الفصل الخامس عشر
يا للعناوين الضخمة والصور المثيرة، كأنه الحدث الأكبر الذي تتلقَّفه الصحف، وسألوا رءوف علوان فأجاب أن سعيد مهران كان خادمًا في عمارة الطلبة على عهد إقامته بها، وأنه كان يعطف عليه كثيرًا، وأنه زاره بعد خروجه من السجن مُستجديًا فأعطاه مالًا ليبدأ حياة جديدة، ولكنه حاول سرقة بيته في الليلة نفسها، فقبض عليه وعنَّفه، ولكنه أطلقَ سراحه رحمةً به، وجاء أخيرًا ليقتله! واتهمَته الصحف بالجنون؛ جنون العظمة والدم، لقد أفقدَتْه خيانة زوجته عقله، فهو يطلق النار بلا وعي، ولم يُصِب رءوف علوان، ولكن البواب المسكين سقط، بريء ضعيف آخَر.
وصاح سعيد وهو يقرأ الخبر: اللعنة!
الدويُّ يقرع بقوة صاروخية، وثمة مكافأة ضخمة لمَن يُرشد إليه، ومقالات تحذِّر الشعب من العطف عليه، أنت أهم ما في الحياة اليوم، وستظل كذلك حتى تزهق روحك، إنك مثار الخوف والإعجاب كالظاهرات الطبيعية الخارقة، وسيدين لك بالسرور كلُّ مَن خنقه الملل، أما مسدسك فالظاهر أنه لا يقتل إلا الأبرياء، وستكون أنت آخِر ضحية له، وتساءل بصوت جافٍّ: أهذا هو الجنون؟!
كنت دائمًا تطمح إلى زلزلة الكون من أساسه، حتى وأنت مجرد بهلوان، وغزواتك الظافرة للقصور كانت خمرًا يسكر بها رأسك الفخور، وكلمات رءوف التي آمنتَ بها، وكفر بها قائلُها أطاحَت برأسك حتى الموت.
ولبث وحيدًا في الليل، وكان في الزجاجة خمر فشربها حتى آخِر نقطة، ووقف في الظلام يطوقه صمت المقابر، ودارت رأسه رويدًا، وشعر بأنه يتغلب على الصعاب، ويستهين بالموت ويطرب لأنغام خفية، وقال مخاطبًا الظلام: رصاصة طائشة جعلَت مني رجل الساعة!
ومضى إلى الشيش فنظر من خلاله إلى القرافة وقد رقدت القبور تحت ضوء القمر، وقال: يا حضرات المستشارين، اسمعوا لي جيدًا، فقد قرَّرتُ الدفاع عن نفسي بنفسي.
ورجع إلى وسط الحجرة، ثم نزع عنه جلبابه لشدة الحرارة في الحجرة، ولارتفاع الحرارة في جوفه من فعل الخمر، واختلج جرحه بالألم تحت العصابة، فآمن بأنه آخِذ في الالتئام، وحملق في الظلام قائلًا: لستُ كغيري ممَّن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه، وهو فرق عَرَضي لا أهمية له البتَّة، أما المضحك حقًّا فهو أن أستاذي الخطير ليس إلا وغدًا خائنًا، ويحقُّ لكم العجب، ولكن يحدث أن يكون السلك الموصِّل للكهرباء قذرًا مُلطَّخًا بإفرازات الذباب!
ومالَ نحو الكنبة فاستلقى عليها، وترامى إليه من بعيد نُباح كلب، ولكن كيف تطمئن قضاتك وبينك وبينهم خصومة شخصية لا شأن لها بالصالح العام؟! إنهم أقرباء للوغد، ويفصل بينك وبينهم قرن من الزمان، وأنت تطالب بشهادة الضحية! وتؤكد أن الخيانة باتت مؤامرة صامتة!
– أنا لم أقتل خادم رءوف علوان، كيف أقتل رجلًا لا أعرفه ولا يعرفني؟ إن خادم رءوف علوان قُتل؛ لأنه بكل بساطة خادم رءوف علوان، وأمس زارَتني روحه فتواريتُ خجلًا، ولكنه قال لي: ملايين هم الذين يُقتَلون خطأ وبلا سبب!
