بين التزمت والإباحة
في قواعد اللغة
بقيت أشياء لا بد من ذكرها والإبانة عنها حتى نبلغ من كلامنا ما نريد؛ ذلك أني عثرت وأنا أقرأ ببعض ألفاظ كنت أقف عندها مثل لفظ يقلاه (ص٤٠) وحانقين (ص٥٥) وفشل (ص٨١، ٩٦ و١١٠ و١٢٦)؛ وقد رجعت إلى معاجم اللغة التي بين يدي في اللفظ الأول، فوجدته من لغة طيئ، وإذن يكون استعماله جائزًا، أما اللفظان الآخران فإني أرجع فيهما إلى الأستاذ العقاد وأسأله: هل يجوز استعمال كلمة فشل في معنى أخفق وخاب، وأن يأتي اسم الفاعل من حنق على حانق؟
•••
وجوابي: نعم يجوز أن نأتي باسم الفاعل من حنق على حانق؛ لأنه لا يكون اسم فاعل إلا إذا كان على هذا الوزن.
وجوازه ثابت بالنص وثابت بالقياس الذي لا يرد، وهو في بعض الأقوال أقوى من النصوص.
فالزمخشري في كتابه «المفصل» يقول في باب الصفة المشبهة: «وهي تدل على معنى ثابت، فإن قصد الحدوث قيل: هو حاسن الآن أو غدًا وكارم وطائل، ومنه قوله تعالى: وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ إلخ.»
وجاراه موفق الدين بن يعيش شارح المفصل، كما جاراه في هذا الحكم جلة النحاة.
فإذا صح في «كرم» التي تدل على الثبوت أن يقال: كارم للدلالة على الحدوث، فذلك أصح وأولى في حنق التي ليس فيها معنى من معاني الثبوت.
بل إذا كانت كلمة غدًا أو الآن لا تكفي للدلالة على الحدوث، ولا تغني عن الإتيان باسم الفاعل على صيغته الشائعة، فمن الحق ألا نستغني عن هذه الصيغة حين لا تقترن بلفظ يعين الحدوث في الحال أو الاستقبال.
•••
على أننا نفرض أن النصوص في كتب النحو لا تقرر هذه القاعدة، ولا تثبتها على الوجه الصريح الذي قدمناه.
بل نفرض أن النصوص قد وردت بمنع «حانق» وما شابهها، وجزمت بخطئها على طريقة النحاة أحيانًا في تخطئة بعض الصيغ والأوزان، فمن الواجب في هذه الحالة على خادم اللغة العربية أن يخالف النحاة، ويخالف السماع الناقص تكملة له بالقياس الصحيح الذي لا محيد عنه.
إذ ليس من حق لغة من اللغات أن تضطر كاتبًا بها إلى الإخطاء في معناه.
وليس من حق لغة من اللغات أن تبطل الفارق بين معنيين مختلفين، ثم تمنعنا أن ننشئ هذا الفارق لضرورة الصدق في التعبير.
فهناك فارق بين من يحنَق من حادث يعرض له، وبين من يلازمه الحنق في طباعه وأخلاقه.
فإذا قلت عن رجل: إنه «حنق» وعنيت به أنه دائم الحنق كما تدوم الصفات المشبهة؛ فمن الواجب أن أقول: «هو حانق من كذا.» إذا كان الحنق يفارقه بعد ذلك، ولا يلازمه في طباعه وأخلاقه.
وإذا قلت: إنه «حنق» وعنيت به ما نعني باسم الفاعل وجب أن تقول شيئًا آخر إذا عنيت أنه متصف بطبع الحنق في عامة أوقاته.
وليس في وسع لغة ولا في وسع اللغات جميعًا أن تفرض على كتابها الخطأ، واللبس في التعبير، ثم تصدهم عن تصحيح الخطأ وجلاء اللبس بتصرف لا يخرج بهم عن قياسها، ولا يخل بأصولها المرعية في أعم ألفاظها.
فالنص يجيز الصيغة والقياس يوجبها عند منع النص، وهو بحمد الله غير مانع.
وإننا لخلقاء أن نغبط أنفسنا على أن اللغة العربية «منطقية» في إجراء القواعد على الأوزان، حيث تتشابه المعاني وتتخالف أوزان ألفاظها.
فقد يحمل الشيء على غيره في المعنى فيجمع كجمعه، وانظر مثلًا ماذا بلغ من هذه النزعة «المنطقية» في أوزان الجموع، وهي التي لا تجري على وزن واحد كصيغة اسم الفاعل؛ فليس في اللغة «هليك» بمعنى هالك ولا جريب بمعنى أجرب أو جربان أو جرب، ولكنهم يقولون: هلكى وجربى؛ قياسًا على قتلى وجرحى ولدغى؛ لأنها جميعًا تدل على داء أو بلاء، وهذا هو منطق النحو العربي الذي ينطلق أحيانًا مع المعاني ولا يتحجر أبدًا مع الحروف.
•••
أما «فشل» بمعنى أخفق فلها حكم آخر، فهذه الكلمة من الاستعمال الحديث الذي شاع حتى غطى على معنى الكلمة القديم، مع تقارب المعنيين؛ حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر؛ لأن التراخي والضعف والخواء قريبة كلها من الحبوط والإخفاق.
وتجدد المعاني على حسب العصور سنة لا تحيد عنها لغة من اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية.
فلو أننا أخذنا ألف كلمة من المعجم، وتعقبنا معانيها في العصور المختلفة لما وجدنا خمسين أو ستين منها ثابتة على معنى واحد في جميع العصور.
