الفصل الثاني
نظر إلى الباب المفتوح، المفتوح دائمًا كما عهِدَه من أقصى الزمن، وهو يقترب منه ضاربًا في طريق الجبل، مثوى ذكريات ورحمة في حي الدراسة القائم بين ذراعَي المقطم؛ الأرض أطفال ورمال ودواب، وهو من التعب والانفعال يلهث، وجرت عيناه وراء الصغيرات من البنات بلا ملل، وما أكثر الكسالى المستلقين في ظل الجبل، بعيدًا عن الشمس المائلة، ووقف على عتبة الباب المفتوح قليلًا، ينظر ويتذكَّر، تُرى متى عبَرَ هذه العتبة آخِر مرة؟ يا له من مسكين بسيط كالمساكين في عهد آدم؛ حوش كبير غير مسقوف، في ركنه الأيسر نخلة عالية مقوسة الهامة، وإلى اليمين من دهليز المدخل باب حجرة وحيدة مفتوح، لا باب مغلق في هذا المسكن العجيب، وخفق قلبه فأرجعه إلى عهد بعيدٍ طريٍّ، طفولة وأحلام وحنان أبٍ وأَخْيِلَة سماوية، المهتزون بالأناشيد يملئون الحوش، والله في أعماق الصدور يتردَّد، انظر واسمع وتعلَّم وفَتِّح قلبك .. هكذا كان يقول الأب، وفرحة كالجنة بعثها الحلم والإيمان، وفرحة بالغناء والشاي الأخضر أيضًا، تُرى كيف حالك يا شيخ علي يا جنيدي يا سيد الأحياء؟ وترامى إليه صوت من داخل الحجرة وهو يختم الصلاة، فابتسم سعيد ومرقَ من باب الحجرة حاملًا كتبه. هاك الشيخ متربِّعًا على سجادة الصلاة، غارقًا في التمتمة. هي الحجرة القديمة، لم يكد يتغير منها شيء؛ الحُصر جُدِّدَت شكرًا للمريدين، وما زال الفراش البسيط لِصْقَ الجدار الغربي، وشعاع الشمس المائلة ينسكب من كُوَّة عند قدمَيهِ، أما بقية الجدران فقد اختفى أسفلها وراء أرفف المجلدات، ورائحة البخور المستقرة كأنما لم تتبخر منذ عشرات الأعوام. تخفَّفَ من حِمْله واقترب من الشيخ قائلًا: السلام عليكم يا سيدي ومولاي!
أتمَّ الشيخ تمتمته، ثم رفع رأسه عن وجهٍ نحيلٍ فائض الحيوية بيِّن الإشراق، تحفُّ به لحية بيضاء كالهالة، وعلى الرأس طاقية بيضاء منغرزة في سوالف كثة فضية، حدجَهُ بعينٍ رأت الدنيا ثمانين عامًا، ورأَتِ الآخِرة، عين لم تفقد جاذبيتها ونفاذها وسحرها، فلم يملك سعيد من أن يهوي على يده فيُقبِّلها وهو يدفع دمعة باطنية استقطرها من جو الذكريات والأب والأمل والسماء في الماضي البعيد.
– وعليكم السلام ورحمة الله.
هذا صوت زمان! تُرى كيف كان صوت أبيه؟ كأنما يتذكر صوت أبيه بعينَيهِ، فيرى وجهه وشفتَيهِ وهما يتحركان، ولكن الصوت انتهى. وأين المريدون؟ أين أهل الذكر؟ يا سيدي محمد على بابك! وتربَّع أمامه على الحصيرة وهو يقول: أجلسُ دون استئذان لأني أذكر أنك تحب ذلك!
شعر بأن الشيخ ابتسم من دون أن ترتسم على شفتَيهِ الغارقتَينِ في البياض ابتسامة، تُرى هل تذكَّره؟
– لا تؤاخذني لا مكان لي في الدنيا إلا بيتك …
ترك الشيخ رأسه يهوي في صدره وهو يقول بصوت هامس: أنت تقصد الجدران لا القلب!
فتنهَّد سعيد، وبدا لحظةً كأنه لم يفهم شيئًا، ثم قال بصراحة ودون مبالاة: خرجتُ اليوم فقط من السجن!
فأغمض الشيخ عينَيهِ متسائلًا: السجن؟!
