الفصل السادس
جلس نِك مستندًا إلى حائط الكنيسة حيث كانوا قد جرُّوه كي يبتعد عن الطلقات النارية التي تندفع من المدفع الرشَّاش في الشارع. كانت كلتا ساقَيه تتجهان إلى الخارج بطريقة بشعة. كان قد أُصيب في العمود الفقري. كان وجهه متعرقًا ومتسخًا. وقد سطعت الشمس عليه. كان يومًا شديد الحرارة. استلقى رينالدي، العريض المنكبَين، والذي كانت مُعَدَّاته تتمدَّد هي أيضًا، مستندًا على الجدار ووجهه ناظر إلى الأسفل. نظر نِك إلى الأمام مبتهجًا. كان الجدار الوردي للمنزل المقابل قد سقط منفصلًا عن السطح، وتدلَّى هيكل سرير حديدي ملتويًا باتجاه الشارع. كان هناك نمساويان ميتان بين الأنقاض في ظل المنزل. وعلى امتداد الشارع، كان هناك موتى آخَرون. كانت الأمور تتقدم في المدينة. كانت تسير على ما يُرام. كان سيأتي حاملو النقالات في أي وقت الآن. أدار نِك رأسه بحرص ونظر إلى رينالدي. «اسمع يا رينالدي. اسمع. لقد عقدنا أنا وأنت معاهدة سلام منفصلة.» استلقى رينالدي ساكنًا في الشمس وهو يتنفس بصعوبة. «لسنا وطنيين.» أدار نِك رأسه بعيدًا بحرص، وهو يبتسم متعرقًا. لقد كان رينالدي جمهورًا مخيبًا للآمال.
قصة قصيرة جدًّا
في أمسية حارة في بادوفا، حملوه إلى الأعلى على السطح؛ فتمكن من مشاهدة المدينة من أعلى. كانت طيور سمامة المداخن تُحلِّق في السماء. وبعد برهة، حلَّ الظلام وأُضيئت الكشافات. نزل الآخرون وأخذوا الزجاجات معهم. كان يستطيع هو ولوز أن يسمعاهم وهم بالأسفل في الشُّرفة. جلست لوز على السرير. كانت ندية ونضرة في الليل الحار.
ظلت لوز تعمل في دورية الليل على مدار ثلاثة أشهر. وقد سرَّهم أن يسمحوا لها بالعمل ليلًا. حين أجروا له العملية الجراحية، أعدته هي لطاولة الجراحة، بينما أخذوا هم يقولون مزحة عن الأصدقاء والحقن الشرجية (حيث إن كلمة حقنة شرجية بالإنجليزية قريبة في هجائها من كلمة عدو بالإنجليزية). وقع تحت تأثير المخدر وحاول أن يكبح جماح نفسه لئلا يُثرثِر بأي شيء خلال ذلك الوقت السخيف الذي يكثر فيه الكلام. وبعد أن صار يسير على عكازَين، اعتاد أن يقيس درجات الحرارة كي لا تُضطَرَّ لوز إلى النهوض من السرير. لم يكن هناك سوى عددٍ قليل من المرضى، وقد كانوا جميعًا على علمٍ بعلاقتهما. وكانوا جميعًا يحبون لوز. وبينما كان يسير عائدًا بين القاعات، كان يتخيل لوز في سريره.
قبل أن يعود ثانيةً إلى الجبهة، زارا كاتدرائية ميلانو وصلَّيا هناك. كانت الأجواء هادئة والضوء خافتًا، وكان هناك أشخاص آخرون يُصلُّون. أرادا أن يتزوَّجا، لكنَّ الوقت لم يكن كافيًا لإعلان الزواج، ولم يكن لدى أيٍّ منهما شهادةُ ميلاد. كانا يشعران كما لو أنهما متزوجان، لكنهما أرادا أن يعرف الجميع بالأمر، وأن يُوثِّقاه كي لا يَخسراه.
كتبت له لوز الكثير من الخطابات التي لم تصله إلا بعد الهدنة. وصل خمسة عشر منها دفعة واحدة إلى الجبهة، وقد رتبها وفقًا للتاريخ وقرأها جميعًا على الفور بالترتيب. كانت جميعها تحكي عن المستشفى وعن حبها الكبير له وعن استحالة الحياة بدونه وعن قسوة الاشتياق له في الليل.
بعد الهدنة، اتفقا على أنه يجب أن يعود إلى الوطن ويحصل على وظيفة حتى يتسنَّى لهما الزواج. لم تكن لوز لتعود إلى الوطن إلى أن يحصل على وظيفة ويُمكِنه الذَّهاب إلى نيويورك للقائها. كان من الواضح أنه لن يشرب الخمر، ولن يرغب في أن يرى أصدقاءه أو أي شخص في أمريكا. لم يكن يريد سوى أن يحصل على وظيفة ويتزوج. وفي رحلة القطار من بادوفا إلى ميلانو، تشاجرا بشأن عدم رغبتها في أن تعود إلى الوطن على الفور. وحين أتى وقت الوداع في محطة قطار ميلانو، تبادلا قُبلة الوداع لكن شِجارهما لم يكن قد انتهى. وقد كان مُغتمًّا لوداعهما بهذه الطريقة.
واصل طريقه إلى أمريكا على متن سفينة من جنوا. وعادت لوز إلى بوردينوني كي تفتح مستشفى. كان الجو موحشًا ومطيرًا هناك، وكانت هناك كتيبة من قوات المغاوير التابعة للجيش الإيطالي تُعسكِر في المدينة. إن رائد الكتيبة الذي كان يعيش في تلك المدينة المطيرة الموحِلة في الشتاء، كان يُطارِح لوز الغرام، ولم تكن هي قد عرَفَت أي إيطاليين من قبل، وفي النهاية، بعثت إلى حبيبها بخطاب في الولايات المتحدة تقول فيه إنَّ علاقتهما لم تكن سوى غرام صِبياني. كانت تشعر بالأسف وتعرف أنه لن يتفهَّم الأمر على الأرجح، لكنه قد يُسامحها ذات يوم، ويُكِنُّ لها مشاعرَ الامتنان، وقد كانت تتوقَّع، على نحوٍ مفاجئ تمامًا، أن تتزوج في الربيع. كانت تُحِبه مثلما كانت تحبه دومًا، لكنها أدركَت الآن أنَّ حبهما لم يكن سوى غرامٍ صِبياني. تمنَّت له أن يُحقِّق نجاحًا رائعًا في حياته المهنية، وكانت تُؤمن به تمامًا. كانت تعرف أنَّ ذلك في صالحهما.
لم يتزوج الرائد من لوز لا في الربيع ولا في أي وقت آخَر. ولم تتلقَّ لوز قط أي ردٍّ على خطابها الذي أرسلته إلى شيكاجو بشأن الأمر. بعد ذلك بوقت قصير، أُصيبَ هو بعدوى مرض السيلان من موظفة مبيعات في مركز تجاري في شيكاجو، بينما كانا يستقلان سيارة أجرة في منطقة لينكولن بارك.