سرحان البحيري
هاي لايف.
معرض أشكال وألوان مثير للشغب، شغب البطون والقلوب. موجة هائلة من الأنوار الباهرة تسبح فيها قدور فواتح الشهية، العلب الحريفة والمسكرة، اللحوم المقدَّدة والمدخَّنة والطازجة، الألبان ومستخرجاتها، القوارير المضلَّعة والمنبسطة والمبطَّطة والمربَّعة والمنبعجة المترعة بشتى الخمور من مختلف الجنسيات.
لذلك تتوقَّف قدماي بطريقة أتوماتيكية أمام كل بقالة يونانية.
وهواء الخريف يلفحني بدسامته الجنسية. وعيناي ترنوان إلى الفلَّاحة بين الزبائن أمام الطاولة. طوبى للأرض التي غذَّت وجنتيكِ ونهديكِ. وأنا أراجع أسعار القوارير لمحتها. امتدَّ إليها بصري من موقفي فوق الطوار، مارًّا فوق برميل الزيتون، نافذًا من فرجة بين الهيج والديوارس، مائلًا عن قطَّاعة البسطرمة، حتى استقرَّ على عارض وجهها الأسمر المرفوع إلى البقَّال ذي الشارب البلقاني. وقد تأبَّطت حقيبة من القشِّ المجدول مُلئت بالمشتريات، وقد برزت من جانب غطائها رأس زجاجة الجوني ووكر.
تصدَّيت لها وهي تغادر المحلَّ فتلاقت عينانا، ارتطمت نظرتها المستطلعة الصُّلْبة بنظرتي الضاحكة المُعجبة. سارت في طريقها فسرت وراءها ولا غاية إلَّا تحية الجمال ذي العبير الريفي الذي أحبُّه. تعرَّضنا في طريق الكورنيش لدفقات هواء الخريف المشعشع بالشعاع الواني الغارب، وهي تتقدَّمني في مشية عسكرية سريعة حتى انعطفت فيما وراء عِمارة الميرامار. التفتت ناحيتي وهي تمرق إلى مدخل العمارة فتلقَّيت نظرة عسليَّة محايدة.
وتذكَّرت موسم جَنْي القطن في قريتنا.
•••
كان عبيرها قد تبخَّر من نفسي أو كاد عندما رأيتها للمرَّة الثانية في نهاية الأسبوع. لمحتها أمام معرض محمود أبو العباس وهي تبتاع الجرائد. أدركتها قبل أن تذهب وأنا أقول: صباح الفل.
ردَّ محمود أبو العباس التحية دونها ولكنها نظرت نحوي فتلقَّيت نظرتها بعين صقر تودُّ أن تشدَّها إليها إلى الأبد. سرعان ما ذهبت وقد هيَّجت عبيرها من جديد فملأ حواسِّي جميعًا، وقلت لمحمود: هنيئًا لك!
فضحك في براءة فسألته: من أين؟
فأجاب دون مبالاة: تعمل في بنسيون ميرامار.
رددت إليه مبلغًا كنت اقترضته في زنقة من مطالب الأسرة ثم مضيت أتمشَّى حول الفسقية في انتظار المهندس علي بكير. فلَّاحة حُلْوة، حُلْوة بكل معنى الكلمة، وها هي تسلب لبِّي. انتشيت بالانفعال وشعاع الشمس وبالوجوه الكثيرة الواقعة في حبائل الانتظار حولي.
وتذكَّرت موسم جَنْي القطن في قريتنا.
•••
جاء علي بكير حوالي العاشرة صباحًا، فذهبنا إلى مسكني بشارع الليدو بالأزاريطة. كانت صفيَّة قد ارتدت ملابسها فذهبنا إلى سينما مترو. غادرنا السينما في الواحدة بعد الظهر فسبقاني إلى الشقَّة وذهبت إلى هاي لايف لابتياع زجاجة نبيذ قبرصي.
رأيت الفلَّاحة واقفة تستبضع. كملاطفة الأحلام وابتسام الحظ. شيء نبَّهها إلى وقفتي فيما وراءها، فالتفتت مستطلعة فرأت وجهي المبتهج. أرجعت رأسها ولكنَّني لمحت في مرآة تتوسَّط أسرابًا من قوارير الخمر ابتسامة انفرجت عنها شفتاها الورديتان. رأيت — فيما يرى الحالم اليقظان — نفسي مقيمًا في البنسيون، أستمتع فيه بالدفء والحب. لقد تسلَّلت إلى نفسي، أنعشت قلبي كما حدث له مرَّة في كلية التجارة. وهذه الابتسامة صريحة كشمس النهار المشرق. فلَّاحة .. بعيدة عن مَنْبِتها .. غريبة في بنسيون .. غريبة كالكلب الضال الأمين في سعيه وراء صاحب.
وقلت لها ونحن نغادر المحلَّ: لولا ضوء النهار لأوصلتك.
– فقطَّبت ساخرة وهي تقول دون غضب حقيقي: دمك خفيف!
فحلمت أحلامًا سعيدة بعبير الريف والحب البكر.
•••
وجدت علي بكير متربِّعًا فوق شلته بحجرة الشلت، وصفيَّة تُعِدُّ الطعام في المطبخ. ارتميت إلى جانبه ثم وضعت الزجاجة أمامي وأنا أقول: نار .. هذا هو آخر تعريف علمي للأسعار.
شدَّ على ذراعي ثم سألني: مرَّت أزمة العام الدراسي الجديد؟
– مرَّت ولكن بغير سلام.
أخبرته ذات يوم بتنازلي لأمي وإخوتي عن إيراد ميراثي من الأرض البالغ أربعة أفدنة، ولكن ما الفائدة؟!
وقال مشجِّعًا: ما زلت في مقتبل العمر والحياة، وأمامك مستقبل باهر.
فقلت في ضجر: حدِّثني عن الحاضر من فضلك، وخبِّرني بالله عن معنى الحياة بلا فيلَّا وسيارة وامرأة!
ضحك علي بكير موافقًا، وسمعت صفيَّة حديثي وهي قادمة بالصينية فرمقتني بنظرة ضارية وخاطبت المهندس قائلة: لا ينقصه شيء، ولكنه جاحد ابن جاحدة!
فتراجعت قائلًا: لا أملك في الواقع إلَّا المرأة.
قالت صفيَّة متشكِّية: نحن نعيش عيشة مشتركة منذ أكثرَ من عام، عزمت على تعليمه الاقتصاد فجرفني معه إلى التبذير.
شربنا وأكلنا ونمنا.
وغادر ثلاثتنا المسكن قبيل الغروب فذهبت صفيَّة إلى الجنفواز، وذهبت وعلي بكير إلى الكافيه دي لابيه. سألني ونحن نحتسي القهوة: أما زالت تطمح إلى الزواج منك؟
– مجنونة .. ماذا تتوقَّع من مجنونة؟
– أخاف أن …
– نجوم السما أقرب إليها مني، ثم إنني مللتها جدًّا.
نظرنا من الزجاج إلى جوٍّ رائق. شعرت بعينَي علي بكير وهما تتحوَّلان إليَّ فتجاهلتهما وأنا أستشعر نذير الخطر. وما لبث أن قال: لندخل في الجد.
حوَّلت نظري إليه. صرنا وجهًا لوجه. لا مفرَّ الآن ولا مهرب، قلت: لندخل في الجد.
فقال في هدوء غريب: حسن، تمت دراسة الموضوع بدقائقه.
انقبض قلبي.
انقبض قلبي. نظرت إليه بتسليم واهتمام وقلق. قال: أنا المهندس المختص وأنت المشرف على حسابات القسم، سوَّاق اللوري مضمون، وكذلك الخفير، لم يبقَ إلَّا أن نجتمع للقَسَم على القرآن.
ضحكت رغمًا عني. نظر إليَّ متسائلًا، ثم أدركتُ النكتة التي أفلتت منه بلا قصد. ضحك أيضًا، ثم قطَّب قائلًا: ليكن، إنه مال بلا صاحب، تصوَّر ما يعنيه لوري من الغزل في السوق السوداء، عملية مأمونة ويمكن أن تتكرر أربع مرَّات في الشهر.
رحت أفكِّر وأحلم. وواصل علي حديثه قائلًا: الخطوات المشروعة سراب، صدِّقني. ترقيات وعلاوات ثم ماذا؟ بكم البيضة؟ .. بكم البدلة؟ وها أنت تتحدَّث عن فيلَّا وسيارة وامرأة. حسن، أفتني إذن، وقد انتُخبت عضوًا في الوحدة فماذا أفدت؟ وانتُخبت عضوًا في مجلس الإدارة فماذا جدَّ؟ وتطوَّعت لحلِّ مشكلات العمال، فهل فتحوا لك أبواب السماء؟ والأسعار ترتفع والمرتبات تنخفض والعمر يجري، حسن، ما الخطأ؟ كيف وقع؟ أنحن أرانب معمل؟ عزيزي .. اعدلني على القِبْلة.
سألته وصوتي يقع من سمعي موقع الصوت الغريب: متى نشرع في العمل؟
– لن نبدأ قبل شهرين وربما ثلاثة، يجب أن يكون التخطيط أساس عملنا، وبعدها حياة خالد الذِّكر هارون الرشيد.
رغم أن مقاومتي الحقيقية كانت قد انهارت من زمن بعيد إلَّا أنَّ قلبي ناء بهمٍّ ثقيل. وجعل ينظر في عينيَّ ببصر حاد. ثم سألني: هه؟
فانفجرت ضاحكًا: ضحكت حتى دَمَعَت عيناي، وطالعني وجهه طيلة الوقت صلبًا باردًا متسائلًا. مِلتُ نحوه فوق المائدة ثم همست: أوكِّي أيها الزميل العزيز.
شدَّ على يدي ثم ذهب. لبثت وحدي مُوزَّعًا بين أفكاري.
– أستاذ .. سأحتاج قريبًا إلى خبرتك.
سألته عما يريد فقال: سأشتري — إن شاء الكريم — مطعم بنايوتي عندما يُقرِّر السفر إلى الخارج.
ذهلت حقًّا. نظرت إلى معرضه المكتظ بالكتب والجرائد والمجلَّات، هل مكَّنه حقًّا من ادِّخار ما يبتاع به مطعم بنايوتي؟ وسألته: ماذا تريد مني وأنا لا أعرف عن الطعام إلا أنه يؤكل؟
– أن تساعدني في الحسابات.
