الفصل الثامن عشر
وأذاب الإرهاق إرادته فنام رغم تصميمه على إحضار البدلة، واستيقظ قبيل الظهيرة فكان عليه أن ينتظر اللليل، وفي أثناء ذلك رسم خطة للهرب، ولكن كان عليه أيضًا أن ينتظر حينًا من الدهر حتى يغمض البوليس عينه عن منطقة طرزان وهو قطب الخطة، وبعد منتصف الليل ذهب إلى شارع نجم الدين، فرأى ضوءًا في نافذة الشقة، حملقَ في النافذة مذهولًا حتى تأكد مما يرى، ارتفعَت دقات قلبه حتى أصَمَّتْ أذنَيه، واكتسحَته فرحة فاقتلعَته من دنيا الكابوس، نور في الشقة، أين كانت؟ سيعرف أسباب غيابها، ولكنها عادت، هي الآن تتساءل عن مكانه، وتعاني لفحات الجحيم الذي احترق فيه، إن قلبه يؤكد له عودتها؛ قلبه الذي لا يكذِّبه قط، وهموم التشرُّد ستتلاشى إلى حين، وربما إلى الأبد، وسيحتويها بين ذراعَيه بكل قوة، ويعترف لها من قلب مُمزَّق بالحب الأبدي. وتسلَّل إلى داخل البيت نشوان بالسعادة والنصر، ورقي في السُّلم وهو يحلم بدرجات من النصر لا حدَّ لها ولا حصر، سيهرب ويستقر طويلًا، ثم يعود يومًا لينكِّل بالأوغاد، واقترب من باب الشقة وهو يلهث، أحبكِ يا نور، بكل قلبي أحبكِ، وأضعاف ما أعطيتِني من حب، سأدفن في صدرك ضياعي وخيانة الأوغاد وجفول ابنتي، وطرق الباب، وفُتح الباب عن وجه رجل! رجل قصير في ملابسه الداخلية، تبخَّر سعيد فلم يبقَ منه إلا رماد، وحملق فيه الرجل بدهشة وهو يتساءل: مَن حضرتك؟
وسرعان ما حلَّت محل النظرة المتسائلة نظرة شك وارتياع، أيقن سعيد أن الرجل سيعرفه، ودون تردُّد سدَّ فاه بيسراه، ولكمَه بالأخرى في بطنه، وتلقَّاه بين يدَيه، فأنامه على العتبة كيلا يُحدث صوتًا، وفكَّر في اقتحام الشقة تنقيبًا عن البدلة، ولكنه لم يكن متأكدًا من خلوِّها؛ وإذا بصوت امرأة يتساءل من الداخل: مَن الطارق يا معلم؟
وتحول عن موقفه يائسًا، فقطع السُّلم وثبًا حتى بلغ الطريق، وشقَّ طريق المصانع إلى طريق الجبل، وهناك شك في أشباح تتحرك، فلبد عند أسفل جدار وانطرح على وجهه، ولم يستأنف سيره الحذِر حتى خلا الطريق من أي أثر لإنسان، وتسلَّل مرةً أخرى إلى مسكن الشيخ قبيل الفجر، وكان الشيخ في ركنه يترقب الأذان، وخلع بدلته وتمدَّد فوق الحصيرة دافنًا وجهه في الجدار رغم يأسه من نوم قريب، وقال له الشيخ: نَم فالنوم عبادة لأمثالك!
