الفصل الخامس
أطلَقوا النار على الوزراء الستة في السادسة والنصف صباحًا أمام جدار أحد المستشفيات. كان بالساحة بِرَك من الماء، وأوراقُ شجر ميتةٌ ومبتلة على رصيفها. كان المطر يهطل بشدة. أُغلِقت جميع مصاريع نوافذ المستشفى بالمسامير. كان أحد الوزراء مصابًا بالتيفود. حمله اثنان من الجنود إلى الأسفل، ثم إلى الخارج في المطر. حاولا أن يُسنِداه إلى الجدار لكنه جلس في بركة من الماء. وقف الخمسة الآخرون بهدوء شديد أمام الجدار. وأخيرًا، أخبر الضابطُ الجنديَّين بأنه ما من جدوى في حمله على الوقوف. حين أطلقوا الوابل الأول من الرصاص، كان يجلس في المياه واضعًا رأسه على ركبتَيه.
المصارع
نهض نِك واقفًا، وكان على ما يرام. راح ينظر إلى السكة الحديدية على أضواء العربة الأخيرة من القطار وهي تتوارى عن الأنظار وتختفي في المنعطف. كانت المياه تحفُّ السكة الحديدية من كلا الجانبَين، ثم كان هناك مستنقعُ تاماراك.
تحسس ركبته. كان سرواله قد تمزق وكُشِط جلده، وكذلك خُدِشت يداه، ودخلت الرمال والرماد تحت أظفاره. اتجه إلى حافَة السكة الحديدية حيث المنحدرُ الصغير المؤدي إلى المياه وغسل يدَيه؛ غسَلهما بحرص في المياه الباردة وأزال الوسخ من تحت أظفاره، ثم قرفص وغسل ركبته.
يا لعامل المكابح، ذلك الرجل الحقير الكريه! إنه سينال منه ذات يوم. سيراه ثانيةً ويتعرف عليه. كان ذلك هو التصرف المناسب.
لقد ناداه قائلًا: «تعال إلى هنا يا بُني. لدي شيء لك.»
وقد وقع في الشَّرَك. لكم كان تصرفه صِبيانيًّا سخيفًا! لن يسمح لهم بأن يخدعوه هكذا ثانيةً.
«تعال إلى هنا يا بُني، لدي شيء لك.» وبعد دويٍّ صدَرَ فجأة، وجد نفسه واقعًا على يدَيه وركبتَيه بجوار السكة الحديدية.
فرك نِك عينه، ووجد بها تورمًا كبيرًا. ستصير عينه سوداء، لا محالة. إنها تؤلمه بالفعل. يا له من رجل حقير عامل المكابح هذا!
تحسس الورم الموجود فوق عينه بأصابعه. أوه، حسنًا، إنها مجرد عين سوداء واحدة. هذا هو كل ما ناله. ثمنٌ بخس! تمنَّى لو أنه يستطيع أن يراها. نظر في المياه لعله يراها؛ فلم يُفلِح. كان الظلام قد خيَّم، وكان هو في رقعة منعزلة بعيدةٍ عن أي مكان يعرفه. مسح يدَيه في سرواله ونهض واقفًا، ثم تسلَّق الحافَة متجهًا نحو السكة الحديدية.
راح يسير على خط السكة الحديدية. وقد وجد السير عليه يسيرًا؛ إذ كان قد رُصِف رصفًا جيدًا، وقد تكدس الرمل والحصى بين العوارض؛ مما جعله مَمْشًى متينًا. كانت الأرضية الملساء تمتد للأمام عبر المستنقع كأنها طريق مُعبَّد، وسار نِك عليها؛ إذ كان عليه أن يبلغ مكانًا ما.
تعلق نِك بقطار الشحن حين أبطأ من سرعته قبل دخوله إلى ساحات القطارات خارج والتون جانكشن. مرَّ القطار بكالكاسكا وكان نِك ما يزال على متنه حين بدأ يحل الظلام. لا بد أنه قد أصبح الآن بالقرب من مانسيلونا. لا يزال أمامه ثلاثة أميال أو أربعة من أراضي المستنقع. راح يسير على السكة الحديدية وحافظ على السير بين عوارض القضبان حيث المناطقُ المستوية المرصوفة، وبدا المستنقع كالشبح في الضباب المتصاعد. كانت عينه تؤلمه وكان يشعر بالجوع. استمر في السير مُخلِّفًا وراءه أميالًا من السكة الحديدية. وظل المستنقع كما هو يحف بالسكة الحديدية من كلا الجانبَين.
