تطور الفلسفة النفعي
(١) فلسفةُ الذَّرَائِع
وسُوفِسْطائيُّو اليونان، ولا سيما پرُوتاغُوراس الذي ذكرناه في فصل سابق، كانوا قد تكلموا عن مذهب الذرائع منذ زمن طويل.
فعند تلميِذ هِرَقْلِيت هذا تُعَبِّر الحقيقة عما لدينا من فكر عن الأشياء، فلا حقيقة خارجة عنا، وما ندعوه حقيقةً هو حقيقتُنا، وليس هنالك حقيقةٌ مطلقة، بل آراءٌ شخصية يَعُدُّها من يعتقدها حقائقَ، والحقيقةُ متحركةٌ غيرُ ثابتة، ونحن لا نُقَدِّرها إلا بإحساساتٍ متقلبة بحسب كلِّ فرد.
لا مقياسَ للحقيقة عند پِرُوتاغُوراس، فالحقيقة عنده لا تُثْبَت، بل تُمَثَّل، ولا يَخْلِط هذا الفيلسوفُ الحقيقةَ بالفائدة مع ذلك، بل يُمَيِّز بينهما، ولكنه يذهب إلى إمكان اختيار أفيد الآراء، فيرى وجوبَ قيام العدل على الفائدة، لا على الحقيقة.
حقيقةُ الفكر بنتائجه … ولا احتياجَ إلى تَقَبُّل حقائقَ مُعَيَّنة إلا عندما يصبح من المفيد صنعُ ذلك … والفكر لا يكون حقيقيًّا ما دمنا غيرَ ذوي منفعة حَيَوِيَّة في اعتقادنا أنه كذلك.
بُطْلان الرأيِ لا يعني اعتراضنا على هذا الرأي … فالمهمُّ هو في معرفة المَدَى الذي يُعَجِّل هذا الرأيُ به الحياةَ ويحفظُها، ومعرفةِ المَدَى الذي يُمْسِك به النوعَ ويُنَمِّيه فترانا نَمِيل، كمبدأٍ، إلى القول بأن أخطل الآراء أكثرُها لزومًا، وبأنه لا بقاء للإنسان بغير مَجْرَى القِيَم المنطقية القسريِّ، بغير تزييف العالَم بالعَدَد، وبأن العدول عن الآراء الزائفة يَعْنِي عدولًا عن الحياة، إنكارًا للحياة، فالاعترافُ بأن الكَذِب شرطٌ حَيَوِيٌّ هو مقاومةٌ خَطِرَة للمقاييس المألوفة فيكفي الفيلسوفَ أن يَجْرُؤَ على ذلك ليُوضَع خارج الخير والشرِّ.
ويبدو حلُّ المسائل الدينية والخُلقية أمرًا سهلًا لدى أصحاب مذهب الذرائع، فالأديانُ تكون صحيحةً إذا ما جَعلت الإنسان سعيدًا، ويجب عدُّ الوَهْم المفيد حقيقةً، والإيمانُ أمرٌ ضروريٌّ، فلم يُسْفِر شَكُّ هَمْلِت عن غير العَطَل من العمل.
وترى الذَّرَائِعيِّين ينظرون إلى المعتقدات كما لو كان اختيارُها خاصًّا بإرادة الإنسان، وعكسُ هذا ما يذهب إليه علم النفس.
فالذرائعيُّ، إذَنْ، يكون، بحسب مبادئه، مؤمنًا أو ملحدًا، ماديًّا أو روحيًّا، فاضلًا أو فاسقًا وَفْقَ منفعته الشخصية، ومن البديهيِّ ألَّا يُوصَى بمثل هذا المبدأ إلَّا قليلًا.
وإذا نُظِر إلى الذرائعية من الناحية الاجتماعية، بدلًا من النظر إليها من الناحية الشخصية، أمكننا أن نقول إنها أقدمُ فلسفةٍ في البشرية، فكان بضعُ عشراتٍ من الناس إذا ما اجتمعوا لتأليف قبيلةٍ اضْطُرُّوا إلى اتخاذ المنفعة دستورًا لجمعيتهم منتحلين الفلسفةَ الذرائعية من حيث النتيجةُ … ويمكن عَدُّ جميعِ كُتُبِ الحقوق القائمة على العادات والتي يُشْتَقُّ منها جميعُ القوانين رسائلَ حقيقيةً لمذهب الذرائع.
