الفصل الثاني عشر
ارتدى بدلة الضابط على سبيل التجربة، فحدَجته نور بدهشة، ولكنها لم تلبث أن قالت في توسُّل: كن حكيمًا، لم يعُد في وسعي أن أفقدك!
فأشار إلى البدلة وهو يقول: عن حكمةٍ صنعتُها!
وتفحَّص صورته في المرآة بعناية، ثم قال ساخرًا: أظن من المناسب أن أقنع برتبة صاغ.
ولكنها سمعت عن أسطورته في الليلة التالية مباشرةً، ورأت عديدًا من صوره في مجلة أسبوعية مع صاحب من صحابها العابِرين، وانهارَتْ أمامه في يأس قائلة: قتَلت؟! يا مصيبتي! ألم أتوسَّل إليك؟
فلاطفها بيده قائلًا: حدث ذلك قبل أن نلتقي!
فزاغ بصرها، وقالت في شكٍّ ويأس: أنت لا تحبني، أنا أعرف هذا، ولكن كان من الممكن أن نعيش معًا حتى تحبني!
– هذه الفرصة موجودة.
فقالت في يأس أرهب: لكنك قتَلْتَ، ما الفائدة؟
فابتسم في اطمئنان وثقة وقال: ما أسهلَ أن نهرب معًا!
– ماذا ننتظر؟
– حتى تهدأ الزوبعة.
فضربَتِ الأرض بقدمها قائلة: سمعتُ أن الجنود يملئون مخارج القاهرة، كأنك أول قاتل!
الجرائد .. الحرب الخفية! .. ولكنه قال في هدوء مصطنع: سأهرب حين أقرِّر الهرب وسترين!
وقبض على ضفيرتها كالغاضب وقال موبِّخًا: ألا تعرفين مَن يكون سعيد مهران؟! الجرائد كلها تتحدث عنه، وأنتِ لا تؤمنين به، أصغي إليَّ، سنعيش معًا إلى الأبد، وستَصْدُق كلمةُ ضاربةِ الودع!
ومضى في الليلة التالية إلى قهوة طرزان، هربًا من الوحدة، وطلبًا للجديد من الأنباء، وما كاد يظهر عند مدخل القهوة حتى بادره طرزان فذهب به إلى الخلاء بعيدًا، ثم قال معتذرًا: لا تؤاخذني، حتى قهوتي لم تعُد بالمكان المأمون لك!
فقال سعيد واجمًا — وإن أخفى الظلام وجومه: ظننتُ الزوبعة قد هدأَتْ!
– إنها تزداد كلَّ يوم اشتعالًا بسبب الجرائد، اختفِ، ولكن لا تحاول الخروج من القاهرة الآن.
فتساءل سعيد في حنق: ألا تجد الجرائد موضوعًا غير سعيد مهران؟
– إنها تقص على الناس أنباء غزواتك الماضية، حتى أثارت عليك المحافظة.
وهمَّ بالذهاب؛ فقال له طرزان وهو يودِّعه: فلنتقابل بعيدًا عن القهوة إذا شئت!
وعاد إلى مخبئه في بيت نور، إلى الوحدة والظلمة والانتظار، وهتف بغضب: أنت يا رءوف وراء كل ذلك!
جميع الجرائد سكتَتْ — أو كادت — إلا جريدة الزهرة ما زالت تنبش عن الماضي وتستفز البوليس، إنها توشك أن تنادي ببطولته سعيًا وراء القضاء عليه؛ ولن يهدأ رءوف علوان حتى يطوق عنقه بحبل المشنقة، ومعه القانون والحديد والنار، وأنت هل لحياتك التالفة من معنى إلا أن تقضي على أعدائك؛ عليش سدرة مجهول المكان، ورءوف علوان في قصر من حديد، ولكن ما معنى حياتك إن لم تؤدِّب أعداءك؟ ولن تَحُول قوة دون تأديب الكلاب، أجل لن تحول دون ذلك قوةٌ، وبصوت مسموع تساءل: رءوف علوان، خبِّرني كيف يُغيِّر الدهر الناس على هذا النحو البشع؟!