رأى أمامه جسرًا. عبره نِك، وراح حديدُ الأرضية يُصدِر صوتًا أجوفَ تحت وقع خطواته. كانت المياه من تحته تبدو سوداءَ من بين شقوق العوارض. ارتطمت قدم نِك بمسمار ضخم مفكوك، فسقط في الماء. كانت هناك تلالٌ بعد الجسر. على جانبَي السكة الحديدية، كان المكان مظلمًا ومرتفعًا. وفي الأمام بجانب السكة، أبصر نِك نارًا.
تقدَّم على القضبان متوجهًا بحرص إلى النار. كانت النار تميل إلى أحد جانبَي القضبان، أسفل حافَة السكة الحديدية. لم يرَ منها سوى نورها. هناك كان ينقطع امتداد القضبان، وإذ بريف يمتدُّ بدايةً من موضع النيران المشتعلة ويتناهى بعيدًا إلى الأحراج. هبط نِك بحذر من على حافَة السكة الحديدية، واتجه إلى الأحراج كي يتقدم إلى النار من بين الأشجار. كانت غابة من أشجار الزان، وراحت قدماه تخطوان بين الأشجار على الحواف الخشنة لثمار الزان المتساقطة. أصبحت النار الآن أكثر توهجًا عند حافة الأشجار بالضبط. كان هناك رجل يجلس بجانبها. انتظر نِك خلف الشجرة وراح يُراقب الموقف. بدا أنَّ الرجل كان بمفرده. كان يجلس هناك ورأسُه بين يدَيه بينما ينظر إلى النار. تحرَّك نِك من مكانه واتجه صوب ضوء النار.
كان الرجل جالسًا هناك ينظر إلى النار. ولم يتحرَّك حتى حين وقف نِك على مَقرُبة منه.
تحدث نِك إليه قائلًا: «مرحبًا!»
رفع الرجل نظره إليه.
وقال: «من أين لك بهذه الكدمة في عينك؟»
«لكمني عاملُ مكابح.»
«وأنزلك من قطار الشحن؟»
«أجل.»
تحدث الرجل قائلًا: «لقد رأيت هذا النذل. مرَّ من هنا قبل ما يقرب من ساعة ونصف الساعة. لقد كان يسير فوق العربات وهو يصفق بذراعَيه ويُغنِّي.»
«يا له من نذل!»
قال الرجل بجدية: «لا بد أنه قد ابتهج بعد أن لكمك.»
«سوف أضربه.»
نصحه الرجل قائلًا: «اقذفه بالحجارة حين يمر بك يومًا.»
«سأنال منه.»
«إنك شرس، أليس كذلك؟»
أجابه نِك: «بلى.»
«الفتيان جميعهم شرسون.»
قال نِك: «لا بد للمرء أن يكون شرسًا.»
«هذا ما قلتُه.»
نظر الرجل إلى نِك وابتسم. في ضوء النار، رأى نِك أنَّ وجهه كان مشوهًا. كان أنفه غائرًا، وكانت عيناه كشقَّين، وشفتاه غريبتَي الشكل. لم يُلاحظ نِك كلَّ هذا على الفور؛ لقد لاحظ فقط أنَّ وجه الرجل كان غريب الشكل ومشوهًا. كان لونه يُشبِه المعجون. وبدا كالأموات في ضوء النار.
سأله الرجل: «ألا يُعجبك وجهي؟»
شعر نِك بالحرج.
وأجابه: «طبعًا.»
قال الرجل وهو يخلع قبعته: «انظر هنا!»
لم يكن لديه سوى أذن واحدة. وقد كانت غليظة ومشدودة على جانب رأسه. وأما في الجانب الآخر حيث كان من المفترض أن تُوجَد أذنه الأخرى، فلم يكن هناك سوى جَدَعة.
«أرأيت مثل هذا من قبل؟»
أجابه نِك وقد شعر بالغثيان قليلًا مما رآه: «كلا.»
قال الرجل: «لقد احتملت هذا. ألا تظن أنني أستطيع أن أحتمل ذلك يا فتى؟»
«ليس عندي شكٌّ في ذلك!»
