الفصل الثامن
دفع باب مسكن الشيخ فأطاع دون مقاومة، ثم دخل وردَّه وراءه، وجد نفسه في الحوش غير المسقوف، ولاحَتِ النخلةُ فارعةً كأنها ممتدة في الفضاء، حتى النجوم الساهرة، فقال لنفسه: يا له من مكان صالح للاختفاء! وحجرة الشيخ مفتوحة بالليل كما هي بالنهار، وغارقة في الظلمة وكأنها تنتظر أوبته، فمضى إليها في هدوء، سمع الصوت يغمغم، فلم يُميِّز من غمغمته إلا «الله»، واستمر يغمغم كأنه لم يشعر، أو لا يريد أن يشعر بدخوله، انزوى في ركن باليسار جنب كتبه، وانحط على الحصيرة ببدلته وحذائه المطاط ومسدسه، ثم مدَّ ساقَيْهِ، واستند إلى ذراعَيهِ مُلقيًا برأسه إلى الوراء في إعياء شديد؛ رأس كخلية النحل، وأين المفر؟ تريد أن تستعيد سماع الطلق الناري، وصوات نبوية، وأن تسعد بأنك لم تسمع لسناء صرخة واحدة، ويحسن أن تقول للشيخ: السلام عليكم، ولكن نبرات صوتك عاجزة، عجزٌ مفاجئ كالغرق، وكنتَ تظنُّ أنك ستموت نومًا بمجرد أن يمس جلدك الأرض؟! تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، متى ينام هذا الرجل الغريب؟ لكن الرجل الغريب ترنَّم بصوت مرتفع نوعًا لأول مرة:
ثم قال بصوت خُيِّل إليه أنه ملأ الحجرة: «انفتحَتْ عيون قلوبهم، وانطبقَتْ عيون رءوسهم.» انتزع من آلامه ابتسامةً، وقال لنفسه: لذلك فهو لا يشعر بي، ولكني أنا أيضًا لا أشعر بنفسي، وبغتةً سبح الأذان فوق أمواج الليل الهادئة، وذكرَ ليلةً قضاها مُسهَّدًا حتى الأذان؛ شوقًا إلى سعادة موعودة، في النهار التالي لم يَعُد يذكر عنها شيئًا، ونهض عند سماعه الأذان، هانئًا بالخلاص من رقاد أليم، فتطلَّع من النافذة إلى زرقة الفجر، وابتسامة المشرق، وفرك يدَيْه حبورًا بالسعادة الوشيكة التي لم يَعُد يذكر عنها شيئًا؛ لذلك فهو يحب الفجر، للنغمة والزرقة والابتسامة والسعادة المنسية، وها هو الفجر مرةً أخرى، ولكنه من الإعياء لا يستطيع حراكًا ولا مسدسه. وقام الشيخ للصلاة فأشعل المصباح، ولم يُبدِ انتباهًا لوجوده، وفرشَ سجادة الصلاة واتخذ مكانه فوقها وإذا به يتساءل: ألا تصلي الفجر؟
فلمْ يستطِع جوابًا، إلى هذا الحد بلغ منه الإعياء! وأقام الشيخ الصلاة، وما لبث سعيد أن غاب عن الوجود، حلم بأنه يُجلَد في السجن رغم حسن سلوكه، وصرخ بلا كبرياء وبلا مقاومة في ذات الوقت، وحلم بأنهم عقب الجلد مباشرةً سقوه حليبًا، ورأى سناء الصغيرة تنهال بالسوط على رءوف علوان في بئر السُّلم، وسمع قرآنًا يُتلى فأيقن أن شخصًا قد مات، ورأى نفسه في سيارة مُطارَدة عاجزة عن الانطلاق السريع لخلل طارئ في مُحرِّكها، واضطُرَّ إلى إطلاق النار في الجهات الأربع، ولكن رءوف علوان برز فجأةً من الراديو المُركَّب في السيارة، فقبضَ على معصمه قبل أن يتمكَّن من قتله، وشد عليه بقوة حتى خطف منه المسدس، عند ذاك هتف سعيد مهران: اقتلني إذا شئتَ، ولكن ابنتي بريئة، لم تكن هي التي جلدتك بالسوط في بئر السُّلم وإنما أمها، أمها نبوية، وبإيعاز من عليش سدرة، ثم اندسَّ في حلقة الذِّكر التي يتوسطها الشيخ على الجنيدي كي يغيب عن أعين مطاردِيهِ، فأنكرَهُ الشيخ وسأله: مَن أنت؟ وكيف وُجِدتَ بيننا؟ فأجابه بأنه سعيد مهران، ابن عم مهران مريده القديم، وذكَّره بالنخلة والدوم والأيام الجميلة الماضية، فطالبه الشيخ ببطاقة الشخصية، فعجب سعيد وقال: إن المريد ليس في حاجة إلى بطاقة، وأنه في المذهب يستوي المستقيم والخاطئ، فقال له الشيخ إنه يطالبه بالبطاقة ليتأكد من أنه من الخاطِئين؛ لأنه لا يحب المستقيمين، فقدَّمَ له مسدسه، وقال له: ثمة قتيل وراء كل رصاصة ناقصة في ماسورته، ولكن الشيخ أصرَّ على مطالبته بالبطاقة قائلًا: إن تعليمات الحكومة لا تتساهل في ذلك، فعجب سعيد مرةً أخرى وتساءل عن معنى تدخُّل الحكومة في المذهب، فقال الشيخ: إن ذلك كله تم بناءً على اقتراح للأستاذ الكبير رءوف، المرشح لوظيفة شيخ المشايخ؛ فعجب سعيد للمرة الثالثة وقال: إن رءوف علوان بكل بساطة خائنٌ ولا يفكِّر إلا في الجريمة، فقال الشيخ: إنه لذلك رُشِّح للوظيفة الخطيرة، ووعد بتقديم تفسير جديد للقرآن الشريف، يتضمَّن كافة الاحتمالات التي يستفيد منها أيُّ شخص في الدنيا تبعًا لقدرته الشرائية، وأن حصيلة ذلك من الأموال ستُستغَلُّ في إنشاء نوادٍ للسلاح، ونوادٍ للصيد، ونوادٍ للانتحار، فقال سعيد إنه مستعد أن يعمل أمينًا للصندوق في إدارة التفسير الجديد، وسيشهد رءوف علوان بأمانته كما ينبغي له مع تلميذ قديم من أنبَهِ تلاميذه. وعند ذاك قرأ الشيخ سورة الفتح، وعُلِّقَت المصابيح بجذع النخلة، وهتف المنشد: يا آل مصر هنيئًا فالحسين لكم …
وفتح عينَيهِ فرأى الدنيا حمراء، ولا شيء فيها ولا معنى لها، ثم رأى الشيخ مُتربِّعًا في هدوء يكتنفه البياض الناصع من الجلباب الفضفاض والطاقية واللحية، فلما ندَّت عن سعيد حركة لدى استيقاظه نظر الشيخ إليه في هدوء أيضًا، وجلس سعيد في عجلةٍ، ورنا إلى الشيخ كالمعتذِر، وفي الوقت نفسه دهمَتْه الذكريات في سرعة اللهب، وقال الشيخ: نحن في العصر، وأنت لم تَذُق طعامًا.
نظر سعيد إلى الكُوَّة، ثم أعاد إلى الشيخ النظر وهو يتمتم في ذهول: العصر!
– نعم، قلتُ أدعه في نومه، وهداية الله تنزل في أي حال تريدها مشيئته!
وداخله القلق، تُرى ألم يَرَهُ أحد في نومه طوال النهار؟
– كنت أشعر في نومي بدخول أناس كثيرين!
– أنت لم تشعر بشيء، ومع ذلك فقد جاء واحد بلقمة الغداء، وجاء آخَر فكنسَ المكان، وسقى الصبارة والنخلة، وفرش الحوش استعدادًا لاستقبال المُحبِّين!
فسأل باهتمام: متى يجيئون يا مولاي؟
– مع المغرب، متى جئتَ أنتَ؟
– مع الفجر …
وصمت مليًّا، ثم مسح الشيخُ على لحيته وقال: أنت تعيسٌ جدًّا يا بني!
فتساءل في قلق: لِمَه؟
– نمتَ نومًا طويلًا، ولكنك لا تعرف الراحة، كطفل مُلقًى تحت نار الشمس، وقلبك المحترِق يحنُّ إلى الظل، ولكن يُمعِن في السير تحت قذائف الشمس، ألم تتعلم المشي بعدُ؟!
فقال سعيد وهو يدعك عينَيهِ اللوزيتَينِ المحمرتَينِ: فكرة مزعجة أن يراك الآخَرون وأنت نائم!
فقال الشيخ بلا اكتراث: مَن غاب عن الأشياء غابَت الأشياء عنه!
ومرَّ بيده بخفة فوق جيب المسدس، وساءل نفسه: تُرى ماذا يصنع هذا الشيخ لو أنه صوَّب نحوه مسدسه؟ متى يمكن أن يهتز هدوءُه المثير؟ وعاد الشيخ يسأله: أنت جائع؟
– كلَّا.
فقال وشِبه ابتسامة تلوح في عينَيهِ: إذا صحَّ الافتقار إلى الله صحَّ الغِنى بالله!
– إذَا!
