الفصل التاسع
يا له من ظلام! انقلب خفاشًا؛ فهو أصلح لك، وهذه الرائحة الدهنية المتسرِّبة من باب شقةٍ ما في هذه الساعة من الليل! متى تعود نور؟ وهل تعود بمفردها؟ هل يمكن أن أبقى في بيتها حتى أُنسَى؟ لعلَّك تظن يا رءوف أنك تخلَّصتَ مني إلى الأبد؟ بهذا المسدس أستطيع أن أصنع أشياء جميلة، على شرط ألا يعاكسني القدر، وبه أيضًا أستطيع أن أوقظ النيام، فهم أصل البلايا، هم خلَقوا نبوية وعليش ورءوف علوان.
وخُيِّل إليه أنه سمع وَقْع أقدام صاعدة، ثم تأكَّدَ من ذلك، ونظر من فوق الدرابزين، فرأى نورًا خافتًا يتحرَّك في بطء على الجدران، نور عود ثقاب كما ظنَّ، واقتربَتِ الأقدام ثقيلة متمهِّلة، فقرَّر أن يُنبِّهَها إلى وجوده؛ تفاديًا من مفاجأة مُزعِجة، وتنحنح فجاء صوتها يسأل في ارتياع: مَن؟
فأدلى برأسه إلى أقصى حد مُمكِن، وقال هامسًا: سعيد مهران!
وأسرعت الأقدام في خِفَّة، حتى انتهَتْ إلى مكانه، وهي تلهثُ، والعود يلفظ أنفاسه، وقبضَتْ على عضده في انفعال، وبنبرة تنازعها الابتهاج، وتقطع الأنفاس، قالت: أنت! يا كسوفي .. انتظرتَ طويلًا …؟
وفتحَتِ الشقة، ثم دخلَتْ جاذبةً إياه من ذراعه، وأضاءت مصباحًا، فظهر مدخل مستطيل صغير خالٍ من أي شيء، ومالَتْ به إلى حجرة جانبية كشفَ مصباحها الكهربائي عن حجمها المتوسط، وأضلعها المربعة، ثم سارعَتْ إلى النافذة، ففتَحَتْها على مصراعَيْها لتلطِّف من جَوِّها المختنِق، وارتمى على إحدى الكنبتَينِ المتقابلتَينِ، وهو يقول مُتشكِّيًا: جئتُ عند منتصف الليل، ولبثتُ أنتظر حتى شابَ شعري …
فجلسَتْ على الكنبة الأخرى بعد أن أزاحَتْ عنها أقمشةً مُفصَّلة، وكومًا من القصاصات، وقالت: الحق أنه لم يكن عندي أدنى أمل في أنك ستجيء!
وتلاقَتِ الأعين المُتعَبة، فابتسم ليُداري تحجُّر باطنه، وتساءلَ: حتى بعد وعدي الصريح؟!
فابتسمَتِ ابتسامةً خفيفة ولم تُجِب، لكنها قالت: أمس استجوبوني في القسم حتى أزهقوا روحي، أين السيارة؟
فقال وهو يخلع جاكتته ويرمي بها إلى جانبه، كاشفًا عن قميص طحيني متلبِّد بالعرق والغبار: قضَتِ الحكمة بأن أتركها رغم حاجتي إليها، سيجدونها ويردُّونها إلى صاحبها كما ينبغي لحكومة تتحيَّز لبعض اللصوص دون البعض!
فسألته في قلق: ماذا فعلتَ بها أمس؟
– لا شيء البتَّة في الحقيقة، وستعلمين كلَّ شيء في حينه.
ونظر نحو النافذة وهو يتنفس في عمق قائلًا: جِهة بَحرية فيما أظن، هواء لطيف حقًّا!
– خلاء حتى باب النصر، هنا القراقة!
فابتسم قائلًا: لذلك فهواؤها غير فاسد!
