إعجاب المسلمين بالتحف الفنية الصينية
عرفنا إذن أن العلاقة بين الشرقين الأدنى والأقصى كانت وثيقة في العصر الإسلامي، ورأينا
أن
العالم الإسلامي الشرقي عرف الفنانين الصينيين عن كثب، وأتيح له أن يرى التحف الصينية
منتشرة في
ربوعه، ونريد الآن أن نستعرض بعض النصوص الأدبية والتاريخية التي تشهد بأن المسلمين كانوا
يعترفون
لرجال الفن في الصين بالأسبقية في ميدان الفنون، كما كانوا يعجبون بالتحف الفنية الصينية
أشد
إعجاب.
والحق أن كتَّاب العرب وشعراء الفُرس وكتَّابهم كانوا يعجبون منذ فجر الإسلام بمهارة
الصينيين
في الفنون والصنائع الدقيقة، وكانوا يضربون بهم المثل في إتقان التصوير، وحسبنا أن أحد
الشعراء
الفرس في العصر الإسلامي يقول في وصف حبيبته: إن شفتها الجميلة تبدو كأنها رسمت بريشة
مصور صيني.
١
وقد كتب ابن الفقيه الهمذاني (في نهاية القرن الثالث الهجري وبداية العاشر الميلادي)
أن الله
— عز وجل — خص أهل الصين بإحكام الصناعة، وأنه منحهم في ذلك ما لم يمنحه أحدًا غيرهم،
فكان لهم
الحرير والغضائر الصيني والسروج الصيني، وغير ذلك من المنتجات الدقيقة المحكمة.
٢
وتحدث المسعودي (المتوفَّى سنة ٣٤٦ﻫ/٩٥٧م) عن ملك من ملوك الصين شيد السفن وأرسل
عليها وفودًا
إلى البلاد المختلفة؛ تحمل لطائف بلاد الصين، فلم يَرِدُوا على أهل مملكة إلا وأعجبوا
بهم
واستظرفوا ما أوردوه من أرضهم.
٣
وذكر أيضًا أنهم لم يعبدوا الأصنام فحسب، بل كانوا يعبدون الصور، ويتوجهون نحوها
بالصلوات.
٤
وكتب: «وأهل الصين من أحذق خلق الله كفًّا بنقش وصنعة؛ وكل عمل لا يتقدمهم فيه أحد
من سائر
الأمم، والرجل منهم يصنع بيده ما يقدر أن غيره يعجز عنه، فيقصد به باب الملك يلتمس الجزاء
على
لطيف ما ابتدع؛ فيأمر الملك بنصبه على بابه من وقته ذلك إلى سنة؛ فإن لم يخرج أحد فيه
عيبًا أجاز
صانعه وأدخله في جملة صناعه، وإن أخرج أحد عيبًا اطَّرَحَه ولم يجزه … وقصدهم بهذا وشبهه
الرياضة
لمن يعمل هذه الأشياء ليضطرهم ذلك إلى شدة الاحتراز وإعمال الفكر فيما يصنعه كل واحد
منهم بيده.»
٥
وكتب أبو منصور الثعالبي (المتوفَّى سنة ٤٢٩ﻫ/١٠٣٨م) في كتابه «لطائف المعارف»
٦ نبذة عن مهارة الصينيين في الفنون، ونقلها عنه النويري (المتوفَّى سنة ٧٣٣ﻫ/ ١٣٣٣م).
قال النويري:
٧
وأما الصين وما اختص به فإن العرب تقول لكل طرفة من الأواني صينية،
٨ كائنة ما كانت؛ لاختصاص الصين بالطرائف.
وأهل الصين خصوا بصناعة الطرف والملح وخرط التماثيل والإبداع في عمل النقوش والتصاوير،
«حتى
إن مصورهم يصور الإنسان فلا يغادر شيئًا إلا الروح، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك
الشامت وضحك
الخجل، وبين المبتسم والمستغرب، وبين ضحك المسرور والهادئ؛ ويركب صورة في صورة.»
