الفصل الخامس عشر
شنقوا سام كاردينِلا في السادسة صباحًا في دهليز سجن المقاطعة. كان الدهليز عاليًا وضيقًا وبه صفوفٌ من الزنازين على الجانبَين. كانت جميعُ الزنازين مأهولة. كان الرجال قد أُحضِروا للشنق. خمسة من الرجال الذين حُكِم عليهم بالشنق كانوا في الزنازين الخمس العليا. ثلاثة من هؤلاء الرجال كانوا من الزنوج. وقد أصابهم الرعب الشديد. جلس أحد الرجلَين الأبيضَين المتبقيَيْن على سريره واضعًا رأسه بين يديه. أما الآخر فقد استلقى على سريره وقد لفَّ غطاءً حول رأسه.
وصلوا إلى منصَّة الشنق عبر بابٍ في الجدار. كانوا سبعةً من بينهم كاهنان. كانوا يحملون سام كاردينِلا. لقد كان على هذه الحال تقريبًا منذ الرابعة صباحًا.
بينما كانوا يربطون رِجلَيه معًا، رفعه حارسان إلى أعلى، وراح الكاهنان يهمسان له بشيء. قال أحدهما: «فلتكن رجلًا يا بُنيَّ!» حين اقتربوا منه بالغطاء الذي سيغطي رأسه، فقدَ سام كاردينِلا التحكُّمَ في عضله الشرجي. أسقطه كِلا الحارسَين اللَّذَين كانا يحملانه؛ إذ تقزَّزا. سأل أحد الحارسَين قائلًا: «ما رأيك في أن نُحضِر كرسيًّا يا وِل؟» قال رجلٌ يرتدي قبعة مستديرة: «من الأفضل أن تُحضِر واحدًا.»
حين خطَوْا جميعًا إلى الوراء خلف فتحة المشنقة، التي كانت ثقيلة للغاية ومصنوعة من خشب البلوط والصلب وتعتمد على محامِلَ كروية، كان سام كاردينِلا يجلس هناك مربوطًا بإحكام، وكان الكاهن الأصغر يركع بجوار الكرسي. أسرع الكاهنُ بالرجوع إلى الخلف قبل أن تُفتَح الفتحة بلحظات.
نهر كبير ذو قلبَين
في الصباح سطعت الشمس وبدأت درجة حرارة الخيمة في الارتفاع. زحف نِك إلى خارج الخيمة من تحت حاجز البعوض الذي كان يمتد على مدخل الخيمة كي يشهد الصباح. شعر بالعشب مبتلًّا في يدَيه بينما كان يخرج. حمل سرواله وحذاءه في يدَيه. كانت الشمس قد علَت لتوِّها فوق التل. كان هناك المرج والنهر والمستنقع. وعلى الجزء الأخضر من المستنقع على الجانب الآخر من النهر، وقفت أشجار بتولا.
كان النهر صافيًا ينساب بسرعةٍ وسلاسة في الصباح الباكر. وفي الأسفل على بعد مائتَي ياردة تقريبًا، كانت هناك ثلاثةٌ من جذوع الأشجار تقطع مجرى النهر، وقد جعلت المياه فوقها سريعة وعميقة. بينما كان نِك يُشاهد المنظر، عبَرَ أحدُ حيوانات المِنك النهرَ على الجذوع ودخل المستنقع. كان نِك متحمسًا. أثار الصباح الباكر والنهر حماسه. كان في عجلة كبيرة بالفعل حتى إنه لم يرغب في تناول إفطاره، لكنه كان يعرف أنَّ عليه أن يتناوله. أشعل نارًا صغيرة ووضع عليها إناء القهوة.
بينما كانت المياه تُسخَّن في الإناء، أخذ زجاجة فارغة وسار على حافة الأرض المرتفعة متجهًا إلى المرج. كان المرج مبتلًّا بالندى وقد أراد نِك أن يُمسِك ببعض الجنادب كي يستخدمها طُعمًا قبل أن تُجفِّف الشمس العشب. وجد العديد من الجنادب الجيدة. كانت تقبع أسفل سيقان العشب. وأحيانًا كانت تتعلق بهذه السيقان. كانت باردةً ومبتلَّة بالندى ولم تكن تستطيع القفزَ إلى أن تُدفِئها الشمس. تناولها نِك وأخذ منها فقط الجنادبَ البنية المتوسطة الحجم، ووضَعها في الزجاجة. قَلَبَ نِك جذع شجرة ووجد تحت طرَفِه ملجأً للمئات من الجنادب. لقد كان مسكنًا للجنادب. وضع نِك في الزجاجة ما يقرب من الخمسين من الجنادب البنية المتوسطة الحجم. وبينما كان ينتقي الجنادب، استدفأَت الجنادب الأخرى في الشمس وبدأت في القفز. وحين بدأت في القفز طارت. طارت في البداية لمسافة قصيرة ثم وقفت متجمدة حين هبطت، وكأنها ميتة.