تنظر إليك بنَهَم، وأنت تمتعض ضجرًا، وبدل العزاء تتذكَّر طعنة في الكبرياء، وقالت نور راجعةً إلى أفكارها الأولى: انتظرتَ طويلًا على السُّلم، أنا آسفة جدًّا!
فامتحَنَها بنظرة غامضة، وهو يقول: سأنزل ضيفًا عندك لأجلٍ طويل!
فارتفع رأسها ابتهاجًا وهي تقول: امكثْ طول العمر إنْ شئتَ!
فأومأ إلى النافذة وهو يقول باسمًا: حتى أنتقل إلى الجيران!
وبدا أنها لم تسمعه لتفكير لاح في عينَيْها، ثم تساءلت: وأهلك، ألا يسألون عنك؟
فأجاب وهو ينظر إلى حذائه المطاط: لا أهل لي!
– أعني زوجتك؟
تعني الألم والجنون والرصاص الضائع، تريد اعترافًا مؤذيًا للكرامة، وستجد أن فتح القلب المُغلَق يزداد عسرًا، ولكن ما جدوى الكذب والجرائد تنعق بالفضيحة؟
– قلتُ لا أهل لي!
أنتِ تُفكِّرين في معنى القول، ويُشرق وجهكِ بالسرور، وأنا أكرهُ هذا السرور، وأرى الآن أنَّ الذبول استقرَّ تحت عينَيكِ، وتساءلَتْ: الطلاق؟
لوَّح في ضجر قائلًا: طلقتُ وأنا في السجن، ولندعْ هذا الحديث جانبًا.
فقالت بغضب: خنزيرة! مثلكَ يُنتظر ولو حُكِم عليه بتأبيدة!
الماكرة، مثلي لا يحب الرثاء، احذري الرثاء، يا ضيعة الرصاص في الصدور البريئة!
– الحق أني أهملتُها كثيرًا!
– على أي حال هي امرأة لا تستحقكَ!
صدقتِ، ولا أي امرأة، لكنها مفعمة حيوية، وأنتِ تترنَّحين فوق الهاوية، نفخة واحدة ثم تنطفِئين. وما لكِ في قلبي سوى الرثاء، وقال: لا يجوز أن يشعر بي أحد!
فقالت ضاحكةً وكأنها وثقَتْ من امتلاكه إلى الأبد: أحطك في عيني وأكَّحَل عليك!
ثم برجاء: هل فعلتَ شيئًا خطيرًا؟
هزَّ منكبَيهِ باستهانة، فقامَتْ وهي تقول: سأعدُّ لك مائدة؛ عندي طعام وشراب، أتذكرُ كم كنتَ جافًّا معي في الماضي؟
– لم يكن عندي وقت للحب …
فلحظَتْه بعتاب وهي تقول: وهل يوجد ما هو أهم منه؟ .. وكنت أقول لنفسي: لعلَّ قلبه حجر، ومع ذلك فلم يحزن أحد على سجنك كما حزنتُ …
– لذلك لجأتُ إليكِ أنتِ!
فقالت بامتعاض: أنت لم تُقابلني إلا صُدفة، ولعلكَ كنت نسيتَني تمامًا!
فقطَّب عمدًا وهو يتساءل: أتظنين أني لا أستطيع أن أجد مكانًا آخَر؟
فأشفقَتْ من غضبه، وأقبلَتْ عليه، فأحاطت خدَّيْه براحتَيْها وهي تقول مُعتذِرة: نسيتُ أن العسكري يمنع زُوَّار الحديقة من معاكسة الأسد، آسفة، ولكن ما أسخنَ وجهك! وذقنك خشنة جدًّا، ما رأيكَ في دش بارد؟
فأعرب عن ترحيبه بابتسامة.
– إلى الحمام، وعندما تخرج ستجد المائدة مُعَدَّة، سنأكل في حجرة النوم؛ فهي أجمل من هذه الحجرة، وتطل مثلها على القرافة …