الفصل الثالث
كنا في حديقة في مدينة مونس. أتى باكلي الشاب مع دوريته من الجهة المقابلة للنهر. كان أول ألماني أشاهده يتسلَّق جدار الحديقة. انتظرنا إلى أن وضع ساقًا على الجدار ثم أطلقنا عليه النار. كان يحمل الكثير من المعدات وقد بدا مندهشًا للغاية وسقط في الحديقة. ثم أتى ثلاثة آخرون وتسلقوا الجدار على مسافة أبعد. أطلقنا عليهم النار. لقد جاءوا جميعًا بهذه الطريقة تمامًا.
نهاية شيء
في الأيام الخوالي كانت هورتونز باي مدينة مشهورة بنشر الأخشاب. لم يكن أحد من سكانها بمنأًى عن صوت المناشير الضخمة الموجودة في المنشرة التي تقع بجوار البحيرة. وفي سنة من السنوات، لم يتبقَّ المزيد من الأخشاب التي يمكن نشرها. كانت المراكب الشراعية تصل إلى الخليج وتُحمَّل بجميع الأخشاب المقطعة المكدسة في ساحة المنشرة. حُمِلت جميع أكوام الأخشاب بعيدًا، وأُخلي مبنى المنشرة الكبير من جميع المعدات التي يمكن نقلها، وحملها الرجال الذين كانوا يعملون في المنشرة على متن أحد المراكب الشراعية. تحرك المركب الشراعي من الخليج باتجاه البحيرة المفتوحة حاملًا المنشارَين الكبيرَين، والعربة المتحركة التي كانت تُدفع بجذوع الأشجار إلى المناشير الدائرية الدوَّارة، وكذلك جميع البكرات والعجلات والسُّيور والحديد التي تكوَّمَت على حمولة الأخشاب التي كان ارتفاعها يعدل ارتفاع هيكل المركب. وبعد تغطية عنبر المركب المفتوح بقماش القنب وتثبيته جيدًا، وبعد أن انتفخت أشرعة المركب بفعل الرياح، تحرك المركب إلى البحيرة المفتوحة وهو يحمل على متنه كلَّ ما جعل من المنشرة منشرة، ومن هورتونز باي مدينة.
إن مساكن العمال البسيطة ذات الطابق الواحد، والمطعم، ومخزن الشركة، ومكاتب المنشرة، والمنشرة الكبيرة نفسها قد وقفت مهجورة وسط مساحات من نُشارة الخشب التي كانت تُغطِّي المرج المستنقعي المجاور لشاطئ الخليج.
حين جدف نِك ومارجوري بقاربهما بطول الشاطئ بعد عشر سنوات، وجدا أنه لم يتبقَّ من المنشرة سوى الحجارة الجيرية البيضاء المتكسرة لأساساتها، التي كانت تبدو من بين الأشجار المستنقعية التي عادت لتنمو هناك من جديد. كانا يصطادان على حافَة ضفة القناة حيث ينخفض القاع فجأة من مياه رملية ضحلة إلى مياه مظلمة بعمق اثنَتَي عشرةَ قدمًا. كانا يصطادان بالطعم وهما في طريقهما إلى اللسان لنصب صنارتَين لاصطياد أسماك السلمون المرقطة القزحية ليلًا.
قالت مارجوري: «ها هي أطلالنا القديمة يا نِك.»
رمى نِك ببصره إلى الحجارة البيضاء التي تبدو بين الأشجار الخضراء بينما كان يجدف.
ثم قال: «ها هي أطلالنا.»
سألته مارجوري: «أتتذكر حين كانت منشرة؟»
أجاب نِك: «لا أتذكر إلا قليلًا.»
قالت مارجوري: «تبدو أشبه بقلعة.»
لم يقل نِك شيئًا. استمرا في التجديف مبتعدَين عن المنشرة، وراحا يتبعان الساحل، ثم عبر نِك الخليج.
تحدث قائلًا: «إنها لا تصيب الطُّعم.»
قالت مارجوري: «نعم.» كانت تركز بكل كيانها على الصنارة طوال سيرهما، وحتى حين كانت تتحدث. لقد كانت تحب صيد الأسماك. كانت تحب صيد الأسماك مع نِك.