كان نِك يعرف أنَّه فور يفرغ من طعام الإفطار، ستكون الجنادب في كامل حيويتها. فبدون الندى على العشب، كان سيقضي النهار بأكمله لكي يُمسِك بعدد كافٍ من الجنادب الجيدة وسيكون عليه أن يَسْحق العديد منها بضربها بقُبعته. غسَل يدَيه في النهر. شعر بالحماس لقربه منه. بعد ذلك سار إلى الخيمة. كانت الجنادب تقفز وهي متصلِّبة في العشب. وفي الزجاجة، كانت تقفز أيضًا ككُتلة واحدة بعد أن شعرت بالدفء بفعل حرارة الشمس. استخدم نِك قطعةً رفيعة من خشب الصنوبر لتكون سدادة للزجاجة. سدَّت القطعة جزءًا كافيًا من فوهة الزجاجة لئلا تَخرج الجنادب منها، وتركَت جزءًا كافيًا لمرور قدر كبير من الهواء.
دحرج الجذع إلى مكانه مرةً أخرى، وعرَف أنه يستطيع أن يحصل على الجنادب من هناك كل صباح.
أسند نِك الزجاجة الممتلئة بالجنادب المتقافزة إلى جذع شجرة صنوبر. وبسرعة خلط بعضًا من دقيق الحنطة السوداء بالماء وحرَّك الخليط برفق؛ لقد استخدم كوبًا من الماء مع كوب من الدقيق. وضع بعضًا من القهوة في الإناء وأخرج قطعة من الدهن من علبة، ومرَّرها على المقلاة الساخنة، فراحت تُبقبِق وتنثر الرذاذ. على المقلاة التي يتصاعد منها الدخان سكب خليط الحنطة بهدوء في المقلاة التي يتصاعد منها الدخان. تمدد الخليط كالحمم البركانية وراح الدهن ينثر الرذاذ بحدَّة. بدأت كعكعةُ الحنطة تتماسك عند الأطراف ثم تحولت إلى اللون البني ثم أصبحَت مقرمشة. كان السطح يُبقبق بهدوء حتى اتخذ شكلًا مساميًا. دفع نِك برقاقة من خشب الصنوبر تحت السطح البني. هزَّ المقلاة إلى الجانب وتحركت الكعكة على السطح. فكر بينه وبين نفسه أنه لن يُحاول أن يقلبها. أدخل رقاقة الخشب النظيفة تحت الكعكة بكاملها، ثم قلَبها على وجهها. وتناثر منها الرذاذ في المقلاة.
حين نَضِجَت أعاد نِك وضْعَ دهنٍ مرة أخرى في المقلاة. استخدم ما تبقَّى من الخليط. وصنع منه كعكةً كبيرةً وأخرى أصغر منها.
أكل نِك كعكة الحنطة الكبيرة والكعكة الأصغر مع تغطيتهما بزبدة التفاح. وضع زبدة التفاح على الكعكة الثالثة وطواها مرتَين، ولفَّها في ورق مزيَّت ووضعها في جيب قميصه. وضع وعاء زبدة التفاح في الحقيبة وقطع خبزًا يكفي لشطيرتين.
وجد في الحقيبة بصلة كبيرة. قطعها إلى نصفَين ونزع عنها القشرة الخارجية الناعمة، ثم قطع أحد النصفَين إلى شرائح، وصنَع ساندوتشَيْ بصل. لفَّ الساندوتشَين في ورق مزيت، ووضعهما في الجيب الآخر لقميصه الكاكي. نكَّس المقلاة على الشواية، وشرب القهوة محلاةً وقد اصطبغت بلونٍ أصفرَ بُنيٍّ إذ كان قد وضع فيها بعض الحليب المكثف، ثم رتَّب المخيم. لقد كان مخيَّمًا جيدًا.