تحدث الرجل الضئيل قائلًا: «لقد اجتمعت أيديهم جميعًا عليَّ؛ فما استطاعوا أن يؤذوني.»
نظر إلى نِك. وقال: «اجلس. أتريد أن تأكل؟»
قال نِك: «لا تزعج نفسك، فأنا ماضٍ في طريقي إلى المدينة.»
قال الرجل: «اسمع! نادني بآد.»
«حسنًا!»
تحدث الرجل قائلًا: «استمع إليَّ، أنا لست على ما يُرام.»
«ما بك؟»
«إنني مجنون.»
ارتدى الرجل قبعته. شعر نِك بأنه يرغب في الضحك.
وتحدث إليه قائلًا: «إنك بخير.»
«كلا، لست كذلك. أنا مجنون. أصغِ إليَّ، هل أُصِبت بالجنون من قبل؟»
قال نِك: «كلا. كيف أصابك الجنون؟»
قال آد: «لا أدري. إنك لا تدري بالأمر حين يصيبك. إنك تعرفني أليس كذلك؟»
«كلا.»
«أنا آد فرانسيس.»
«حقًّا؟»
«ألا تصدق؟»
«بلى.»
عرَف نِك أنَّ ذلك صحيح لا محالة.
«أتعرف كيف هزمتهم؟»
قال نِك: «كلا.»
«قلبي بطيء. إنه لا ينبض سوى أربعين مرة في الدقيقة. جسَّه.» كان نِك مترددًا.
أمسك الرجل بيده وقال: «هيا! أمسك برُسغي. ضع أصابعك هنا.»
كان رسغ الرجل الضئيل غليظًا، وانتفخت عضلاته فوق العظام. أحس نِك بالنبض البطيء تحت أصابعه.
«ألديك ساعة؟»
«لا.»
قال آد: «ولا أنا. ما من فائدة إذا لم يكن لديك ساعة.» ترك نِك رسغ الرجل.
تحدث آد فرانسيس قائلًا: «اسمع، أمسك برسغي ثانية. ستحسب أنت النبض وأعد أنا حتى ستين.»
بدأ نِك في العد؛ إذ شعر بالخفقان القوي البطيء تحت أصابعه. سمع الرجل الضئيل وهو يعد ببطء وبصوت عالٍ: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، إلى آخره.
انتهى آد من العد، وقال: «ستون. هذه دقيقة. إلى كم وصلت؟»
قال نِك: «أربعين.»
قال آد مسرورًا: «هذا صحيح. إنه لا يسرع أبدًا.»
هبط رجل من على حافة السكة الحديدية وأتى من الأرض الخالية من الأشجار متجهًا إلى النار.
قال آد: «مرحبًا يا باجْز!»
ردَّ باجْز على تحيته قائلًا: «مرحبًا!» كان صوت زنجي. لقد عرف نِك من مشيته أنه زنجي. وقف موليًا ظهره إليهما، ونهض منتصبًا بعد انحنائه على النار.
قال آد: «هذا صديقي باجْز. إنه مجنون أيضًا.»
قال باجْز: «يسرني لقاؤك. هلَّا أخبرتني من أي مكان أنت؟»
قال نِك: «شيكاجو.»
قال الزنجي: «إنها مدينة جميلة. لم أعرف اسمك.»
«آدمز. نِك آدمز.»
قال آد: «إنه يقول إنه لم يُصَب من قبل بالجنون يا باجْز.»
قال الزنجي: «ما يزال القدر يُخبئ له الكثير.» كان يفتح علبة بجوار النار.
سأل الملاكم المحترف: «متى سنأكل يا باجْز؟»
«حالًا.»
«هل أنت جائع يا نِك؟»
«إنني أتضور جوعًا.»
«أسمعت يا باجْز؟»
«إنني أسمع معظم ما يحدث.»
«ليس هذا ما سألتك عنه.»
«أجل، سمعت ما قاله الفتى.»
كان يضع شرائح لحم الخنزير في مقلاة. وحين ازدادت سخونة المقلاة، تناثر الدهن؛ فقلب باجْز الذي كان يجثو على ساقَيه الزنجيتَين الطويلتَين بجوار النار شرائح اللحم وكسر البيض في المقلاة التي راح يُميلها من هذا الجانب أو ذاك كي يُغطيَ البيض بالدهن الساخن.
