السعادة
«أرسل إليَّ أحد الأدباء مقالًا عن السعادة، وسألني أن أروي ظمأه وأرشده إلى الحق إن كان قد حاد عن سبيله.»
•••
وخلاصة مقال الأديب أن السعادة وهم ليس له وجود، وأن بعض الأشقياء مطبوعون على الشقاء، فهم به سعداء، وأن كل ما يقال عن السعادة إعادة لما قيل.
ويسألني الأديب بعد ذلك ماذا أقول؟
فلا أدري هل سأعيد قديمًا بما أنا قائل في هذه الصحيفة، أو أنني مسوِّغ هذه الإعادة بتصوير طريف!
ولكني لا أحسب الكاتب مطالبًا باختراع الآراء التي لم يُسبق إليها، ولا أرى عليه من غضاضة أن يبدي رأيًا تقدم أصحاب الآراء بإبداء مثله، وإنما الشرط أن يصدر عن تجربة، وأن يروى عن خبرة، وأن يكون لكلامه لونٌ من نفسه وحسه وتفكيره، ولا عليه بعد ذلك أن يتشابه ما يقول وما كان قد قيل.
والسعادة في رأيي لا استحالة فيها إلا كالاستحالة في كل مطلب من مطالب هذه الدنيا.
فأنت إذا أردت كسوة جميلة في نسجها ولونها، وتفصيلها وثمنها ومتانتها، فأنت واجدها حيث توجد الكثيرات من أمثالها.
أما إذا أردت كسوة هي المثل الأعلى الذي لا يعلى عليه، ولا يجارى في جمال النسج وجمال اللون وجمال التفصيل، وسهولة الثمن وطول البقاء، فقد أردت المستحيل؛ لأنك أردت المثل الأعلى الذي ليس له مثيل، وهو بطبيعته فوق ما ينال.
والسعادة إن أردتها سعادة لحظات أو سعادة لذات معهودات، فأنت واجدها لا محالة في وقت من الأوقات.
أما إن أردتها سعادة العمر أو سعادةً في كل شيء لا نظير له، ولا انقطاع لها، فتلك هي الاستحالة التي لا تنفرد بها السعادة، ولا فرق بين تعذرها وتعذر كل مطلوب على تلك الشريطة.
فليست السعادة بوهم، وليست الكسوة بوهم، وليست اللقمة السائغة بوهم، ولكن اللقمة السائغة من رخصها وخجل بعض الناس من المقابلة بينها وبين السعادة تساوي السعادة الكبرى في استحالتها إذا أنت خرجت بها من عالم المعهود، وارتفعت بها إلى عالم الأحلام المأمول.
لأن الاستحالة من طبيعة الأحلام، وما من حلم يتحقق إلا بطلت تسميته بالحلم، وانتقل إلى المحسوسات والمدركات.
فالسعادة طبقات وأصناف: والصنف الرخيص منها موجود وموفور ومبذول، والطبقة القريبة منها على متناول الباع الطويل والباع القصير.
فإذا قيل: إن أصنافًا منها لا تبذل ولا تتوافر، فكذلك الصنف الغالي من كل شيء، حتى العدس والقطن والورق والتفاح.
وإذا قيل: إن الطبقات العالية منها لا تنال أو لا تنال في كل حين، ولا ينالها كل إنسان، فكذلك كل طبقة رفيعة من كل سلعة وكل ثمرة وكل موجود.
هناك لحظات سعيدة في الحياة، فهناك إذن سعادة لا مراء.
ولكن ليس في الدنيا أناس سعداء؛ لأن السعادة الملازمة للإنسان في كل حالة وكل مطلب هي المثل الأعلى، وهي الحلم، وهي الغاية التي لا تدرك، والبغية التي لا تنال.
وما هي السعادة بعد هذا؟
هل هي من عالم السكينة أو من عالم الحركة؟ وهل السعيد من لا يتحرك، أو السعيد من لا يسكن؟
هي هذا وذاك …!
فللسكينة سعادتها وللحركة سعادتها، ولكنهما لا تتشابهان:
سعادة السكينة رضًا وارتياح خاليان من الشوق والطموح، وسعادة الحركة تقدم ونجاح خاليان من القناعة والاكتفاء.
ومن يبغ هذه لا يبغ تلك، ومن طلبهما فليطلبهما متفرقين في زمنين مختلفين؛ لأنهما لا تجتمعان.
وما لنا لا نقول: إن المثل الأدنى في التعاسة نادر كالمثل الأعلى في السعادة.
فأشقى الأشقياء وأسعد السعداء في الدنيا اثنان متكافئان متعادلان، ولعلهما لا يوجدان!
ولو خرج أحد من الرحالين ليجوب أقطار الأرض باحثًا عن أشقى شقي، للزمه من الوقت والعناء قريب مما يلزمه في بحثه عن أسعد السعداء.