أخرج نِك صنارته المخصصة للصيد بالحشرات الطائرة من حقيبتها الجلدية، وركَّبها ودفع بالحقيبة مرةً أخرى إلى الخيمة. وضع البكرة وأدخل الخيط من الحلقات. كان عليه أن يُمسِكه من يدٍ إلى الأخرى وهو يُدخِله في الحلقات وإلا فقد كان سينزلق للخلف بفعل وزنه. لقد كان خيطًا ثقيلًا مستدِقَّ الطرَفَين من النوع المخصص للصيد بالحشرات الطائرة. كان نِك قد ابتاعه بثمانية دولارات منذ زمن بعيد. لقد صُنِع ثقيلًا لكي يُرفَع إلى الخلف في الهواء ويهبط إلى الأمام مستويًا وثقيلًا ومستقيمًا؛ لكي يُتيح إلقاء طُعم صناعي لا يكاد يزن شيئًا. فتح نِك عُلبة أوتار الطُّعم المصنوعة من الألومنيوم. كانت أوتار الطُّعم ملتفَّة بين البطانات الرَّطْبة المصنوعة من الفانيلا. كان نِك قد بلَّل البطانات من مُبرِّد المياه في القطار في الطريق إلى سانت إيجناس. في البطانات الرطبة صارت أوتار الطُّعم أكثرَ مرونةً وفكَّ نِك أحدها وربطه بعُقدة في نهاية الخيط الثقيل. ثبَّت خُطَّافًا على طرَف الوتر. لقد كان خُطَّافًا صغيرًا؛ رفيعًا للغاية ومرنًا.
كان نك قد أخذه من حافظة الخطافات، وجلس والصنارة على حجره. اختبر العقدة ونابض الصنارة من خلال شدِّ الخيط. شعر بالسعادة وقد كان حريصًا ألَّا يدَع الخطاف يُمسِك بإصبعه.
بدأ يهبط إلى النهر، وهو يُمسِك بصنارته وزجاجة الجنادب تتدلَّى من رقبته من خلال سير جلدي مربوط بنصف عُقدة حول عنق الزجاجة. وكانت شبكة الصيد تتدلَّى من كُلَّاب مثبَّت في حزامه. وعلى كتفه، كان يوجد جوال دقيق كبير معقود كل جانب منه على هيئة أذن. كان الحبل على كتفه، والجوال يخبط رِجلَيه.
شعر نِك بالارتباك والسعادة المهنية، كانت جميعُ مُعدَّاته تتدلَّى منه. فقد كانت تتأرجح زجاجة الجنادب على صدره. وانتفخ جيبا القميص؛ إذ كانا يحتويان على الغداء وحافظة الطعوم الصناعية.
خطا في النهر. كانت صدمة. الْتصقَ سرواله بساقَيه. شعر بالحصى تحت حذائه. كانت المياه صدمةً باردةً متصاعدة.
راح التيار المتسارع يندفع أمام ساقَيه. كانت المياه تصل إلى ما فوق ركبتَيه في المكان الذي وقف فيه. خاض في الماء مع التيار. وانزلق الحصى تحت حذائه. نظر إلى دوامتَيِ المياه اللتَين تدوران تحت كلا ساقَيه وأمال الزجاجة ليخرج أحد الجنادب.
قفز الجندب الأول عبر عنق الزجاجة وسقط في الماء. سحبته الدوامة الموجودة عند ساق نِك اليمنى، ثم ظهر على السطح بعد مسافة قصيرة أسفل التيار. طفا بسرعة وهو يركل. وفي دائرة سريعة اخترقت سطح المياه الأملس، اختفى. أخذتْه إحدى أسماك السلمون المرقطة.
مدَّ جندبٌ آخرُ رأسه من الزجاجة. ارتعش قرنا الاستشعار لديه. كان يُخرِج ساقَيه الأماميتَين من الزجاجة كي يقفز. أخذه نِك من رأسه وأمسك به بينما راح يُدخِل الخطاف الرفيع تحت رقبته، ثم إلى الأسفل عبر قفصه الصدري إلى آخرِ جزء من بطنه. أمسك الجندب بالخطاف بمِجسِّه الأمامي، وراح يبصق عليه سائلًا كعصارة التبغ. أنزله نِك في المياه.
وهو يمسك بالصنارة في يده اليمنى، أطلق نِك الخيط ليجرفه الجندب معه في التيار. فكَّ جزءًا من الخيط من البكرة وأطلقه حرًّا. كان بإمكانه رؤية الجندب في أمواج التيار الصغيرة. وبعد ذلك اختفى.
شعر نِك بقوةِ شدٍّ على الخيط. راح نِك يسحب الخيط المشدود. لقد كان صيده الأول. سحب الخيط بيده اليسرى بينما كان يُمسِك بالصنارة التي أصبحت الآن متحركة في التيار. انحنت الصنارة في حركات سريعة؛ إذ راحت السمكة تتحرك صعودًا وهبوطًا في التيار. كان نِك يعرف أنها سمكة صغيرة. رفع الصنارة مباشرة في الهواء، وقد انحنت مع سحبها.
رأى سمكة السلمون المرقطة تندفع برأسها وجسمها في عكس اتجاه الخيط في النهر.