في مكان قريب بجوار القارب، ظهرت سمكة سلمون مُرقَّطة كبيرة على سطح المياه. ركَّز نِك تجديفه على أحد المجدافَين كي يستدير القارب ويتجه الطُّعم الذي كان يدور بعيدًا بالخلف إلى حيث كانت سمكة السلمون تأكل. وحين بدا ظهر سمكة السلمون في المياه، راحت أسماك المنوة تتقافز بجنون. تناثرت على السطح كأنها حفنة من المقذوفات الصغيرة قد أُلقي بها في المياه. ظهرت سمكة سلمون مرقَّطة أخرى على سطح المياه وراحت تأكل على الجانب الآخر من القارب.
قالت مارجوري: «إنهما تأكلان.»
قال نِك: «أجل، لكنهما لن تُصيبا الطُّعم.»
استدار نِك بالقارب لكي يبتعد عن كلتا السمكتَين الآكلتَين، ثم وجهه إلى اللسان. ولم تسحب مارجوري الخيط إلى أن لامس القارب الشاطئ.
سحبا القارب إلى الشاطئ، ورفع نِك دلوًا من أسماك الفرخ الحية. كانت أسماك الفرخ تسبح في مياه الدلو. انتشل نِك ثلاثًا منها بيدَيه وقطع رءوسها وسلخها، بينما راحت مارجوري تطارد الأسماك بيدها في مياه الدلو حتى تمكنت أخيرًا من الإمساك بواحدةٍ وقطعت رأسها وسلختها. ألقى نِك نظرةً على سمكتها.
قال: «يجب ألَّا تنزعي الزعنفة البطنية. صحيح أنَّ السمكة ستظل تصلح لأن تكون طُعمًا إن نزعتها، لكنَّها ستُشكِّل طُعمًا أفضل والزعنفة بها.»
شبَّك كلًّا من سمكتَي الفرخ المسلوختَين من الذيل. كانت كل صنارة تحتوي على خطافَين متصلَين بوتر طُعم. بعد ذلك، جدفت مارجوري بالقارب إلى ضفة القناة، وهي تمسك بالخيط بين أسنانها وتتجه بنظرها إلى نِك الذي كان يقف على الشاطئ وهو يُمسِك بقصبة الصيد، بينما ترك الخيط ينفلت من البكرة.
نادى عليها قائلًا: «هذا مناسب تمامًا.»
أجابت مارجوري نداءه متسائلةً وهي تمسك الخيط في يدها: «هل عليَّ أن أفلته؟»
«بالتأكيد. أفلتيه.» تركت مارجوري الخيط يتدلَّى من فوق ظهر القارب وراحت تشاهد الطُّعم وهو ينزل في الماء.
دخلت مارجوري بالقارب، ورمت الخيط الثاني بالطريقة نفسِها. وفي كل مرة كان نِك يضع قطعة ثقيلة من الخشب المنجرف على مؤخرة القصبة لكي يُثبِّتها، ويدعمها أيضًا من الأسفل بقطعة خشب صغيرة لكي يُبقيها على زاوية محددة. سحب الخيط المتراخيَ بالبكرة حتى تدلَّى الخيط مشدودًا إلى حيث استقرَّت قطعة الطُّعم على قاع القناة الرملي، ثم وضع المزلاج على البكرة. حين تبتلع سمكة سلمون مرقطة الطُّعم وهي في القاع سوف تهرب به، مما سيُؤدي إلى شدِّ الخيط من البكرة بقوة؛ فتُصدِر البكرة صوتًا بسبب وضع المزلاج عليها.
جدفت مارجوري باتجاه اللسان قليلًا كي لا تُحرِّك الخيط من مكانه. شدَّت المجدافَين بقوة، وحطت بالقارب على الشاطئ، الذي أتت معه أمواجٌ صغيرة. خرجت مارجوري من القارب، وسحبه نِك فوق الشاطئ.
سألته مارجوري: «ما الخطب يا نِك؟»
أجاب نِك وهو يُحضِر الخشب لإشعال النار: «لا أعرف.»
أشعلا نارًا بالخشب المنجرف، وذهبت مارجوري إلى القارب وأحضرت بطانية. حمل نسيم المساء الدخان باتجاه اللسان؛ ففرشت مارجوري البطانية بين النار والبحيرة.
