الفصل الخامس
حملق الرجال القليلون بأعين لا تصدق، وقاموا قومة رجل واحد: يا أرض احفظي ما عليكِ!
– ليلة بِيضا بالصلاة على النبي.
وأحدقوا به وعلى رأسهم معلم القهوة وصبيه، وعانقوه وقبَّلوا وَجْنتَيهِ، وشد سعيد مهران على أيديهم واحدًا فواحدًا، وهو يقول بامتنان: أشكرك يا معلم طرزان، أشكركم يا إخوان …
– متى؟
– أول أمس.
– تفاءلنا خيرًا بأخبار العيد.
– الحمد لله.
– وبقية الجدعان؟
– بخير، وكل شيء بأوان!
ولبثوا يتبادلون الأخبار حتى أخذه المعلم إلى أريكته، ورجاهم أن يعودوا إلى مجالسهم فعادت القهوة إلى هدوئها، لم يتغير شيء كأنه تركها بالأمس؛ الحجرة المستديرة، النصْبة النحاسية، الكراسي الخشبية ذات المقاعد من القش المفتول، الزبائن القلائل المعروفون الموزَّعون في الأركان، يحتسون الشاي ويعقدون الصفقات، ومن خلال النافذة الكبيرة والباب لاحَ الخلاء شاملًا متراميًا إلى غير نهاية، والظلام كثيفًا لا تُخفِّفه بارقة، والصمت مهيبًا عدا ضحكات متقطعة يرمي بها الهواء من الخارج، وجرى تيار جافٌّ منعِش ما بين الباب والنافذة، يحمل طابع الصحراء من القوة والنقاء، تناول سعيد قدَح الشاي من الصبي، ثم رفعه إلى فيهِ قبل أن يبرد، ومال نحو المعلم متسائلًا: كيف حال الشغل؟
فلوى طرزان شفته السفلى في امتعاض وقال: ندر مَن يُعتمَد عليه من الرجال!
– لِمَ كفَى الله الشر؟
– تنابلة، كأنهم موظفو الحكومة!
فندَّتْ عنه نفخة ساخرة وقال: التنبل على أي حال خيرٌ من الخائن، بسبب خائن دخلتُ السجن يا معلم طرزان.
– يا لطف الله!
فحدجه بنظرة نافذة متسائلًا: ألم تسمع بالخبر؟
فهز المعلم رأسه في أسف، ولاذ بصمت مبين، فهمس سعيد في أذنه: يلزمني مسدس جيد!
فقال طرزان بلا تردد: تحت أمرك.
فربت على منكبه شاكرًا، ثم قال بشيء من الارتباك: لكن ليس …
فوضع أصبعه الغليظ على شفتَيهِ قاطِعًا كلامه في عتاب وهو يقول: لا عاش مَن أحوجك إلى اعتذار!
وأتى على ما في القدح في ارتياح، ثم قام ماضيًا إلى النافذة، وقف وراءها ناصبًا قامته النحيلة المفتولة المتوسطة الطول، فبسط الهواء جناحي جاكتته كالشراع، ومد البصر إلى الخلاء المنتشر على الأرض المفعم بالظلام، فتبدَّتِ النجوم في السماء الصافية كالرمال، وكأن القهوة جزيرة في محيط، أو طيارة في سماء، وفي أسفل الهضبة التي تقوم عليها القهوة تحرَّكَتِ السجائر — كالنجوم — في أيدي الجالسين في الظُّلمة من رواد الهواء الطلق، وعند الأفق الغربي لاحَتْ أنوار العباسية بعيدة جدًّا يشعر بعدها بمدى توغُّل القهوة في الصحراء، وأطل من النافذة، فصعدت إليه أصوات الجالسين حول الهضبة، النازحين إلى الصحراء، طلبًا للهواء والراحة، وانحدر إليهم صبي القهوة حاملًا نارجيلة تتوهج جمراتها، ويتطاير منها الشرر مطقطقًا، واحتدم السمر تتخلله الضحكات، وقال صوت يافع ملتذًا بالحديث فيما بدا: دلوني على مكان واحد في الأرض ينعم بالطمأنينة؟
فأجابه آخَر متحديًا: هذا المجلس، ألا ينعم مجلسنا الآن بالطمأنينة؟
– تقول «الآن» وهذه هي المأساة!
– لِمَ نلعن القلق والمخاوف، ألا تعفينا في النهاية من التفكير في المستقبل؟
– إذن، فأنت عدو للسلام والاستقرار!
– إذا كان حبل المشنقة حول عنقك فالطبيعي أن تخشى الاستقرار.
– هذه مسألة خاصة يمكن معالجتها فيما بينك وبين عشماوي.
– أنتم تثرثرون في هناء لأنكم في حِمَى الظلام والصحراء، ولكنكم لن تلبثوا أن تعودوا إلى المدينة، فما الفائدة؟
– المأساة الحقيقية هي أن عدونا هو صديقنا في الوقت نفسه!
أبدًا، المأساة الحقيقة هي أن صديقنا هو عدونا!
– بل أننا جبناء، لِمَ لا نعترف بهذا؟
– ربما، ولكن كيف تتأتى لنا الشجاعة في هذا العصر؟
– الشجاعة هي الشجاعة.
– والموت هو الموت!
– والظلام والصحراء هما هذا كله!