– نعم، أنت لم ترني منذ أكثر من عشرة أعوام، وفي تلك الفترة من الزمن حدثَتْ أمور غريبة، ولعلك سمعتَ عنها من بعض مريديك الذين يعرفونني!
– لأنني أسمع كثيرًا لا أكاد أسمع شيئًا!
– على أي حال، لا أحب أن ألقاك متنكِّرًا؛ لذلك أقول لك: إنني خرجتُ اليوم فقط من السجن!
فهز رأسه في بطء وهو يفتح عينَيهِ قائلًا فيما يشبه الأسى: أنت لم تخرج من السجن!
فابتسم سعيد، كلمات العهد القديم تتردَّد من جديد، حيث لكل لفظ معنى غير معناه، وقال: يا مولاي، كل سجن يهون إلا سجن الحكومة!
فَرَنا إليه بعين رائقة ثم تمتم: يقول إن كل سجن يهون إلا سجن الحكومة!
فابتسم سعيد مرةً أخرى، كاد ييأس من التلاقي. ثم تساءل في حرارة: هل تذكَّرتني؟
فغمغم الشيخ دون مبالاة: ولك الساعة التي أنت فيها!
ومع أنه لم يشُك في أنه تذكَّره، إلا أنه تساءل مستزيدًا من الثقة: وأبي عم مهران الله يرحمه؟
– الله يرحمنا!
– ما أجمل الأيام الماضية!
– قل ذلك إن استطعت عن الساعة!
– ولكن …
– الله يرحمنا!
– قلت: إني خارج اليوم من السجن!
فهز رأسه في طرب مفاجئ قائلًا: «وقال وهو على الخازوق باسمًا: جرَتْ مشيئتُه بأن نلقاه هكذا!»
– أبي كان يفهمك، كم أعرضتَ عني حتى خِلتُكَ تطردني طردًا، ورجعتُ بقدميَّ إلى جو البخور والقلق، هكذا يفعل موحش القلب الذي لا بيت له. وقال: مولاي، قصدتُكَ في ساعة أنكرَتْني فيها ابنتي!
فقال الشيخ متأوِّهًا: يضع سره في أصغر خلقه!
فقال جادًّا: قلت لنفسي إذا كان الله قد مدَّ له العمر، فسأجد الباب مفتوحًا.
فقال الشيخ بهدوء: وباب السماء كيف وجدتَه؟
– لكني لا أجد مكانًا في الأرض، وابنتي أنكرَتْني!
– ما أشبهها بك!
– كيف يا مولاي؟
– أنت طالب بيت لا جواب.
فأسند رأسه المفلفل إلى يده المعروقة الدكناء وقال: كان أبي يقصدك عند الكرب، وجدتُ نفسي …
فقاطعه بهدوء لا يخرج عنه: أنت تريد بيتًا ليس إلا!
تضاعفَ شعوره بأنه يعرفه، وقلقَ دونما سبب مفهوم، وقال: ليس بيتًا فحسب، أكثر من ذلك، أود أن أقول: اللهم ارضَ عني!
فقال الشيخ كالمترنم: قالت المرأة السماوية: «أما تستحي أن تطلب رضا مَن لستَ عنه براضٍ؟!»
وضجَّ الخلاء في الخارج بنهيق حمار خُتم بحشرجة كالبكاء، وغنَّى صوت لا حلاوة فيه «البخت والقسمة فين؟» كما ضبطه أبوه وهو يغني «حزَّر فزَّر»؛ فلَكَمه برحمة وقال له: أهذه أغنية مناسبة ونحن في الطريق إلى الشيخ المبارك؟ وترنَّح الأب وسط الذِّكر، غابَتْ عيناه، بحَّ صوته، تصبَّب عرقًا، وجلس هو عند النخلة يشاهد صفَّيِ المريدين تحت ضوء الفانوس، ويقضم دومة، وينعم بسعادة عجيبة، وكان ذلك سابقًا لنزول أول قطرة حارقة من شراب الحب، وأغمض الشيخ عينَيهِ فكأنه نام. وألِفَ هو المنظر والجو، حتى البخور لم يَعُد يشمه، وطرأَتْ فكرة بأن العادة أساس الكسل والملل والموت، وهي المسئولة عما عانى من خيانة وجحود وضياع جهد العمر سُدًى، وتساءل ليوقظه: ألا تزال تحيا الأذكار هنا؟
فلم يُجِبه، وساوره القلق، فعاد يسأل: ألا تُرحِّب بي؟
ففتح الشيخ عينَيهِ قائلًا: ضعفَ الطالب والمطلوب!