وعدته خيرًا، ثم خطر لي أن أبيع الأفدنة وأشاركه، فسألته: لعلَّك تحتاج إلى شريك؟
فأجاب بنفور واضح: كلَّا، لا أحب الشركة، ولا أريد للمطعم أن يكبر فيلفت نظر الحكومة.
•••
ذهبت إلى المقرِّ العامِّ للاتحاد الاشتراكي، فاستمعت إلى محاضرة عن السوق السوداء، أعقبتها مناقشة عامَّة. ولما انفضَّ الاجتماع سمعت صوتًا يناديني وأنا ماضٍ نحو الباب الخارجي. توقَّفت في تيار الزحام وأنا أتلفَّت فرأيت رأفت أمين مقبلًا نحوي. لم أكن رأيته منذ عهد الدراسة بالجامعة فتصافحنا بحرارة، وسرنا في الزحام حتى خرجنا إلى الطريق. أخبرني بأنه حضر الاجتماع باعتباره — مثلي — عضوًا في الوحدة الأساسية لشركة المعادن المتحدة. واتجهنا نحو الكورنيش بإغراء من لطافة الجو، ولمَّا خلونا إلى أنفسنا أو كدنا أَغرقنا في الضحك معًا. ضحكنا بلا مناسبة ظاهرة، ولكن بدافع من ذكريات مشتركة لم يكن في الإمكان نسيانها أو تجاهلها. ذكريات اجتماعية مماثلة، شهدناها جنبًا لجنب، فصفَّقنا معًا وهتفنا معًا. حدث ذلك عندما كنا عضوين في لجنة الطلبة الوفديِّين بالكلية. أتذكر؟ طبعًا، مَن ذَا ينسى؟ كنا وقتذاك أعداء الدولة. أجل .. أما اليوم فنحن الدولة. وجرى الحديث هكذا بين الماضي والحاضر حتى قلت له: لا أصدِّق أنك — أنت بالذات — تبرَّأت من وفديَّتك؟ فعاوده الضحك وهو يقول: وأنت لم تكن وفديًّا مخلصًا، واحدة بواحدة والبادي أظلم .. ثم لكزني بكوعه متسائلًا: ولكن أأنت اشتراكي مخلص؟
– طبعًا.
– لِمَ من فضلك؟
– للثورة أعمال لا يسع الأعمى إلا الإقرار بها.
– والبصير؟
فقلت بجدية: إني أعني ما أقول.
– إذن فأنت ثوري اشتراكي؟
– بلا أدنى شك.
– مبارك، خبِّرني الآن أين نقضي ليلتنا؟
فدعوته إلى الجنفواز. سهرنا حتى منتصف الليل. أردت أن أنتظر صفيَّة، ولكنها أخبرتني بأنها مدعوة للذَّهاب مع زبون ليبي.
•••
كنت خارجًا من سينما ستراند عندما رأيت الفلَّاحة الحلوة. كانت قادمة من شارع صفيَّة زغلول بصحبة عجوز يونانية. رائقة السُّمرة، ساحرة النظرة، ريَّانة الشباب. كان الطوار مكتظًّا بالخلق، والهواء يهبُّ منعشًا حاملًا رائحة البحر، وهالة ضخمة من القطن المندوف تغشى القبَّة فتُضفي على الجوِّ لونًا أبيض ناعسًا ناعمًا كبهجة الرضا. مضتا تشقَّان طريقهما وسط الزحام فتراجعت خطوة موسعًا وأنا أُحَيِّي بإغماضة من عيني. ابتسمت بحذر، أجل .. استجابت باسمة في حذر. وقلت لنفسي إن الصِّنارة قد نشبت. وشاع في نفسي سرور كالسائل العذب الذي يخالط الريق بعد مضغ الفول الأخضر البكر الطازج المقطوف لتوِّه من الأرض الخضراء.
•••
اختلست من وجهها نظرة وأنا أحتسي قهوة الأصيل. كانت عيناها منتفختين محمرَّتين من أثر النوم العميق، وشفتاها الغليظتان منفرجتين، في أقبح أحوالها كالعادة، وغافلة تمامًا عما دبَّرت لها. فقلت بلهجة أسيفة مصطنعة: صفيَّة!
رمقتني مستطلعة فقلت: جدَّت ظروف سخيفة ولكن علينا أن نتوافق معها.
فاستقرَّت في عينيها نظرة حذرة، وهزَّت رأسها داعية إيَّاي إلى الإفصاح، فقلت: سنُضطرُّ إلى تغيير نظام حياتنا، أعني الإقامة في شقَّة واحدة. قطَّبت فتجمَّع الغضب في حاجبيها كما يتجمَّع ماء المطر في نُقرة مطيَّنة وتحفَّزت للنضال، فقلت: إنها كارثة، كارثة تمامًا بالنظر إلى أزمة المساكن، ولكن زميلًا في الشركة لمح لي، أجل، حدَّثتك مرَّة عن الرقابة الإدارية، ولا شكَّ أن مستقبلك يهمُّك كما يهمُّني.
قالت بضيق محتجَّة: ولكن مضى على حياتنا المشتركة حوالي عام ونصف.
– كانت أهنأ أيام حياتي، وكان يمكن أن تمتدَّ إلى الأبد دون أن يدريَ بها أحد.
ونظرت في قعر الفنجال كأنما أقرأ البخت ثم واصلت قائلًا: ولكن سوء الحظ أدركني، سأرجع إلى شقَّة العازب المبعثرة، وربما اضطُررت إلى الإقامة في فندق حقير أو بنسيون مزعج.
نفخت بوحشية وقالت: يوجد حل، يوجد حل، ولكنك خسيس ابن حرام!
– أنا رجل صريح، أحبك حقًّا، وسأحبك حتى آخر يوم في حياتي، ولكني قلت لك من أول يوم إن الله لم يخلقني للزواج.
– لأنه خلقك ناقص المروءة.
– وإذن فلا داعي للرجوع إلى مناقشات لا خير فيها.
تفرَّست في عينيَّ كأنما لتنفذ إلى أغوارهما، ثم قالت: تريد أن تهجرني.
فبادرتها: صفيَّة، أنا رجل صريح، لو في نيَّتي أن أهجرك لقلتها بصريح العبارة وذهبت.
ران الكدر على روحها ووجهها، وضاعف العبوس من دمامتها العابرة، فتمنَّيت أن تعافني وتكرهني ليذهب كلٌّ منَّا إلى حال سبيله.
وقلت لنفسي إنه عند الحساب ستتعادل كِفَّتانا. كانت حياتنا مشتركة بكلِّ معنى الكلمة عدا المجاملات التي كانت تنفحني بها في المناسبات والتي عجزتُ — لظروفي الخاصَّة — عن ردِّها. غيري آخرون يستغلُّون عشيقاتهم استغلالًا فاحشًا. الحق أني لم أعْتَدْ بَذْل النقود للنساء. وعلى أي حال فإني أتوقَّع معركة ختامية، وقد جربت ذلك أكثر من مرة. وقد عرفت الحب في الكلية ولكني جئت متأخرًا فضاعت الفرصة. فرصة سعيدة كانت. جميلة وذات مستقبل وكريمة لطبيب تتدفَّق عليه أموال المرضى. ولكن ما فائدة «لو»؟
ها هو قلبي يخفق مرَّة أخرى. أجل .. إني أحب الفلَّاحة. مجرَّد شهوة كالتي ساقتني إلى صفيَّة في الجنفواز.
•••
– أريد حجرة لإقامة طويلة.
تجلَّت نظرة ارتياح في العينين الزرقاوين المستطلعتين، ثم تراخت مستندة إلى ظهر الكنبة تحت تمثال العذراء. في لفتاتها رشاقة متخلِّفة عن ماضٍ سعيد، وشعرها الذهبي المصبوغ يشي برغبة مزمنة في التشبُّث بذلك الماضي. ساومتني بصراحة تجارية مؤكِّدة الأسعار الخاصة بالصيف.
– ولكن أأنت قادم جديد إلى الإسكندرية؟
لم يكن سؤالًا عارضًا ولكنه حلقة من سلسلة استجواب طويل مفهوم. جاريتها لأوثِّق عَلاقتي بها فقدَّمت لها اعترافًا بعملي وسنِّي وبلدتي وحالتي الاجتماعية. في أثناء ذلك رجعت الفلَّاحة من مشوار خارجي، رأتني فخفضت عينيها، أدركت حقيقة الموقف بنظرة واحدة، ومضت متعثِّرة في ارتباكها، ولكن المدام لم تفطن بطبيعة الحال إلى ارتباكها، ولا رأت تورُّد خدَّيْها. وعندما تقدَّمتني إلى الحجرة الخالية — آخر حجرة خالية مُطلَّة على الشارع — كنا بمثابة صديقين ترجع صداقتهما إلى عهد غابر في الزمان.
•••
تفقَّدت الحجرة بارتياح ثم جلست على المقعد الكبير مستبشرًا. عرَفت من مجلسي — ودون سؤال — اسم الفلَّاحة وهي تُنادى. وما لبِثَتْ أن دخلتْ حجرتي حاملةً المُلاءات والأغطية لتُعدَّ السرير. مضيت أراقبها بسعادة متفحِّصًا أجزاءها بعناية وشغف، الشعر والقسمات والقامة. يا سيدي أبو العباس البنت جميلة، جميلة لدرجة السحر، وتملك شخصية أيضًا. أرادت أن تختلس مني نظرة ولكنَّ عينيَّ كانتا لها بالمرصاد. وابتسمتُ قائلًا: أنا سعيد يا زهرة.
استمرت في عملها كأنها لم تسمعني فقلت: ربنا يطول عمرك فقد أرجعت إليَّ الريف الذي جئت منه.
ابتسمت فقلت: محسوبك سرحان البحيري يا زهرة.
فلم تملك أن سألت: بحيري؟
– من فرقاصة بالبحيرة.
كتمت ضحكتها وهي تقول: أنا من الزيادية.
فهتفت بنشوة كأنما وحدة المحافظة معجزة قد وُجدت لضمان سعادتي وحبي: يا ربنا.
وكانت انتهت من عملها فهمَّت بمغادرة الحجرة فرجوتها قائلًا: ابقي قليلًا فلديَّ الكثير مما أودُّ قوله.
ولكنها حركت رأسها بدلال بريء ثم ذهبت. سعدت بتنكُّرها لرجائي واعتدته معاملة «خاصة» لا يمكن أن تعامل بها «زبونًا» مجردًا. نعم إنها ثمرة ناضجة وما عليَّ إلا أن أقطفها ولكن جسمها بريء فيما يبدو ولا عِلْم لي باستعداداتها. إني أحبها، ولا غنى لي عنها. وددت أن يضمَّنا مسكن واحد بعيدًا عن هذا البنسيون الذي لا يخلو عادة من متطفِّلين ثقلاء.