(٢) شأن الغريزة في فلسفة الذرائع
قَضَت الضرورة بأن نُبَسِّط نظرياتِ مذهب الذرائع إظهارًا لمسائل هذا المذهب الأساسية ونتائجه.
فمذهبُ الذرائع ينطوي، بالحقيقة، على آراءٍ مختلفة يَطُولُ عَرْضُها، ويرى كثيرٌ من أصحاب هذا المذهب أنه مِنهاجٌ لنَيْلِ المعرفة فضلًا عن أنه اختبارٌ نفعيٌّ، ويختلف هؤلاء الأصحاب من هذه الناحية كثيرًا، والحقيقةُ هي، كما يَفْتَرِض هؤلاء على العموم، وليدةُ أجزاء للحقيقة تَمَّ اختيارها وَفْقَ فائدتهم، وذلك بدلًا من عَدِّ الحقيقة مستقلةً عنا.
ويمكن الدفاع عن ذلك المبدأ كما هو واضح، فنحن لا نفعل سوى تجزئتنا، في الحقيقة، مَفاهيمَ ملائمةً لحواسِّنا وللأجهزة المُتِمَّة لها.
ولكن العزائمَ، التي هي وليدةُ احتياجاتنا، إذا كانت تُوَجِّه تَجَارِبَنا، لا ترى أيَّ تأثير لها في الحقائق الصادرةِ عن هذه التَّجَارِب والمناقضةِ لرَغَباتنا في بعض الأحيان، والحقائقُ التي تُقَرَّر على هذا الوجه، وإن كان من الممكن ألَّا تلائم احتياجاتِنا، وَجَب معاناتُها، ويشابه العالِم بعضَ الشَّبَه سَحَرةَ الأساطير القديمة العارفين باستحضار الأشباح من غير أن يَقْدِروا على إخضاعها عندما تَتَكَوَّن.
إن الغريزة أمرٌ لا ريب فيه، إنها من المُعْطَيات المُحْكمة المُثبَتة، والغريزةُ، مهما كانت مصادرها، هي عُنْوَان مَيْلِ النوع ونفعه، فاتِّبَاعُها هو الواجبُ الأول لمن يريد أن يَسِير مع الطبيعة كما يأمر العقل.
والذي يبدو لي هو أن العقل يَأْمُر بعكس ذلك، فمن مُقْتَضَيات تَقَدُّم الحضارة أن يتغلب الإنسان على اندفاعاتِ الغريزة، أي أن يسيطر على لَا تَنَبُّهَاته كما قال أحد علماء وظائف الأعضاء، ولا يميل الرجل العصريُّ إلى أن تهيمن عليه غرائزُ همجيةِ الأجداد التي رَدَعتْها الزواجر الاجتماعية القَصِفة بصعوبة.
يَتَحَوَّل مذهبُ الذرائع عن التجريد … إلى الفكر المُعَيَّن الكامل، إلى الوقائع، إلى العمل الناجع.
أَجَلْ، إن العناية بالمُعَيَّنات وبالعمل الناجع أمرٌ حكيم، ولكن هذا السلوك إذا ما عَمَّ عَدَلَت البشريةُ عن كلِّ تقدم، فالتأملاتُ الخالية عن النفع العمليِّ هي التي أسفرت عن أعظم الاكتشافات.
وقَبْلَ أصحابِ مذهب الذرائع المعاصرين بزمنٍ كان أوغُوسْت كُونْت قد صاغَ نصائحَ مشابهةً لتلك فيما يجب أن تُحْبَى به الدِّراساتُ العلمية من التوجيه العمليِّ، فوَدَّ أن يقوم مجمعٌ للعلماء فَيَمْنَعَ المباحثَ غيرَ النافعة كدِراسة تركيب الكواكب الكيماويِّ لاستحالته، فلو قام هذا المجمع بذلك ما اكتُشِفَ تحليلُ طَيْفِ الشمس الذي اطُّلِعَ به على تركيب الشمس وجميعِ النجوم الكيماويّ، فباتِّباع الأوهام يُوصَل، في الغالب، إلى اكتشافات مفيدة إلى الغاية، ولولا أبحاث السِّيماوِيِّين حَوْلَ الإكسير ما ظَهَر علم الكيمياء الحديث، ولولا تأملاتُ مَكْسِوِيل الجريئةُ لظلَّ البَرْق اللَّاسِلْكيُّ أمرًا مجهولًا.