ومما تخيله الشاعر الفارسي نظامي (المتوفَّى سنة ٥٩٩ﻫ/١٢٠٣م)، في قصته الشعرية «إسكندر
نامه»
مباراة في التصوير بين فنان رومي وآخر صيني، وذلك في حضرة الإسكندر وخاقان الصين، ولا
غرو فقد كان
المسلمون يعجبون بمهارة الروم في التصوير إعجابهم بمهارة أهل الصين فيه، وقد ترجم الأستاذ
توماس
أرنولد حديث هذه المباراة من المنظومة المذكورة؛ ومن ترجمته الإنجليزية السطور الآتية:
٩
At length, it was agreed as test of skill
To hang a curtain from a lofty dome
In such a manner that on either half
Two painters should essay their skill unseen
This vault should show the Rumi’s work of art
While on the other the Chinaman should paint.
ولكن نظامي لا يختم قصة هذه المباراة ببيان الفائز فيها، بل يكشف ميدانًا جديدًا
من المهارة
عند أهل الصين؛ فيذكر أن المصور الرومي عكف على رسم صورة على القبو الذي أعد له، وبينه
وبين زميله
ستار يفصله عنه ولا يرفع قبل إتمامهما التصوير، وبينما كان الرومي يفعل ذلك أقبل الفنان
الصيني
على تلميع الجزء الذي أعد له، فلما رفع الستار انعكست صورة الرومي على الجزء الذي أتقن
الصيني
تلميعه فظهر كأن لا فرق بين الصورتين؛ وعجب المشاهدون لهذا الشبه العجيب بين الرسمين،
ولكنهم لم
يلبثوا أن أدركوا السر في ذلك كله:
١٠
For when the painters started on their task
And hid themselves behind the curtain’s screen
The Rumi showed his skill by painting farms
The Chini worked at nought save polishing
The polished wall reflected every line
Of form and colour which the other took.
ومن النصوص التي جاء فيها ما يشهد بإعجاب المسلمين بالخزف الصيني حكاية في باب فضل
القناعة من
كتاب «كلستان» لسعدي، الشاعر الإيراني (المتوفَّى سنة ٦٩٠ﻫ/١٢٩١م)، تحدث فيها عن تاجر
ثرثار أخبره
أنه يستعد لرحلة جديدة، فسأله سعدي أين تكون تلك السفرة، وأجاب التاجر:
أريد أن أحمل الكبريت من إيران إلى الصين؛ فقد سمعت أن له قيمة عظيمة فيها، ومن هناك
آخذ
الخزف الصيني إلى بلاد الروم.
١١
وقد جاء في المصادر التاريخية والأدبية أن قصر تيمور بسمرقند كانت تزين جدرانه نقوش
دونها صور
ماني والصور الصينية.
١٢
وكتب الرحالة ابن بطوطة (القرن ٨ﻫ/١٤م) أن الخزف الصيني هو
«أبدع أنواع الفخار»؛
١٣ كما تحدث عن مهارة أهل الصين في الفنون.
١٤ قال:
وأهل الصين أعظم الأمم إحكامًا للصناعات وأشدهم إتقانًا فيها، وذلك مشهور من حالهم، قد
وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم
ولا من
سواهم فإن لهم فيه اقتدارًا عظيمًا، ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك أني ما دخلت قط مدينة
من
مدنهم ثم عدت إليها إلا ورأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد موضوعة في
الأسواق.
ولقد دخلت إلى مدينة السلطان فمررت على سوق النقاشين، ووصلت إلى قصر السلطان مع أصحابي
ونحن على زي العراقيين، فلما عدت من القصر عشيًّا مررت بالسوق المذكورة فرأيت صورتي وصور
أصحابي في كاغد قد ألصقوه بالحائط، فجعل كل واحد منا ينظر إلى صورة صاحبه لا تخطئ شيئًا
من
شبهه.
