آلهة العالم القديم
(١) عبادات البشرية الأولى المُفْتَرَضة: الوثنية والطُّوطَمِيَّة والروحية إلخ
تُشْتَقُّ الافتراضات التي نُسجت حول عبادات البشرية الأولى من دِراسة الأديان لدى الهَمَج في الوقت الحاضر، وتُتَّبَع بعض الآراء التي لا يُقِرُّها علم النفس؛ فيُظَنُّ في بدء الأمر أن الدِّيانات قامت على الوثنية والروحية، ومن المؤرخين من قالوا إن الطُّوطَمِيَّة سبقت تلك الدِّيانات الأولى، والطُّوطَمِيَّة ما تَجِد وصفَها في تَسَمِّي كثيرٍ من العشائر الوحشية بأسماء الحيوان أو النبات.
وما قام به علماء الاجتماع من الأبحاث الكثيرة لم يُؤَدِّ إلى اكتشاف عبادةٍ ابتدائية خاصَّةٍ في الطُّوطمِيَّة، ولا شيءَ يُمَيِّز الطُّوطمِيَّة من الوثنية في الحقيقة، وقد أَثْبَت فُوسْتِل دُوكُولَنْج ذلك منذ طويلِ زمنٍ، فقال مُتحَدِّثًا عن العالَم الإغريقيِّ الرومانيِّ: «إن الدين كان سيدًا مطلقًا للحياة الخاصة والحياة العامة، وإن الدولة كانت جَمْعِيَّةً دينية، وإن الملك كان حَبْرًا، والقاضيَ كاهنًا، والقانونَ نَصًّا مقدسًا، والوطنيةَ إحسانًا، والنَّفْيَ حِرْمانًا.» ومما ذكرتهُ في موضع آخر أن الحقوق الفطرية كانت تُشْتَقُّ من الشريعة الدينية على الدوام.
(٢) آلهة العالم الإغريقى الروماني
ولم يطرأْ تغييرٌ بتعاقب القرون على الوجه الذي تنظر به الأممُ إلى آلهتها، ومَدَى ما تَعْزوه الأمم إلى هذه الآلهة من القدرة هو الذي تَبَدَّل قليلًا.
وظَلَّتْ تلك القدرةُ محدودةً زمنًا طويلًا، حتى إنه كان يَعْلو جُوپيتِرَ، حينما أضحى ملِكَ السماء، سيدٌ حافل بالأسرار، أي كان يَعْلوه القدرُ.
وأما الآلهة العادية فكانت تدنو من الناس بالأنكحة، فعُدَّ أشيل ابنًا للإلهة تيتيس، وعُدَّت ڨينوس والدةً لابنِه … إلخ.
وتشير أقاصيص أوميرسَ إلى حدود القدرة التي كان الإنسان يعزوها إلى آلهته آنئذ، فالإنسانُ — وإن كان يخشاها كثيرًا ويَضْرَع إليها في الغالب — كان يَجْرُؤ على مقاتلتها في بعض الأحيان، ومن ذلك أن دِيُومِيد جَرَح ڨِينُوسَ، في أثناء حصار تِرْوَادَه، بسهمٍ وأكثر من تهديدها، وأنه ضرب الإله مَارْس عندما أراد الانتقامَ لها منه، وفي إبَّان ذلك الحِصار الشهير كانت الآلهة تتدخل في المعارك كلَّ يوم، ويحيط نِپْتُونُ ابنَ دَنْشِيزَ بِغَمَامٍ حِفْظًا له من ضَرَبَات أَشيل، ويصنع أَپُولُون مثلَ هذا في أمر هِكْتُور، ويَشْعُر جونون بعجزه تِجاه إله النهر سِكَامَنْدِر الذي أراد إهلاك أشيل فيطلب حماية ڨُولْكَن، فلم يُوَفَّق هذا لِما طُلِبَ منه إلا بإِحداثه حريقًا هائلًا تقهقر النهر أمامه.
ويظهر أن الأخْيِلة الأوميريةَ تبدلت قليلًا في غُضُون الأجيال، ففي عصر أُغُسطس لم يُؤْمِن الناس كثيرًا بتدخل الآلهة في سَيْر الكَوْن وإن كانوا يَخْشَونها.