ثم بلهجة ساخرة: مولاي، ماذا كنتَ تفعل لو ابتُليتَ بمثل زوجتي؟ ولو أنكرَتْك كما أنكرَتْني ابنتي؟
فلاحَتْ في العينَينِ الصافيتَينِ نظرةُ رثاء، وقال: العبد لله لا يملكه مع الله سبب …
اقطع لسانك قبل أن يخونك ويعترف، أنت تودُّ أن تعترف له بكل شيء، ولعله ليس في حاجة إلى ذلك، لعله رآك وأنت تطلق النار، لعله يرى أكثر من ذلك، وارتفع صوتٌ تحت الكُوَّة ينادي بجريدة أبو الهول، فقام بسرعة إلى الكُوَّة فناداه، ثم مدَّ يده بالقرش، وعاد بالجريدة إلى مجلسه، وقد نسي الشيخ تمامًا، التصقَتْ عيناه بعنوان ضخم أسود «جريمة شنيعة بالقلعة!» وجرَتْ عيناه على الأسطر بسرعة جنونية، ولم يفهم شيئًا، أهي جريمة أخرى؟ لكن ها هي صورته، ها هي صورة نبوية، ها هي صورة عليش سدرة، فمَن المضرَّج في دمه؟ قصته بارزة أمام عينَيهِ، فضيحة مُذاعة كالغبار الخماسيني، الرجل الذي خرج من السجن ليجد امرأته زوجةً لأحد أتباعه، ولكن مَن المضرَّج في دمه؟! إنه لا يفهم شيئًا، وينبغي أن يقرأ من جديد، ينبغي أن يعرف مَن المضرَّج في دمه، وكيف استقرَّتْ رصاصته في صدره، القتيل رجل آخَر يرى صورته لأول مرة في حياته، اقرأ من جديد، لقد ترك عليش سدرة ونبوية بيتهما في نفس اليوم الذي زارهما فيه بحضور المخبِر والأعوان، وحلَّت مكانهما في الشقة أسرة جديدة، ولعلها دفعَتْ خلوَّ رِجْل، الصوت الذي سمعه لم يكن صوت عليش سدرة، الصوات الذي سمعه لم يكن صوات نبوية، الجسم الذي سقط كان جسم شعبان حسين، العامل بمحل الخردوات بشارع محمد علي، سعيد مهران جاء ليقتل زوجته وصاحبه القديم، فقتل الساكن الجديد شعبان حسين. وشهد أحد جيران عليش بأنه رأى سعيد مهران وهو يغادر البيت عقب ارتكاب الجريمة، وأنه نادى الشرطي، ولكن صوته ضاع في الضجة التي شملَتِ الطريق كله، أي هزيمة جنونية؟! أي جريمة بلا جدوى؟! وسيطارده حبل المشنقة وعليش آمن، هذه هي الحقيقة كأنها جوف قبر انكشف، وانتزع عينَيهِ من الجريدة فرأى الشيخ على الجنيدي ينظر إلى السماء من خلال الكُوَّة ويبتسم، ولسبب ما أخافته ابتسامته، ورغب في أن يقف أمام الكُوَّة ليمد بصره في خط نظر الشيخ، لعله يرى في السماء ما جعله يبتسم، لكنه لم ينفذ رغبته، ليبتسم، وليطَّلِع على مكنونه إذا شاء، ولكن سيجيء المريدون عما قريب، وربما تعرَّف عليه بعضهم ممَّن رأوا صورته في الجريدة، آلاف وآلاف يتأملون صورته الآن بغرابة وخوف ولذة بهيمية خفية، قُضي عليه بلا جدوى، مُطارَد وسيظل مُطارَدًا إلى آخِر لحظة من حياته، وحِيدٌ عليه أن يحذر حتى صورته في المرآة، حيٌّ بلا حياة كجثة مُحنَّطة، سيجري من جُحر إلى جُحر كفأر يتهدَّده السم والقطط وهراوات المُشمئِزِّين، كلُّ هذا وأعداؤه يمرحون، والتفتَ الشيخ نحوه وقال برقة: أنت مُتعَب، قُم فاغسل وجهك!
فقال بضيقٍ وهو يطوي الجريدة: سأذهب وأريحك من منظري!
فقال في مزيد من الرقة: هذا مأواك.
– نعم، ولكن لِمَ لا يكون لي مأوًى آخَر؟
فقال وهو يُطرِق: لو كان لك آخَر ما جِئتَني!
اذهب إلى الجبل حتى يهبط الظلام، لا تغادره حتى يهبط الظلام، تحاشَ الضوء، ولُذ بالظلام. تعبٌ بلا فائدة، ذلك أنك قتلتَ شعبان حسين، مَن أنت يا شعبان؟ أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، هل لك أطفال؟ هل تصوَّرتَ يومًا أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك؟ هل تصوَّرتَ أن تُقتَل بلا سبب؟ أن تقتل لأن نبوية سليمان تزوَّجَتْ من عليش سدرة؟ وأن تُقتَل خطأً ولا يُقتَل عليش أو نبوية أو رءوف صوابًا؟ وأنا القاتل لا أفهم شيئًا، ولا الشيخ على الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم، أردتُ أن أحل جانبًا من اللغز، فكشفتُ عن لغز أغمض. وتنهَّدَ بصوت مسموع، وعاد الشيخ يقول: يا لك من مُتعَب!
– ودنياك هي المتعبة.
فقال الشيخ في رضًى: نتغنى بهذا أحيانًا.
ونهض، ثم قال وهو يهم بالذهاب: وداعًا يا مولاي!
فقال الشيخ كالمحتجِّ: قولٌ لا معنى له على أي وجه قُلتَه، قُل إلى اللقاء!