المدرسة الرمزية
… استرعى نظري نوع من الأدب أسموه بالرمزية، ولا أعلم حتى الآن تعريف هذا النوع، وقد نبهني إليه تلك الإنذارات إلى الأدباء الشباب المحدثين أن يكفوا عن تلك الطريقة الرمزية، فإنها عقيمة النتاج لا تجدي نفعًا، فما هي الرمزية في الأدب؟ وهل هي تقتصر على الآداب العربية فقط عدا الآداب العالمية؟ وما هي نتائجها المضرة؟
والرمزية التي يسأل عنها الأديب البغدادي قديمة في العالم؛ لأن الناس عرفوا الكتابة بالرموز قبل أن يعرفوا الكتابة بالحروف؛ ولأن الكهانات الأولى كانت تستأثر بأسرار الدين، وتضن بها أن تذاع للعامة على حقيقتها الصراح، فكانت تعمد إلى الرموز أحيانًا للتعبير عن تلك الأسرار.
لكن المقصود بالرمزية في الأدب الحديث هو تلك المدرسة التي راجت في أوائل القرن الحاضر، وظهرت في فرنسا على أعقاب مدرسة «البرناسيين» أصحاب القول بجمال القالب والعكوف على المحاسن الظاهرة في أساليب الشعر والنثر وصياغة العبارات، وعندهم أن الصقل المحسوس هو آية الجمال والبلاغة في جميع الفنون.
فلما راج مذهب البرناسيين هذا في أواخر القرن الماضي ظهر الرمزيون يعارضونه، ويغلون في إنكاره ويذكرونهم بما نسوه من أسرار المعاني التي لا تبرز على وجوه الكلمات، وينبهونهم إلى جمال الوحي والإيمان الذي أهملوه في سبيل الصقل المحسوس، والرونق البارز على صفحات الأساليب.
وقد كان الرمزيون على حق لولا الغلو الذي يندفع إليه أصحاب كل مدرسة جديدة حين يتصدون لحرب المدارس الأخرى، فيذهبون من أقصى النقيض إلى أقصى النقيض.
فالأدب لا يستغني عن الوحي والإشارة، وأبلغ الفن ما يجمع الكثير في القليل، ويطلق الذهن من وراء الظواهر القريبة إلى المعاني البعيدة التي تومئ إليها الألفاظ، ولا تحتويها بجملتها إلا على سبيل التنبيه والتقريب.
ولكن هذه المدرسة غلت وتمادت في الغلو حتى قام من دعاتها من يجعل الغموض والتعمية غرضًا مقصودًا لذاته، ولو لم يكن من ورائه طائل، وخيل إليهم أنهم مطالبون بالتعبير عن أنفسهم بالرموز، وإن أغنتهم الحروف الواضحة والكلمات المفهومة … فلم تعمر مدرستهم طويلًا، وسقطت في الأدب الفرنسي كما سقطت في آداب الأمم التي انتقلت إليها.
وقد أملي لأتباع هذه المدرسة في الغلو أنها قامت للدعوة في العصر الذي ظهر فيه «فرويد»، وبشر بمذهبه القيم عن الأحلام ودلالتها على الوعي الباطن، وما يستكن فيه من الأسرار المكتومة والنوازع المكبوتة.
وخلاصة هذا المذهب فيما يرجع إلى «الرمزية» أن الأحلام هي لغة الرمز، التي يعبر بها «الوعي الباطن» عن شعوره المكبوت؛ فالرجل المبتلى بالخوف من عدو منتقم أو من وهم مسلط عليه يرى في نومه وحشًا ينقض عليه وينهشه بأنيابه، والرجل الطامح إلى المجد يرى أنه سابح في السماء على رءوس الناس، أو يرى أن الناس بالقياس إليه كالنمال في جانب الفيلة الضخام، وهكذا تتمثل معاني «الوعي الباطن» رموزًا جسدية؛ لأن الإنسان لا يتمثل المعاني في أحلامه وأمانيه، بل يتمثل فيها ما يرى بالعين، ويلمس باليد ويسمع بالأذن، ويترجم من لغة الفكر إلى لغة الحواس على أسلوب الخيال المعروف.
