الفصل الرابع
هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عَفِنة لا يُواريها تراب، أما الآخَر فقد مضى كأمس، أو كأول يوم في التاريخ، أو كحب نبوية، أو كولاء عليش! أنت لا تنخدع بالمظاهر؛ فالكلام الطيب مكر، والابتسامة شفة تتقلص، والجود حركة دفاع من أنامل اليد، ولولا الحياء ما أذنَ لك بتجاوز العتبة، تخلقني ثم ترتد، تغير بكل بساطة فكرك بعد أن تجسَّد في شخصي، كي أجد نفسي ضائعًا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل، خيانة لئيمة لو اندكَّ المقطم عليها دكًّا ما شفيت نفسي، تُرى أتقر بخيانتك — ولو بينك وبين نفسك — أم خدَعْتَها كما تحاول خداع الآخَرين؟ ألا يستيقظ ضميرك ولو في الظلام؟ أود أن أنفذ إلى ذاتك كما نفذت إلى بيت التحف والمرايا بيتك، ولكني لن أجد إلا الخيانة، سأجد نبوية في ثياب رءوف، أو رءوف في ثياب نبوية، أو عليش سدرة مكانهما، وستعترف لي الخيانة بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض، من وراء الظهر تبادلَتِ الأعين نظرات مريبة قلقة مضطربة كتيار الشهوة التي يحملها، كالقطة الزاحفة على بطنها في هيئة الموت نحو عصفورة سادرة، وغلبت الانتهازية ثمالة الحياء والتردُّد فقال عليش سدرة في ركن عطفة، أو ربما في بيتي: «سأدل البوليس عليه لنتخلص منه»، فسكتَتْ أمُّ البنت، سكتَ اللسان الذي طالما قال لي بكل سخاء: أحبك يا سيد الرجال، هكذا وجدتُ نفسي محصورًا في عطفة الصيرفي، ولم يكن الجن نفسه يستطيع أن يحاصرني، وانهالت عليَّ اللكمات والصفعات، كذلك أنت يا رءوف، لا أدري أيُّكُما أَخْوَن من الآخَر، ولكن ذنبك أفظع يا صاحب العقل والتاريخ، أتدفع بي إلى السجن، وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا؟! أنسِيتَ أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى!
وبلغ جسر عباس، فجلس على أريكة حجرية، وانتبهَ إلى الطريق لأول مرة؛ وقال بصوت مسموع كأنما يخاطب الظلام: خير البر عاجله، الساعة وقبل أن يفيق من دهشته! لا سبيل إلى التردُّد، فمهنتك هي مهنتك، صالحة وعادلة، وبخاصة عندما تُطبَّق على فيلسوفها، وعندما أفرغُ من تأديب الأوغاد فسأجد في الأرض مُتَّسعًا للاختفاء، هل يمكن أن أمضي في الحياة بلا ماضٍ، فأتناسى نبوية وعليش ورءوف؟ لو استطعتُ لكنتُ أخفَّ وزنًا، وأضمنَ للراحة، وأبعدَ عن حبل المشنقة، ولكن هيهات أن يطيب العيش إلا بتصفية الحساب، لن أنسى الماضي لسببٍ بسيطٍ، هو أنه حاضِرٌ — لا ماضٍ — في نفسي. وستكون مغامرة الليلة خير ابتداء أفتتحُ به العمل، وستكون مغامرة دسمة، وجرى النيل كأمواجٍ من الظلام تنغرس في جنباتها أسهم الضياء المنعكسة من مصابيح الشاطئ، وساد صمت شامل مريح، ثم دَنَتِ النجوم من الأرض عندما اقترب الفجر، وقام عن مجلسه فتمطَّى، ثم سار على مقربة من الشاطئ نحو المكان الذي جاء منه، جعل يتقدم على مهلٍ متحاشيًا الأنوار الضئيلة الباقية حتى هذه الساعة من الفجر، وتباطأَ أكثر عندما لاح لعينَيهِ القصر الخالي من نواحيه الثلاث، وراقب الطريق بحدَّة؛ أرضه وأسوار القصور والشاطئ، ثم استقرَّتْ عيناه على القصر، بدا القصر مسدل الجفون، تحرسه الأشجار من كل جانب كالأشباح، نامت الخيانة في هدوء بديع لا تستحقه البتَّة، مغامرة دسمة ستُعطي ردًّا حاسمًا على خداع العمر كله، وعَبَر الطريق في خطوات طبيعية دون