•••
على مائدة الإفطار تعرَّفت بعجوزين غريبين. أكبرهما حي ميت، مومياء، ولكنه لا يخلو من مرح، وهو — كما قيل — صحفي قديم. والآخر طلبة مرزوق، ليس اسمه بالغريب على أذني وإن كاد يُمحى، وهو ممن وُضِعوا تحت الحراسة، ولا علم لي بما جاء به إلى هذا البنسيون. وقد أثار تطلُّعي من أول مرة، فكل شاذ مثير سواء كان مجرمًا أو مجنونًا أو محكومًا عليه أو موضوعًا تحت الحراسة. إلى ذلك كله فقد كان من الطبقة التي علينا أن نَرِثها بطريقة ما. ها هو يخفي عينيه في قدح الشاي، متجنِّبًا النظر نحوي، عن حذر أو كبرياء. وتلاطمت في نفسي — حياله — أحاسيس متباينة تتراوح ما بين الشماتة من ناحية والرثاء من ناحية أخرى، غير أن إحساسًا منها استقرَّ في وضوح وهو ذعري الغريب من فكرة مصادرة الثروات، كأنما أومن بأنَّ مَن يقتل مرَّة يعتاد القتل!
وأراد عامر وجدي أن يجاملني فقال: يسرُّني أنك من رجال الاقتصاد، إنَّ الدولة اليوم تعتمد أول ما تعتمد على الاقتصاديين والمهندسين.
تذكَّرت علي بكير فلم أهنأ بالثناء. وعاد العجوز يقول: على أيامنا كان جلُّ اعتمادها على بلاغة البُلغاء.
ضحكت هازئًا متوهِّمًا أني بذلك أجاري رأيه غير أنه استاء فيما بدا فأدركت أنه لم يكن ينتقد، ولكنه كان يؤرِّخ. وراح يقول مدافعًا عن جيله: يا بني، كان هدفنا إيقاظ الشعب، والشعوب تستيقظ بالكلمات، لا بالمهندسين ولا بالاقتصاديين.
وسرعان ما تراجعت قائلًا في اعتذار: لو لم يقم جيلكم بواجبه لما تحقَّق لجيلنا وجود.
وظلَّ طلبة مرزوق ملازمًا الصمت.
•••
قلبي يستعيد براءته وفتوَّته. مثل هذا الصباح المشرق. مثل زُرقة البحر الصافية. مثل هذا الدفء المبارك. وحب الحياة يتردَّد مع أنفاسي، يجري مع ريقي، ينعش روحي بفرح ونهم. عملت نهارًا طيبًا بالشركة ثم تناولت الغداء مع صفيَّة في مسكني القديم. نظرت إليَّ ببصر فأسدلت على وجهي قناع الكآبة. شكوت إليها وحشة البنسيون وبرودته. حياة لا تُحتمل يا عزيزتي ولذلك وصيت سمسارًا بالبحث لي عن شقة.
وتردَّدت ألفاظ مألوفة مثل خسيس وابن حرام، ولما آن لنا أن نستريح بعد الغداء ساءلت نفسي متى أتحرر من السُّخرة؟
ولمحت زهرة وهي تحمل القهوة إلى حجرة عامر وجدي. دقَّت الساعة الكبيرة الخامسة مساء فطلبت قدحًا من الشاي. جاءتني منورة كالنرجسة. أو أغنية تتغنى بسواد الشعر وصفاء السمرة وشهد العين. لمست يدها وأنا أتناول القدح وهمست: من أجلك سجنت نفسي في هذه الحجرة.
قطَّبت لتداريَ عواطفها ثم استدارت لتذهب فقلت لها قبل أن تختفي عن ناظريَّ: أحبك .. لا تنسي ذلك أبدًا.
ولكنها استجابت لمحادثتي عصر اليوم التالي. رغبت أن أعرف عنها أقصى ما يسعني معرفته فسألتها: ماذا جاء بك من الزيادية إلى هنا؟
أجابت باللهجة الريفية الأليفة: الرزق.
وحدَّثتني عن أهلها، وظروف هربها، والتجائها أخيرًا إلى المدام بوصفها عميلة أبيها. قلت بإشفاق: ولكنها خواجاية .. والبنسيون كما تعلمين سوق.
قالت بثقة واعتزاز: عرَفت الحقل والسوق.
ليست بالغِرَّة ولا بالهشَّة. ولكن هل آخذ القصة بحَرْفيتها؟ إن اللاتي يهربن من القصة إنما يهربن … هه؟! وقلت وأنا أرامقها مفتونًا بها: حدث ذلك كله لكي نلتقيَ هنا.
رمتني بنظرة مستطلعة لا تخلو من ارتياب ولكنها نديَّة بالميل، فقلت: أحبك. هذا ما أودُّ قوله ولا أملُّه يا زهرة.
تمتمت: كفاية!
لن أكفَّ حتى أسمع مثلها من شفتيك، حتى تطمئن إلى حِضْني.
– أهذا ما تفكِّر فيه؟
– لن يكون لشيء طعم حتى أناله …
ذهبت بوجه صاف لا أثَرَ فيه للكدر أو الغضب. هنأت نفسي على بلوغ المراد. ووجدتني أجترُّ حنيني القديم إلى الزواج، إنه لحنين قديم، وقد فاض من جديد كنبع يتفجَّر. أودُّ من أعماقي يا زهرة لولا .. أجل، لولا … سحقًا للبديهيات السخيفة القاتلة!
•••
انضم إلينا شابَّان جديدان؛ حسني علَّام ومنصور باهي. تطلعت إلى التعرُّف بهما بغريزة لا تني عن الإكثار من المعارف والصحاب، ودائمًا تنظر إلى الوجه الجديد بعين صياد. وحسني علَّام من أسرة قديمة بطنطا، وجيه من الوجهاء، ومالك لمائة فدَّان، جميل الوجه قوي البنيان، كما يتمنَّى أي واحد منا أن يكون. وأنا قد أكره فكرة طبقته، ولكني أُفتن بأي شخص منها إذا ساقتني الظروف الممتازة إلى صحبته. ومن السهل تخيُّل الحياة التي يمارسها شاب مثله رغم تغيُّر الأحوال، فإن يكن بعد ذلك كريمًا كما ينبغي له فحدِّث عن الليالي الملاح بغير حساب.
أمَّا منصور باهي فنوع آخر من الشبَّان. إذاعي بمحطة الإسكندرية وشقيق ضابط كبير من رجال الأمن. ذاك جميل ومفيد أيضًا، ولكنه يبدو ملتصقًا بذاته فوق ما يتصور العقل. إنه تمثال دقيق جيد الصنع ذو ملامح بريئة لا يحظى بها عادة إلا طفل. أين يمكن العثور على مفتاحه أو الاهتداء إلى الدرب الضيق الوعر الموصل إلى قلبه. ما أكثر الذين يفِدون من القرية سعيًا وراء عمل، وما أكثر المشكلات التي يتطلَّب حلُّها الاستعانة بضابط كبير من رجال الأمن.
•••
جذبتها من ساعدها بغتة. انتظرت حتى وضعت قدح الشاي على الترابيزة ثم جذبتها من ساعدها بغتة. اختلَّ توازنها فتهاوت عليَّ بمجلسي على المقعد الكبير فاحتويتها بذراعيَّ وقبَّلت خدَّها — المتاح لي من وجهها — قبلة خاطفة متوتِّرة نهمة متعجِّلة. اعترضت ساعديَّ بيدين قويتين ثم تملَّصت مني. انتصبت متراجِعة مقطِّبة. نظرت نحوها في حذر وتوقُّع، ثم ابتسمت مستعطفًا. تجمَّلت بالصبر فيما بدا. ثم راق وجهها وصفا كالبحر في صباح خريف دميث. توسَّلت إليها بإشارة أن تقترب فلم تلبِّ ولم تذهب. وَثبْتُ إليها محمومًا برغبة مجنونة فضممتها إلى صدري بلا مقاومة تُذكر، ثم التقت شفتانا في قبلة طويلة نهمة. وهمست في أذنها ورائحة شعرها الآدمية تملأ أنفي: تعالَي إليَّ ليلًا.
تفرَّست في وجهي قليلًا ثم سألتني: ماذا تريد؟
– أريدكِ أنتِ يا زهرة.
لاحظت نظرة جادة في عينيها وهي تفكر، فسألتها: ستأتين؟
سألتني بمرارة: ماذا تريد مني؟
أفقت قليلًا من سَكْرتي وقلت بحذر: نتحادث ونتبادل الحب.
– لكننا نفعل ذلك الآن.
– في عجلة وخوف يفسدان السرور.
– لا أرتاح لأفكارك.
– إنكِ تسيئين فَهْمي.
هزَّت رأسها كأنما تؤكِّد فَهْمها. وذهبت وهي تبتسم رغم ذلك.
داخلني حزن وتعاسة. جعلت أقول متحسِّرًا: لو كانت من أسرة … لو كانت على علم أو مال! وانهمر من لساني سَيْل من اللعنات.
•••
وكانت ليلة أم كلثوم.
نازعني المزاج إلى قضائها في بيت علي بكير لنتلقَّى السماع في جوٍّ هادئٍ جديرٍ به، كما دعاني رأفت أمين إلى السماع في مسكنه، ولكني فضَّلت — بعد تفكير — السهرة في أسرة البنسيون لأوثِّق عَلاقاتي بأفرادها. رأيت صينية كبيرة مليئة بالشواء فتعجَّلت الشراب لأتزود بالشجاعة الضرورية للهجوم. وهيمن علينا جوٌّ أسطوريٌّ فأنشدت أسطورة عن «آل البحيري» ومركز وكيل الحسابات، لا على سبيل الفخر الكاذب وحده، ولكن تمهيدًا للطريق أمام الثروة المنتظرة من مغامرة علي بكير. وانقضَّ علينا حديث السياسة كالقضاء المحتوم. أما سمعتهم …؟ ما قولكم؟ .. أتريدون رأيي صراحةً؟ أدركت بالغريزة أنني ممثل الثورة، مع احتمال مشاركة منصور في ذلك. وانهال الثناء وتبادلنا الأنخاب. ولمحت زهرة فقلت لنفسي إنها ممثلة الثورة الأولى، وتذكَّرت كيف دعت لها أمامي مرَّة وكيف لفحني صدق الدعاء وحماسه البريء. تُرى أيرتاب منصور باهي في صدقي؟ يا صاحبي إني بطبعي عدو أعداء الثورة ألا تفهم؟ وإني من الموعودين ببركاتها، ألا تفهم؟
•••
لقد أغلقت من الأبواب بقدر ما فتحت.