أخذ نِك الخيط في يده اليسرى، وسحب إلى السطح سمكةَ السلمون التي كانت تضرب بتعب على التيار. كان ظهرها مرقَّطًا بلون الحصى في المياه الصافية، وكان جانبها يلمع في الشمس. بينما كانت قصبةُ الصيد تحت ذراعه الأيمن، انحنى نِك وغمس يده اليمنى في المياه. أمسك بسمكة السلمون التي لم تسكن قطُّ بيده اليمنى المبتلة بينما كان يحل الخطاف عن فمها، ثم أطلقها ثانية في النهر.
تدلَّت السمكة في التيار في غير ثبات، ثم استقرَّت في القاع بجوار أحد الأحجار. أنزل نِك يده في المياه ليلمسها، فأصبح الجزء السفليُّ من ذراعه حتى المرفق تحت المياه. كانت سمكة السلمون ثابتةً في التيار المتحرك، تستريح على الحصى بجوار حجر. حين لمستها أصابعُ نِك، وأحسَّت بنعومتها وبرودتها تحت المياه، اختفَت السمكة؛ اختفت في ظل عبر قاع النهر.
اعتقد نِك بينه وبين نفسه أنها بخير. لقد كانت متعبةً فحسب.
كان قد بلَّل يده قبل أن يلمس سمكة السلمون، لئلا يُؤذي المخاط الرقيق الذي يُغطِّيها. إذا لمست أسماكَ السلمون المرقَّطة يدٌ جافة، فسوف يُهاجم البقعةَ غير المحمية فُطْر أبيضُ. قبل سنوات حين كان نِك يصيد الأسماك في الأنهار المكتظة، والصيادون من أمامه ومن خلفه، كثيرًا ما كان يجد أسماكَ سلمون مرقَّطةً ميتةً يُغطِّيها زغب الفُطر الأبيض وقد انجرفت على صخرة أو طفَت وبطنها إلى الأعلى في حوض ما. لم يكن نِك يُحب أن يصيد الأسماك في وجود رجالٍ آخرين على النهر؛ فهم سيُفسدون الأمر إلا أن يكونوا من أصدقائك.
راح يتقدم في النهر والتيار يصل إلى أعلى ركبتَيه عبر المياه الضحلة التي تمتد إلى خمسين ياردة، والتي تعلو كومة الجذوع التي تقطع النهر. لم يضع الطُّعم في خطافه من جديد وأمسك به في يده بينما كان يخوض في المياه. كان متيقنًا من أنه يستطيع صيد سمك السلمون المرقَّط الصغير في منطقة المياه الضحلة، لكنه لم يكن يُريدها. لن يكون هناك سمكُ سلمون مرقط كبير في المياه الضحلة في هذا الوقت من اليوم.
الآن صارت المياه أعمق وبلغت أعلى فَخِذَيه حادةً وباردة. كان أمامه فيض المياه الهادئ المحجوز خلف الجذوع. كانت المياه هادئة وداكنة، يحدُّها من جهة اليسار الحافة السفلية من المرج، ويحدها المستنقع من جهة اليمين.
مال نِك بظهره عكس التيار وأخرج جندبًا من الزجاجة. ربط الجندب في الخطاف وبصق عليه؛ تمنِّيًا لحُسن الحظ. بعد ذلك سحب من البكرة عدةَ ياردات من الخيط وألقى بالجندب إلى الأمام في المياه السريعة الداكنة. طفا إلى الأسفل باتجاه الجذوع، وبعد ذلك سحب وزنُ الخيط الطُّعم تحت السطح. أمسك نِك الصنارة بيده اليمنى وقد ترك الخيط يجري من بين أصابعه.
كان ثمة سحبةٌ طويلة. شدَّ نِك القصبة، وخرجت الصنارة متحرِّكة وخطيرة؛ إذ انحنَت بضِعف الدرجة، وصار الخيط مشدودًا للغاية، وراح يُخرِجه من المياه وهو مشدود للغاية، وكل ذلك في سحبة ثقيلة خطيرة ثابتة. شعر نِك باللحظة التي كان سينكسر فيها وتر الطُّعم إذا ازداد شده، وأفلت الخيط.
دارت البكرة مُصدِرةً صريرًا ميكانيكيًّا إذ انفلَت الخيطُ بسرعة كبيرة. حدث ذلك بسرعة كبيرة للغاية. لم يتمكَّن نِك من فحص الأمر حين اندفع الخيطُ بسرعة، وأصدرت البكرة صريرها حين انطلق الخيط.
حين ظهر قلبُ البكرة كاد يتوقف نبضُ قلبه من الإثارة، فمال بظهره عكس التيار الذي بلغ فخذَيه، وأشاع فيهما برودةً شديدة، وأوقف البكرة بقوة بإبهامه الأيسر. وقد كان من الصعب إدخالُ إبهامه في إطار البكرة.