فما هو إلا أن راجت كلمة «الوعي الباطن» ورموزه في الاصطلاح وخيالات الفنون، حتى تلقفها أذناب المدرسة الرمزية كما تلقف الببغاوات صيحات الآدميين بغير فهم ولا روية، وخيل إليهم أن «الوعي الباطن» خلق جديد أنبته «فرويد» في بيئة الإنسان بعد أن كان معدومًا في الأجيال الماضية، وفاتهم أنه أقدم من الوعي الظاهر، وأنه لم يزل يعمل عمله في الآداب والفنون، وفي المعيشة اليومية منذ عرف الناس الشعور والتفكير، ولن يزال كذلك خفيًّا في مكانه القديم ما دام الإنسان هو الإنسان، وكل ما صنعه فرويد أنه نبه الأذهان إلى وجوده، لا أنه أوجده من العدم في الزمن الحديث.
وبعد أن كان الرمزيون لا يتجاوزون في دعوتهم التذكير بوجود الأسرار والمعاني التي توحي إليها، أصبح أولئك الببغاوات ينكرون الحس الظاهر، وينكرون الحواس وعملها، ولا يدينون بشيء غير ما يسمونه رموز الوعي الباطن وأحاجيه.
فبطل الوضوح عندهم كأنه نقيصة، أو كأنه خروج على الحقيقة، وتقررت التعمية عندهم كأنها هي البيان دون كل بيان، وكأنما «الوعي الباطن» قد كشف في الزمن الأخير؛ ليلغي العيون والآذان، ويغرق الناس في ظلمات لا تدركهم فيها أنوار النهار.
ومن آفات فرنسا الولع بالأزياء والمدارس التي كأنها أزياء تخلع بين كل صيف وشتاء، فما هو إلا أن يسمع فيها باسم الدعوة الجديدة حتى تقفوها مدرسة هنا ومدرسة هناك، وحتى تتقاسمها الفنون المختلفة، فيبشر بها المصورون والنحاتون كما يبشر بها الشعراء والكتاب، وينتقل الأمر من حيز التفكير إلى حيز الصفقات والمساومات.
فيأخذ المتجرون بالصور في جمع اللوحات التي يبيعها إياهم فقراء الفنانين بدريهمات معدودات، ويحتفظون بها حتى يحين الأوان لإبرازها والمتاجرة بها، فإذا بمجلة من المجلات التي يملكها أولئك التجار، أو يستأجرونها قد نشرت فصلًا مطولًا عن «المدرسة الجديدة» المزعومة، وتلتها مجلة أخرى تناقضها وتنحي عليها، وإذا بالمدرسة الجديدة بعد هنيهة قد أصبحت في دوائر الفن أحدوثة الفضوليين والأصلاء، ومحور الهجوم والدفاع، ويحضر إلى باريس في هذه الآونة أناس من أصحاب الثروات الأمريكية، أو أصحاب الألقاب الروسية العريقة ممن يصطنعون الوجاهة، ويفاخرون باقتناء التحف النادرة، ويودون أن يرجعوا إلى بلادهم وفي جعابهم أحدث ما يتحدث به أصحاب الأذواق وأدعياء التنظر في الثقافة والآداب الفنية، فإذا بهم قد وقعوا في الفخ المنصوب، واستبضعوا اللوحات والتماثيل من تلفيقات تلك المدرسة الجديدة بألوف الجنيهات، وهي كلها لا تساوي مئات الدراهم عند بائعيها الماكرين.
وهكذا تخرج إلى الدنيا «مدرسة جديدة»، وتبقى فيها ما بقيت صالحة لتلك الصفقات الخادعة، ثم تنطوي وتخلفها دواليك مدرسة أخرى على هذه الوتيرة، ولا تعقب بعدها أثرًا من الآثار الباقية في عالم البلاغة والجمال.