– تذكَّر الملايين ثم احكم من جديد.
– حسن، وما رأيك في المنعمين الجشعين؟
– رأيي أنهم أعداء للثورة؛ فلا يُحكم بهم عليها.
•••
وقد عشقت مدام ماريانا، لا لأنها تحب غناءها فحسب ولكن لخفَّة روحها، ولأنها شريط مسجَّل يعيد ذكرياتها الخاصة بحنين يوناني عتيد. ومن خلال ذكرياتها رأيت لمحات من حياتي الخاصَّة، كالحب القديم، كحب الحياة الطيبة الناعمة. وهي ترجع في الأصل إلى قوم مهاجرين، والمهاجرون قوم وطنهم هو البلد الذي يوفِّر لهم السعادة.
وعامر وجدي أثر قديم اكتشفه منصور باهي. فترة جذَّابة من تاريخنا الذي لا نكاد نعرف منه شيئًا.
وعندما نوَّه طلبة مرزوق بمآثر الثورة لم أملك إلَّا أن أُحَيِّيَ — في نفسي — نفاقه الممتع. واقتنعت بأن الإنسان رغم ابتكاراته وانتصاراته ما زال غارقًا حتى أذنيه في الحماقة والسخف. ولعلَّه من المفيد أن نجمع الأعداء على فترات ليقضوا معًا ليلًا طويلًا وهم يسكرون ويطربون ويملئون أنفسهم بأعذب الألحان.
•••
– إذن فأنت لا تؤمن بوجود الجنة والنار؟
– الجنة هي المكان الذي يتمتَّع فيه الإنسان بالأمن والكرامة، أمَّا النار فهي ما ليس كذلك.
•••
وعندما يضحك منصور لقفشاتي يتبدَّى كطفل رائع، فراودني أمل بأنني سأهتدي إلى الدرب الموصل إلى قلبه، وبأن صداقة حارَّة ترصدنا في نهاية السهرة. أمَّا حسني علَّام — ليحيا حسني علَّام — فقد قدَّم وحده للسهرة زجاجتين من الديوارس. تسلطن على مقعده كعمدة، يملأ الكئوس ويوزِّعها، ويجلجل بضحكاته، وعندما اختفى فجأة عقب منتصف الليل مُنيت الجلسة بخَسارة فادحة.
ولم أستمتع بأم كلثوم كالعادة، ولا ردَّدت معها بعض المقاطع، ولكن نشواتي تفاعلت كسيال كهربائي مع زهرة. عندما تجيء وعندما تذهب، وهي جالسة عند البارفان تتفرَّج على عربدتنا بعين داهشة باسمة. وبالنظرات المختلسة تعانقنا، وتبادلنا القبلات والأشجان.
•••
لا شكَّ أنني رأيت هذا الرجل من قبل. كلَّا، كان مقبلًا على التريانون من ناحية شارع سعد وكنت مقبلًا عليه من ناحية الميدان. سرعان ما عرفت طلبة مرزوق! رأيته لأوَّل مرَّة بملابسه الكاملة متدثِّرًا بمعطفه والكوفية مغطيًا رأسه بطربوش غامق الحمرة. صافحته بإجلال ثم دعوته إلى فنجال قهوة. أذعن لإلحاحي فجلسنا معًا إلى مائدة خلف الزجاج المغلق المطل على البحر. كان الهواء يلعب بسعف النخيل المحدق بتمثال سعد وفي السماء غيم رقيق تضيء الشمس أطرافه بلون ماسي. تبادلنا حديثًا عاديًّا لا معنى له ولا طعم، ولكني حرَصت طيلة الوقت على احترامه ومجاملته والتودُّد إليه. شيء في أعماقي قال لي إنه لا يمكن أن يكون خالي الوفاض تمامًا. أجل، هناك طريقة أو أخرى، ولعلَّه يودُّ أن يستثمر ما لديه ولكن الخوف يكبِّله. وقلت تفريعًا عن حديث المعيشة: من العبث أن يعتمدَ شابٌّ مثلي على مرتَّب وظيفته.
– وما حيلته في ذلك؟
خفضت صوتي كأنما أودِعه سرِّي وأنا أقول: مشروع تِجاري .. هذا ما أفكِّر فيه.
– ومن أين لك بالمال؟
فقلت وأنا أداري أفكاري بابتسامة بريئة: أبيع بضعة أفدنة ثمَّ أبحث عن شريك.
– ولكن هل يمكن أن تجمع بين الوظيفة والتجارة؟
قلت ضاحكًا: على المشروع أن يبقى سرًّا من الأسرار.
تمنَّى لي التوفيق ثم بسط الجريدة ليُلقيَ عليها نظرة. كأنما قد نسيَ الموضوع تمامًا. جائز أن يكون صادقًا، ومحتمل أن تكون مناورة، ولكن أدركني إحساس باليأس منه.
وأشار إلى عنوان أحمر عن ألمانيا الشرقية، وقال: ولا شك أنك سمعت بعض ما يُقال عن بؤس تلك المنطقة، وبخاصَّة إذا قورنت بالمنطقة الغربية.
ها هو يتحدَّث في السياسة الداخلية بلغة السياسة الخارجية. أجبته موافقًا فعاد يقول: ليس لدى روسيا ما تقدِّمه إلى بلد يدور في فَلَكها، أمَّا أمريكا …
– ولكن روسيا قدَّمت لنا بالفعل مساعدات قيمة.
فقال بعجلة: الوضع مختلف، نحن لا ندور في فَلَكها.
وبدا حذرًا حتى ندمت على اعتراضي. وراح يقول: الحق أنهما — روسيا وأمريكا — سِيَّان في رغبة التسلُّط على العالم، لذلك فموقف عدم الانحياز الذي اعتنقناه حكمة وأي حكمة.
أسفت على أنه أفلت من يدي، وأنه لا سبيل إلى استرداد الأرض المفقودة قريبًا. وقلت: الحق أنه لولا ثورة يوليو لاجتاحت البلد ثورة دموية لا تُبقي ولا تذر.
فوافقني بطربوشه وهو يقول: الله كبير، وقد أنقذنا بحكمته.
•••
أين كنت؟ لم تشرِّفنا منذ ثلاثة أيام. كيف تذكَّرتني أخيرًا؟ لماذا تعود إلى الأشياء القديمة الموضوعة على الرف؟ ألم أقل لك إنك خسيس وابن حرام؟ لا تُوجِع رأسي بالأعذار السخيفة. لا تحدِّثني عن عملك الخطير بالشركة. لو كان لوزير رفيقة لما أهملها كما تهملني. جعلت أبتسم وأصبُّ النبيذ في كوبين وباطني يضيق بها لحدِّ التقزُّز. ها هي تلعب معي دور الطاغية فلا بُدَّ من التخلُّص منها. يجب أن أتحرَّر منها إلى الأبد. ولكن انجابت هموم الأرض عن صدري، انجابت جميعًا بمَقْدَم زهرة حاملةً الشاي إليَّ. تعانقنا طويلًا. قَبَّلْتُ شفتيها وخدَّيها وجبينها وعنقها. استمتعت بشفتيها بوعي مركز وهي تطبع شفتيها على شفتيَّ. ثم ابتعدتْ قيراطين عني وهي تتنهَّد وتقول هامسة متشكِّية: يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنهم يعرفون.
فقلت باستهانة ممسوس بنشوة الحب: لا يهمك.
– أنت لا يهمُّك شيء ولكن …
– يهمني شيء واحد يا زهرة.
ورنوت إليها مليًّا لأترجم لها ما أعنيه بعينيَّ ثم قلت برغبة صادقة: لنعش معًا بعيدًا عن هنا!
فتساءلت بارتياب: أين؟
– في مسكن خاص بنا.
لاذت بصمت متلهِّف على مزيد من القول، ولمَّا لم تلقَ مني ما يُشبع لهفتها غامت عيناها بخيبة أمل، وتساءلت: عم تتحدث؟
– إنكِ تحبينني كما أحبك.
قالت بصوت خافت: أنا أحبُّك ولكنك لا تحبُّني.
– زهرة!
– إنك تنظر إليَّ من فوق كالآخرين.
قلت بصدق كامل: إني أحبك يا زهرة، من كل قلبي أحبك، والله شهيد.
فكَّرت قليلًا بكدر ثم ساءلتني: أتعتبرني إنسانة مثلك؟
– وهل في ذلك من شك؟
هزَّت رأسها نفيًا. أدركت بطبيعة الحال ما يدور بخَلَدها فقلت: توجد مشاكل لا حلَّ لها.
واصلت هزَّ رأسها مقطِّبة هذا المرَّة عن غضب وقالت: واجهتني مشاكل كذلك وأنا في القرية ولكنني لم أخضع لها.
لم أتصوَّر أنها معتزَّة بنفسها لذاك الحد. شعرت بأن الحب يجرفني معه إلى الهاوية فغرزت قدميَّ في الحافَّة راميًا بثقلي إلى الوراء. تناولت يدها بين يديَّ، قبَّلت ظهرها وبطنها، وهمست في أذنها: أحبُّك يا زهرة.
•••
كلما نظرت إلى وجه حسني علَّام القوي الجميل حلمت بالليالي الملاح. ولكني علمت ذات يوم بالمشروع الذي جاء الإسكندرية من أجل دراسته وتنفيذه فتغيَّرت نظرتي إليه. طلبة مرزوق وَهْم مناقض للواقع، ومن المستحسن أن أُسقطه من الحساب، أمَّا حسني علَّام فرجل قد عقد العزم على العمل، وعليَّ أن أجد لنفسي دورًا في ذلك المشروع. ليس الأمر مجرَّد عمل ونجاح ولكنه قد ينقذني في اللحظة الأخيرة من أفكار علي بكير الجهنَّمية. المؤسف حقًّا أن حسني علَّام مثل الزئبق لا يسهُل القبض عليه. إنه يتحدَّث أحيانًا عن المشروع ولكنه يهيم على وجهه طيلة الوقت دافعًا بسيارته في سرعة جنونيَّة ولا يخلو المقعد جنبه من امرأة. قلت له مرَّة: الرجل العملي لا يضيِّع وقته في اللهو.
فضحك وسألني: كيف يضيِّعه إذن؟
فقلت بلهجة مَن يغير على مصلحته: يدرس ويفكِّر ثم ينفِّذ.