حين أخذ يضغط، صار الخيط مشدودًا للغاية بصلابة مفاجئة، وظهرت من وراء الجذوع سمكةُ سلمون مرقطةٌ كبيرةٌ قد خرجَت عاليًا من المياه. وبينما راحت تقفز، أنزَل نِك طرَفَ الصنارة بعض الشيء. بالرغم من ذلك فقد شعر وهو يُنزِل القصبة ليُخفِّف الضغط، باللحظة التي سيكون فيها الضغطُ شديدًا للغاية والصلابةُ كبيرة. لقد انكسر وتر الطُّعم بالتأكيد. ولم يكن هناك من شك في شعوره بانفلات النابض بأكمله من الخيط وأصبح جافًّا وصُلبًا. بعد ذلك، صار مرتخيًا.
بفمٍ جاف وقلب سقيم، سحب نك الخيط بلفِّ البكرة. لم يكن قد رأى سمكة سلمون مرقَّطة بهذه الضخامة من قبل. لقد كانت ثقيلة، وتتمتَّع بقوةٍ لا يمكن تحجيمها، ثم إنها بدَت ضخمةً للغاية حين قفزت. لقد كان عرضُها كعرض أسماك السلمون العادية.
كانت يد نِك ترتجف. راح يلفُّ الخيط ببطء. كانت الإثارة كبيرةً للغاية. لسبب غامض، شعر بالإعياء بعضَ الشيء حتى إنه رأى أنَّ الجلوس سيكون أفضل له.
لقد قُطِع وتر الطُّعم حيث كان الخطاف مربوطًا به. أخذه نِك في يده. راح يتخيل سمكة السلمون المرقَّطة في مكانٍ ما في القاع، تُحافظ على ثباتها فوق الحصى بعيدًا في الأسفل تحت مستوى الضوء وتحت الجذوع، والخطاف في فكها. كان نِك يعرف أنَّ أسنان السمكة ستقطع وتر الطُّعم. كان يتوقع أن ينغرس الخطاف في فكها. كان متيقنًا من أنَّ السمكة غاضبة. أي شيء بذلك الحجم سيكون غاضبًا. وقد كانت تلك سمكة سلمون مرقطة قد علق فيها الخطاف بثبات؛ عُلِّق فيها ثابتًا كصخرة. هو أيضًا كان يشعر بأنها صخرة قبل أن يبدأ في سحبها. يا إلهي! لقد كانت سمكة سلمون مرقطة كبيرة. لعَمري إنها أكبر سمكة قد سمعت بها من هذا النوع.
تسلَّق نِك إلى الخارج حيث المرجُ ووقف والمياهُ تتدفق من سرواله وتخرج من حذائه الذي كان يُبقبق. ذهب وجلس على الجذوع. لم يكن يرغب في أن يتعجل أحاسيسه البتة.
راح يُحرِّك أصابع قدمَيه في الماء وهي في حذائه، وأخرج سيجارة من جيب قميصه، أشعلها وألقى بعود الثقاب في المياه السريعة أسفل الجذوع. ظهرَت سمكة سلمون مرقطة صغيرة عند عود الثقاب إذ راح يتأرجح في التيار السريع. ضحك نِك، وكان ينوي أن يُنهي سيجارته.
جلس على الجذوع يُدخِّن ويتجفف في الشمس. كان يشعر بدفء الشمس على ظهره، والنهر يمتدُّ من أمامه ضحلًا ويتجه إلى الأحراج منحنيًا إلى داخلها. وها هي المياه الضحلة، والضوء المتلألئ، وصخور المياه الناعمة الضخمة، وأشجار الأَرز وأشجار البتولا البيضاء التي تمتد على الضفة، وها هي الجذوع دافئة في الشمس وناعمة في الجلوس عليها ودون لحاء ويوحي شكلها بملمس رمادي؛ وفي خِضمِّ كل هذا راح الشعور بالإحباط ينحسر عنه ببطء. انحسر عنه ببطء ذلك الشعورُ بالإحباط الذي انتابه بحِدَّة بعد المغامرة التي آلمت كتفَيه. أصبحت الأمور الآن على ما يُرام. بينما كانت الصنارة ترقد على الجذوع، ربط نِك خطافًا جديدًا في وتر الطُّعم وشدَّ الخيط بإحكام إلى أن انعقد إلى عُقدة متينة.
وضع الطُّعم في الخطاف ثم حمل الصنارة وسار إلى الطرف الأقصى من الجذوع لكي يدخل في الماء حيث لا يكون عميقًا للغاية. تحت الجذوع وفيما وراءها، كان ثمة حوض عميق. سار نِك حول النتوءات الصخرية السطحية الموجودة بالقرب من شاطئ المستنقع إلى أن وصل إلى المنطقة الضحلة من قاع النهر.