وإذا ما انتشرت فلسفةٌ جديدة وُجِدَ من يحاول تطبيقَها على المسائل التي تستهوي النفوس، وَبَلَغَ مذهب الذرائع من عدم تَفَلُّته من هذه السُّنَّة ما أَدَّى معه مبدأُه النفعيُّ، الذي عُدَّ مُرَادفًا للحقيقة، إلى أسوأ المذاهب، فمما رأيناه استخدامُه من قِبَل النِّقَابِيَّة الثورية التي يتعذر أن يُدَافَع عنها دفاعًا معقولًا.
ويَظلُّ الحكْم الذي أبديناه في الصَّفَحات السابقة عن مذهب الذرائع مستقلًّا عن الأمم التي نَبَتَ فيها هذا المذهب وعن المكان الذي ظهر فيه، ويمكننا أن نُسَوِّغ بعضَ أجزاء هذا المذهب عند نظرنا إلى أنه نَمَا، على الخصوص، لدى الأمريكيين النفعيين الذين ليس عندهم من الوقت ما يستنفدونه في المناقشات والذين لا يريدون أن يُمْسِكوا من المبادئ بغير نواحيها التي يُسْتَفاد منها في الحياة اليومية.
إن مذهب الذرائع الأمريكيَّ هو مذهبُ توفيقٍ على الخصوص، فهو يَهْدِفُ إلى منح الناس وسيلةَ التوفيق بين الأفكار والمذاهب المتعادية بإثباته أن جميع الأفكار، حتى المتهادمَ منها، يمكنه أن يساعدنا على أن نكون أقومَ وأحكمَ وأحسنَ مما نحن عليه، وما الفائدة في الاصطراع انتصارًا لمذهب أو فكر على مذهب أو فكرٍ آخرَ بدلًا من تَرْكِ الناس يستخرجون منه، أحرارًا، كلَّ خيرٍ يمكن أن يؤديَ إليه؟ ومن يَعْرِفْ أمريكة الشمالية يَقُلْ إنه إذا ما وُجِد مذهب أمريكيٌّ بالحقيقة كان ذلك المذهبَ.
نَخْتم بهذا الفصل دِراسةَ المبادئ الدينية والفلسفية التي عَدَّتها النفسُ البشرية حقائقَ، ونحن، بعد أن رأينا الأديانَ تُعَبِّرُ، بالآلهة، عن احتياجاتِنا وأحلامنا وآمالنا وَجَدْنا أن الفلسفاتِ تقوم على الإنكارات من غير أن تُقِيم ما هو دائم، وبعضُ الفلسفاتِ يَزْعُم الآن أنه يُؤَلِّهُ الوِجدانَ وبعضُها الآخر يَزْعُم الآن أنه يُؤَلِّه المنفعةَ، بَيْدَ أن هذه الأصنام الجديدة ليست من القوة والنفوذ بحيث تَفْرِض حكمَها زمنًا طويلًا.
وبجانب الأديان القديمة والفلسفات الحديثة التي تَقْتَرح تحويلَ أوهامنا الناشئةِ عن رَغَباتنا إلى حقائق أقام العلمُ ببطءٍ حقائقَ مستقلةً عن هذه الرغبات، فسنبحث في تَكْوينِها عَمَّا قليل.
هوامش
يسمي كنت بمعتقد الذرائع المعتقد الذي لا نقدر على تسويغه بالتأمل، والذي يرضى به، ولو موقتًا، كمبدأ للحركة وذلك وصولًا إلى غاية معينة، فقيمة مثل هذا المبدأ تكون بحسب ما يكتب للمشروع من نجاح أو حبوط.