الفصل السابع عشر
عادت صاحبة البيت إلى طرق الباب عند العصر ثم عند المساء، ورجعَت آخِر مرة وهي تقول: لا لا يا ست نور، لا بد لكل شيء من آخِر.
وغادر البيت متسللًا عند منتصف الليل، وبالرغم من أنه فقدَ الثقة في كل شيء إلا أنه مشى مشية طبيعية جدًّا ومتمهلة كأنما يتريض، وخُيِّل إليه أكثر من مرة أن المارة والمتسكِّعين ليسوا إلا مُخبِرين، فتوثب لدخول آخِر معركة يائسة، ولم يشك في أن البوليس يحتل منطقة طرزان كلها بعد معركة أمس، فمضى نحو طريق الجبل، وكان الجوع ينهش بطنه، ووجد نفسه يفكِّر في مسكن الشيخ علي الجنيدي كمرفأ مؤقت حتى يتسع له مجال التفكير والمغامرة، وتسلَّل إلى فناء البيت الصامت، وعند ذاك فحسب تنبَّه إلى أنه نسي بدلته الرسمية — بدلة الضابط — في حجرة الجلوس ببيت نور، فغضب لذلك أيما غضب، ولكنه واصل سيره إلى حجرة الشيخ، ورأى الشيخ على ضوء المصباح متربِّعًا في ركن المصلى غارقًا في نجوى هامسة، فذهب إلى جدار الحجرة حيث ترك كتبه وجلس في إعياء، واستمر الشيخ في نجواه، فقال سعيد: مساء الخير يا مولاي!
فرفع الشيخ يده إلى رأسه ردًّا على تحيته دون أن يقطع نجواه، فقال سعيد: مولاي، أنا جائع!
فخُيِّل إليه أنه قطع النجوى، ورنا إليه من عينَين غائبتَين ثم أومأ بذقنه إلى خوان قريب، فرأى سعيد فوقه تينًا وخبزًا، فنهض إليه دون تردُّد ثم التهمه بنهم حتى أتى عليه، ووقف ينظر إلى الشيخ بعينَين تنطقان بعدم شبعه، فسأله: أليس معك نقود؟
– بلى!
– اذهب واشترِ شيئًا تأكله.
فعاد إلى مجلسه صامتًا، وجعل الشيخ يتأمله مليًّا، ثم سأله: متى يا تُرى تستقر؟
– ليس على سطح هذه الأرض!
– لذلك فأنت جائع رغم نقودك!
– ليكن …
– أما أنا فكنت أردِّد شعرًا عن الأحزان، ولكن بقلب مبتهج.
– أنت شيخ سعيد!
ثم بغضب: هرب الأوغاد، كيف بعد ذلك أستقر؟!
– كم عددهم؟
– ثلاثة.
– طوبى للدنيا إذا اقتصر أوغادها على ثلاثة.
– هم كثيرون، ولكن غرمائي منهم ثلاثة.
– إذن لم يهرب أحد.
– لست مسئولًا عن الدنيا!
– أنت مسئول عن الدنيا والآخرة!
ونفخ لنفاد صبره؛ فقال الشيخ: الصبر مُقدَّس تُقدَّس به الأشياء!
فقال سعيد بغم: بل المجرمون ينجون ويسقط الأبرياء!
فتساءل الشيخ وهو يتنهَّد: متى نظفر بسكون القلب تحت جريان الحكم؟
فأجاب سعيد: عندما يكون الحُكم عادلًا.
– هو عادل أبدًا.
فحرَّك سعيد رأسه في غيظ مغمغمًا: هرب الأوغاد، وا أسفاه!
فابتسم الشيخ ولم ينبس، فقال سعيد بنبرة جديدة يمهِّد بها لتغيير مجرى الحديث: سأنام ووجهي إلى الجدار، لا أود أن يراني أحد ممَّن يزورونك، إني ألجأ إليك فاحفظني!
فقال الشيخ برحمة: التوكُّل ترك الإيواء إلا إلى الله.
فسأله بإشفاق: هل تتخلى عني؟
– معاذ الله!
فتساءل في يأس: هل في وسعك بكل ما أوتيتَ من فضل أن تنقذني؟
– أنت تنقذ نفسك إن شئت!
فهمس سعيد لنفسه: أنا أقتل الآخرين!
ثم سأله بصوت مرتفع: هل تستطيع أن تقيم ظِلَّ شيء معوج؟
فقال الشيخ برقة: أنا لا أهتم بالظلال!
وساد الصمت فدبَّت الحياة خارج الكُوَّة التي يسيل منها القمر، ورتَّل الشيخ بصوت هامس: «إن هي إلا فتنتك.» وقال سعيد: إن الشيخ سيجد دائمًا ما يقوله، وبيتك يا مولاي غير مأمون وإن تكن أنت الأمان نفسه، وعليَّ أن أهرب مهما كلَّفني الأمر، وأما أنتِ يا نور فلتحفظك الصدفة إن أَعوَزكِ العدل والرحمة، ولكن كيف نسيتُ البدلة الرسمية؟ لفَفْتها مصمِّمًا على أخذها معك، فكيف نسيتها في آخِر لحظة؟ حقًّا فقدتَ جميل مزاياك بالسُّهاد والوحدة والظلمة والقلق، وقد يجدون في البدلة أول خيط يوصل إليك، وقد تشمها الكلاب فتنتشر في جهات الأرض الأربع كي تكتمل المأساة التي يتسلى بها قرَّاء الصحف، وإذا بالشيخ يقول فيما يشبه الأسى: سألتكَ أن ترفع وجهك إلى السماء، وها أنت تنذر بأنك ستدفنه في الجدار!
فحدَجه بحزن هاتفًا: وحديثي عن الأوغاد ألا تذكره؟
فقال بنبرة دسمة: واذكُر ربَّك إذا نَسيتَ.
فغض َّبصره في كرب ثم ساءل نفسه: كيف نسي البدلة، وعاودَته أفكار السوء، أما الشيخ فقال وكأنما يخاطب آخَر: سُئل: «أرأيت رُقًى نسترقيها ودواء نتداوى به، هل يرُد من قدَر الله؟» فأجاب: «إنه من قدر الله!»
– ماذا تعني؟
فقال وهو يتأوَّه آسفًا: لم يكن أبوك ليغلق عليه قولي أبدًا!
فقال سعيد بشيء من الحدة: من المؤسف أنني لم أجد عندك طعامًا كافيًا، كما هو مؤسف أنني نسيت البدلة، كذلك عقلي يتعذر عليه فهمك، وسأدفن وجهي في الجدار، ولكني واثق من أنني على حق …
فقال باسمًا في رثاء: قال سيدي: «إني لأنظر في المرآة كل يوم مرارًا مخافة أن يكون قد اسودَّ وجهي!»
– أنت؟!
– بل سيدي نفسه!
فتساءل ساخرًا: فكيف ينظر الأوغاد في المرآة كلَّ ساعة؟!
وحنى الشيخ رأسه وهو يرتِّل: إن هي إلا فتنتك. وأغمض سعيد عينَيه وهو يقول لنفسه: إني مُتعَب حقًّا، ولكن لن يهدأ لي بال حتى أجيء بالبدلة.