فلم ينبس، ونادى الشيخ بصوت خافت «الله»، وظل مُسهَّدًا حتى أذان الفجر، ثم ظلَّ مُسهَّدًا حتى ترامى صوت بيَّاع اللبن، ولم يدرك أنه نام إلا عندما رقد فوق صدره كابوس، ولما فتح عينيه رأى ضوء المصباح الواني منتشرًا في الحجرة كالضباب، إذن لم ينم إلا ساعة على الأكثر، والتفتَ نحو فراش الشيخ فوجده خاليًا، ورأى على كثب من كتبه المُكوَّمة شواءً وتينًا وقُلة ماء، شكرًا لك يا مولاي، ولكن متى جئتَ بهذا الطعام؟ وسمع خارج الحجرة أصواتًا فعجب لذلك، وزحف على أربع نحو الباب الموارب فنظر من زيقه فرأى لدهشته أهل الذِّكر يفترشون الحصر، كما رأى عاملًا يوقد الكلوب في أعلى الباب الخارجي، ربَّاه إنه المغيب لا السَّحر كما توهَّم، وإذن فقد نام طيلة النهار وهو لا يدري، يا له من نوم عميق حقًّا، وأجَّل التفكير في أي شيء حتى يأكل، فالتهم الطعام وشرب حتى روي، وارتدى البدلة ثم أسندَ ظهره إلى كتبه ومدَّ ساقَيه إلى الأمام، وسرعان ما ازدحم رأسه بالبدلة الرسمية المنسية، والرجل الذي فتح له باب الشقة، وسناء ونور ورءوف ونبوية وعليش والمخبرين وطرزان والسيارة التي سيخترق بها الحصار، عصفَت جميعًا برأسه. ليس الصبر في صالحك ولا التردُّد، وبأي ثمن يجب أن تتصل بطرزان الليلة ولو ذهبتَ إليه زحفًا فوق الرمال، غدًا سينطح البوليس الصخر ويركب الرعب الأوغاد، وسمع في الخارج يدًا تصفق وإذا بأصوات الرجال تسكت، وجلال الصمت يسود، وردَّد الشيخ علي الجنيدي ثلاثًا «الله» فردَّد الآخرون النداء في نغمة رسمَتْ في مخيلته حركة الذكر الراقصة، الله .. الله .. الله، وازدادت النغمة سرعةً وارتفاعًا ثم اختزالًا مع زيادة في السرعة كصوت قطار منطلق، وتواصلَت دون انقطاع فترة غير قصيرة، ثم أخذ يداخلها الوهن رويدًا ثم التراخي في الإيقاع والبطء، ثم ترنَّحَت وتهاوَت في الصمت. وعند ذاك علا صوت رخيم مترنمًا:
وارتفعَتِ التأوُّهات في الأركان، ثم ارتفع صوت آخَر يترنم:
وانتشرت التأوُّهات مرةً أخرى، وتتابع الغناء حتى صفَّقَت اليد داعية إلى الذكر من جديد، فتردَّد اسم الله بغير انقطاع، واستسلم للسماع، وزحف الليل، ثم ركضَت الذكريات كالسحب، تمايل عم مهران الأب مع الذاكرين، وجلس الغلام عند النخلة يراقب المشهد بعينَين مشدوهتَين، وانبثَقَت من الظلمات أخيلة عن الخلود في كنف الرحمن، وومضَت آمال باهرة نافضة عنها تراب النسيان، وتحت النخلة الوحيدة بشارع المديرية ندت همسات ندية كأفراح الفجر، وتكلمَّت سناء الصغيرة في حِضنه بلغة فطرية ساحرة، ثم هبَّت أنفاس متقدة من أعماق الجحيم، توالت بعدها الضربات، وامتدت أنغام المُنشِد وآهات الذاكرين، ومتى يؤمل راحة، وضاع الزمان ولم أفز، والقضاء ورائي، وهذا المسدس المتوثِّب في جيبي له شأن. لا بد أن ينتصر على الغدر والفساد، ولأول مرة سيطارد اللصُّ الكلاب.
وفرقع صوت مزعج تحت الكُوَّة، وحاورَتْه أصوات: يا خبر، الحي كله محاصر!
– ولا أيام الحرب!
– سعيد مهران!
انكمش في تكهرب، ويده تلتصق بمسدسه، وتحفَّزَت فيه كلُّ جارحة، وأجال في المكان نظرة زائغة؛ مكان مزدحم وفيه إغراء للمخبرين، يجب ألا تسبقني الحوادث، إنهم يتفحَّصُون الآن البدلة وهناك الكلاب، وأنت هنا عارٍ مُعرَّض للأبصار، وإن يكن طريق الصحراء مُلغَّمًا فعلى خطوات يقع وادي الموت، وسأقاتل حتى الموت، ونهض مُصمِّمًا مقتربًا من الباب، الجميع غارقون في الذكر، والممر إلى الباب خالٍ، ومرق من الباب ومضى نحو الطريق، ومال يسرة وهو يسير في هدوء مصطنع ثم انحدر في طريق المقابر؛ الليل راسخ ولكن القمر لم يطلع، والظلام جدار أسود يسد الطريق، وغاص وسط القبور في تيه من الفناء لا يهتدي