يا له من سمر، ماذا يقصدون؟ لكنكَ شعرتَ بأنهم يُعبِّرُونَ عن حالك على نحو ما، نعم على نحو غامض كأسرار هذا الليل، أنت أيضًا كانت لك يفاعة متوثبة، والقلب سكران برحيق الحماس، والسلاح تحصل عليه للجهاد لا للاغتيال، وراء هذه الهضبة التي تقوم عليها القهوة كان فتية يتدربون على القتال بثياب رثَّة وضمائر نقية، وساكن القصر رقم ١٨ كان على رأسهم، على رأسهم يتمرَّن ويُمرِّن ويلقي بالحِكَم، المسدس أهَمُّ من الرغيف يا سعيد مهران، المسدس أهَمُّ من حلقة الذِّكر التي تجري إليها وراء أبيك، وذات مساء سألك: «سعيد، ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟» ثم أجاب غير منتظر جوابك: «إلى المسدس والكتاب؛ المسدس يتكفل بالماضي، والكتاب للمستقبل، تدرَّبْ واقرأ.» ووجهه وهو يقهقه في بيت الطلبة قائلًا: «سرقت؟ .. هل امتدَّتْ يدك إلى السرقة حقًّا؟ برافو! كي يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم، إنه عمل مشروع يا سعيد، لا تشك في ذلك.» وشهد هذا الخلاء مهارتك، قالوا: إنك الموت نفسه، وإن طلقتك لا تخيب، وأغمض عينَيهِ مستسلِمًا للهواء النقي، وإذا بيدٍ تُوضَع على كتفه، فالتفت وراءه فرأى المعلم طرزان مادًّا يده الأخرى بالمسدس وهو يقول: نار على عدوك بإذن الله!
فتناوله ومضى يتفحصه ويختبره، ثم سأله: بِكَمْ يا معلم؟
– هدية!
– كلَّا، كل ما أرجوه أن تمهلني إلى ميسرة!
– كم طلقة تحتاج؟
وعادا معًا متجهين نحو أريكة المعلم، وعندما مرَّا بباب القهوة لعلعت في الخارج ضحكة أنثوية، فضحك المعلم طرزان، وقال: نور، ألا تذكرها؟
نظر سعيد إلى الظلام خارج الباب فلم يرَ شيئًا وتساءل: أما زالت تجيء إلى هنا؟
– من حينٍ لآخَر، ستفرح لرؤيتك!
– صايدة؟
– طبعًا، ولد ابن صاحب مصنع حلوى.
ولما جلسا على الأريكة نادى المعلم صبيَّه، وقال له: بصنعة لطافة قل لنور أن تأتي!
لتأتِ؛ ليرى ماذا فعل الزمان بها، التي — عبثًا — أرادت امتلاك قلبه، قلبك الذي كان ملكًا خالصًا للخائنة، وليس أقسى على القلب من أن يروم قلبًا أصم، عندما تخاطب البلابلُ حجرًا أو تداعب النسمةُ أسنانًا مُدبَّبة، حتى هداياها إليه كان يهديها إلى نبوية عليش، وربت المسدس وهو مُستكِنٌّ في جيبه، وعضَّ على أسنانه، وظهرت نور عند الباب غير متوقعة للمفاجأة التي تنتظرها، فلما رأته توقفَتْ على بُعد خطوات في ذهول، ونظر إليها باسمًا وفي إمعان، بدَتْ أنحَلَ مما كانت، واختفى وجهُها تمامًا تحت المساحيق الدسمة، ونطقَ بالإغراء فستانٌ أبيض، انطلقت منه الأذرع والسيقان بلا حرج، وقد شُدَّ حول جسدها كالمطاط حتى صرخ التهتُّك، وعربدَ شعر رأسها القصير في تيار الهواء، وسرعان ما هرعت إليه حتى تلاقَتِ الأيدي وهي تقول: حمدًا لله على سلامتك …
وضحكَتْ ضحكةً عصبية تداري بها تأثُّرها، ثم اندسَّتْ بينه وبين المعلم طرزان.
– كيف حالكِ يا نور؟
فأجاب طرزان باسمًا: هي كما ترى نور ونور!
وقالت المرأة: بخير، وأنت؟ صحتك عال، لكن عينيك؟ أنا أعرفك وأنت غضبان!
فتساءل باسمًا: كيف؟
– لا أدري كيف أقول، نظرة مُحْمرَّة! وإنذار يتحرك في شفتَيك …
ضحك، ثم قال بأسفٍ: سيأتي صاحبك ليأخذك!
فقالت وهي تهز رأسها لتزيح خصلة شعرٍ عن عينَيْها: إنه لا يعرف رأسه من رجليه!
– على أي حال، فأنتِ مقيدة به!
فرمَتْه بنظرة ماكرة، وهي تتساءل: أتحب أن أدفنه في الرمال؟
– ليس الليلة، سنلتقي فيما بعد!
ثم بشيء من الاهتمام: قيل إنه لقطة؟!
– نعم، وسنذهب بسيارته إلى مدفن الشهيد؛ فهو يحب الخلاء!
وتجلَّت في عينيه نظرة اهتمام لم تخفَ عليها، وتساءل وكأنما يحدِّث نفسه: يحب الخلاء عند مدفن الشهيد؟
اضطرب جفناها، وازداد اضطرابها عندما التقَتْ عيناهما، ثم تساءلَتْ في عتاب: أرأيتَ أنك لا تفكِّر فيَّ؟
وهو لا يكاد يُلقي بالًا إلى عتابها: لِمَ؟ أنتِ عزيزة جدًّا!
– بل أنتَ تفكِّر في اللقطة!
فابتسم قائلًا: إنه ضمن تفكيري فيك!
فقالت بقلق: إن انكشف أمري ضعتُ، أبوه قوي، وأهله كالنمل، هل أنت في حاجة إلى نقود؟
– في حاجة إلى السيارة أشد!
وقام وهو يقرص خدها برقة ويقول: كوني طبيعية جدًّا، لن يحدث شيء مما تخافين، ولن تتجه إليكِ الظنون، لستُ طفلًا، وسوف نلتقي بعد ذلك أكثر مما تتصوَّرين …