على اليسار حيث ينتهي المرج وتبدأ الأحراج، كانت هناك شجرةُ دردار ضخمة قد اقتُلِعت من جذورها. لقد تحطَّمَت في عاصفة وسقطت إلى الداخل في الأحراج، وقد تكتل التراب على جذورها ونما العُشب فيما بينها، فتشكلَت منها ضفة صُلبة بجوار النهر. كان النهر ينعطف إلى حافة الشجرة المجتثَّة. من المكان الذي وقف فيه نِك، كان يرى القنوات العميقة كالأخاديد، وقد شكلها تدفُّقُ التيار في المنطقة الضحلة من قاع النهر. كان المكان الذي يقف فيه من قاع النهر مغطًّى بالحصى، وكانت المسافة التي تمتد بعده مغطاة بالحصى وبها الكثير من الجلاميد، وحيث كان النهر ينعطف بالقرب من جذور الشجرة، كان القاع يتكون من الطين الجيري، وبين أخاديد المياه العميقة راحت أوراق الأعشاب الخضراء تتمايل في التيار.
أمال نِك الصنارة على كتفه ثم وجَّهها إلى الأمام، وانحنى الخيط إلى الأمام ملقيًا بالجندب إلى الأسفل على إحدى القنوات العميقة بين الأعشاب. أصابت إحدى سمكات السلمون المرقطة الطُّعمَ، وأمسك بها نِك في الخطاف.
بينما كان نِك يُمسك بالصنارة بعيدًا إلى الخارج باتجاه الشجرة المجتثة، راح يتقهقر في التيار وكان يُحاول إخراج سمكة السلمون المرقطة من خطر الأعشاب إلى النهر المفتوح وكانت السمكة تغوص في المياه فتنحني الصنارة معها. كان نِك يُمسك بالصنارة التي كانت تصطدم بالتيار، حتى بدأت السمكة تنجذب نحوه. راحت السمكة تتحرك باندفاع هاربةً لكنها ظلت تقترب منه، وراح نابض الصنارة يخضع لاندفاعها ويهتز أحيانًا في الماء، لكنه كان ما يزال يجلبها نحوه. تمهَّل نِك أسفل النهر مع اندفاع السمكة. وبينما كانت الصنارة فوق رأسه وجَّه السمكة إلى الشبكة ثم رفع الشبكة.
تدلَّت السمكةُ ثقيلةً في الشبكة بظهرها المبرقش وبدا جانباها الفِضيَّان من خلال فتحات الشبكة. فكَّها نِك من الخطاف. كانت تتمتع بجانبَين ثقيلَين يَحسُن حملهما وفكٍّ سفلي كبير وبارز. تركها نِك تنزلق وهي تمور وتتزحلق بعنف إلى الجوَال الطويل الذي كان يتدلَّى من كتفَيه إلى الماء.
فتح نِك الجوَال عكس اتجاه التيار وتركه يمتلئ بالماء ثم رفعه إلى أعلى فراحت المياه تنسكب من جوانبه. وفي القعر بالداخل، كانت سمكةُ السلمون المرقطة الكبيرةُ حيةً في الماء.
تحرك نِك في اتجاه التيار. وكان الجوال الذي كان يتدلَّى من كتفَيه يغوص أمامه في المياه.
كان الجو يزداد حرارة، وكانت الشمس حارة على مؤخرة عنقه.
اصطاد نِك سمكة سلمون مرقطة جيدة. لم يكن مهتمًّا بصيد الكثير منها. الآن أصبح النهر ضحلًا وواسعًا. كانت هناك أشجار على طول الضفتَين. ألقت أشجارُ الضفة اليسرى بظلال قصيرة على التيار في شمس الضحى. كان نِك يعرف أنَّ أسماك السلمون المرقطة ستكون موجودة في هذه الظلال. وبعد الظهيرة، بعد أن تكون الشمس قد عبَرت باتجاه التلال، ستكون أسماك السلمون المرقطة في الظلال الباردة على الجانب الآخر من النهر.
ستقبع الأسماكُ الكُبرى على الإطلاق بالقرب من الضفة. وكان يُمكن اصطيادها دومًا هناك في النهر الأسود؛ فحين تنخفض الشمس، تخرج جميع الأسماك إلى التيار. وحين تسطع الشمس على المياه في الوهج الأخير قبل الغروب، يُمكِنك أن تُمسِك سمكة سلمون مرقطة كبيرةً في أي مكان في التيار. من المحال أن تصطاد في ذلك الوقت؛ إذ يُصبِح سطح المياه ساطعًا في الشمس كمرآة. يُمكِنك أن تصطاد بالطبع أعلى النهر، لكن في نهر كهذا أو النهر الأسود، عليك أن تخوض عكس التيار وفي مكان عميق، حيث تتكدَّس المياه حولك. لم يكن الصيد أعلى النهر ممتعًا مع هذا القدر الكبير من التيار.
