الرحمة قوة
أصحيح ما يقال: إن الرحمة من أخلاق الضعفاء، وإنها أبعد الصفات عن الأقوياء، وإن الإنسان كلما ازداد قوة ازداد قسوة؟ فهل تتفضل يا سيدي بالإجابة على سؤالي هذا؟
•••
وجوابي على سؤال الأستاذ الفاضل أن الرحمة قوة وليست بضعف؛ لأن الرحيم يعطي من فيض نفسه من يحتاجون إلى رحمة، ولا تملك النفس فيضًا تعطيه إلا وهي ممتلئةٌ تستغني عن جزء من ذخيرتها لإسعاف غيرها، وليس هذا من شيمة الضعفاء.
والرحمة كلاءة ورعاية، ومن يكلأ غيره ويرعاه فليس هو بالضعيف.
وينبغي أن نرجع إلى الطبيعة؛ لنعلم ما هو طبيعي.
ينبغي أن نرجع إلى الطبيعة لنعلم الخلق الأصيل، والخلق الذي هو عاهة طارئة أو نقص كمين.
والطبيعة تقول لنا: إن الرحمة ركن من أركانها في أداء غرض من أهم أغراضها، بل هو أهم أغراضها على الإطلاق، وهو حفظ النوع وتجديده، وتعهد الأبناء الصغار إلى يوم استغنائهم عن معونة الأولياء الكبار.
فكل والد رحيم بغير اختياره: رحيم باختيار الخالق الذي خلقه وسخره لحفظ نوعه.
وكيف يقال: إن الطبيعة تعتمد على الضعف في طلب البقاء؟ أو تعتمد على الضعف في غريزة أصيلة يوشك أن يتلاقى فيها الإنسان وسائر الأحياء، ممن صعد ولو قليلًا على سلم الارتقاء؟
لو قلنا: إن القسوة عجز وليست بقوة لما أخطأنا الدليل على ذلك من طبائع الأحياء التي عهدت فيها الضراوة، وخلت طبائعها من الرحمة وما يماثلها.
فإن الوحوش المشهورة بالقسوة لا تعرف وسيلة غير البطش والضراوة لتحصيل العيش ومكافحة الأعداء، وكل بطش فهو إلى القوة الآلية أقرب منه إلى الخصال النفسية والملكات العقلية، فالفرق يسير بين صدمة الحجر وضربة الوحش من هياجه، فهي — أي القسوة — أدنى الوسائل التي لا وسيلة دونها، ثم تترقى وسائل الأحياء درجة بعد درجة حتى يكون استغناؤها عن القسوة بمقدار ارتقائها في تلك الدرجات.
ومن ثم يصح أن يقال: إن القسوة عجز وفقدان وسيلة، وإنها من البدائيات التي يوشك أن تلحق بالآلة والجماد.
فالإنسان يقسو لأنه عاجز عن الرحمة، ولا يناقض قولنا هذا قول المتنبي:
فإن بيت المتنبي معناه أن الظلم أيسر الوسائل وأقربها: أيسرها لمن لا يتيسر له ما هو أصعب منها، وهذا هو بعينه ما نذهب إليه حين نقول: إن القادر على الصعب لا يهبط إلى ما دونه، وإن القادر على الرحمة مستغنٍ عن التقتيل والتخويف.
إن الماء لا يحتاج إلى تدبير وإتقان لينحدر من الأعلى إلى الأسفل.
ذلك هو أيسر الطرق أمامه وأقربها إليه؛ ولكنه محتاج إلى التدبير والإتقان ليصعد من الأسفل إلى الأعلى.
فالظلم كانحدار الماء، قريب؛ والرحمة كارتفاع الماء، صعب، ولكنه أدل على الاقتدار.
•••
ومن آيات الطبيعة التي نستفيدها منها في هذا المعنى أن الرحمة تزداد في الأحياء، كلما ازداد الشبه بينها وبين الإنسان في الغريزة الاجتماعية.
فالرحمة معروفة بين الحيوانات الاجتماعية في العلاقة بين والدها ومولودها، وفي العلاقات بين الفرد منها وسائر أفرادها، وفي العلاقات بينها وبين الآدميين.