تلفُّت أو حذر، ثم سار بحذاء السُّور في الشارع الجانبي، وهو يتفحَّص ما أمامه بعناية شديدة، فلما اطمأنَّ إلى خلوِّ المكان مالَ فجأةً لِصْق السُّور منغرزًا في الياسمين والبنفسج، وتوقَّفَ عن أية حركة، إن يكن في القصر كلبٌ — غير صاحبه — فسيملأ الدنيا نباحًا، ولكن لم تندَّ عن الصمت همسةٌ واحدة، يا رءوف .. تلميذك قادم ليحمل عنك بعض متاع الدنيا، وتسلَّقَ السور بخفة، وبأطراف مُحنَّكة كأنها أطراف قرد، ولم تُعِقْه الأغصان الكثيفة الملتفة الغارقة في الأوراق والأزهار، ثم اعتمدَ على قبضتَيهِ، ورفع جسمه بقوته الذاتية إلى ما فوق الأسنان المُدبَّبة، وهبط به حتى اشتبكَتْ ساقاه بالأغصان في الداخل، فلبد فيها ريثما يسترد أنفاسه، وليراقب الحديقة المكتظة بالشجيرات والأشجار والظلمة. عليك أن تصعد إلى السطح، ومنه تهبط إلى الداخل حتى تعرف طريقك، لا آلة معك ولا بطارية ولا فكرة سابقة عن المكان، لم تسبقك نبوية إليه لتعمل غسالة أو خادمة بعض الوقت، فهي اليوم مشغولة بعليش سدرة، وقطَّب بعنف ليطرد عنه هذه الأفكار، ونزل بحذرٍ إلى الأرض، ثم زحف على أربع مُتَّجِهًا نحو جدار الفيلَّا، ودار مع البناء مُتحسِّسًا الحيطان حتى عثر على ماسورة، وأخذ يتسلق بمهارة البهلوان، وكان السطح مقصده، غير أنه مرَّ بنافذة مفتوحة غير بعيدة منه، وفي الحال قرَّر تجربتها؛ سدَّدَ ساقه نحو النافذة حتى انطرحَتْ على حافتها، وشدَّ أعصاب يدَيهِ مُتنقِّلًا بهما فوق كورنيش الحائط، حتى استقرَّ جميعه فوق حافة النافذة، وانزلق إلى الداخل، فوجد نفسه في مكان حدسَ أنه مطبخ، وضايقته كثافة الظلمة؛ فجدَّ باحثًا عن الباب، وكان يتوقع ظلمة أكثف في الداخل، ولكنه حلم بحافظة نقود رءوف، أو بعض التُّحَف، وكان عليه أن يتقدم؛ تسلَّلَ من الباب مُتلمِّسًا الجدار بيدَيهِ، وقطع مسافة غير قصيرة، وكثافةُ الظلام تكاد تصدُّهُ، ثم أحسَّ تيارًا خفيفًا من الهواء يلفح وجهه، من أين يجيء الهواء؟
وانعطف مع انعطاف الجدار الأملس وتقدَّم مادًّا ذراعه مُحرِّكًا أصابعه حتى لمسَتْ أسلاكًا بلورية مُسدَلةً مُحدِثةً وسوسةً خفيفة انقبض لها قلبه، ستارة لا شك في ذلك، اقترب الآن من هدفه، واتَّجه فِكرُه نحو علبة الثقاب في جيبه دون أن يمد لها يدًا، وفتح بخفةٍ ثغرةً دلَف منها إلى الداخل، وضيَّق ما بين ذراعَيهِ، ليعيد الستارة إلى وضعها الطبيعي دون صوت، وتقدَّم خطوةً فارتطم بمقعد أو بقائم ما، لا يدريه، وتفادى منه وهو يرفع رأسه مُتلمِّسًا نورًا خافتًا ساهرًا — وقد تعلَّقَ أملُه بالوصول إليه — ولكنه رأى ظلامًا مُطبِقًا كالكابوس، وفكَّر في إشعال عود ثقاب للحظة واحدة .. وبغتةً دهمه نور ساطع من كل ناحية، نور شديد انقضَّ عليه كلكمة قاضية، انغلق جفناه بلا إرادة ولما فتحهما رأى رءوف علوان على بُعد ذراعَينِ، على بُعد ذراعَينِ في روب طويل، بدا فيه عملاقًا، ويده مدسوسة في جيبه، مشدودة كأنها تقبض على سلاح، هكذا ظنَّ، ونظرة عينَيهِ الباردة زادت قلبه المهزوم برودةً، وانطباق شفتَيهِ الناطق بالعداوة والكراهية، والصمت القاتل أثقل من سور السجن، والسجَّان عبد ربه سيقول هازئًا: ما أسرعَ أن رجعتَ، وانطلق صوتٌ نحاسي من وراء ظهره يتساءل: ننادي البوليس؟
فالتفت وراءه فرأى ثلاثة من الخدم يقفون صفًّا، غير أن رءوف خرج عن صمته قائلًا: اذهبوا خارجًا وانتظروا.