ستتألق هذه الكلمات، وتُتوَّج بالبراءة، أنت واثق مما تقول، وفضلًا عن ذلك فهم يؤمنون في قرارة أنفسهم بأن مهنتك مشروعة، مهنة السادة في كل زمان ومكان، وأن القِيَم الزائفة حقًّا فهي التي تُقدِّر حياتك بالملاليم، وموتك بألف جنيه، وقاضي اليسار يغمز لك بعينه، فأبشر.
– سأطلب دائمًا رأس رءوف علوان، ولو كآخر طلب من عشماوي، حتى قبل رؤية ابنتي، وأنا مضطر إلى ألا أعد العمر بأيام، لأن المطارَد يقتات بزمنه انفعالات تنهال عليه في وحدته كالمطر!
لن يكون الحكم أقسى من جفول سناء، قتلتك قبل المشنقة، وعطف الملايين عليك عطف صامت، عاجز كأماني الموت، ألا يغفرون للمسدس خطأه وهو ربهم الأعلى؟!
– إن مَن يقتلني إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه، والقول بأنني مجنون ينبغي أن يشمل كافة العاطفين، فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شئتم!
واشتد به الدوار فقضى بأنه عظيم بكل معنى الكلمة، عظمة هائلة، ولكنها مجللة بالسواد عشيرة للمقابر، ولكن عزتها ستبقى بعد الموت، وجنونها تباركه القوة السارية في جذور النبات وخلايا الحيوان، وقلب الإنسان، وسرَقَه النوم؛ فلم يدرِ كيف سرقَه، ولم يفطن إلى أنه نام حقًّا إلا حين استيقظ على ضوء يغمر الحجرة، وفتح عينَيه فرأى نور واقفة تنظر إليه من عينَين ميتتَين، وقد تدلت شفتها السفلى، واحدودب ظهرها في قنوط، بدَت مثالًا صادقًا لليأس والضياع، أدرك ما وراء ذلك في ثانية، لقد سمعَت عن الجريمة الأخيرة فانكتمت أنفاسها.
– أنتَ أقسى مما أتصوَّر، لا أفهمك، ولكن بالله اقتلني رحمةً بي!
وجلس على الكنبة دون أن ينبس.
– أنتَ تفكر في القتل لا في الهرب، وسوف تُقتَل، هل تظن أنك ستهزم الحكومة بجنودها الذين يملئون الشوارع؟
– اجلسي ولنتحدث في هدوء!
– من أين لي الهدوء؟ وفيمَ نتحدث؟ انتهى كل شيء، اقتلني رحمة بي!
فقال بهدوء رقيق: لا مسَّكِ سوء أبدًا!
– لن أصدق كلمة مما تقول، لماذا تقتل البوابين؟
فهتف بحدة: لم أقصد مسَّه بسوء!
– والآخَر؟ من هو رءوف علوان؟ ماذا بينك وبينه؟ أكانت له علاقة بزوجتك؟
فضحك ضحكة جافة كالسعلة: فكرة مضحكة! ثمة أسباب أخرى، إنه خائن أيضًا، ولكن من نوع آخر، لا أستطيع أن أفهمك كل شيء!
فقالت بغضب: ولكنك تستطيع أن تعذِّبني حتى الموت!
– قلتُ اجلسي لنتحدث في هدوء.
– أنتَ ما زلت تحب زوجتك، تلك الخائنة، ولكنك تعذبني أنا!
فقال متوجِّعًا: نور، لا تزيديني عذابًا، أنا في غاية من النكد!
وصمتت متأثرة بتوجُّعه الذي لم ترَه من قبل، ثم قالت بحزن شديد: إني أشعر بأن أعز ما في حياتي يحتضر!
– وهْمٌ وخوف، أما المغامر مثلي فلا يعترف بالشدائد، سأذكرك بذلك.
فتساءلت بلهجة ندب: متى؟
فقال مُدَّعيًا ثقة لا حدَّ لها: أقرب مما تتصوَّرين!
ومالَ نحوها فجذبها من يدها إليه، ولصق جبينها بجبينه حتى امتلأ أنفه برائحة الخمر والعرق. ولم يتقزَّز، بل قبَّلها بحنان صادق.