ما يؤتى به من بلاد الصين.
١٩
وكتب ابن إياس (المتوفَّى سنة ٩٣٠ﻫ/١٥٢٤م) في مؤلفه «نشق الأزهار في عجائب الأقطار»
أن مدينة «لوفين»
٢٠ كانت تصنع فيها المنسوجات المتعددة الألوان والأواني الخزفية الصينية التي تصدر إلى
أنحاء العالم المختلفة.
٢١
ومما عثر عليه المنقبون عن الآثار في أطلال مدينة الفسطاط — أولى العواصم الإسلامية
في مصر —
قطع كثيرة من الخزف الصيني، وأكبر الظن أن ورود هذا الخزف إلى وادي النيل يرجع إلى عصر
ابن طولون،
الذي عرف طرائف الصين في سامرا، ولا ريب في أنه ظل يرد إلى مصر حتى عصر المماليك، وحسبنا
أن
الأمير بكتمر الساقي — الذي تزوجت ابنته أحد أبناء السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون
— كان بين
كنوزه الفنية مقدار وافر من خزف الصين.
ومما كتبه المقريزي، في كلامه عن سوق الكفتيين — أي الذين يشتغلون بتطعيم المعادن
(أو
تكفيتها) بالذهب والفضة — أن «العروس من بنات الأمراء أو الوزراء أو أعيان الكتاب أو
أماثل
التجار» كانت تحمل إلى زوجها جهازًا، منه مقدار من الخزف الصيني ومقدار من آنية أو أدوات
من الورق
سماها «كداهي»، وقال عنها: «وهي آلات من ورق مدهون تحمل من الصين، أدركنا منها في الدور
شيئًا
كثيرًا وقد عدم هذا الصنف من مصر إلا شيئًا يسيرًا.»
٢٢
وذكر الأبشيهي (القرن ٩ﻫ/١٥م) أن يعقوب بن الليث الصفار أهدى إلى المعتمد على الله
هدية في
بعض السنين، بينها عشرون صندوقًا على عشر بغال «فيهم طرائف الصين وغرائبه».
٢٣
وقد استقدم تيمور من الصين نساجين كان لهم نصيب وافر من ازدهار صناعة النسج في إيران؛
كما أن
حفيده أولوغ بك (٨٥٠–٨٥٣ﻫ/١٤٤٧–١٤٤٩م) استدعى بعض المهندسين والصناع من تلك البلاد؛ ليشيدوا
له
قبة من القاشاني في بلاد ما وراء النهر، بل الظاهر أنه أتى بالقاشاني من بلاد الصين نفسها.
٢٤
وأشار أمير البحر التركي سيدي علي جلبي
٢٥ في كتابه «مرآة الممالك» إلى أن أبدع أنواع الخزف كان مصدرها مدينتين من مدن
الصين.
والمعروف أن كشف طريق رأس الرجا الصالح قضى على احتكار المسلمين التجارة مع الشرق
الأقصى؛ إذ
أفلح البرتغاليون في القضاء على السيادة البحرية التي كانت للمسلمين في المحيط، ثم قبض
الهولنديون
ومن بعدهم الإنجليز على زمام التجارة مع البحار الشرقية.
ومما فعله الشاه عباس الصفوي للنهضة بصناعة الخزف في إيران أن أحضر كثيرًا من الخزفيين
الصينيين مع أسراتهم إلى مملكته؛ لينشروا فيها تلك الصناعة حتى يمكن إصدار الخزف والصيني
إلى
أوروبا، فتحصل إيران على الأرباح الطائلة التي كانت تتدفق إلى الشرق الأقصى، وقد استقر
هؤلاء
الفنانون في مدينة أصفهان.
وكان تجار التحف الصينية ينزلون مدينة أردبيل في العصر الصفوي، كما قدم إلى شتى المدن
الصناعية الإيرانية خزفيون من الصين يعرضون خدماتهم على أصحاب المصانع الفنية فيها ويساهمون
في
النهضة بصناعة الخزف الإيراني.
وروى بعض الرحالة أن تاجرين صينيين كان لهما حانوت لبيع الخزف الصيني بمدينة أردبيل
في بداية
القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي).
٢٦
ولا يفوتنا قبل ختام الحديث عن التحف الصينية في العالم الإسلامي أن المسلمين كانوا
يستوردون
من الصين أنواع الورق الصيني الفاخر، مما استعملوه في بعض مخطوطاتهم الثمينة، ومن المعروف
أن
أتباع الحلاج في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كانت لديهم مخطوطات من الورق
الصيني
الجميل مكتوب بعضها بمداد ذهبي وذات جلود لطيفة ومحفوظة في نسيج من الحرير.
٢٧
بقي أن نشير إلى أتباع المذهب المانوي؛ فقد كانوا صلة بين الشرقين الأقصى والأدنى،
وقد كان
الخلفاء يضطهدونهم كما فعل الأكاسرة الساسانيون من قبلهم، وفرَّ المانويون من هذا الاضطهاد
في
القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، واستقروا في إقليم تركستان وغيره من أقاليم آسيا
الوسطى.
والمعروف أن ماني بشر بدين جديد في إيران إبان القرن الثالث الميلادي، وكان مصورًا
ماهرًا،
كما كان للتصوير عنده وعند أتباعه شأن كبير في توضيح كتبهم الدينية، وتدل المصادر الأدبية
والتاريخية في الشرق والغرب على أن أتباعه كانت لديهم مخطوطات مصورة فاخرة ومحفوظة في
جلود فنية
ثمينة، ولكن اضطهاد هؤلاء القوم قضى على مخلفاتهم الفنية، حتى إننا لم نكن نعرف عنها
شيئًا
ماديًّا إلى سنة ١٩٠٤ حين كشف الأستاذان فون لوكوك
Von le Coq
وجرينفيدل
Grünwedel بعض صور مانوية في أطلال مدينة من أعمال
«طرفان» في بلاد التركستان الشرقية.
٢٨ وقد كانت طرفان بين عامي ١٣٤ و٢٢٥ بعد الهجرة (٧٦٠–٨٤٠م) عاصمة لدولة الأويغور
التركية الجنس والمانوية المذهب،
٢٩ وعثر فون لوكوك على صور حائطية على جدران بناء يظن أنه كان معبدًا مانويًّا، وتشهد
هذه الصور كلها بالعلاقة الوثيقة بين الفنون التي ازدهرت في آسيا الوسطى والفنون الصينية
نفسها؛
مما يحملنا على القول بأن أتباع المذهب المانوي ساهموا في نقل الأساليب الفنية الصينية
إلى شرق
العالم الإسلامي.
على أن بعض مؤرخي الفنون يميلون إلى القول بأن آسيا الوسطى لم يكن لها أي أثر على
الفنون
الإسلامية؛ لأن هذا الإقليم لم يكن له فن خاص، بل كان يأخذ كل أساليبه الفنية عن الهند
والصين وإيران
٣٠ ونحن لا ننكر هذه الحقيقة الأخيرة، ولكننا نعتقد أن آسيا الوسطى كانت واسطة في نقل
كثير من الأساليب الفنية الصينية إلى إيران.