– جميل ما تقول، ولكني لا يحلو لي الدرس والتفكير إلَّا وأنا ألهو.
ثم وهو يقهقه: نحن نعيش الأيام التي تسبق مباشرة يوم القيامة!
تركته وأنا أُحدِّث نفسي قائلًا: «يا ربي .. أريد أن أفيد وأن أستفيد فما عسى أن أصنع؟»
•••
تطايرت الشتائم بيننا كالأحجار أو كالشظايا. وصحت غاضبًا: كل مرَّة! .. هو حساب الملكين؟!
وتطايرت الشتائم بيننا. وقد ذهل محمود أبو العباس الذي صحبني إلى بيتها ليأخذ درسه الثالث في الحساب ومسك الدفاتر. وقمت مصمِّمًا على الذَّهاب فمضَى الرجل معي. وعند باب العِمارة رجوته أن يرجع فيعلنها بأنني قرَّرت الذَّهاب بغير رجعة.
ومضيت إلى ميرامار ولكنني لم أُدرك أنني مطارَد إلَّا وزهرة تفتح لي الباب. عند ذاك شعرت بيد تقبض على قفاي وصوت صفيَّة يزعق: تريد أن تهجرني؟ .. تظنني طفلة أو لعبة؟!
تخلَّصت منها بجهد، ولكنها كانت قد اقتحمت الشقة. قلت لها هامسًا ولاهثًا: اذهبي .. الناس نيام.
فصرخت بصوت غليظ: تنهبني وتهرب! .. أكَّلتك وشرَّبتك وكسوتك وتريد أن تهرب يا ابن الحرام!
لطمتها فلطمتني. اشتبكنا في صراع مرير. حاولت زهرة التخليص بيننا فلم تُفلِح، فقالت لها: من فضلك .. هذا بيت محترم.
ولما لم يُجْدِ القول صاحت بها: اذهبي وإلَّا استدعيت البوليس!
تراجعت خطوة وهي تلتفت نحو زهرة. دهشت لمنظرها.
ردَّدت عينيها بيني وبينها، ثم هتفت بها بعجرفة: أنتِ يا خدَّامة، كيف …؟
قبل أن تُكمل عبارتها كانت يد زهرة قد صكَّت فاها. انقضَّت على زهرة فانهالت عليها لكمات الفتاة القوية حتى انهارت أو كادت. واستيقظ البنسيون ففُتحت الأبواب ودبَّت الأقدام، وإذا بحسني علَّام يسبقهم إلينا فيأخذ صفيَّة من يدها ويذهب بها خارجًا.
ذهبت إلى حجرتي أعمى من الغضب. لحقت بي المدام وهي تتساءل عمَّا جرى في انزعاج. أعلنت لها أسفي ولكنها سألتني: مَن هي؟
قلت مُختلقًا كذبة إنقاذًا للموقف: كانت خطيبتي ثم فسخت خطبتها.
قالت وهي تهزُّ رأسها: إن سلوكها يثبت أنك كنت على حقٍّ في معاملتها ولكن …
وسكتت لحظات ثم استأنفت قائلة: ولكن أرجو أن تسوِّيَ حسابك معها بعيدًا عن هنا.
ثم قالت وهي تغادر البنسيون: إني أعيش بفضل سمعتي الطيبة.
ولمَّا جاءت زهرة في موعدها كان وجهها ما يزال منطبعًا بآثار الحادث، وقد شكرتها، واعتذرت لها عمَّا أصابها. تبادلنا نظرات عميقة أليمة حتى اضطُررت أن أقول لها: لقد هجرتها من أجلك.
سألتني بخشونة: مَن هي؟
– امرأة ساقطة، من الماضي، اضطررت إلى أن أكذب على المدام فأقول لها إنها كانت خطيبتي.
لثمتُ خدَّها في امتنان وأسف.
•••
صوت الريح ينطلق في الخارج كرعد متَّصل، جوُّ الحجرة يقطر عصارة المساء رغم أنَّ النهار لم يشارف الأصيل بعد، فتخيَّلت الغيوم المتراكمة في السماء وتخيَّلت جبال الأمواج. ولمَّا جاءت زهرة — ولم أكن رأيتها منذ لقاء أمس — أضاءت المصباح. كنت أعاني انتظارها طيلة الوقت فبادرتها بحرارة ورجاء: لنذهب يا زهرة!
وضعت القدح على الترابيزة وهي ترمقني بعتابٍ مرٍّ فقلت: سنعيش معًا إلى الأبد، إلى الأبد.
سألتني متهكِّمة: ولا توجد مشاكل في تلك الحال؟
أجبت بصراحة مؤسفة: المشاكل التي أعنيها إنما يخلقها الزواج!
تمتمت بغضب مكتوم: يجب أن أندم على حبي لك.
فقلت بحرارة وصدق وإخلاص: لا تقولي ذلك يا زهرة، عليكِ أن تفهميني، أنا أحبُّك، ومن غير حبِّك فلا معنى للحياة ولا طعم، ولكن الزواج سيخلق لي مشاكل من ناحية الأسرة ومن ناحية العمل، إنه يهدِّد مستقبلي فضلًا عن أنه سيهدِّد حياتنا المشتركة، فما العمل؟
قالت بغضب أشد من الأول: لم أكن أعرف أنني يمكن أن أخلق جميع تلك المصائب!
ليس أنتِ، لكنه الغباء، الحواجز الصلبة، الحقائق العفنة، ما العمل؟
ضيَّقت عينيها بحنق وقالت: ما العمل حقًّا؟ .. أن تجعل مني امرأة مثل امرأة أمس!
هتفت بيأس: زهرة .. لو كنت تحبينني كما أحبك لفهمتِني بوضوح لا لبس فيه.
فقالت بحدَّة: إني أحبك، خطأ لا حيلة لي فيه.
– الحبُّ أقوى من كلِّ شيء، من كلِّ شيء.
فاعترضت ساخرة: لكنه ليس أقوى من المشاكل!
تبادلنا نظرات صامتة. أنا محموم يائس وهي عنيدة غاضبة. ولولا قوة إرادتي، أو لولا خوفي لانهرت تمامًا. وفكَّرتُ بسرعةٍ أشدَّ من البرق ثم قلت: زهرة، توجد طرق وسطى، مثل الزواج الإسلامي الأصلي.
حلَّ التساؤل في عينيها محلَّ الغضب، فقلت وأنا لا أعرف عن الموضوع أكثر من ذكريات غامضة: نتزوج كما كان يتزوج المسلمون الأوائل.
– كيف كانوا يتزوجون؟
– أُعلن بيني وبينك أنني أقبلك زوجةً على سُنَّة الله ورسوله.
– بلا شهود؟
– أمام الله وحده!
فقالت محتجَّة في استياء: جميع مَن حولنا يتصرَّفون وكأنهم لا يؤمنون بأن الله موجود!
ثم هزَّت رأسها وقالت بإصرار: لا!
•••
هي عنيدة كالصُّلْب. ليست رحلة سهلة كما حلمت. ويئست من إقناعها تمامًا. إني على استعداد — إذا وافقت — أن أعاشرها إلى الأبد مضحِّيًا بالزواج وآمالي المعقودة عليه. وفكَّرت أن أهجر البنسيون كخطوة أولى للنسيان، ولكن حبها بقي عنيدًا — مثلها — ومتشبثًا بقلبي. ولم تقع بيننا جفوة. كانت تجيئني بالشاي في وقته ولا تصدُّني إذا قبَّلتُها أو ضممتها إلى صدري. وقد أذهلني أن أراها — في المدخل — مُكِبَّة على كتاب المطالعة لتلاميذ السنة الأولى الابتدائية. ثبتت عيناي عليها غير مصدِّقتين. وكانت المدام جالسة تحت العذراء كما كان عامر وجدي مستسلمًا للفوتيل، فقالت لي المدام باسمة: انظر إلى التلميذة يا مسيو سرحان.
وألقت عليها نظرة تشجيع وهي تقول: اتفقت مع جارتنا المُدرِّسة .. ما رأيك؟
إنه لحدث. أوشكت لحظة على الضحك ولكن سرعان ما أخذت به فقلت بحماس: برافو! .. برافو زهرة!
وكان العجوز يرمقني بعينيه الغائمتين فداخلني منه خوف لا أدريه فغادرت البنسيون. بلغ بي التأثُّر مبلغًا هزَّ أعماقي. وصوت باطني قال لي إنني إذا استهنت بحبِّ الفتاة فإن الله لن يبارك لي قط. ولكنني لم أُهادن فكرة الزواج المرعبة. الحب عاطفة يمكن معالجتها على نحو أو آخر. أما الزواج فهو مؤسسة، شركة كالشركة التي أعمل وكيلًا لحساباتها، له لوائح ومؤهلات وإجراءات. إذا لم يرفعني من ناحية الأسرة درجة فما جدواه؟ إذا لم تكن العروس موظَّفة على الأقل فكيف أفتح بيتًا جديدًا يستحق هذا الاسم في زماننا المتوحش العسير؟! أما مرجع تعاستي فهو أنني أحب فتاة غير مستوفية لشروط الزواج. ولو قبلت حبي بلا قيد لضحَّيت في سبيلها بالزواج الذي أحن إليه منذ البلوغ.
– هِمَّتك عالية يا زهرة!
قلت لها ذلك وأنا أرمقها بإعجاب، ثم قلت بأسف: ولكنك ترهقين نفسك وتبدِّدين أجرك.
قالت بكبرياء وهي واقفة أمامي تفصل بيننا الترابيزة: لن أبقى جاهلة!
– وما فائدة العلم؟
سأتعلَّم بعد ذلك مهنة، فلن أبقى خادمة.
عضَّ الألم قلبي وعقد لساني، أمَّا هي فقالت بنبرة جديدة: جاء أهلي اليوم ليقنعوني بالرجوع إلى القرية!
رفعت إليها عينيَّ مستطلعًا وأنا أُداري قلقي بابتسامة فتجاهلتني خافضة جفنيها.
– وماذا كان جوابك؟
– اتفقنا على الرجوع في أوائل الشهر القادم.
قلت بجزع: حقًّا! .. ترجعين إلى العجوز؟!
– كلَّا، لقد تزوج.
ثم بصوت خافت: تقدَّم لي رجل غيره.
قبضت على يدها بشدَّة وتوسَّلت قائلًا: لنذهب معًا، غدًا، اليوم إن شئت.
اتفقنا على الرجوع أوَّل الشهر.