وذكر لي أن السلطان أمرهم بذلك، وأنهم أتوا إلى القصر ونحن به، فجعلوا ينظرون إلينا
ويصورون صورنا ونحن لم نشعر بذلك، وتلك عادة لهم في تصوير كل من يمر بهم، وتنتهي حالهم
في ذلك
إلى أن الغريب، إذا فعل ما يوجب فراره عنهم؛ بعثوا صورته إلى البلاد وبحث عنه فحيثما
وجد شبه
تلك الصورة أخذ.
١٥
وكتب ابن الوردي (القرن ٨ﻫ/ ١٤م) أن أهل الصين «أحذق الناس في الصناعات والنقوش والتصوير،
وأن
الواحد منهم ليعمل بيده من النقش والتصوير ما يعجز عنه أهل الأرض. وكان من عادات ملوكهم
أن الملك
منهم إذا سمع بنقاش أو مصور في أقطار بلاده أرسل إليه بقاصد ومال ورغبه في الإشخاص إليه
…»
١٦ كما كتب أيضًا «أن ملك الصين إذا كان له عدة أولاد، ثم مات، لا يرث ملكه منهم إلا
أحذقهم بالنقش والتصوير.»
١٧
وقد جاء في ترجمة فارسية من كتاب كليلة ودمنة (تمت في نهاية القرن ٩ﻫ/١٥م) ذكر مهارة
أهل
الصين في الفنون؛ وذلك في معرض مدح مصور، قيل عنه إنه «حين يرسم بريشته وجوهًا، فإن أرواح
مصوري
الصين تتحير في وادي العجب،» كما قيل عنه أيضًا: «إن عبقريته جعلت قلوب أولئك الفنانين
الصينيين
تغمر وتغلب على أمرها في صحراء الدهش.»
١٨
وقد ذكر ابن خلدون (القرن ٨ﻫ/ ١٤م) الصين بين الأمم التي اشتهرت بكثرة صنائعها. قال
في الكلام
عن أن العرب أبعد الناس عن الصنائع:
… ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة حتى تجلب إليه من
قطر
آخر، وانظر بلاد العجم من الصين، والهند، وأرض الترك، وأمم النصرانية كيف استكثرت فيهم
الصنائع، واستجلبها الأمم من عندهم.
١٩
كما كتب أبو الفدا (القرن ٨ﻫ/ ١٤م) أن أهل الصين «أحذق الناس في الصناعات»، وأنهم
«أحذق خلق
الله تعالى بنقش وتصوير، بحيث يعمل الرجل الصيني بيده ما يعجز عنه أهل الأرض.»
٢٠
ومن دلائل الإعجاب بمهارة الصينيين في التصوير ما تخيله الشاعر الإيراني عبد الرحمن
الجامي
(٩ﻫ/ ١٥م) في منظومته «يوسف وزليخا» فقد جعل فيها امرأة العزيز تطلب مصورًا صينيًّا ليرسم
صورًا
لها وليوسف.
٢١
بقي أن نشير إلى أن ملوك إيران، منذ عصر الشاه عباس الأكبر، أقبلوا على جمع التحف
الصينية ولا
سيما الخزف، الذي كانت لهم منه مجموعة كبيرة حفظوها في مسجد أردبيل، وقد تبعهم في ذلك
سلاطين آل
عثمان.
ولا ريب أننا — بعد هذه النصوص المختلفة — نرى أن أثر الأساليب الصينية في الفنون
الإسلامية
لا يدل على سيطرة الصين، ولم يكن مصدره معظم الأحيان سيادة عناصر ذات ثقافة صينية في
شرق العالم
الإسلامي، وإنما يشهد بإعجاب المسلمين — ولا سيما أهل إيران — بتلك الأساليب، وخير دليل
على هذا
أن الأثر الصيني في الفنون الإيرانية ظل ملموسًا في عصور ازدهرت فيها الروح القومية الإيرانية
كعصر الدولة الصفوية مثلًا.