الفصل التاسع
طعن الثور بقرنه يد البيكادور الأول التي كانت تُمسك بمقبض السيف، وراح الحشد المتجمهر ينعق به ازدراءً. زلَّت قدما البيكادور الثاني وخرق الثورُ بطنه بقرنه، فتمسك بالقرن بيد، وثبَّت يده الأخرى جيدًا على مكان الجرح، فدفعه الثور بعنف إلى الجدار وتحرَّر القرن، ورقد هو في الرمال، ثم نهض كسكير مجنون، وحاول أن يلكم الرجال الذين كانوا يحملونه بعيدًا، وصرخ طالبًا سيفه، لكنه فقد الوعي. جاء الفتى وكان عليه أن يقتل الثيران الخمسة؛ إذ لا يمكن أن يكون هناك أكثرُ من ثلاثة بيكادورات في مباراة مصارعة الثيران، وحين وصل إلى الثور الخامس كان متعبًا للغاية حتى إنه لم يستطع أن يُغمِد السيف فيه. لم يكن يقدر على رفع ذراعه إلا بصعوبة كبيرة. حاول خمس مرات وكان الجمهور هادئًا؛ إذ كان ثورًا جيدًا وبدا الأمر أنه إما هو وإما الثور، ثم نجح أخيرًا. جلس في الرمال وراح يتقيَّأ، ووضعوا عليه رداءً بينما راح الجمهور يصيح ويرمي بأشياء إلى حلقة المصارعة.
السيد إليوت وزوجته
حاول السيد إليوت وزوجته جاهدين أن يُنجِبا طفلًا. لقد حاولا مرات عديدة بقدر ما كانت السيدة إليوت تُطيق؛ حاولا في بوسطن بعد أن تزوجا وحاولا وهما مسافران بالسفينة. لم يُحاولا كثيرًا على متن السفينة؛ إذ كانت السيدة إليوت مريضة جدًّا. لقد مرضت، وعندما كان هذا يحدث، كانت تمرض مثلما تمرض النساء الجنوبيات؛ أي النساء اللائي ينتمين إلى الجزء الجنوبي من الولايات المتحدة. فكما هو الحال بالنسبة لجميع النساء الجنوبيات، تدهورت حالة السيدة إليوت بسرعة شديدة تحت وطأة دُوَار البحر، مع السفر ليلًا والاستيقاظ في وقت مبكر للغاية في الصباح. ظنَّ العديد من الأشخاص الموجودين على متن السفينة أنها والدة إليوت. وأما الآخرون الذين كانوا يعرفون أنها زوجته، فقد اعتقدوا أنها حامل. لقد كانت تبلغ من العمر أربعين عامًا في حقيقة الأمر، وقد تسارعت سنوات عمرها فجأة حين بدأت في السفر.
لقد كانت تبدو أصغرَ سنًّا من ذلك بكثير، بل الحق أنها لم تكن تبدو في سنِّها الحقيقية على الإطلاق حين تزوجها إليوت بعد أسابيعَ عديدة من الوقوع في حبها، بعد أن عرَفها لوقت طويل في متجر الشاي الذي تملكه قبل أن يُقبِّلها ذات مساء.
كان هيوبرت إليوت يُجري بعض الدراسات العليا في القانون بجامعة هارفارد حين تزوج. كان شاعرًا يبلغ دخله عشرة آلاف دولار في العام تقريبًا. كان يكتب قصائدَ طويلة للغاية بسرعة كبيرة جدًّا. كان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا ولم يكن قد ضاجع امرأة قط إلى أن تزوج السيدة إليوت. أراد أن يحتفظ بنفسه نقيًّا كي يحفظ لزوجته ما كان يتوقَّعه منها من نقاء الذهن والجسد. كان يُسمِّي ذلك بالاستقامة في العيش. لقد أحبَّ العديد من الفتيات قبل أن يُقبِّل السيدة إليوت، وكان يُخبرهن في وقتٍ ما، سواءٌ تقدم أو تأخر، بأنه عاش حياةً نقية. وهذا ما جعل كلَّ الفتيات تقريبًا يفقدن الاهتمامَ به. لقد كان مصدومًا ومرتعبًا من حقيقة أنَّ الفتيات يُخطَبن إلى رجال ويتزوجن منهم، وهنَّ يعرفن بأنهم قد جرُّوا أنفسهم إلى الوحل. لقد حاول ذات مرة أن يُحذِّر فتاة من رجل كان يعرف يقينًا أنه كان خسيسًا في الكلية، وقد نتج عن ذلك حادثةٌ فظيعة للغاية.