– زهرة، هل قُدَّ قلبُك من حديد؟
– إنه حلٌّ بلا مشاكل!
– ولكنك تحبينني يا زهرة!
فقالت بامتعاض: الحب شيء والزواج شيء آخر، أنت علَّمتني ذلك.
عند ذاك خانتها شفتاها فوشتا بابتسامة خفيفة فهتفت: يا لكِ من شيطانة يا زهرة!
وغمرني فيض من الارتياح والفرح. ودخلتِ الحجرة عند ذاك المدام وهي تحتسي الشاي من قدح في يدها. جلست على حافَّة الفراش وهي تقصُّ عليَّ قصة أهل زهرة وكيف رفضت الفتاة العودة. وتساءلتُ بمكر كاذب: ألم يكن من الأفضل أن ترجع إلى أهلها؟
فابتسمت المدام ابتسامة قوَّادة عالمة ببواطن الأمور ثم قالت: أهلها الحقيقيُّون هنا يا مسيو سرحان.
تجنَّبت النظر إلى عينيها. تجاهلت مغزى قولها تمامًا. ولكني خمَّنت أن الفراشة تطير بالأنباء من حجرة إلى حجرة. ولعلَّ سوء ظنِّها قد جاوز الحدود. ووجدتُني في النهاية سعيدًا بنصر وهمي أمَّا في الواقع فإن العِناد الذي سدَّ في وجهي باب الأمل لم يلن لحظة واحدة. وساءلت نفسي متى أجد الشجاعة لأهجر البنسيون نهائيًّا؟!
•••
بدا المنظر مألوفًا وفاترًا إلى حدٍّ ما. المدام تجلس لِصْق الراديو، تكاد تطرح رأسها وهي تتابع أغنية إفرنجية. أمَّا عامر وجدي فقد راح يسمِّع لزهرة بعض الكلمات. ودقَّ الجرس فإذا بالقادمة مُدرِّسة زهرة. معذرة .. الشقة مزدحمة بالضيوف، فإذا سمحتم أعطيت الدرس هنا. كَرَم منها بلا ريب. واستقبلناها بتَرْحاب وأدب. وهي وسيمة وأنيقة وموظَّفة. راقبتها وهي تُدرِّس لزهرة، وجدتُني منساقًا للمقارنة بينهما بتأمُّل وأسًى. هنا الفطرة والجمال والفقر والجهل، وهناك الثقافة والأناقة والوظيفة. آه لو تحلُّ شخصية زهرة في بيئة الأخرى وإمكانياتها. وتطفَّلت المدام على الدرس لتُشبع حبَّ استطلاعها الأبدي؛ فعرفنا الاسم والأسرة وحتى الأخ المنتدب للعمل في السعودية. وإذا بي أسألها: أمن الممكن أن يرسل لنا بعض البضائع النادرة من هناك؟
فأجابت في تحفُّظ بأنها ستسأل عن إمكان ذلك.
وغادرتُ البنسيون إلى كافية دي لا بيه لمقابلة المهندس علي بكير. نظر إليَّ بثقة وقال: كل خطوة تُرسم بدقة، والنتائج مضمونة!
حسن، فلنثب وثبة موفَّقة تجعل من زيارتنا للدنيا رحلة لها معناها وقيمتها. ثم سألني علي بكير: قابلت صفيَّة بركات في ديليس فهل حقًّا …؟
قلت بامتعاض: عليها اللعنة!
ضحك وهو ينظر في عينيَّ باهتمام ثم عاد يسألني: ولكن هل هجرتَها حقيقة من أجل …؟
– لا تصدِّقها من فضلك، متى كانت ممن يعتمد الإنسان على صدقهن؟!
فازداد اهتمامًا وتفكيرًا وهو يقول: إنَّ سِرَّنا من الأسرار التي يُضنُّ بها حتى على الزوجة والابن!
فهتفت به مؤنِّبًا: الله يسامحك!
•••
قلت لنفسي: يا للعَجَب! إنها نظرة يطيب بها غرور الرجل، لم تَلُحْ فيها ابتسامة ولا رعش هُدْب، ولكنها — المُدرِّسة — حولت رأسها بغتة عن زهرة وكتابها ورشقتني بها. لم تَدُمْ أكثر من ثوانٍ. هرَّبتها إليَّ في غفلة من زهرة وعامر وجدي. لم تدم أكثر من ثوانٍ. وقد أتلقَّى عشرات مثلها فلا تهزُّني شعرة وأعتدُّها نظرة عابرة، غير أنَّها عكست ومضة مُعبِّرة لا توصف وكأنما أبلغتني رسالة كاملة. غيَّرت خطَّ سيري فقبعت وراء الزجاج بمقهى الميرامار أراقب السُّحب وأنتظر. تدبير بلا هدف، وليس وراءه عاطفة، ولكنه تطلَّع — من فراغ ويأس — إلى مغامرة، أية مغامرة. ولم تكن بالمثال الذي يمكن أن يفتنني ولا حتى يثيرني، ولكنها — فيما بدا — دعتني إلى نزهة في يوم عُطْلة شديد المَلالة.
وإذا بها تمرُّ أمام المقهى واضعة يديها في جيبَي مِعْطَفها الرمادي. تبعتها عن بُعد حتى لحقت بها في أثنيوس. ابتاعت بعض الحلوى ووقفت كالمتردِّدة فاقتربت منها وحيَّيتها. ردَّت التحية فدعوتها إلى قدح شاي، فقالت لي إنها كانت تُفكِّر في الجلوس بعض الوقت. احتسينا الشاي وتناولنا قطعتين من الجاتوه، ثم دار حديث تعارف سطحي ولكن لا يخلو من معلومات مفيدة عن الأسرة والعمل. وسياق الحديث وحده هو الذي جعلني أطالب بموعد قريب. وتقابلنا في بوفيه سينما أمير، ثم شهدنا الفيلم معًا، وكان عليَّ أن أُحدِّد نوع المغامرة ولونها، ولم أجدها بالقياس إلى قلبي جديرة بالمثابرة والتعب، ورغم ذلك فعندما دعتني إلى زيارة أسرتها قَبِلت. أدركت أنها تبحث عن زوج. وزنتها بعقل بارد، قدَّرت المرتب والدروس الخصوصية وتذكَّرت في ذات الوقت يأسي المتزايد من زهرة، وفي أسرتها عثرت على إغراء جديد وهي ملكيَّة والديها لعِمارة متوسطة بكرموز. وجدتني أفكِّر في الأمر بجِديَّة لا طمعًا في مالها ولا حبًّا فيها، ولكن انسياقًا لحنيني القديم إلى الزواج. وزهرة؟! قد أجد شيئًا من عزاء من غدري بها في الزواج نفسه الذي سيربطني إلى الأبد بامرأة لا أحبُّها، ولكن هل أستطيع حقًّا أن أقهر الحبَّ المشبوب في قلبي؟!
•••
أشار إليَّ راجيًا أن أنتظر. كنت هممت بالانصراف بعد شراء الجريدة وكان يحاسب زَبونًا، فلما فرغ منه أقبل عليَّ وهو يقول: أستاذ .. سأخطب زهرة!
داريت انزعاجي بابتسامة وسألته: مبارك، هل تمَّ الاتفاق بينكما؟
أجاب منتفخًا بالثقة: تقريبًا!
نبض قلبي بألم أليم وأنا أسأله: ماذا تعني بقولك «تقريبًا»؟
– هي زبونة يومية، لم نطرق الموضوع صراحة، ولكني خير مَن يفهم النسوان.
كرهته في تلك اللحظة لحدِّ الموت، أما هو فسألني: ما رأيك يا أستاذ في أخلاقها؟
– طيبة جدًّا، والحق يقال.
سأخطبها من مدام ماريانا حتى أهتدي إلى أهلها.
تمنَّيت له التوفيق ثم ذهبت، ولكنه لحق بي بعد خطوتين وهو يسأل: ماذا تعرف عن الخلاف بينها وبين أهلها؟
– كيف علمت به؟
– أنبأني به عامر بك، العجوز.
– جملة ما أعرفه أنها عنيدة وأبيَّة النفس.
فضحك وهو يقول في مباهاة: إني أعرف الدواء لكلِّ داء.
•••
كانت خطبة .. وكان رفض.
وبقدْرِ ما أرضاني ذلك بقدْرِ ما ضاعف من إحساسي بالمسئولية. مزَّقني القلق، اجتاحني الحب، تراجعت عليَّة من مقدم الصورة حتى لاحت خلفية باهتة.
وقبضت على معصمَي زهرة بحنان وضراعة وقلت بحرارة وتوسُّل: أنقذيني .. ولنذهب في الحال.
تخلَّصت مني بجفاء وهي تقول: لا تَعُدْ إلى ذلك، إني أكره سماعه!
لن نتلاقى أبدًا. هي تحبُّني ولكنها ترفض التسليم بلا قيد، وأنا أحبُّها ولكني أرفض القيد. ولا هذا ولا ذاك بالحب الحقيقي الذي تُمحى عنده الإرادة والعقل.
وقد دعاني السيد محمد والد عليَّة للغداء فلَبَّيت الدعوة. ودعوت الأسرة في نهاية الأسبوع للعشاء في باستوريدس. انقلب الجوُّ بعد أن استقرَّ بنا المجلس فصفَّرت الريح وانهمر المطر. ومضيت أقنع نفسي طَوال الوقت بأن عليَّة فتاة ممتازة وأنها تَعِدُ بزواج موفَّق. وسيمة .. أنيقة جدًّا .. موظَّفة .. مثقَّفة .. ماذا تريد أفضل من ذلك؟ ولو لم أرق في عينيها … مالي أتحفَّظ لهذا الحد؟ إنها تحبني بلا ريب، الراغبة في الزواج راغبة في الحب أيضًا. ثم ما هذا الذي يعدنا بالفراديس دون أن يفيَ ولو بشيء من وعده؟ واشتدَّت العاصفة في الخارج حتى خُيِّل إليَّ أنها ستقلع المدينة الجميلة من جذورها فتضاعف شعورنا بنعمة الدفء والأمان في الداخل. وقلت لنفسي إنني اقتحمت أبواب هذه الأسرة المحترمة مدفوعًا بانفعالات عفويَّة ولكن بلا خطة موضوعة أو نية صادقة، وبلا إمكانية مالية مناسبة، وإنَّ عليَّ أنْ أصارحهم بحقيقة مركزي وبمسئوليتي العائلية تاركًا لهم بعد ذلك الخيار. وقد جرَّ الحديث المتشعب إلى «الزواج» كموضوع عام فقال والد عليَّة: على أيامنا كنا نتزوج مبكرين فنهنأ برؤية أولادنا وهم رجال مسئولون.