استدار باجْز عن النار وتحدث إلى نِك قائلًا: «هلَّا قطعت بعضًا من الخبز الموجود في هذه الحقيبة يا سيد آدمز؟»
«بالتأكيد.»
مدَّ نِك يده داخل الحقيبة وأخرج منها رغيفًا من الخبز. وقطع ست شرائح. راح آد يشاهده وانحنى للأمام.
قال: «اسمح لي بأن آخذ سكينك يا نِك.»
قال الزنجي: «كلا، لا تُعطها إليه. احتفظ بسكينك يا سيد آدمز.» اعتدل الملاكم المحترف في جلسته ثانية.
سأل باجْز: «هلَّا أحضرت إليَّ الخبز يا سيد آدمز؟» أحضره نِك إليه.
سأله الزنجي: «هل تحب أن تغمس خبزك في دهن اللحم؟»
«بالتأكيد!»
«ربما يجدر بنا أن ننتظر إلى ما بعد ذلك. من الأفضل أن نفعل ذلك في نهاية الأكل. تفضل.»
أخذ الزنجي شريحة لحم ووضعها على إحدى شرائح الخبز، ثم أنزل بيضة فوقها.
«أغلق تلك الشطيرة من فضلك، وأعطها إلى السيد فرانسيس.»
أخذ آد الشطيرة وبدأ يأكل.
تحدث الزنجي إليه محذرًا: «احترس من سيولة البيضة.» ثم وجَّه حديثه إلى نِك: «هذا لك يا سيد آدمز، والباقي لي.»
راح نِك يقضم من الشطيرة. كان الزنجي يجلس قبالته بجوار آد. وكان مذاق شرائح اللحم المقلية الساخنة مع البيض رائعًا.
قال الزنجي: «إنَّ السيد آدمز جائع للغاية.» الرجل الضئيل الذي عرَف نِك من اسمه أنه كان بطلًا سابقًا في الملاكمة كان صامتًا. ولم يتفوَّه بأي شيء منذ أن تحدث الزنجي عن السكين.
قال باجْز: «هل لي أن أُقدِّم لك شريحة من الخبز المغموس في دهن شرائح اللحم الساخن؟»
«شكرًا جزيلًا.»
نظر الرجل الأبيض الضئيل إلى نِك.
«ألا ترغب في البعض يا سيد آدولف فرانسيس؟» هكذا تحدث إليه باجْز وهو يُقدِّم له المقلاة.
لم يُجِب آد. كان ينظر إلى نِك.
ناداه الزنجي بصوته الرقيق: «سيد فرانسيس؟»
لم يُجِب آد. كان ينظر إلى نِك.
قال الزنجي برِقَّة: «لقد تحدثت إليك يا سيد فرانسيس.»
ظل آد ينظر إلى نِك. كان قد أنزل قبعته على عينَيه. شعَر نِك بالتوتر.
تحدث إلى نِك من تحت قبعته بحِدة: «كيف تجرؤ على هذا بحق الجحيم؟»
وأضاف: «مَن تظن نفسك يا هذا؟ لستَ سوى نَغِلٍ وقح. تأتي دونما دعوة وتأكل طعامي وحين أطلب منك أن تُعيرني سكينًا، تُعاملني بوقاحة.»
كان ينظر إلى نِك وهو يتقد غضبًا. كان وجهه شاحبًا وعيناه مَخفيَّتَين بأكملهما تقريبًا تحت القبعة.
«يا لك من شخص غريب! مَن ذا الذي دعاك يا هذا لتُقحِم نفسك بيننا هنا؟»
«لا أحد.»
«لا أحد قد دعاك بالتأكيد. ولم يَدعُك أحدٌ للبقاء أيضًا، لكنك تأتي وتسخر من وجهي، وتُدخِّن سيجاري وتشرب خمري، ثم تتحدث إليَّ بوقاحة. كيف تظن بحق الجحيم أنك ستُفلت بهذا؟» لم يقل نِك شيئًا، ووقف آد.
«سأخبرك أنا يا نغل شيكاجو الجبان. سوف أُبرِحك ضربًا. أتفهم هذا؟»
تراجع نِك إلى الخلف، وتقدم الرجل الضئيل نحوه ببطء متثاقل الخطوات. كانت قدمه اليسرى تتقدم إلى الأمام، وتزحف القدم اليمنى لتلحق بها.
حرك رأسه وقال: «اضربني. هيا حاول أن تضربني.»