راح نِك يتحرَّك في المنطقة الضحلة وهو يُشاهد الضفتَين بحثًا عن حفر عميقة. رأى شجرة زان تنمو بالقرب من النهر حتى إنَّ أغصانها قد تدلَّت في المياه. كان التيار يرتدُّ تحت الأوراق. دائمًا ما يكون هناك أسماكُ سلمون مرقطة في مكان كهذا.
لم يكن نِك يرغب في الصيد في تلك الحفرة. كان متيقنًا من أنه سيَعْلق في الأغصان.
بالرغم من ذلك، فقد بدت عميقة. ألقى بالجندب فحمله التيار تحت المياه، وتحت الغصن المتدلي من الخلف. سُحِب الخيط بقوة وشدَّ نِك القصبة. راحت سمكة السلمون المرقطة تهتزُّ بعنفٍ وقد برز نصفها خارج المياه بين الأوراق والأغصان. كان الخيط قد علق. سحب نِك الخيط بقوة، وهربت السمكة. لفَّ الخيط على البكرة، وسار في النهر ممسكًا بالخطاف في يده.
في الأمام بالقرب من الضفة اليسرى، كان ثمة جِذْع كبير. رأى نِك أنه كان مجوفًا، وكان يُشير لأعلى النهر فدخله التيار بهدوء، ولم تتشكل سوى موجة صغيرة على كل من جانِبَي الجِذع. كانت المياه تزداد عمقًا. الجزء العلوي من الجذع المجوف كان رماديًّا وجافًّا، وكان الظل يُغطِّي جزءًا منه.
خلع نِك الغطاء عن زجاجة الجنادب، وقد علق أحدها به. أخذ نِك الجندب ووضعه في الخطاف وألقاه في المياه. حمل الصنارة بعيدًا إلى الخارج كي يتحرَّك الجندب على المياه باتجاه التيار المتدفِّق إلى الجذع المجوَّف. أنزل نِك القصبة بعض الشيء وطفا الجندب. شعر نِك بشَدَّة عنيفة. سحب نِك الصنارة في الاتجاه المعاكس للشدِّ. بدا الأمر وكأنَّ الخطاف قد علق بالجذع نفسِه، غير أنَّ نِك قد شعر بشيء يتحرَّك.
حاول أن يُخرِج السمكة إلى التيار. وخرجت بصعوبة.
ارتخى الخيط وظن نِك أنَّ السمكة قد هربت، ثم رآها بعد ذلك في مكان قريب جدًّا في التيار تهز رأسها وتُحاول خلع الخطاف عنها. كان فمها مغلقًا بإحكام. كانت تُحارب الخطاف في التيار الصافي المتدفق.
راح نِك يلف الخيط بيده اليسرى على هيئة أنشوطة ويُحرِّك الصنارة كي يجعل الخيط مشدودًا، وحاول أن يُوجِّه سمكة السلمون المرقطة إلى الشبكة، لكنها ابتعدت واختفت عن بصره، وراح الخيط يتحرَّك صعودًا وهبوطًا. صارع نِك السمكة في الاتجاه المعاكس للتيار، وتركها تضرب في المياه على نابض الصنارة. نقل الصنارة إلى يده اليسرى، وجلب السمكة عكس اتجاه التيار بينما ظلت هي تُحافظ على اتزانها وتُحارب صنارة الصيد، ثم أدخلها في الشبكة. رفع نِك السمكة من المياه، وقد شكَّلت نصف دائرة ثقيلة في الشبكة التي كانت المياه تتساقط منها، ونزع الخطاف منها ووضعها في الجوال.
فتح نِك الجوال ونظر بداخله إلى سمكتَي السلمون المرقَّطتين الكبيرتَين الحيتَين في المياه.
خاض نِك في المياه العميقة متجهًا إلى الجذع الأجوف. خلع عنه الجوال من فوق رأسه، وبينما كان الجوال يخرج من المياه، راحت السمكتان تتخبَّطان، ودلَّى نِك الجوالَ حتى تصبح السمكتان مغمورتَين في المياه. بعد ذلك خرج إلى الجذع وجلس عليه، وراحت المياه تنساب من سرواله وحذائه وتتدفق إلى التيار. وضع الصنارة بجواره وتزحزح إلى الطرَف الظليل من الجِذع وأخرج الشطيرتين من جيبه. غمسَهما في الماء البارد، وحمل التيارُ الفُتاتَ بعيدًا. أكل الشطيرتين وغمس قبعته في الماء ليملأها ويشرب منها، وراحت المياه تتدفق من القبعة قبل أن يشرب.