ومؤدى هذا أن الرحمة وغريزة الاجتماع متلازمتان، فكيف تكون مرضًا وهي أصل من أصول الأخلاق الاجتماعية؟ وكيف يتركب في البنية ما هو مرض، أو انحراف مناقض لأساس التكوين؟
على أننا خلقاء أن نميز بين الرحمة وبين الاضطراب الجسدي، الذي يعجز صاحبه عن احتمال المؤلمات والمشقات، فيخور ويبكي حين يرى ما يؤلم أو يتعرض لما يشق عليه، وليس من الضروري مع هذا أن يرحم المتألم أو يعينه أو ينفعه بعطفه، وإنما هو عجز عن احتمال الآلام المشهورة كالعجز عن احتمال الآلام المشهودة، كالعجز عن احتمال الهواء والاضطلاع بالمتاعب، وبين الرحمة وهذا النقص بون بعيد.
إن المرأة الهستيرية التي يغشى عليها حين ترى جريحًا يتألم، ليست بأرحم لذلك الجريح من الطبيب الذي يفتح جراحه ويزيده ألمًا على ألمه.
فالذين يزعمون أن الرحمة ضعف أو مرض، إنما يلتبس عليهم الأمر بين هذه الحالة الهستيرية التي هي ضعف، وبين الرحمة التي هي قوة؛ لأنها حماية لضعف الآخرين.
وإن الرجل الذي يبطش بالضعفاء لأقوى من الضعفاء، ولكن أقوى منه وأرجل منه، وأرفع منه ذلك الرجل الذي يغلب الأقوياء؛ لينقذ الضعفاء من أيديهم، ويريهم قوة أكبر من قوتهم؛ لأنها لا تكتفي بالقسوة على الضعيف، ولا تحجم عن زجر القوي، وزجره أحوج إلى القوة وأدل على الاستغناء.
نعم، وأرجل منه من يعول كل الرجال عليه، ومن يبسط جناحيه على كل من حواليه.
•••
وآية أخرى من آيات الطبيعة في هذا المعنى أنك لا تجد مزدريًا بالرحمة إلا وهو محتاج إلى رحمة الرحماء.
«فردريك نيتشه»: رسول القسوة وأكبر الناعين على الرحمة في العصور الحديثة، قد عاش سنوات ولا سند له في الحياة غير رحمة امرأة عجوز، وهي أمه.
وروي عن الوزير ابن الزيات أنه كان يقول: «إن الرحمة خور في الطبيعة.»
فلما نكب وعذب بالتنور الذي كان يعذب به الناس، إذ به يرثي لنفسه ويستدعي الرثاء لها، ويجري في ضعفه أمثولة لمن يسترحمون الأقوياء والضعفاء، و«لم يزل — كما جاء في الطبري — أيامًا في حبسه مطلقًا، ثم أمر بتقييده فقيد وامتنع عن الطعام، وكان لا يذوق شيئًا، وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير … وكان قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول: يا محمد يا ابن عبد الملك! لم تقنعك النعمة الفُرْه، والدار النظيفة، والكسوة الفاخرة، وأنت في عافية، حتى طلبت الوزارة! ذق ما عملت بنفسك …»
ومن شوهد عليهم من القساة أنهم كانوا أصلب من ذلك عودًا وأخشن مسًّا، وأقرب إلى التمرُّد والعتو والأنفة من الشكوى، فكثيرًا ما يكون تمرُّدهم ضربًا من التخبط، أو عرضًا من أعراض التشنج، أو ثورة عصبية، هي مرض لا شك فيه كمرض الخنوع والولع بالشكاية، وإن اختلف مظهرها كاختلاف النقيضين.
فالذي نراه من المشاهدات الطبيعية أن القسوة هي العجز والمرض والنقصان، وأن الرحمة هي القدرة والفضل والزيادة.
فالرحيم عنده ما يكفيه ويزيد على كفايته حتى يكفي غيره، ويتناوله بالعناية والحماية!
والقاسي عنده من القوة ما يغلب به الضعيف، فهو في الدرجة التالية من الضعف ليس دونه في مراتب القوة إلا فاقد القوة والعاجز عن كبحها.
وهذا بلا ريب غير قسوة الرحمة التي يقول فيها حكيم الشعر العربي:
فالرحيم الذي يقسو هنا لينفع بقسوته من لا تنفعهم رحمته، إنما هو أرحم وأقدر على الرحمة؛ لأن رحمته لا تغلبه ولا تقوده غير واعٍ ولا متدبر، حتى يصنع باسم الرحمة ما هو نقيضها، أو ما هو قسوة معيبة فيما تنتهي إليه من الإيذاء.
وكفى بالرحمة أنها فتح إنساني في عالم الحياة، ترقى إليها الإنسان وحده بين المخلوقات الحية، وشابهته فيها بمقدار ما صعدت بهم الطبيعة في مرتقاه.