«أنا لا أريد أن أضربك.»
«كلا، لن تُفلِت بهذه الطريقة. سوف أضربك، أتفهم؟ والآن، تعال واضربني.»
قال نِك: «كُفَّ عن هذا.»
«حسنًا إذن أيها النغل.»
نظر الرجل الضئيل إلى الأسفل حيث قدَمَا نِك. وبينما كان ينظر إلى الأسفل، هيَّأ الزنجي نفسه وقد كان يسير خلفه حين ابتعد عن النار، ثم ضربه بالهراوة أسفل الجمجمة. سقط الرجل إلى الأمام، ورمى باجْز الهراوة الملفوفة بالقماش على العشب. كان الرجل الضئيل مُلقًى هناك ووجهه إلى العشب. رفعه الزنجي وحمله إلى جوار النار ورأسه كانت متدلية. بدا شكل وجهه مخيفًا وكانت عيناه مفتوحتَين. وضعه باجْز على الأرض برفق.
تحدث إلى نِك قائلًا: «هلَّا أحضرت لي المياه الموجودة في الدلو يا سيد آدمز؟ يؤسفني أنني قد قسوت عليه قليلًا في الضربة.»
رشَّ الزنجي الماء بيده على وجه الرجل، وراح يشد أذنَيه برفق. أُغلِقت العينان.
وقف الزنجي ثم تحدث قائلًا: «إنه بخير. لا داعي للقلق. أنا آسف يا سيد آدمز.»
قال نِك وهو ينظر إلى الرجل الضئيل: «لا بأس.» رأى الهراوة على العشب وتناولها بيده. كان لها مِقبض مَرِن، وشعر بها ليِّنة في يده. كانت مصنوعة من الجلد الأسود المهترئ، ويلتفُّ على طرَفِها الثقيل منديل.
ابتسم الزنجي وقال: «إنه مقبض مصنوع من عظم الحوت. ما عادوا يصنعون هذا النوع الآن. لم أكن أعرف قدرتك على الدفاع عن نفسك، وعلى أي حال، لم أكن أريدك أن تُؤذيَه أو تُشوِّهه أكثر من ذلك.»
ابتسم الزنجي ثانية.
«لقد آذيتَه بنفسك.»
«أنا أعرف كيف أفعلها. لن يتذكر شيئًا من هذا. إنني أُضطَرُّ إلى فعل هذا لكي أُعيده إلى نفسه حين يتصرف بتلك الطريقة.»
كان نِك ما يزال ينظر إلى الرجل الضئيل المستلقي بجوار النار المغمض العينَين. وضع باجْز بعض الخشب في النار.
«لا تقلق بشأنه على الإطلاق يا سيد آدمز. لقد رأيته على هذه الحال قبل ذلك مرارًا وتكرارًا.»
سأله نِك: «ما الذي أصابه بالجنون؟»
أجاب الزنجي من مكانه عند النار: «أوه، الكثير من الأشياء. ألا ترغب في فنجان من هذه القهوة يا سيد آدمز؟»
قدَّم الفنجان لنِك، وراح يُسوِّي المعطف الذي كان قد وضعه تحت رأس الرجل الفاقد الوعي.
«أحد هذه الأشياء أنه تعرض للضرب مراتٍ كثيرة.» رشف الزنجي بعضًا من القهوة ثم أكمل: «غير أنَّ ذلك قد جعله ضعيفَ العقل بعض الشيء فحسب. وبعد ذلك، كانت أخته هي مديرتَه، وقد كانت الجرائد تكتب عنهما دومًا كأخ وأخت، وكيف أنها كانت تحب أخاها، وكيف أنه كان يحب أخته، ثم تزوجا في نيويورك، وقد خلق ذلك الكثير من المشكلات.»
«أتذكر هذا.»
«هذا مؤكد. لم يكونا أخًا وأختًا بالطبع، غير أنَّ الكثير من الناس لم يرُق لهم الأمر على أي حال، ثم بدأت الخلافات تنشب بينهما، وقد رحلَت ذات يوم ولم تَعُد قط.»
ارتشف القهوة ومسح شفتَيه براحة يده الوردية اللون.
«لقد جُنَّ تمامًا. أترغب في المزيد من القهوة يا سيد آدمز؟»
«شكرًا.»
