الفصل السابع
قمة النجاح أن يُقتلا معًا، نبوية وعليش، وما فوق ذلك أن يصفي الحساب مع رءوف علوان، ثم الهرب، الهرب إلى الخارج إن أمكن، ولكن مَن يبقى لسناء؟ الشوكة المنغرزة في قلبي، أنت تندفع بأعصابك بلا عقل، عليك أن تنتظر طويلًا وتدبِّر أمرك ثم تنقضُّ كالحدأة، الآن لا فائدة من الانتظار، أنت مُطارَد، منذ علم بالإفراج عنك وأنت مُطارَد، وبحادثة السيارة ستشتدُّ المطاردة، ومحفظة ابن صاحب المصنع لا تحوي إلا جنيهات معدودات، فهذا أيضًا من سوء الحظ، وإن لم تضرب سريعًا انهار كل شيء، ولكن مَن يبقى لسناء؟ الشوكة المنغرزة في قلبي، المحبوبة رغم إنكارها لي، هل أتركُ أمكِ الخائنة إكرامًا لكِ؟ أريد جوابًا في الحال؛ كان يحوم حول البيت القائم على مفرق ثلاث عطفات بحارة سكة الإمام في ظلمة حالكة، والسيارة تنتظر في نهاية الطريق من ناحية ميدان القلعة؛ أُغلِقَت الدكاكين، وخلا الطريق، وظاهر أن أحدًا لم يكن يتوقعه، في هذه الساعة يأوي كل مخلوق إلى جحره، لا ينتظر أن يدهمه أحد ليحاسبه، وربما أعدَّ عدته، ولكنه — هو — لن ينثني عن عزمه. ولو عاشَتْ سناء وحيدةً العمرَ كله، ذلك أن الخيانة بشعة جدًّا يا أستاذ رءوف، وتطلَّع إلى نوافذ البيت ويده قابضة على مسدسه في جيبه، الخيانة بشعة يا عليش، ولكي تصفو الحياة للأحياء يجب اقتلاع الخبائث الإجرامية من جذورها، واقترب من باب البيت ملاصقًا للجدار ثم دخل، وصعد السُّلم في حذر شديد وظلام دامس، مارًّا بالدور الأول، فالثاني ثم الثالث، ها هو الباب المغلق على أدنأ النوايا والشهوات، مَن سيفتح إذا طرَق الباب؟ هل تجيء نبوية؟ هل يكمن المخبر في مكان ما؟ النار تنتظر المجرمين، ولو اضطُرَّ إلى اقتحام الشقة، لا بد أن يعمل، وأن يعمل في الحال، فحرام أن يتنفس عليش سدرة يومًا كاملًا وسعيد مهران طليق، وستفوز بالهرب سالمًا، كما فزتَ عشرات المرات، وكما تتسلق العمارة في ثوانٍ، وكما تثب من الدور الثالث فتصل الأرض سالمًا، وكما تطير إذا شئتَ، وطَرْقُ الباب يبدو ضروريًّا، ولكنه سيثير الريب، وبخاصة في هذه الساعة، وستصوِّتُ نبوية حتى تملأ الدنيا غبارًا، ويجيء الأندال، ويظهر المخبر أيضًا، فلتحطِّم الشُّراعة، هذه هي الفكرة التي كانت تدور في رأسه وهو قادم بالسيارة من بعيد، ها هو يعود إليها أخيرًا، وأخرج مسدسه، ووجه منه ضربة إلى زجاج الشراعة من خلال القضبان الملتوية فتحطم وتناثر مُحدِثًا صوتًا كالصراخ المبحوح في صمت الليل، اقترب من الباب حتى كاد يلتصق به، وصوب مسدسه إلى الداخل، وانتظر بقلب خافق وعين غائصة في ظلمة الردهة، وترامى صوت يصيح «مَن؟»، صوت رجل، صوت عليش سدرة، ميَّزه رغم نبض الصدغ المدوي، وفُتح بابٌ في الناحية اليسرى فخرج منه ضوء خفيف، ثم لاحَ شبحُ رجلٍ يتقدَّم في حذرٍ. ضغط سعيد على الزناد فانطلقت الرصاصة كصرخة عفريت في الليل، وصرخ الرجل بدوره وتهاوى، فأدركه بأخرى قبل أن يستقر فوق الأرض، وانطلق صراخٌ حادٌّ مرتعِب مستغيث يائس، صوات نبوية، فصاح بها: سيأتي دورك، لا مهرب مني، أنا الشيطان نفسه، واستدار ليهرب، ومضى يثب فوق الدرجات بلا حرص، حتى بلغ بئر السُّلم في ثوان، وقف يتنصَّتُ لحظةً، ثم مرق من الباب، فسار على كثب من الجدار في هدوء، ثم سمع نوافذ وهي تُفتح، وأصواتًا وهي تتلاقى في تساؤل ونداءات غامضة، وبلغ موقف السيارة عند رأس الطريق فجذب بابها ودخل، وعند ذاك لمح شرطيًّا قادمًا يجري في الميدان نحو عطفة سكة الإمام، فغاص في أرض السيارة، وواصل الشرطي جريه نحو الصراخ فلبث في مكمنه حتى اطمأنَّ إلى بُعده من وقع قدمَيهِ، ثم نهض في حذر شديد، فجلس وراء عجلة القيادة وانطلق بالسيارة دون إبطاء، ودار مع الميدان في سرعة طبيعية والضجة تلاحق حواسه، ولكنها استقرَّتْ في أعصابه حتى بعد انقطاعها عن حواسه، ولفَّهُ ذهول شامل، فساق السيارة بلا وعي، القاتل، هناك رءوف علوان، الخائن الرفيع الممتاز، أهَمُّ في الواقع من سدرة وأخطر، القاتل، أنت من زمرة القتلة، جنسية جديدة، ومصير جديد، خطف أرواح خبيثة بعد خطف أشياء ثمينة، سيأتي دوركِ، لا مهرب مني، أنا الشيطان نفسه، بفضل سناء وهبتكِ الحياة، لكني أحطتكِ بعقاب أشد من الموت، هو الخوف من الموت، الذعر الأبدي، لن تذوقي للراحة طعمًا ما دمتُ حيًّا، انحدرَتِ السيارة في شارع محمد علي، وما زال يسوقها بلا وعي، ولا فكرة عنده البتَّة عن المكان الذي يقصده، الآن يردِّد كثيرون اسم القاتل، فعلى القاتل أن يختفي، عليه أن يحذر ما أمكنه حبل المشنقة، لا تُمكِّنْ عشماوي من أن يسألك: ماذا تطلب؟ وعلى الحكومة أن تجود بهذا السؤال في مناسبة أفضل، وانتبَهَ إلى نفسه فإذا بالسيارة تقطع آخِر شوط في شارع الجيش، مندفعةً نحو العباسية، فانزعج لهذه العودة الغريبة إلى المكان الخطر، وضاعف من سرعتها حتى بلغ منشية البكري في دقائق، ثم وقف عند أول شارع متفرِّع من الطريق العام، وتركها في هدوء دون أن يلتفت يمنة ولا يسرة، سار على مهلٍ كأنه يتريض، وشعر بخمود، ثم بألم كأنه رد فعل للمجهود العصبي الشديد الذي بذله، لا مأوى لك الساعة، ولا أي ساعة، نور؟ من المجازفة أن يذهب إليها الليلة بالذات، ليلة التحقيق والشبهات، والظلام يجب أن يمتد إلى الأبد!