قال هوراس: «أَعْرِفُ أن الآلهة تعيش هادئة، فإذا ما صَدَر عن الطبيعة بعضُ العجائب لم تُكَلِّف الآلهةُ نفسَها ببسط يدها.»
ومن ثَمَّ ترى أن الطبيعة كانت تُعَدُّ في ذلك الحين كَوْنًا حافلًا بالأسرار يُسْتعان به على إيضاح الأسرار.
ولم يكن المبدأ القائل بقدرة الآلهة المحدودة خاصًّا بالعالم اليوناني الروماني، فمثلُ هذا المبدأ تُبْصِره في جميع دِيانات الهند، فتراه في حماسياتها الكبرى، حتى في أبسط رواياتها كرواية شَكن تَلا حيث خَفَّت الآلهة إلى مساعدة بعض الناس.
وكان المعتقدُ القائل بآلهة ذات قدرة محدودة، والمناقضُ للمبدأ القائل بإلهٍ شامل ذي سلطان مطلق كالإله الذي بَدَا فيما بعد، نتيجةً واجبة لتَعَدُّد الآلهة، فما كان لأيٍّ من هذه الآلهة نفوذٌ مماثل لنفوذ بقيتها كما هو واضح، فكنتَ تَرَى تحت الثالوث المؤلف من أقوى الآلهة: جُوپيتِر وجونون ومِنِيرڨا، والمعبودِ في الكاپيتول الرومانيِّ، آلهةً صغيرة ذات قدرة ضيقة.
وكانت تلك الآلهةُ التي لا يُحْصِيها عَدٌّ متفقةً على الدوام، ولم يَدُر في خَلَد أحدٍ من آدَمِيِّي ذلك الزمن القديم أن يضطهد عبادَها، وكان يَسْهُل على قاهري الأمم المغلوبة المجاورة أن يَعْبُدوا آلهةَ هذه الأمم، فنُسِجَت حول آلهة الإغريق والقرطاجيين والمصريين … إلخ، الأقاصيصُ وأُدْخِلَت إلى حظيرة الدين القومي، فوُحِّد البَعْلُ الپُونِيُّ (القرطاجيُّ) مع ساتُورن، ووُحِّدَت دِيانا مع أرْتِيمِيس، ووُحِّدَت جُونونُ مع إيزِس وتانِيت ووُحِّدَت فينوسُ مع عَشْتَار القَرْطَاجِيَّة … إلخ.
فبمثل تلك الوسيلة انتشرت الآلهة الرومانية في الولايات الخاضعة لرومة، واختلطت أو امتزجت بالآلهة المحلية، والنصارى وحدَهم هم الذين شَذُّوا عن ذلك بعد زمن، فلم يكن النصارى لِيَحْنُوا ظهورَهم أمام آلهةٍ تَعُدُّها كتبهم من العفاريت، وجحودُ النصارى هذا غدا مصدرًا لتلك الاضطهادات التي عُدَّت دينيةً زمنًا طويلًا مع أنها سياسية صِرْفَة، أَجَلْ، إن رومة كانت تقول بجميع الآلهة، ولكنها كانت تطالب عُمَّالَها وضباطها باحترام آلهتها القومية وقيصرها.
وجُزْئِيَّاتُ عبادة الآلهة لم تتغير إلَّا قليلًا مع الزمن، فترى المؤمنَ المعاصر يطلب حماية القديسين كما كان القدماء يطلبون حماية آلهتهم، ومن ذلك أن وَصَف مسيو مسپيرو عبادةَ أمون في معبد الأقصر قبل الميلاد، بطويلِ زمنٍ، بعباراتٍ تُطَبَّق تطبيقًا تامًّا على الدِّيانات الحاضرة مع تغيير بضع كلمات.
(٣) عبادة الأموات
ظَلَّت عبادة الأموات جزءًا من الأديان على ما يظهر، فتَجِدها في جميع العصور لدى مُعْظم جميع الأمم المُتَرَجِّحة بين قدماء اليونان والمعاصرين من اليابان.