بشيء، وتخبَّط في سيره لا يدري إن كان يتقدم أم يتأخر، ومع أن بارقة أمل واحدة لم تومض، إلا أنه طفح بحيوية خارقة .. وترامت إليه مع النسيم الدافئ ضوضاء، وتمنى أن يختفي في قبر، ولكنه لم يكُفَّ عن السير، وكان يخشى الكلاب، ولكن لم يكن في وسعه حيلة ولا في طاقته أن يقف، وبعد مسير دقائق وجد نفسه في الصف الأخير من القبور ورأى أمامه منظرًا غير غريب، إنه مدخل القرافة الشمالي فيما يتصل بشارع نجم الدين. أجل هذا هو شارع نجم الدين، وهذا هو البيت الوحيد القائم فيه، وهذه هي الشقة، وها هي النافذة مفتوحة ينبعث منها نور، وأحدَّ البصرَ فرأى في النافذة امرأة، ها هو رأسها مطموس المعالم، ولكنه يذكِّره بنور، وخفق قلبه خفقة مزلزلة، هل عادت نور؟ أو أن عينيه تخدعانه كما خدعه قلبه بالأمس؟! بتَّ لعبة في أيدي الخدع وهذا نذير بالنهاية، وإن تكن هي نور فما يريد إلا أن ترعى سناء إذا حم القضاء. وقرَّر أن يناديها على ما في ذلك من مخاطرة، وقبل أن يخرج الصوت من حلقه ترامى من بُعد نباح كلاب، ثم تتابع في الصمت كالطلقات المتفجرة، وتراجع في فزع، وأوغل بين القبور والنباح يشتد، وألصق ظهره بقبر ثم أشهر مسدسه وهو يحملق في الظلام موقنًا بدنو الأجل، أخيرًا جاءت الكلاب وانقطع الأمل، ونجا الأوغاد ولو إلى حين، وقالت حياته كلمتها الأخيرة بأنها عبث، ومن المستحيل تحديد مصدر النباح الذي ينطلق مع الهواء في كل موقع، ولا أمل في الهروب من الظلام بالجري في الظلام؛ نجا الأوغاد وحياتك عبث، واقتربَت الضوضاء والنباح، وقريبًا تتردَّد أنفاس الحقد والتشفِّي على وجهك. وحرَّك مسدسه في غضب والنباح يشتد ويقترب، وإذا بضوء ساطع باهر يغمر المنطقة في حركة دائرة، فأغمض عينيه وارتمى أسفل القبر، وهتف صوت في ظفر: سَلِّم، لا فائدة من المقاومة!
وارتجَّت الأرض بوقع الأقدام الثقيلة المطوقة، وانتشر الضوء كالشمس: سلِّم يا سعيد!
اشتد التصاقه بالقبر متأهبًا لإطلاق النار، ودار رأسه في كل مكان، وصاح صوت وقور: سلِّم، وأعدك بأنك ستُعامَل بإنسانية!
كإنسانية رءوف ونبوية وعليش والكلاب!
– أنت مُحاصَر من جميع الجهات، القرافة كلها محاصرة، فكِّر جيدًا وسلِّم نفسك!
واطمأن إلى أن تناثر القبور يحول دون رؤيته، فلم يتحرك، وصمَّم على الموت، وتساءل صوت في حزم: ألا ترى أنه لا فائدة من المقاومة؟
وشعر باقتراب الصوت عما قبل فصاح مُكرهًا: الويل لمَن يقترب!
– حسن، ماذا تنوي؟ اخترْ بين الموت وبين الوقوف أمام العدالة.
فصرخ بازدراء: العدالة!
– أنت عنيد، أمامك دقيقة واحدة!
ورأَت عيناه المُعذَّبتان بالخوف شبح الموت يشق الظلام، وجفلت سناء بلا أمل، وأحس حركة غادرة فاستشاط غضبًا وأطلق النار، وانهال الرصاص حوله فخرق أزيزه أذنيه، وتطاير نثار القبور، وأطلق الرصاص مرةً أخرى، وقد ذهل عن كل شيء، فانصبَّ الرصاص كالمطر، وفي جنون صرخ: يا كلاب!
وواصل إطلاق النار في جميع الجهات.
وإذا بالضوء الصارخ ينطفئ بغتةً فيسود الظلام، وإذا بالرصاص يسكت فيسود الصمت، وكف عن إطلاق النار بلا إرادة، وتغلغل الصمت في الدنيا جميعًا، وحلت بالعالم حال من الغرابة المذهلة، وتساءل عن … ولكن سرعان ما تلاشى التساؤل وموضوعه على السواء، وبلا أدنى أمل، وظن أنهم تراجعوا وذابوا في الليل، وأنه لا بد قد انتصر، وتكاثف الظلام فلم يعُد يرى شيئًا ولا أشباح القبور، لا شيء يريد أن يُرى، وغاص في الأعماق بلا نهاية، ولم يعرف لنفسه وضعًا ولا موضعًا ولا غاية، وجاهد بكل قوة ليسيطر على شيء ما، ليبذل مقاومة أخيرة؛ ليظفر عبثًا بذكرى مستعصية، وأخيرًا لم يجد بدًّا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة … بلا مبالاة …