الطالب الثائر، الثورة في شكل طالب، وصوتك القوي يترامى إليَّ عند قدمَيْ أبي في حوش العمارة، قوة توقظ النفس عن طريق الأذن، عن الأمراء والباشوات تتكلم، وبقوة السحر استحالَ السادةُ لصوصًا، وصورتك لا تُنسى وأنت تمشي وسط أقرانك في طريق المديرية بالجلابيب الفضفاضة وتمصُّون القصب، وصوتك يرتفع حتى يغطي الحقل، وتسجد له النخلة، تلك هي الروعة التي لم أجد لها نظيرًا، ولا عند الشيخ الجنيدي، هكذا كنتَ يا رءوف، وبفضلك وحدك ألحَقَني أبي بالمدرسة، وعند إحراز النجاح ضحكتَ ضحكة عظيمة ولوالدي قلتَ: أرأيتَ؟ .. لم تكن تريد أن تُعلِّمه، انظر إلى عينَيْه، سيكون ممَّن يقوضون الأركان، وعلَّمْتَني حب الكتاب، وناقَشْتني كأني ندٌّ لك، وكنتُ بين المستمعين لك عند النخلة التي نبتَتْ عند جذورها قصة حُبي، وكان الزمان ممَّن يستمعون لك، الشعب .. السرقة .. النار المقدسة، الثروة .. الجوع .. العدالة المُذهِلة، ويوم اعتُقِلتَ ارتفعْتَ في نظري إلى السماء، وارتفعْتَ أكثر يومَ حميتَني عند أول سرقة، ويومَ ردَّ حديثُك عن السرقة إليَّ كرامتي، ويومَ قلتَ لي في حزن: سرقات فردية لا قيمة لها، لا بد من تنظيم! ولم أكُفَّ عن القراءة والسرقة بعد ذلك. وكنتَ ترشدني إلى الأسماء الجديرة بالسرقة، ووجدت في السرقة مجدي وكرامتي، وأغدقت على أناس كان من بينهم للأسف عليش سدرة، وبصوت غاضب قال في الحجرة المظلمة: أأنتَ حقًّا رءوف علوان صاحب القصر؟! أنت الثعبان الكامن وراء حملة الصحف؟! تودُّ أن تقتلني كما كان الآخَرون، وكما تودُّ أن تقتل ضميرك، وكما تود أن تقتل الماضي، لكني لن أموت قبل أن أقتلك، أنت الخائن الأول، ما أعبث الحياة إن قُتِلتُ غدًا جزاء قتل رجل لم أعرفه! فلكي يكون للحياة معنى، وللموت معنى، يجب أن أقتلك، لتكن آخِر غضبة أُطلقها على شر هذا العالَم، وكل راقد في القرافة تحت النافذة يؤيِّدني، ولأترك تفسير اللغز للشيخ علي الجنيدي!
وعند أذان الفجر سمع الباب وهو يُفتح، وجاءت نور حاملة الشواء والشراب والجرائد، وبدَتْ مبسوطة شوية، كأنما نسيتْ أشجان الأمس وأحزان أمس الأول، وبحضورها انقشعَ الظلام، فوثب قلبُه المُنهَك ليعانق الدنيا بطعامها وشرابها وأخبارها، وقبَّلته فقبَّلها بامتنان، وبلا تكلُّف لأول مرة، ودَّ ألا تغيب عنه، وهي القلب الذي يودعه الحب قبل الموت، وفض سداد الزجاجة في مجلسهما المعتاد، فملأ كوبًا ثم صبها في جوفه نارًا، وسألَتْه وهي ترنو إلى وجهه المُتعَب: لِمَ لمْ تنَمْ؟
وكان يتصفَّح الجرائد، فلم يُجِب، فمضَتْ تقول بإشفاق: الانتظار في الظلام عذاب!
فسألها وهو يرمي بالجرائد جانبًا: كيف الحال في الخارج؟
– كحاله كلِّ يوم.
ونضَّت عنها ثيابها إلا قميصًا شفافًا، فسطعَتْ أنفُه رائحة بودرة مُلبَّدة بالعرق، ثم استطردَتْ: ويتحدث عنكَ ناس كأنك عنترة، ولكنهم لا يدرون عذابنا!
فقال ببساطة: أكثرية شعبنا لا تخاف اللصوص ولا تكرههم.
وتواصلت خمس دقائق في التهام الشواء، ثم قال: ولكنهم بالفطرة يكرهون الكلاب!
فقالت باسمةً وهي تلعق أناملها: أنا أحب الكلاب!
– لا أعني هؤلاء.
– نعم، ولم يخلُ بيتي منها أبدًا، حتى شهدتُ موت آخِر واحدة، وبكيتُ كثيرًا، فصمَّمتُ ألا أعاشرها مرةً أخرى.
فقال ساخرًا: ينبغي أن نتجنب الحب إذا توعدنا بالتعب.
– أنت لا تفهمني ولا تحبني!
فقال برجاء: لا تكوني ظالمة، ألا ترينَ أن الدنيا كلها ظالمة؟!
وأفرطَتْ في الشراب حتى دار رأسُها، واعترفَتْ له بأن اسمها الحقيقي هو شلبية، وقصَّتْ عليه نوادر من عهد البلينا؛ الطفولة والمياه الراكدة والشباب والهرب، ثم قالت بخُيَلاء: وأبي كان عمدة!
فقال ببساطة: كان خادم العمدة.
فقطَّبتْ، ولكنه بادرها قائلًا: أنتِ التي قلتِ في الزمان الأول!
فضحكَتْ كاشفة عن أسنان مُغطاة بالبقدونس، وقالت: أقلتُ ذلك حقًّا؟
فقال بحدة: ولذلك انقلب رءوف علوان خائنًا!
فحدجَتْه بنظرة إنكار متسائلة: مَن رءوف علوان؟
فقال بسخط: لا تكذبي، إنَّ من يعاني الظلمة والوحدة والانتظار لا يطيق الكذب!