كان الجو منعشًا في الظل الذي كان نِك يجلس فيه على جذع الشجرة. أخذ سيجارة وأخرج عود ثقاب ليشعلها. غاص عود الثقاب في الغابة الرمادية وقد صنع فيها فجوة ضئيلة. مال نِك على جانب الجذع، ووجد مكانًا صلبًا وأشعل عود الثقاب. جلس يُدخِّن ويُشاهد النهر.
في الأمام، كان النهر يضيق ويتَّجِه إلى المستنقع. أصبح النهر سلسًا وعميقًا وبدا المستنقع ممتلئًا بأشجار الأَرز التي كانت جذوعها قريبة بعضها من بعض وأغصانها مصمتة. لم يكن بالإمكان السيرُ عبر مستنقعٍ كهذا. كانت الأغصان منخفضةً للغاية؛ حتى إنه ستيعيَّن عليك أن تظلَّ في مستوى الأرض تقريبًا كي تتمكَّن من القيام بأي حركة. لن يكون باستطاعتك السيرُ عبر الأغصان. فكَّر أنَّ هذا قد يكون هو السببَ في أنَّ الحيوانات التي كانت تعيش في المستنقع كانت بتلك البِنْية التي كانت عليها.
تمنى لو أنه قد أحضر شيئًا يقرؤه. كان يشعر بالرغبة في القراءة. لم يشعر بالرغبة في دخول المستنقع. راح ينظر إلى النهر. كانت هناك شجرةُ أَرز تميل بالكامل على عرض النهر. وفيما وراء ذلك كان النهر يتجه إلى المستنقع.
لم يكن نِك يرغب في دخوله الآن. شعر بنفور من الخوض في الأعماق بينما يصل عمق المياه إلى إبْطَيه، وذلك لاصطياد أسماك سلمون مرقطة كبيرة في أماكنَ يستحيل أن يُخرِجها منها. في المستنقع كانت الضفتان خاليتَين، وكانت أشجار الأَرز الضخمة تتشابك معًا فوقها، ولم يكن ضوءُ الشمس يمرُّ منها إلا في بعض المناطق؛ وفي المياه السريعة العميقة ومع الضوء القليل، سيكون الصيد مأساويًّا. في المستنقع، كان الصيد مغامرة مأساوية. لم يكن نِك يُريدها. لم يكن يرغب في نزول النهر اليوم مجددًا.
أخرج سكينه وفتحها وغرسها في الجذع، ثم سحب الجوال ومدَّ يده بداخله وأخرج منه إحدى السمكتَين. أمسك بها بالقرب من ذيلها، وقد كان من الصعب حملُها وهي حية في يده. ضربها على الجذع. ارتعشت السمكة ثم تصلَّبت. وضعها نِك على الجذع في الظل وكسر رقبة السمكة الأخرى بالطريقة نفسها. وضعهما على الجذع جنبًا إلى جنب. لقد كانتا سمكتَين جيدتَين.
نظفهما نِك وشقَّهما من فتحة الإخراج إلى حافة الفك. خرجت الأحشاء والخياشيم واللسان كلها كقطعة واحدة. كان كلاهما ذكَرَين؛ فقد كان بهما شرائطُ طويلة من أعضاء التلقيح ذات اللون الرمادي المائل إلى الأبيض، والتي كانت ملساء ونظيفة. كانت الأحشاء كلها نظيفة ومتكتِّلة فخرجَت كلها معًا. ألقى نِك بالفضلات على الشاطئ كي تجدها حيوانات المِنك.
غسل نِك السمكتَين في النهر. حين رفعهما عن المياه، بدَتا كالأسماك الحية. لم يكن لونهما قد خبا بعد. غسل يدَيه وجفَّفهما على جذع الشجرة، ثم وضع السمكتَين في الجوال الذي كان مُمدًّا على الجذع، ولفَّهما فيه، وربط الحزمة ووضعها في شبكة الصيد. كانت سكينه لا تزال واقفة ونصلُها مغروسًا في الجذع. نظفها على الخشب ووضعها في جيبه.
وقف نِك على جذع الشجرة ممسكًا بالصنارة وهو يحمل شبكة الصيد التي تدلَّت ثقيلة، ثم خطا في المياه وسار وهو يُثير رذاذًا من المياه نحو الشاطئ. تسلق الضفة وانعطف إلى الأحراج باتجاه الأرض المرتفعة. كان عائدًا إلى المخيم. نظر إلى الخلف. لم يكن النهر يبدو إلا من بين الأشجار. كان أمامه الكثيرُ من الأيام التي يُمكن أن يصيد فيها من المستنقع.