كانت السيدة إليوت تُدعى كورنيليا. علَّمته أن يدعوَها باسم كالوتينا، الذي كان لقبَ عائلتها في الجنوب. بكت أمه حين أحضر كورنيليا إلى المنزل بعد زواجهما، لكنها ابتهجت كثيرًا حين عرَفَت أنهما سيعيشان خارج البلاد.
حين أخبر كورنيليا كيف أنه قد حافظ على نقائه من أجلها، قالت: «فتاي العزيز الرقيق!» وقربته إليها أكثرَ من أي وقت سابق. كانت كورنيليا نقيةً هي أيضًا. قالت: «قبِّلني هكذا ثانية.»
شرح لها هيوبرت أنه تعلَّم تلك الطريقة في التقبيل من قصة قد سمع رجلًا يرويها. كان مسرورًا بتجربته، وقد تماديا فيها إلى أبعد حدٍّ ممكن. أحيانًا بعد أن يكونا قد قضَيا وقتًا طويلًا في التقبيل، كانت كورنيليا تطلب منه أن يُخبرها كيف أنه حافظ على نفسه نقيًّا من أجلها. ودائمًا ما كان هذا التصريح يُثيرها ثانية.
في البداية، لم يكن هيوبرت ينتوي الزواج من كورنيليا على الإطلاق. لم يسبق له أن فكَّر فيها بتلك الطريقة. لقد كانت صديقةً عزيزة له، وذات يوم في الغرفة الخلفية الصغيرة في متجرها، كانا يرقصان على موسيقى إحدى أسطوانات الجراموفون بينما كانت صديقتها في مقدمة المتجر، وقد نظرت في عينَيه وقبَّلها. لم يستطع أن يتذكر قطُّ متى كان قرار زواجهما، لكنهما تزوَّجا على أي حال.
قضيا ليلة يوم زواجهما في غرفةٍ بأحد فنادق بوسطن. شعر كلاهما بخيبة الأمل، لكنَّ كورنيليا قد تمكنَت أخيرًا من الخلود إلى النوم. لم يستطع هيوبرت النوم وخرج عدة مرات وراح يقطع ردهة الفندق ذهابًا وإيابًا مرتديًا بُرنُس الحمام الجديدَ الذي ابتاعه لرحلة زفافه من العلامة التجارية ياجر. بينما كان يسير في الردهة، رأى جميع أزواج الأحذية، سواء الصغيرة أو الكبيرة منها، موجودةً خارج أبواب غرف الفندق. دفع ذلك قلبه إلى الخفقان بشدة، فأسرع عائدًا إلى غرفته، لكنَّ كورنيليا كانت نائمة. لم يُحِبَّ أن يوقظها، وسرعان ما أصبح كل شيء على ما يُرام، ونام بسلام.
في اليوم التالي زارا أمه، وفي اليوم الذي يليه أبحرا إلى أوروبا. كان من الممكن أن يُحاولا إنجاب طفل، لكنَّ كورنيليا لم تكن تقدر على المحاولة كثيرًا بالرغم من أنهما كانا يرغبان في طفل أكثر من أي شيء آخر في العالم. رسَت سفينتهما في شيربورج، ثم ذهبا إلى باريس. حاولا إنجاب طفل في باريس. بعد ذلك قرَّرا أن يذهبا إلى ديجون حيث كانت هناك مدرسةٌ صيفية، وحيث ذهب عدد مِمَّن كانوا معهما على متن السفينة. وجدا أنه ما من شيء يمكن القيامُ به في ديجون، غير أنَّ هيوبرت كان يكتب عددًا كبيرًا من القصائد وكتبتها له كورنيليا على الآلة الكاتبة. كانت القصائد كلها طويلةً للغاية، وكان هو صارمًا بشأن الأخطاء وكان يجعلها تُعيد كتابة صفحة بأكملها إذا كان بها خطأٌ واحد. بكت كثيرًا وحاولا مرات عديدة أن يُنجِبا طفلًا قبل مغادرة ديجون.