فحرَّكت رأسي حركة تنمُّ عن الحسرة وأنا أقول: تلك أيام خلت، أمَّا هذه الأيام فهي منحوتة من العسر والصخر.
فمال نحوي قليلًا ثم قال بصوت كالهمس: ابن الحلال ثروة في ذاته، وعلى الأمناء من الناس أن يذللوا له العقبات.
•••
يا له من وجهٍ مُكْفَهرٍّ. كان قد انتبه إلى اقترابي من معرضه وأنا على بُعد خطوتين منه فسرعان ما اكفهرَّ وجهه. رماني بنظرات غاضبة حتى عجبت لشأنه. ثم تساءل متهكِّمًا دون أن يقدِّم لي الجريدة كعادته كل يوم: لِمَ أخفيت عني أنك عشقتها؟
بُوغِتُّ بقوله، ولهجته الوقحة، وهتفت به: أنت مجنون!
فصاح بي: أنت جبان!
فقدت صوابي فلطمت وجهه بظهر كفِّي. وإذا به يهوي براحته الكبيرة على خدِّي. وتبادلنا الضرب بلا وعي ولا رحمة حتى فرَّق الواقفون بيننا. انفصلنا ونحن نتبادل أقذع الشتائم. وسرت وقتًا على غير هدى وأنا أسائل نفسي عمَّن وضع تلك الفكرة الخبيثة في رأسه الخاوي.
وقد مضَى زمن طويل قبل أن أراه مرَّة أخرى. دخلت آنذاك لأتناول عشاء خفيفًا في مطعم بنايوتي فوجدته جالسًا في مقعد صاحب المحلِّ وراء صندوق الماركات. هممت بالتراجع فوثب من مجلسه إليَّ ثم احتواني بين ذراعيه وهو يُقبِّل رأسي، وأبى إلَّا أن يدعوني للعشاء على حسابه. واعتذر إليَّ عمَّا سلف ثم اعترف لي بأن حسني علَّام هو الذي افترى عليَّ تلك الكذبة.
•••
– عزيزتي .. أرجو ألَّا تعلم زهرة بما بيننا!
كنا نجلس على شاطئ المحمودية بكازينو البالما تحت الشعاع الدافئ. وكان اتصالها المنتظم بزهرة يقلق خيالي. إنها لا تدري شيئًا عن الأسباب الحقيقية التي ساقت زهرة إلى التتلمذ عليها، كما أن زهرة لا تتصور أن مُدرِّستها قرَّرت الاستيلاء على رجلها. وقد رمقتني عليَّة بارتياب وهي تسأل: لِمَ؟
– إنها ثرثارة! .. والثرثرة غير مستحبة في اللحظة الراهنة من عَلاقتنا.
لم تُزايل الريبة نظراتها وقالت: ولكن عَلاقتنا ستُعرف عاجلًا أو آجلًا.
فقلت بصراحة فِجَّة: يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنها تنظر إليَّ نظرة خاصَّة.
قالت وهي تبتسم ابتسامة شاحبة فاترة: لعلَّ لديها من الأسباب …
فقلت بجِديَّة: جميع النزلاء يمازحونها أحيانًا، وقد فعلت مثلهم، هذا كلُّ ما هنالك.
كانت العَلاقة قد تطوَّرت من ناحيتها إلى حب. ولم يكن يهمُّني أن تصدِّقني بالكامل بقدر ما يهمُّني أن تأخذ حذرها من زهرة! وإذن فقد انتصر العقل على القلب ولم يبقَ إلا أن أعلن الخطبة. على ذلك تردَّدت، وجعلت أؤجل اليوم الموعود بحُجَّة الرجوع إلى القرية ليلعب الأهل دَوْرَهم التقليدي. وكلما مرَّ يوم توتَّرت مشاعري حيال زهرة وحزَّ في نفسي غدري المخزي بها. وكنت أتنهَّد بحسرة وأقول: آه لو تلين .. لو تذعن .. فأهبها قلبي إلى الأبد.
•••
رعد! .. زلزال؟ .. مظاهرة؟ .. سقوط جسم بالحجرة؟!
أخرجت رأسي من تحت الغطاء إلى ظلام دامس. أنا هو أنا .. هذا فراشي ببنسيون ميرامار .. ولكن ما هذا؟ .. رباه .. إنه صوت زهرة .. إنه يطرق بابي.
هُرعت إلى الخارج. رأيتها على ضوء المصباح السهري مشتبكة مع حسني علَّام في صراع مميت. من نظرة واحدة أدركت حقيقة الموقف كله. أردت أن أنقذها بلا فضيحة ومع الإبقاء على عَلاقتي بحسني. وضعت يدي على كتفه برفق هامسًا: حسني!
لكنه لم يسمعني فشددت على كتفه وأنا أقول بنبرة أقوى: حسني .. أجُننت؟!
دفعني بظهره بوحشية ولكني قبضت على مَنْكِبه وقلت له بحزم: ادخل الحمَّام وضع إصبعك في فمك!
وإذا به يستدير نحوي ويلطمني على جبهتي. جُننت من الغضب فانهلت عليه ضربًا. ولم يقف الضرب بيننا حتى أدركتنا المدام. وقد عاملت المدام المعتدي برفق لا يستحقه. إني أفهم العجوز جيدًا. من خلال نفسي أفهمها حقًّا. كلانا حامَ حول حسني ممنِّيًّا النفس بالاستفادة من مشروعه الخيالي. وهي متردِّدة تُقدِّم رِجْلًا وتؤخِّر أخرى، وأنا متحفِّز طيلة الوقت للوثوب. ها هو الباب يُغلَق في وجهي نهائيًّا، أمَّا هي فتكاد تُعنِّف المضروب من أجل خاطر الضارب.
وعقب ذلك بأيام رأيته — حسني علَّام — خارجًا من الجنفواز حوالي الواحدة صباحًا مصطحبًا معه صفيَّة بركات. لم أدهش إلَّا قليلًا ثم تذكَّرت يوم مضَى بها من البنسيون. إنها تماثله في التهوُّر والحلم بالمشاريع، وسيجمع بينهما الحب والأحلام. وكنت — تلك الليلة — قد سهرت في حانة جورج مع علي بكير ورأفت أمين. وسرنا في الكورنيش متشجِّعين بصفاءِ الجوِّ وحرارة الخمر. ولا حديث لرأفت أمين — وبخاصة إذا سكر — إلَّا الوفد. وقد وضح لي أنَّ علي بكير لا يكاد يعرف الفارق بين الوفد والنادي الأهلي. من ناحية أخرى لم أكن أهتم في أعماقي بالسياسة رغم نشاطي الموفور فيها.
أمَّا رأفت أمين فراح يتحدَّث بلسان مخمور عن الوفد وأيامه. وسألته ساخرًا: ألا تعترف بالموت؟
فقال بصوت دوَّى في الطريق الخالية: قُل في الثورة ما تشاء، لا أنكر قوَّتها الشاملة، ولكن الشعب مات بموت الوفد!
عند ذلك وقع بصري على حسني علَّام وصفيَّة بركات وهما ينحدران إلى الكورنيش كدُبَّين قويَّين، قلت ضاحكًا وأنا أشير إليهما من بعيد: ها هو شعب الوفد يواصل جهاده بعد منتصف الليل!
وعندما آن لنا أن نفترق همس علي بكير في أذني: عمَّا قريب سنعطي إشارة البَدْء في العمل.
•••
دخلت البنسيون والنوم يخيِّم على أرجائه. وتراءى لي باب منصور باهي الزجاجي وهو ينضح بالضوء فاندفعت بسِحر الخمر إلى الاستئذان فالدخول، بلا باعث حقيقي. نظر إليَّ بشيء من الدهشة وهو جالس على المقعد الكبير. تتجلَّى في عينيه الصغيرتين الجميلتين كآبة وتفكير. قلت وأنا أتخذ مجلسًا على كرسيٍّ قريب: لا تؤاخذني .. أنا سكران!
فقال دون مبالاة: هذا واضح.
ضحكت، ثم قلت معاتبًا: الحق أني عجزت عن جذبك إليَّ، يبدو أنك شديد الانطواء.
أجاب بأدب ولكن دون تشجيع ما: لكلٍّ طبعه.
– لا شك أن رأسك يرهقك.
أجاب بغموض: الرأس أصل البلاء!
فقلت ضاحكًا: طوبى لنا نحن أصحاب الرءوس الفارغة!
– لا تبالغ فإنك مركز نشاط لا يخمد.
– حقًّا؟
– نشاطك السياسي .. أفكارك الثورية .. غرامياتك!
صدمتني العبارة الأخيرة من قوله ولكن ضاعت الصدمة في مدِّ الموجة الخمرية. ووضح لي أنه لا يرحِّب بي — إنه لا يرحِّب بأحد — فصافحته ثم ذهبت.
•••
عندما تجيء زهرة إلى حجرتي بالشاي أتخلَّى عن أفكاري ومشروعاتي ويتفرَّغ قلبي للحب الحقيقي وحده. ولكن وجهها تبدَّى صُلبًا متحجِّرًا مُصفرًّا من الغضب. ونظرتها الثابتة الكالحة المتحفِّزة المخيفة ملأت قلبي بالقلق والتشاؤم. قلت بإشفاق: زهرة .. لستِ كعادتك!
قالت بحنق متفرس: لولا أن لله حكمته التي هي فوق العقول لكفرت!
ماج صدري بالقلق فسألتها: هل من هَمٍّ جديد يُضاف إلى همومنا المستعصية؟
قالت باقتضاب وازدراء: بعينيَّ رأيتكما.
عرَفت مَن تعني، فغاص قلبي في هاوية عميقة من صدري وسألت بيأس: مَن تعنين؟
– الأستاذة!
ثم بضراوة وحقد: الخطَّافة الداعرة!
ضحكت. يجب أن أضحك، وأن أضحك ضحكة الاستهانة التي نواجه بها عادةً غضبة خاطئة في غير محلِّها. ضحكت وأنا أقول: يا لكِ من … صادفت أستاذتك في طريقي فأدَّيت لها ما … قاطعتني بقسوة: كذَّاب .. لم تكن مصادفة .. وقد عرفت ذلك منها اليوم.
هتفت بانزعاج: لا!
– اعترفت الخنزيرة بمقابلتك، ولم يدهش أحد من والديها، ولكنهم دهشوا جميعًا لتطفُّلي أنا.