واصل الزنجي حديثه: «لقد رأيتها بضع مرات. كانت امرأةً جميلة للغاية. وقد كان الشبه بينهما كبيرًا حتى إنها لتبدو كتوءمه. ما كان ليُصبِح وجهه قبيحًا لولا ما نال وجهه من لكمات.»
توقف عن الحديث. وبدا أنَّ القصة قد انتهت.
قال الزنجي: «لقد التقيتُ به في السجن. راح يضرب الجميع طوالَ الوقت بعد أن رحلَتْ؛ فأودعوه السجن. أما أنا، فكنت في السجن لطعن رجل بسكِّين.»
ابتسم ثم تابع بصوته الرقيق قائلًا: «لقد أحببته على الفور، وبحثتُ عنه حين خرجت. يُعجِبه أن يظن بي أنني مجنون وأنا لا أُمانع. إنني أحب أن أكون معه، وأحب رؤية الريف، ولستُ في حاجة إلى ارتكاب أي جريمة سرقة لفعل هذا. إنني أحب أن أحيا كرجل فاضل.»
سأله نِك: «وماذا تفعلان لكسب العيش؟»
«أوه، لا شيء. نتنقل فحسب. إن معه بعضَ المال.»
«لا بد أنه قد جمع الكثير من المال.»
«بالتأكيد، لكنه قد أنفق جميع ماله. أو هم قد أخذوه منه. إنها تُرسِل له مالًا.»
راح يُحرِّك النار بعصًا كي يَزيدها اشتعالًا.
قال: «إنها سيدة رائعة للغاية، وهي تُشبِهه كثيرًا حتى إنها لتبدو كتوءمه.»
تطلَّع الزنجي ببصره إلى الرجل الضئيل المستلقي الذي كان يتنفس بصعوبة. تدلَّى شعره الأشقر على جبينه، وبدا وجهه المشوه طفوليًّا وهو ساكن.
«يمكنني أن أوقظه الآن في أي وقت يا سيد آدمز. أرجو أن ترحل، إذا لم يكن هذا سيُضايقك. لا أريد أن أبدوَ غيرَ مضياف، لكنَّ حالته قد تسوء مرة أخرى عند رؤيتك. أكره أن أُضطَر إلى ضربه ثانية، وهو الشيء الوحيد الذي يُمكنني فعله حين تتلبسه هذه الحالة. إنني أُضطَر إلى إبعاده عن الناس بعض الشيء. إنك لا تُمانع يا سيد آدمز، أليس كذلك؟ كلا، لا تشكرني يا سيد آدمز. كنت سأُحذِّرك بشأنه، لكنه قد بدا مستمتعًا بوجودك، وقد ظننت أنَّ الأمور ستكون على ما يُرام. سوف تصل إلى مدينةٍ على ميلَين تقريبًا من السكة الحديدية. إنهم يُسمونها مانسيلونا. إلى اللقاء. أتمنى لو كنا نستطيع دعوتك إلى قضاء الليلة، غير أنَّ هذا أمر محال. أترغب في أخذ بعض من هذا اللحم والخبز معك؟ كلا؟ من الأفضل أن تأخذ معك شطيرة.» قال كل ذلك بصوته الزنجي المهذَّب الرقيق الخفيض.
«حسنًا، إلى اللقاء يا سيد آدمز. إلى اللقاء وحظ طيب!»
سار نِك مبتعدًا عن النار عبر الأرض الخالية من الأشجار، واتجه إلى خط السكة الحديدية. بعد أن ابتعد عن حيز النار، سمع صوت الزنجي الرقيق الخفيض وهو يتحدث. لم يستطع نِك أن يسمع الكلمات، لكنه قد سمع صوت الرجل الضئيل بعد ذلك وهو يقول: «أشعر بصداع فظيع يا باجْز.»
سمع صوت الزنجي يهدئه قائلًا: «ستشعر بتحسُّن يا سيد فرانسيس. ما عليك إلا أن تحتسِيَ فنجانًا من هذه القهوة الساخنة.»
تسلق نِك حافة السكة الحديدة وراح يسير على خط السكة الحديدية. وجد أنه يُمسِك بشطيرة من شرائح اللحم في يده؛ فوضعها في جيبه. وحين نظر إلى الخلف من المنحدر الصاعد قبل أن تنعطف السكة الحديدية إلى التِّلال، كان يستطيع أن يرى ضوء النار في المنطقة الخالية من الأشجار.