عادا إلى باريس، ورجع إليها معظمُ أصدقائهما من السفينة أيضًا. لقد ضَجِروا من ديجون، وكانوا سيستطيعون القول على أية حال إنهم، بعد مغادرتهم هارفارد أو كولومبيا أو واباش، قد درَسوا في جامعة ديجون بإقليم كوت دور. كان العديد منهم سيُفضِّلون الذَّهاب إلى لانجيدوك أو مونبلييه أو برينيان إن كانت بها أيُّ جامعات. غير أنَّ هذه الأماكن بعيدة للغاية. أما ديجون، فهي لا تبعد سوى أربع ساعات ونصف الساعة عن باريس، ويوجد مطعم في القطار.
ولهذا، فقد تجمَّعوا كلهم حول مقهى كافيه دو دوم، متجنِّبين مقهى روتوند الموجود على الجهة المقابلة من الشارع؛ إذ إنه كان يعجُّ بالأجانب على الدوام، وذلك لبضعة أيام ثم استأجر الزوجان إليوت بيتًا ريفيًّا كبيرًا يقع في تورين من خلال إعلان في جريدة «ذا نيويورك هيرالد». بحلول ذلك الوقت، أصبح لإليوت عددٌ من الأصدقاء المعجبين بشِعره، ونجحت السيدة إليوت في إقناعه بدعوة صديقتها التي كانت تعمل في متجر الشاي لزيارتهما. أصبحت السيدة إليوت أسعدَ كثيرًا بعد أن جاءت صديقتها، وقد بكَيا معًا كثيرًا لمرات عديدة. كانت الصديقة أكبر من كورنيليا بعدة سنوات وكانت تدعوها باسم هَني. لقد كانت تنحدر هي أيضًا من عائلة جنوبية عتيقة للغاية.
ذهب ثلاثتهم، مع عدد من أصدقاء إليوت الذين كانوا يدعونه باسم هوبي، إلى البيت الريفي في تورين. وجدوا تورين بلدة حارة مستوية للغاية تُشبِه كانساس كثيرًا. أصبح لدى إليوت الآن عددٌ كبير من القصائد يكفي لتجميعها في كتاب. كان ينوي نشره في بوسطن، وقد أرسل فعلًا شيكًا خاصًّا بذلك إلى ناشر بعد أن اتفق معه.
في غضون وقتٍ قصير، بدأ الأصدقاء يعودون ثانيةً إلى باريس. لم تعد تورين كما كانت تبدو في أول الأمر، وسرعان ما غادر جميع الأصدقاء مع شاعر شاب ثري وأعزب إلى منتجع بجانب البحر بالقرب من تروفيل. وهناك، شعروا جميعًا بسعادة بالغة.
استمر إليوت في الإقامة بالبيت الريفي في تورين؛ إذ كان قد استأجره لفترة الصيف بأكملها. حاول هو والسيدة إليوت كثيرًا في غرفة النوم الحارة الكبيرة على السرير الصُّلب الضخم إنجابَ طفل. بدأت السيدة إليوت في تعلُّم نظام الكتابة على الآلة الكاتبة دون النظر إلى لوحة مفاتيحها، لكنها وجدَت أنه يَزيد من الأخطاء بالرغم من زيادة السرعة. كانت الصديقة الآن تكتب بالفعل جميع النسخ. لقد كانت منظَّمة وماهرة للغاية، وبدا أنها كانت تستمتع بالعمل.
صار إليوت معتادًا على شرب النبيذ الأبيض، وعاش منعزلًا في غرفته. كان يكتب الكثير من القصائد في الليل، ويبدو منهكًا جدًّا في الصباح. أصبحت السيدة إليوت والصديقة تنامان الآن معًا في السرير الكبير المصمَّم على طراز العصور الوسطى. وقد بكيا معًا مرات عديدة. في المساء، كانوا يجلسون معًا على العشاء في الحديقة أسفل إحدى أشجار الدلب، بينما تهب ريح المساء الحارة ويشرب إليوت النبيذ الأبيض، وتتبادل السيدة إليوت والصديقة أطراف الحديث، وقد كانوا جميعًا سعداءَ إلى حد كبير.