وقد راجت الرمزية في الكتابة والشعر، كما راجت في النحت والتصوير، وشوهدت صور لبعض الناس لا يعرفها أصحابها، ولا يتفق اثنان من المصورين أنفسهم على عرفان ملامحها أو تفسير الغرض منها، وسئل واحد من هؤلاء المصورين عما يعنيه بهذا الخلط الذريع، فقال بلهجة هؤلاء الممخرقين التي هي مزيج من لغة الدجالين والببغاوات: إن الكتاب الإنجليزي يقع في يد الرجل الذي لا يفهم الإنجليزية، فلا يبصر فيه إلا خليطًا مشوشًا من الخطوط والنقاط، فهل يفهم من ذلك أنه كذلك، وأنه لا يشتمل على معنى من المعاني التي يدركها الإنجليزي أو من يفقهون اللغة الإنجليزية؟
وهذا كلام دجالين وببغاوات لا يفهمون ما يقولون؛ لأن الناس لا يختلفون في رؤية الشمس كما يختلفون في فهم مئات الكلمات التي تدل عليها باللغات الإنسانية؛ ولأنهم لا يختلفون بالعيون والآذان والأفواه كما يختلفون بالألسنة والعبارات، وليس بين الرجل وبين مشابهة الإنجليزي في قراءة كتابه إلا أن يدرس الإنجليزية، فينفذ إلى ما وراء الخطوط من الألفاظ ومعانيها، فما هي الأداة التي يستعين بها الإنسان على فهم الصور التي لا تشبه أصحابها؟ أهي أداة الوعي الباطن، وهو لا يتماثل في رجلين اثنين على نحو واحد؟ أيصبح كل إنسان «فنًّا» وحده؛ لأنه وحده صاحب الوعي الباطن الذي توارثه عن آبائه وأجداده، وأضاف إليه ما أضاف من مذكوراته ومنسياته؟
وكل مدرسة من هذا القبيل، فهي مدرسة بكماء لا تستطيع أن تشرح مذهبها للناس إلا بمزيج من كلام الببغاوات، وكلام الدجالين.
ليكن الوعي الباطن حقيقة لا شك فيها، وهو كذلك حقيقة لا شك فيها، ولكنه كان حقيقة لا شك فيها من أقدم عهود المثالين والمصورين والشعراء في التاريخ، وقد عمل في شعر هوميروس عمله البديهي، كما عمله في شعر المتنبي والشريف وبيرون ولامرتين، وإنما كان يعمل عمله دون أن يلغي العيون والآذان، ودون أن يلغي الأذواق والأذهان، وعلى هذا ينبغي أن يمضي في عمله سواء ظهر فرويد، أو لم يظهر في عالم الوجود؛ لأن فرويد لم يخلقه في طبائع الناس حتى يخلفه خلق جديد لم يكن معلومًا قبل مئات السنين، فقصارى ما في الأمر أنه سماه وفسر معناه، وترك العيون تنظر كما كانت تنظر، والآذان تسمع كما كانت تسمع، والأجسام البشرية تغدو وتروح كما كانت تغدو وتروح.
فالرمزية سليمة في حدودها الأولى، وهي حدود الاعتراف بالخفايا والأسرار، ولكنها دعوة مريضة عوجاء حين تنكر الوضوح؛ لأنه وضوح وكفى، وتشيد بالتعمية؛ لأنها تعمية وكفى.
وميزان الصدق في هذا المذهب أن يكون الرمز ضرورة لا اختيار فيها، فأنت تفصح حتى يعيبك الإفصاح فتعمد إلى الرمز والإيحاء لتقريب المعنى البعيد لا لإبعاد المعنى القريب، والأصل في الإبانة عن الذهن أو النفس أن يحاول المبين جهده توضيح معناه حتى تعييه العبارة فيلجأ إلى الإشارة، فلا يكتب بالهيروغليفية ما يقدر على كتابته بالحروف الأبجدية، ولا يؤثر الكتابة وهو قادر على التصريح.
أما من يقول بنقيض ذلك، فليس عنده في الحقيقة ما يقول، وإنما هو مزيج من الببغاوات والدجالين يلفظ بالكلام ولا يفقه معناه، ويخلط الحق بالباطل على النحو الذي قدمناه.