خرستُ، خرستُ تمامًا. وقالت هي بتقزُّز وغضَب: لِمَ يخلق الله أمثالك من الجبناء؟
انهزمتُ .. تهدَّمت .. ومن أعماق هاوية اليأس توسَّلت إليها قائلًا: زهرة! .. كلُّ ذلك يقوم على غير أساس .. إنْ هو إلا تخبُّط يائس .. راجعي نفسك يا زهرة .. يجب أن نذهب معًا.
لم تسمع كلمة مما قلت إذ واصلت كلامها قائلة: ماذا أفعل؟ .. لا حقَّ لي عليك .. وَغْد حقير .. غُرْ في ألف داهية!
وبصقت في وجهي!
غضبت، رغم موقفي المخزي غضبت، ثم صحت بها: زهرة!
فبصقت في وجهي مرَّة أخرى. أعماني الغضب فصرخت: اذهبي وإلَّا كسرت رأسك.
انقضَّت عليَّ ولطمتني على وجهي بقوة مذهلة. انتترتُ واقفًا وقد جُنَّ جنوني. قبضت على يدها بقسوة ولكنها انتزعتها بعنف ولطمتني للمرة الثانية. فقدت وعيي فانهلْت عليها ضربًا وصفعًا وهي تبادلني الضرب والصفع بقوَّة فاقت تصوُّري. وإذا بالمدام تهرول نحونا وهي ترطن بألف لسان. أبعدَتْها عني فصحت في جنون الغضب: أنا حر .. أتزوج بمن أشاء .. وسأتزوج عليَّة.
وجاء منصور باهي فمضى بي إلى حجرته. لا أذكر أيَّ حديث تبادلنا، ولكني أذكر تهجُّمه عليَّ بوقاحة غريبة، وكيف اشتبكنا في صراع جديد. جاء موقفه مفاجأة لي وأي مفاجأة. لم يجرِ لي في خاطر أنه أيضًا من عشَّاق زهرة! هكذا عرفت سرَّ نفوره الغريب مني. ولحقت بنا المدام. قرَّرت أن تجعل مني كبش الفداء، العجوز القوَّادة. قالت إن البنسيون لم يعرف الهدوء منذ جئته، وإنني قلبته إلى سوق همجية للمعارك وقلَّة الأدب. وبصراحة وقحة قالت لي متحدِّية: ابحث لك عن مسكن آخر.
لم يعد ثمَّة ما يدعوني للبقاء، ولكني أصررت على الإقامة حتى عصر الغد، آخر الأسبوع الذي دفعت إيجاره مقدَّمًا، وهو إصرار يرجع أولًا إلى العناد والكبرياء.
وغادرت البنسيون فهِمْتُ على وجهي طويلًا تحت سماء ملبَّدة بالغيوم متعرِّضًا لدفقات متواصلة من الهواء البارد. وجعلت أتسلَّى بمشاهدة معارض الحوانيت المتلألئة بهدايا السنة الجديدة وأنظر بفتور إلى بابا نويل العتيد.
وذهبت إلى بدرو لموعد سابق مع المهندس علي بكير. وقد سألني: هل دبَّرت مسألة الاستثمارات؟
فأجبته بالإيجاب فقال لي: فجر الغد، سوف نبدأ مع فجر الغد.
•••
قلت لنفسي وأنا ذاهب إلى الشركة في الصباح الباكر «مضى الفجر .. وتمت اللعبة.»
كنت مضطربًا، ونهمًا إلى الأخبار. اتصلت بالمصنع تليفونيًّا طالبًا علي بكير فقيل لي إنه في المرور. إذن فقد نفَّذ التدبير بإحكام ونجاح، وها هو يزاول عمله اليومي. واجتاحني الاضطراب فغادرت الشركة قبل الميعاد متعللًا بعذرٍ ما، ولدى مروري أمام دار الإذاعة لمحت منصور باهي وفتاة حسناء يغادرانها معًا. تُرى مَن تكون؟ .. خطيبة؟ .. عشيقة؟ هل تجد زهرة نفسها على الرف مرَّة أخرى؟ تذكرت زهرة بحزن. لم أبرأ تمامًا من حبها، وهو العاطفة الصادقة الوحيدة التي خفق بها قلبي الممزَّق بالأهواء.
ومضيت لزيارة عليَّة محمد وأسرتها فاستُقبلت استقبالًا فاترًا، بل متجهِّمًا. هممت بطرح بعض الأكاذيب كالعادة، ولكن والدها قال لي بغضب: تصور موقفنا وتلك الخادمة تناقشنا الحساب!
ولمَّا جاء ميعاد الغداء لم أُدْعَ له. غادرت الشقة بلا أمل في وصل ما انقطع من الأسباب. والحق أني لم أكترث لذلك كثيرًا. لم يعد يفصل بيني وبين الثراء إلا ساعات، وسوف أجد الزوجة الفاخرة المناسبة.
تناولت الغداء عند بنايوتي (محمود أبو العباس) ثم ذهبت إلى مسكن علي بكير ولكني لم أجده. مضيت إلى البنسيون والنهم إلى الأخبار يحرقني حرقًا. أعددت حقيبتي وحملتها إلى المدخل. وتَلْفَنْتُ إلى علي بكير وكم غمرني الارتياح الساحر وصوته يردُّ عليَّ قائلًا: «آلو».
– سرحان يقدِّم تحيَّاته .. كيف الحال؟
– كل شيء طيب .. لم أقابل السواق بعد.
– متى نعرف النتيجة النهائية؟
– قابلني مساء اليوم الساعة الثامنة بكازينو البجعة.
فقلت باستجابة متلهِّفة: طيب .. الساعة الثامنة مساءً .. سأنتظرك في كازينو البجعة.
– إلى اللقاء.
– إلى اللقاء.
غادرت بنسيون ميرامار إلى بنسيون إيفا. تسكَّعت بين المقاهي أشرب كأسًا هنا وكأسًا هناك، مُبذِّرًا نقودي بلا حساب. بالشراب أسكتُّ وساوس القلق وأنَّات الحب المُحتضَر. ووعدت أهلي بخير لم يحلموا به منذ وفاة أبي. وذهبت إلى كازينو البجعة قبل الموعد بقليل. التقيت عند المدخل بطلبة مرزوق فضايقني جدًّا، ولكني صافحته متظاهرًا بالارتياح. وقد سألني: ماذا جاء بك إلى هنا؟
– موعد هام.
– دعني أردُّ إليك تحية من تحياتك، فلنجلس معًا حتى يجيء صاحبك.
جلسنا في البَهْو الشتوي وهو يسألني بصوته الأجوف من انتفاخ شدقيه: كونياك؟
كنت ثملًا ولكن كانت بي رغبة في المزيد. شربنا وتحادثنا وضحكنا. وإذا به يسألني: تُرى هل يُسمح لي بالسفر إلى الكويت لزيارة كريمتي؟
– أعتقد ذلك، أتريد أن تبدأ من جديد؟
– كلَّا، ولكن زوج كريمتي — هو ابن أخي أيضًا — قد أثرى ثراءً كبيرًا.
– لعلَّك تفكِّر في الهجرة؟
لاحت في عينيه نظرة حذرة ثم قال: كلَّا .. أريد فقط أن أرى ابنتي.
قرَّبت رأسي منه وأنا أقول: هل أدلُّك على عزاء حقيقي؟
– ما هو؟
– البعض يضيقون بالثورة، ولكن أي نظام يمكن أن يحلَّ محلها؟ فكِّر قليلًا أو كثيرًا فلن تجده خارجًا عن واحد من اثنين، فإمَّا الشيوعية وإمَّا الإخوان، فأيهما تُفضِّل على الثورة؟
قال بعجلة: لا هذا ولا ذاك.
فقلت وأنا أبتسم في ثقة وانتصار: هذا هو يقيني، فليكن لك في ذلك عزاء.
وأزِف الميعاد ولم يجئ علي بكير. انتظرت نصف ساعة أخرى مرَّت في عذاب أليم. قمت إلى التليفون وطلبت مسكنه فلم يردَّ أحد. لعله في طريقه إلى هنا ولكن ماذا أخَّره؟ ألا يُقدِّر ما يفعله التأخير بي؟ ونظر طلبة مرزوق في ساعته ثم قال: «آن لي أن أذهب.» ثم صافحني وذهب. ولم أكفَّ عن الشراب. وأخيرًا جاء الجرسون ليخبرني بأن شخصًا يطلبني في التليفون. وَثَبْتُ واقفًا ثم هُرعت إلى التليفون. تناولت السمَّاعة وقلبي يضرب بشدَّة: آلو .. علي؟ .. لِمَ لَمْ تجئ؟
– سرحان .. أصغِ إليَّ .. انكشف الأمر!
تفاعلت كلماته مع وش الكحول في أُذني، وانداحت جميعًا في دوران شمل السماء والأرض: ماذا قُلت؟
– قُضيَ علينا!
– ولكن كيف؟ .. قل ما عندك دفعة واحدة.
– ما الفائدة؟ .. أراد السوَّاق أن يفوز بالغنيمة وحده فوقع في شر عمله .. سيعترف بكل شيء .. إن لم يكن قد اعترف بالفعل.
سألت بريقٍ جافٍّ: والعمل؟ .. ماذا أنت صانع؟
– قُضي علينا .. سأفعل ما يُمليه عليَّ الشيطان.
وأغلق السكَّة.
إني أرتجف ولا تكاد تحملني قدماي. فكَّرت لحظة في الهرب، ولكني عدت — تحت عينَي الجرسون — إلى المائدة. لم أجلس، شربت الكأس، أديَّت الحساب. اليأس يزحف بسرعة مذهلة. وخوف مثل الشيطان. فارقت موقفي إلى البار رأسًا. بطريقة غير شعورية. طلبت من البارمان زجاجة واندفعت في الشراب بلا وعي وهو يرمقني بقلق. أصبُّ وأشرب ثم أصبُّ، دون كلمة أو لفتة أو تريُّث. ثم رفعت رأسي إليه قائلًا: موسى حلاقة من فضلك؟
تردَّد قليلًا، ولمَّا قرأ الإصرار في وجهي نادى الجرسون وسأله عن موسى. رجع الجرسون بموسى مستعملة عارية فتقبَّلتها شاكرًا ثم أودعتها جيبي. انفصلت عن البار بشيء من المشقَّة ثم مضيت نحو الباب الخارجي. مترنِّحًا .. يائسًا .. متعجِّلًا. عَبَرت الطريق وبودِّي لو أركض ركضًا.
كنت يائسًا .. يائسًا .. يائسًا.