الفصل الثالث عشر
عقب منتصف الليل اخترق سعيد الصحراء، وفي الجانب الغربي من السماء شيء من القمر، وعلى مبعدة مائة متر من هضبة القهوة صفَّر ثلاثًا، وراح ينتظر، لم يكن بدٌّ من أن يضرب ضربته أو يُجَن، وكان يأمل أن يجد عند طرزان الخبر، وما لبث أن جاء طرزان كموجة من الظلام، فتعانقا ثم سأله: هل من جديد؟
فقال الرجل وهو يلهث بما يتناسب مع سمانته: أخيرًا جاء واحد منهم.
فتساءل سعيد بلهفة: مَن؟
– المعلم بيَّاظة، وهو الآن في القهوة يعقد صفقة.
– لم يضِعِ الانتظار هباء، ماذا تعرف عن طريقه؟
– سيرجع من طريق الجبل.
فشدَّ على يده قائلًا: تشكر يا معلم!
وابتعد مُسرِعًا مائلًا نحو الشرق، مُهتدِيًا بالضوء الواني حتى الغابة المحدقة بعيون المياه، وسار بحذاء ضلعها الجنوبي حتى رأسها المُدبَّب الغائص في الرمال عند بدء الطريق المنحدر نحو الجبل، توارى وراء شجرة متربِّصًا، وجرى هواء جاف مُنعِش، فصدرَتْ عن رقعة الغابة الصغيرة وشوشة، وترامى الخلاء كالفناء، ويده قابضة على المسدس، يفكِّر في الفرصة المُمكِنة، في الانقضاض على عدوِّه غير المنُتظَر، ثم في بلوغ الهدف المضني، وأخيرًا في الهلاك كآخِر مستقر، وقال بصوت لم تسمعه إلا الأشجار الثملة بالهواء: عليش سدرة ثم رءوف علوان في ليلة واحدة، ثم ليكن ما يكون!
وتوثَّب يصارع الانتظار ولكن لم يطُل به الانتظار، فما لبث أن لاح شبح يُسرع في الظلام آتيًا من ناحية الهضبة نحو رأس الغابة، ولمَّا لم يعُد بينه وبين بدء الطريق إلا متر اندفع سعيد من مكمنه مُصوِّبًا نحوه مسدسه هاتفًا: قِف …
وتسمَّر الشبح كأنه تكهرب، وحملق في الرجل دون أن ينبس بكلمة، فقال سعيد: بيَّاظة أنا أعرف أين كنت؟ وماذا فعلت؟ ومقدار ما تحمل من نقود!
فوضح تنفُّس الشبح كالفحيح، وندَّت عن ذراعه حركة خفية متردِّدة، سرعان ما همدَتْ، وغمغم: فلوس العيال!
فلطمه على وجهه لطمة زادت الليل سوادًا في عينَيْه، وقال بنبرات منطلِقة: ألم تعرفني يا بيَّاظة الكلب؟!
فهتف بيَّاظة: مَن؟ .. عرفتُ الصوت ولكني لم أصدق .. سعيد مهران؟!
– لا تتحرك، ستُقتل عند أول حركة!
– أنت تقتلني؟ لِم؟ ليس بيننا عداوة!
فمدَّ سعيد يده إلى صدره حتى عثر على الكيس المُثقَل، ثم انتزعه من مربطه بقوة وهو يقول: هذه واحدة!
فهتف بيَّاظة بجزع: هذا مالي، ولستُ عدوًّا لك!
– اخرس، لم آخُذ كلَّ ما أريد بعدُ!
– بيننا زمالة يجب أن تُحترَم.
فحرَّك المسدس في يده وقال: إذا أردتَ النجاة بحياتك فخبِّرني أين يقيم عليش سدرة؟
فقال الرجل بتوكيد: لا أعرف ولا أحد يعرف!
فلطمه لطمة أخرى أشدَّ من الأولى، وصاح بغضب: سأقتلك إن لم تدلني على مكانه، ولن تسترد نقودك حتى أتأكد من صدقك!
فقال الرجل بنبرة متألمة: لا أعرف، أقسم لك أني لا أعرف!
– كذَّاب!
– أحلف لك بالطلاق إن شئتَ!
– هل ذاب كما يذوب الملح؟
فقال بنبرة تستجدي تصديقه: لا أعرف ولا أحد يعرف، انتقل من شقته عقب زيارتك له خوفًا من بطشك، انتقل إلى روض الفرج …
– عنوانه؟
– انتظر يا سعيد، بعد قتل شعبان حسين سافر ومعه أسرته دون أن يخبر أحدًا عن وجهته، كان مرتعِبًا وكانت المرأة مرتعِبة، ولا يدري أحد عنهما شيئًا!
– بيَّاظة!
– أحلف لك بالطلاق بالثلاثة!
فلطمَه الثالثة فتأوَّهَ وصاح بصوت مُمزَّق: لِمَ تضربني يا سعيد؟ ربنا يجحمه حيث يكون، أهو أخي أو أبي حتى أموت بسببه؟
وصدقه في النهاية على رغمه، ويئس من العثور على غريمه. ولو لم تكن تطارده جريمة قتل لصبر وانتظر حتى تحين الفرصة ولكن الرصاصة الطائشة أصابت أعز أمانيه، وإذا ببيَّاظة يقول: أنت ظلمتني!
فلم ينبس فاستطرد الرجل: وفلوسي؟!
وتحسَّس الرجل خدَّيْه الملتهبتَين ثم قال: أنا لم أُسِئ إليك، فلا يحق لك أن تغتصب مالي، ولي عليك حق الزمالة!
فقال باحتقار: كنتَ ضمن أعوانه!
– كنتُ صديقه وشريكه، ولا يعني هذا أن أكون عدوك، ولا شأن لي بخيانته!
انتهى الصراع، ولم يبقَ إلا التراجُع، وقال سعيد بصراحة: إني في حاجة إلى نقود!
فبادره بيَّاظة: لك ما تشاء!
قنع سعيد بعشرة جنيهات، وذهب الرجل وهو لا يصدق بالنجاة، ووجد سعيد نفسه كما بدأ وحيدًا في الخلاء، وقد تجلَّى ضوء القمر بوضوح أكثر، وارتفعت مناجاة الأشجار، يبدو أن عليش سدرة قد أفلتَ من مخالب التأديب، نجا بخيانته ليزيد الخونة الآمنين واحدًا، أما أنت يا رءوف فالأمل الباقي في ألا تضيع حياتي عبثًا!