وعبادةُ الأموات، إذ كانت غالبةً في بلاد الإغريق وإيطالية، ثَقُلَت وطأتها على العالم القديم، فكانت العقوبات شديدةً عند عدم مراعاتها بدِقَّة.
قال فُوسْتِل دُو كُولَنْج: «كان لدى الإغريق والرومان آراءٌ متماثلة، فإذا ما انقطعوا عن تقديم المآدب المَأْتَمِيَّة خَرَج الأموات من أجداثهم أشباحًا نُوَّاحًا في الليل الصامت لائمين الأحياء على إهمالهم الإلحاديِّ باحثين عن مجازاتهم مرسلين إليهم المرض أو الجدب مُكَدِّرِين صَفْوَهم حتى يعودوا فيقيموا المآدبَ المَأْتَمِيَّة.»
وكانت خَشْيَة الأموات أمرًا عامًّا، فلما رأت كِلِيتْمِنْستر في منامها أن أرواح أغا ممنون غاضبةٌ عليها أرسلت أطعمة إلى ضريحه من فَوْرها.
وفي مبدأٍ وُجِدَ لدى جميع العُرُوق، تقريبًا، دلالةٌ على أن كلَّ موجود أو كلَّ شيء منظور ينطوي على ضرب من الروح الخفية، وفي هذا سرُّ ما كان من كفاية شَبَح الهِبات لإرضاء شبح الأموات، وفي هذا سرُّ ما كان من ذَبْحِ كثير من الأمم في مآتم العظماء كثيرًا من الأفراس والخَدَم لمصاحبتهم في الحياة الآخرة، فعلى هذا الوجه يَصِلُ شَبَح الفقيد إلى مملكة الأموات محروسًا حَرْسًا لائقًا، وفي الپيرُو كان يُهْلَك على قبر الملك المُتَوَفَّى عَذَارَى معبد الشمس لتكون أشباحُهن حاشيةً له.
والآلهة التي تتألف من أشباح المَوْتَى لدى الإغريق والرومان كانت تُوصَف بالآلهة البَيْتِيَّة، فكان الرومان يقولون: «إنها آلهةٌ مرهوبة مَوْكُولٌ إليها أمر مجازاة الناس والسهرِ على كلِّ ما يحدث في داخل المنازل»، وكان كلُّ بيت يشتمل على هيكل تجتمع فيه الأُسْرَة فتُصَلِّي للأجداد، وتقدم إليهم بعض الهدايا الزهيدة.
وعبادةُ الأموات تلك تكفي لإيضاح تأليه القياصرة الذي أدهش مؤرخين كثيرين، وذلك فَضْلًا عن الأسباب المذكورة في فصل آخر، فإذا كان أحد أفراد الناس يَغْدو من الآلهة بعد موته فإن من الطبيعيِّ أن يصير القيصر من آلهةٍ أكثرَ أهميةً من تلك، وأن يعبده الشعب فضلًا عن أفراد أُسْرَته.
وداوم كثير من الأمم على عبادة الأموات حتى أيامنا، ومن عبادة الأموات يَتَأَلَّف الدِّين الرئيسُ في الصين واليابان، ومما سمعته من رجل من أكابر رجال اليابان — وهو الآن سفيرٌ لدى إحدى دول أوروبة العظمى — أنه إذا ما عاد إلى بلاده لم يَتَوَانَ في التردد إلى الهيكل الخاص بأجداده، ومما قلته غيرَ مرة أن إرادة الأموات تسيطر على إرادة الأحياء، فالإنسان يَشْعُر، عَمَلًا، بالصلة الوثيقة التي يرتبط بها في الأجيال السابقة فلم يكن، بالحقيقة، غيرَ مُوَاصِل لها.
ويجب ألَّا يُعَدَّ من الخيال وحدَه، إذَنْ، زَعْمُ أمير البحر الشهير، توغو، حين صَرَّح، بعد أن نال أعظم انتصار بحري في الوقت الحاضر، أن ذلك النصر تَمَّ له بفضل أجداده، لا بفضل نفسه، أَجَلْ، يعود فضل قسم كبير من ذلك الانتصار إلى أمير البحر ذلك، ولكن أليس الأجداد المُوجِدُون لروح اليابان القومية هم الغالبين الحقيقيين؟ ألَا إننا مدينون للأموات بفضائلنا، ونحن إذا ما وُجِدَ لنا بعض القيمة كان ذلك بفضلهم على الخصوص.