– لكنك صاحب البيت!
فقال في مرح طارئ: صاحب البيت يرحب بك، وهو يرحب بكل مخلوق، وبكل شيء.
فابتسم سعيد متشجعًا، فاستدرك الشيخ قائلًا: أما أنا فصاحب لا شيء!
وكان ضوء الشمس المرسوم على الحصيرة قد انسحب إلى الجدار، فقال سعيد: على كل حالٍ فهذا البيت بيتي، كما كان بيت أبي، وبيت كل قاصد، وأنت يا مولاي جدير بكل شكر!
فقال الشيخ: اللهم إنك تعلم عجزي عن مواضع شكرك، فاشكر نفسك عني، هكذا قال بعض الشاكرين!
فقال سعيد برجاء: إني في حاجة إلى كلمة طيبة.
فقال في عتاب حليم: لا تكذب!
وأحنى رأسه حتى انتشرَتْ لحيته على صدره وراح مستغرِقًا، انتظر سعيد صابرًا، ثم تزحزح إلى الوراء ليسند ظهره إلى رفٍّ من رفوف الكتب، وجعل يتأمل الشيخ الجميل، ولما طال انتظاره سأله: هل من خدمة أؤديها لك؟
فلم يُعنَ بالالتفات إلى قوله، ومضى زمن صامت، وعينا سعيد تتابع طابورًا من النمل يزحف بخفة بين ثنيات الحصيرة، وإذا بالشيخ يقول: خُذ مصحفًا واقرأ!
فارتبكَ سعيد قليلًا، ثم قال بلهجة المعتذر: غادرتُ السجن اليوم ولم أتوضأ!
– توضَّأْ واقرأ!
فقال بلهجة جديدة شاكية: أنكرَتْني ابنتي، وجفلَتْ مني كأني شيطان، ومن قبلها خانَتْني أمها!
فعاد الشيخ يقول برقة: توضَّأْ واقرأ!
– خانَتْني مع حقير من أتباعي، تلميذ كان يقف بين يديَّ كالكلب، فطلبَتِ الطلاق مُحتجة بسجني، ثم تزوجَّتْ منه!
– توضَّأْ واقرأ!
فقال بإصرار: ومالي، النقود والحُليُّ، استولى عليها، وبها صار معلِّمًا قد الدنيا، وجميع أنذال العطفة أصبحوا من رجاله!
– توضَّأْ واقرأ!
بعبوسٍ وقد انتفخَتْ عروق جبينه: لم يُقبَض عليَّ بتدبير البوليس، كلا، كنتُ كعادتي واثقًا من النجاة، الكلبُ وشى بي، بالاتفاق معها وشى بي، ثم تتابعت المصائب حتى أنكرَتْني ابنتي!
فقال الشيخ بعتاب: توضَّأْ واقرأ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ، واقرأ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي وردِّد قول القائل: «المحبة هي الموافقة، أي الطاعة له فيما أَمَر، والانتهاء عمَّا زَجَر، والرضا بما حكم وقَدَّر.»
ها هو أبي يسمع ويهز رأسه طربًا، ويرمقني باسمًا كأنما يقول لي: اسمع وتعلَّم، وأنا سعيد وأود غفلةً لأتسلق النخلة، أو أرمي طوبة لأُسقط بلحة، وأترنم سرًّا مع المنشدين، ومع العودة ذات مساء إلى بيت الطلبة بالجيزة رأيتها مُقبِلةً تحمل سلة، جميلة وجذابة، طاوية هيكلها على جميع ما قُدِّر لي من هناء الجنة وعذاب الجحيم. ماذا كان يعجبك من إنشاد المُنشدين؟ لما بدا لاح منار الهدى، ورأيت الهلال ووجه الحبيب، لكن الشمس لم تغرب بعدُ. آخر خيط ذهبي يتراجع من الكُوَّة، أمامي ليلة طويلة، هي أولى ليالي الحرية، وحدي مع الحرية، أو مع الشيخ الغائب في السماء، المردد لكلمات لا يمكن أن يعيها مُقبل على النار، ولكن هل من مأوًى آخَر آوي إليه؟