فلا يقل حانق على السعادة: إنها مستحيلة في هذه الدنيا؛ لأن استحالتها من جنس كل استحالة؛ ولأن يسرها من جنس كل يسر؛ ولأن الفرق بين المثل الأعلى والمثل السائر فيها كالفرق بينهما في أكلة أو لبسة أو رشفة، أو ما شئت من متع الحياة.
وهي ليست — بعد — شيئًا واحدًا كتلك الجوهرة المكنونة التي يحكون عنها في الأساطير، ويتخيلونها في كل يد تعثر بها على استواء، لا فارق بين يد العبد ويد السيد، ولا بين يد الجاهل ويد الخبير.
وإنما السعادة سعادات: سعادة هذا شقاوة ذاك، وسعادة إنسان في حين من الأحيان شقاوة له في غير ذلك الحين.
أتسألني عن السعادة المطلقة بالقياس إلى كل إنسان وإلى كل حين؟
تلك ليس لها وجود؛ وكذلك كل شيء مطلق من القيود والملابسات في عالم القصور والفناء.
•••
ولنعلم أن اختلاف الناس في أمر السعادة إنما هو اختلاف شعور قبل أن يكون اختلافًا في الرأي والنظر.
فهم يشعرون بالسعادة على اختلاف، وإن فكروا فيها على اتفاق؛ وهم يختلفون في شعورهم بين عمر وعمر، وبين حالة وحالة، كاختلافهم في كل ما يحبون وكل ما يكرهون.
وأرجع إلى نفسي، فأراني قد شعرت بالسعادة على وجوه قلما تتماثل في بضع سنوات:
في الشباب كنت أقول لها:
تلك دالة الشباب … يحسب أن السعادة خليقة أن تسعى إليه، وأنه إذا أومأ إليها بيده فلم تبادر إلى لقائه، فقد أسرفت عليه في الدلال، واستوجبت منه الإعراض والملال.
وبعد حين كنت أحسب السعادة في النسيان فأقول:
وتلك هي مرحلة التجربة الأولى في انتظار التجربة الثانية، فأما التجربة الأولى فهي تجربة الفتور الذي يعقب الإلحاح الباكر: إلحاح الشباب في الآمال.
وأما التجربة الثانية، فهي التي تعقب ذلك الفتور أو تلك الراحة، من نشاط ووثوب.
ثم جاءت فترة أخرى فحسبت السعادة في الخطر:
وهذه هي الفترة التي كنت أرى فيها الراحة حظًّا للوضيع، والتعب قسمة مفروضة على العظيم.
ثم تكاملت عواطف النفس فتاقت إلى نصيبها من المجاوبة الناضجة والمقابلة المستوفاة، وأيقنت أن السعادة مشهود لا يرى بعينين اثنتين، بل بأربع أعين، وعاطفة لا يحسها قلب واحد بل قلبان متفقان، فمن رامها بعينين وقلب فكأنما يرومها شطرًا مسلوخًا من جسم ميت؛ لأن الأجسام الحية لا تعيش شطرين.
والتقيت بالزهاوي — رحمه الله — وأنا أومن بأن السعادة حقيقة وليست بأكذوبة، فلما قال الأستاذ الزهاوي: لا سرور في الحياة ولا لذة، وإنما اللذة عدم الألم، قلت: هذا كقولنا: إن الحياة عدم الموت، والأولى أن تعكس القضية فيقال: إن الموت عدم الحياة.
قال: ولم تقرن اللذة بالحياة وتجعل لهذه حكم تلك في القياس؟
قلت: إن الحياة قوة إيجابية لا قوة سلبية، وكذلك الشعور بما يوافقها هو قوة إيجابية من نوعها، وليس امتناع قوة أو عدمها؟
والآن؟
تسألني ما قولك الآن؟!
قولي الآن: إنني أعرف السعادة من وجهها ومن قفاها وفي صدقها وفي ريائها؛ ولكنني أقاربها وأنا مشفق من عواقبها؛ إذ أنا على يقين من كشف الحساب الذي يعقب كل نشوة من نشواتها، وكشف الحساب هذا عملة مسكوكة من المحظورات والمخاوف والشكوك، وهي العملة التي تشترى بها السعادة على اختلاف أصنافها وطبقاتها، فعلى قدر السعادة يكون الثمن، وعلى قدر النشوة يكون الحذر والألم والتنغيص!
ولا أكتفي مع هذا بأن أقول: إن الخوف لازم لأداء ثمن السعادة، بل أزيد عليه أن الخوف لازم لمعرفتها، ولو بذلت لك بذل السماح، وإن الخوف حافز إليها يغريك بنشدانها، فمن لم يخف لم يسعد، وليس بالعالم الذي لا خوف فيه حاجة إلى السعادة!