جلست مارجوري على البطانية موليةً ظهرها إلى النار وانتظرت نِك. أتى وجلس بجوارها على البطانية. كانت الأشجار الجديدة التي نمت على اللسان بعد أن قُطعت أسلافها تنتصب من خلفهما، وأمامهما يصب جدول هورتونز في الخليج. لم يكن الظلام قد انسدل بالكامل بعد، وامتد ضوء النار بعيدًا إلى المياه. كان كلاهما يستطيعان رؤية القصبتَين المصنوعتَين من الصُّلب تميلان بزاوية على المياه المعتمة. وألقت النار بوهجها على البكَرتَين.
فتحت مارجوري سلة الغداء.
قال نِك: «أنا لا أشعر برغبة في الأكل.»
«هيا، كُل يا نِك.»
«حسنًا.»
تناولا الطعام دون أن يتحدَّثا، وراحا يُشاهدان القصبتَين وضوء النار المنعكس على صفحة المياه.
قال نِك: «ستكون تلك الليلة ليلةً مقمِرة.» ألقى ببصره على الجهة المقابلة من الخليج حيث التلالُ التي كانت ملامحها قد بدأت تزداد وضوحًا على صفحة السماء. كان يعرف أنَّ القمر سيطلع من وراء التلال.
قالت مارجوري بسرور: «أعرف هذا.»
قال نِك: «إنكِ تعرفين كل شيء.»
«أوه! أرجوك يا نِك أن تكفَّ عن هذا. أرجوك ألَّا تتصرَّف بهذه الطريقة من فضلك!»
قال نِك: «لا أستطيع! إنكِ تعرفين كل شيءٍ بالفعل. تلك هي المشكلة. وأنت تعلمين أنكِ تعرفين كل شيء.»
لم تقل مارجوري شيئًا.
«لقد علَّمتُكِ كل شيء. أنتِ تعرفين أنَّ ما أقوله صحيح. ما الذي لا تعرفينه على أية حال؟»
قالت مارجوري: «حسنًا، اصمت الآن! ها هو قد طلع القمر.»
جلسا على البطانية دون أن يتلامسا، وراحا يُشاهدان القمر وهو يبزغ.
قالت مارجوري: «لا تكن سخيفًا. ما الأمر حقًّا؟»
«لا أعرف.»
«أنت تعرف بالطبع.»
«كلا، لا أعرف.»
«هيا، هاتِ ما عندك.»
راح نِك ينظر إلى القمر وهو يبزغ فوق التلال.
«لم يعد في الأمر متعة.»
كان خائفًا من أن ينظر إلى مارجوري، ثم نظر إليها. كانت تجلس وظهرها إليه. نظر إلى ظهرها وقال: «لم يعد في الأمر متعة، لم يعد فيه أي متعة على الإطلاق.»
لم تقل شيئًا، وتابع هو الحديث قائلًا: «إنني أشعر كما لو أنَّ كل شيء قد تَداعى بداخلي وصار جحيمًا. لا أدري يا مارج. لا أدري ما عساي أن أقول.»
ظل ينظر إلى ظهرها.
سألت مارجوري: «أليس في الحب أيُّ متعة؟»
قال نِك: «نعم.» وقفت مارجوري، وظل نِك جالسًا ورأسه بين يدَيه.
قالت مارجوري: «سآخذ القارب. يمكنك أن تعود بالسير حول اللسان.»
قال نِك: «حسنًا. سأدفع لكِ القارب في الماء.»
قالت: «لا داعي لذلك.» كانت تسير بالقارب في المياه وقد انعكس عليه ضوء القمر. عاد نِك إلى مكانه واستلقى بجوار النار ووجهه في البطانية. كان يستطيع سماع صوت مارجوري وهي تجدف بالقارب في المياه.
ظل مستلقيًا هناك لفترة طويلة. وقد كان مستلقيًا حين سمع بِل يشقُّ طريقه عبر الأحراج ويدخل إلى الأرض الخالية من الأشجار. شعر ببِل وهو يقترب من النار، غير أنَّ بِل لم يلمسه أيضًا.
سأله بِل: «أذهبَت وهي على ما يُرام؟»
أجاب نِك كاذبًا ووجهه في البطانية: «أجل.»
«هل تشاجرتما؟»
«كلا، لم نتشاجر على الإطلاق.»
«كيف تشعر؟»
«أوه، ابتعد عني يا بِل. ابتعد لبعض الوقت.»
انتقى بِل شطيرة من سلة الغداء، وسار ليُلقيَ نظرةً على الصنارتَين.