وربما غلب المعنى الجديد وبطل المعنى القديم، وهو أصيل في عدة كلمات.
خذ مثلًا كلمتي الجديد والقديم، وكيف ظهرتا، ثم كيف تحولتا إلى الغرض الذي نعنيه الآن.
فالثوب «الجديد» هو الثوب الذي قطع حديثًا؛ من جدَّه فهو جديد أو مجدود، وكانوا يقطعون المنسوجات عند شرائها، كما نقطعها اليوم، فيسمونها جديدة من أجل ذلك.
ثم نسيت كلمة الجديد بمعنى المقطوع، فلا ينصرف إليها الذهن الآن إلا بتفسير أو تعيين، وأصبحنا نعبر بالجدة عن أمور لا تقطع ولا هي من المحسوسات، فنقول: «المعنى الجديد.» و«الفكر الجديد.» وما شابه هذه الأوصاف.
وكانوا يقولون: تقدم فلان؛ أي مشى بقدمه، ثم ضمنوا تقدمه معنى سبقه، فأصبح السابق هو القديم، وأصبح الزمن القديم هو الزمن السابق، كما نفهمه الآن.
وقد نسي الناس «كَتَبَ البعير» بمعنى قيَّده، وأطلقوها اليوم على الخط في الورق، وهو في الأصل مستعار من التقييد.
ونسي الناس «خجل البعير» بمعنى تحير واضطرب، وأصبحوا يستعملونها «للحياء» الذي شُبِّه بالخجل؛ لأنه يدعو إلى الحيرة والاضطراب.
وكل أولئك لا ضير منه على اللغة كما رأينا، بل هو مادة إنشاء وابتكار وتنويع.
والأستاذ الفاضل «أبو رية» يأخذ بالشيوع قاصدًا أو غير قاصد حين يقول: «المعاجم»، وهي جمع معجم بضم الميم، والمعجمات هي الجمع الذي يرتضيه المتزمتون ولا يرتضون غيره.
•••
إلا أنني هنا أنكر الإباحية العمياء كما أنكر التزمت الأعمى.
وعندي أنه لا يصح إلا ما أمكن أن ينطوي في قاعدة من القواعد المعروفة، أو أن يؤدي المعنى أداءً لا يناقض العقل والقياس.
ومن أمثلة ذلك أنني كنت أشهد منذ أيام رواية «قيس ولبنى» للشاعر المجيد عزيز أباظة بك، فأعجبت بسلامة اللغة وصحة العبارة، ولكني لاحظت أنه استعمل كلمة «تضحية» بمعنى فداء أو خسارة، كما نستعملها نحن الآن.
والتضحية عند العرب هي ذبح الشاة أو غيرها في وقت الضحى.
ثم أخذت معنى الفداء أو القربان؛ لأن الناس ينحرون ذبائحهم في الضحى يوم عيد النحر الذي عرف من أجل ذلك بعيد الضحية.
فإذا كنا نحن المتكلمين — ونعني أبناء العصر الحاضر — فلا ضير من تضمين الكلمة هذا المعنى بعد أن أخذته باستعارة معقولة، وكسبته بالاستعمال المتفق عليه بيننا.
ولكننا إذا جعلنا العرب في عصر «قيس ولبنى» يستعيرون هذا المعنى، وهم لم يستعيروه، فذلك خطأ في التاريخ وليس بخطأ في اللغة وكفى.
والاعتراف ﺑ «التطور» في المعاني والاستعارات لا يقتضي أن نخالف الحقيقة التاريخية.
على أنني حين استعملت كلمة «فشل» لم أكد أخرج بها عما اصطلح عليه الأولون.
فقلت: «يحاول الغلبة من حيث فشل.» ولو جعلت «فشل» هنا بمعنى ضعف لكانت مقابلة للغلبة أحسن مقابلة.
وقلت: «ولا طائل في البحث عن علة هذا الخذلان الصريح، أكان هو الطمع في الملك بعد فشل عليٍّ، أم النقمة على الأشتر؟» فلو أنك قلت بعد «ضعف» علي لاستقام هنا التعبيران القديم والحديث.
وكذلك قولنا: «مني بالفشل؛ لأنه عمل بغير ما أشار به أصحابه الدهاة.» فإن التعبيرين فيه يتلاقيان.
كذلك قولنا: «ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل.»
فليس لمتزمت قديم أن ينكر موقع هذه الكلمة في حيث وضعناها من هذه العبارات كلها، وإن كنا مع هذا لا نحرم إطلاقها على معنى الإخفاق الذي لا يحتمل تأويلًا بمعنى آخر؛ وكل ما ننكره أن تأتي بكلمة «فشل» فتطلقها على معنى القوة والنجاح، أو معنى يناقض الضعف والتراخي المقصودين بها قديمًا؛ أو أن تأتي بهذه الكلمة فتضعها على لسان علي بن أبي طالب، أو رجل في زمان سابق لزماننا الذي أعارها ما نفهمه منها الآن على الشيوع والتواتر.
وليس الخطأ في تجديد المعاني على حسب العصور؛ لأنه سنة لم تفلت منها كلمة في لغة من اللغات إلا وهي على موعد من تجديد يأتي بعد حين.
إنما الخطأ هو إنكار هذه الحقيقة، وهي تصادفنا في كل ما نقرأ ونكتب بالعربية وبغير العربية.
ونحن على طريق السلامة ما أبحنا مبصرين وتزمتنا مبصرين، وحينئذ لا نكون إباحيين ولا متزمتين؛ بل نجري على السواء الذي نسلكه مهتدين.