ودين الأموات لم يَتَوَارَ قطُّ، وإن ضاق نطاقه لدى كثير من الأمم، وهو يقتصر عند النصارى على تمجيد القديسين، ولدى النصارى عيدٌ سنويٌّ لزيارة قبور الموتى.
(٤) تَأْلِيهُ المُجَرَّدات والأبطال
يُضاف تأليهُ العظماء ومختلفِ المجامع عند بعض الأمم إلى عبادة الآلهة التي تكلمنا عنها آنفًا، فالرومانُ كانوا يُؤَلِّهون مُدُنَهم وأبطالَهم وقياصرتهم، حتى المجرداتِ البسيطةَ فكنت تُبْصِر عندهم معابدَ للفضيلة والوِفاق والعدل … إلخ.
ويبدو ذلك الأمرُ غريبًا في الوقت الحاضر، وتَجِد، مع ذلك، وَجْهَ شَبَهٍ بينه وبين الرمزية العصرية.
وما ذكرناه من مقابلة بين الفكر القديم والفكر الحديث يُثْبِت، بأوجهٍ مختلفة، درجةَ تماثل النفسية الدينية في كلِّ زمن.
(٥) الفئول والهواتف
كانت الآلهة في الوثنية توافق، أحيانًا، على مخاطبة الناس بهواتفَ يقوم بها أناس مشابهون للوسطاء المعاصرين، وما كان الإغريق ليأتوا عملًا من غير استشارتهم؛ فكانوا يجيئون من الأماكن البعيدة ليسألوا كاهنةَ دِلْف المتكلمة باسم أَپُولون.
وكانت الثقة بالمراسيم التي تصدر على ذلك الوجه مطلقةً، ومن ذلك أن الهاتف أوْحَى بأن القيصر هادِرْيان سيموت قبل الأوان ما لم يَذْبح أحدُ أصدقائه نفسَه من أَجْله، فقَرَّب نديمُه المُفَضَّلُ أنتينوس نفسَه منتحرًا، فحَزِن هادِرْيَان شاكرًا فأقام له، في الحال، معبدًا مُؤَسِّسًا حوله مدينةً مهمة عاشت أربعةَ قرون.
وعند انعدام الهواتف كان يُرْجَع إلى الفُئُول لتَعَرُّف إرادة الآلهة، فكان يوجد في رومة كليةٌ رسمية للفُئُول لم تُلْغَ إلا بعد أن صارت النصرانيةُ دينَ الإمبراطورية.
ومن الواضح أن كانت الفُئُول والهواتف وليدةَ نفسية دينية لِما كان من بقائها مُسَمَّاة بأسماء مختلفة على الدوام، فكنت ترى الرُّقْيَا والسحرَ في القرون الوسطى، وترى الموائدَ الدَّوَّارة ومناجاة الأرواح في الوقت الحاضر.
يُثْبِت ما تقدم مقدارَ هَيْمَنَة المعتقدات الدينية على الحياة في الزمن القديم، ونعلَم أن مثل ذلك كان يَحْدُث في القرون الوسطى، وما انفكَّ تاريخُنا يَخْضَع للمُؤَثِّرات اللَّاهوتية مدةً تزيد على ألف سنة، حقًّا إن العلم قد ضَيَّق دائرة علم الكلام بتضييقه، بالتدريج، نِطَاقَ الميدان الذي افْتُرِضت سيطرة الآلهة عليه، ولكن من غير أن يَقْضِيَ على النفسية الدينية، فهذه النفسية تبدو الآن على صُوَر أخرى، أي إنها تحولت إلى نفسية سياسية واجتماعية، فترى الثقة بالصِّيَغ والآمالَ تستحوذان على النفوس كما كانتا، وما احتياجُ الإنسان إلى المعتقدات لتغذية حياته الباطنية إلا كاحتياج المَعِدَة إلى الغذاء لحِفْظ الحياة الجُثْمانية، وتاريخُ الأديان المُمْتِعُ هو الذي أَبْدَى هذه الظاهرة النفسية الأساسية.