ولما فتح الباب ثم أغلق وراءهم أدرك خطفًا أنه باب خشبي ذو زخارف عربية مُحلَّى الرأس بحِكمة أو مثَل أو آية من الصَّدف، وأرجعَ رأسه من التفاتته ليتلقى النظرات العابسة ويسمع صوته الخشن وهو يقول: من الغباء أن تجرِّب ألاعيبك معي أنا، أنا فاهمك وحافظك عن ظهر قلب!
لم ينبس ومضى يفيق من ضربة المفاجأة، ولكن على استسلام كاليأس، وإن داخله شعور بأنه لن يستسلم إلى القبضة التي أفلتَ منها أمس، أو هكذا شعر!
– كنتُ في انتظارك، على أتم استعداد، بل ورسمتُ لك طريق السير، وددتُ لو يخطئ ظني، ولكن أي سوء ظن فيك يخطئ؟
غض بصره لحظات فرأى ما تحت قدمَيهِ من مشمع لامع، ثم رفعهما دون أن يحاول الخروج عن صمته.
– لا فائدة، لن تنتهي من حقارتك، وستموت حقيرًا، وخير ما أفعله الآن أن أسلمك إلى البوليس!
فاختلج جفناه، وانفرجت شفتاه في عصبية، فتساءل رءوف بحدة: ماذا جئت تريد؟
فغض بصره مرةً أخرى.
– أنت تفصح عن عداوتك، نسيت الإحسان وتركَّزتَ في الحقد والحسد، إني أعرف أفكارك بقدر ما أعرف حركاتك!
وبصوت خافت، وبعينَينِ تختفيان في الأرض قال: رأسي دائر، ما زال دائرًا منذ خرجتُ من السجن!
– كذَّاب، لا تحاول خداعي، أنت تتوهم أني صرتُ واحدًا من الأغنياء الذين كنت أحمل عليهم، وعلى هذا الأساس أردتَ أن تعاملني.
– ليس الأمر كذلك!
– إذن، لِمَ تسلَّلتَ إلى بيتي؟ ولِم تريد أن تسرقني؟
تردَّدَ سعيد مليًّا ثم قال: لا أدري، لست في حالة طبيعية، وأنت لن تصدقني!
– طبعًا، لأنك تعلم أنك كاذب، لم تقتنع بكلماتي الطيبة، ثار حسَدك وغرورك، اندفعتَ كالجُنون نفسه كما هي عادتك، ولك ما تشاء، فستجد نفسك في السجن مرة أخرى!
فقال في تسليم: اعذرني، ما زلت أعيش بعقلية السجن وما قبله.
– لا عذر لك، أنا أقرأ أفكارك، قرأتُ كلَّ جملة مَرَّت بعقلك، كل جملة، الصورة الكاملة التي تتصورني فيها، والآن آنَ لي أن أسلِّمك للبوليس!
فمدَّ يده كالرجاء قائلًا: كلَّا …
– كلا؟! ألا تستحقه؟
– بلى، ولكن كلَّا …
فنفخَ غاضبًا وهو يقول: إن رأيتُكَ مرةً أخرى فسأسحقك كحشرة!
وهمَّ بالتحرُّك في سبيل النجاة، ولكنه صاح به: أرجِع النقود!
فجمد بصره دقيقة، ثم دسَّ يده في جيبه فأخرج الورقتَينِ فتناولهما الآخَر قائلًا: لا تُرِني وجهك مرةً أخرى!
عاد إلى شاطئ النيل وهو لا يصدق أنه نجا، ولكن راحة النجاة تكدَّرَتْ بالهزيمة، وعجب تحت أنفاس الفجر الرطيبة كيف أنه لم ينتبه إلى هوية الحجرة التي ضُبط فيها، وأنه لم يَكَدْ يرى منها إلا بابها المزخرف وأرضها الشمعية، واستسلم لرحمة الفجر الندية، مُتعزِّيًا إلى حينٍ عن كل شيء حتى عن ضياع الورقتَينِ، ثم رفع رأسه إلى السماء، فهاله لمعان النجوم المتألِّق في هذه الساعة من الفجر.