التلباثي (١)
سألني أحد الأدباء أن أشرح «التلباثي» الذي ورد في كتاب عبقرية عمر.
•••
والإشارة إلى التلباثي في كتاب «عبقرية عمر» قد جاءت في سياق الكلام على قصة سارية، حيث روينا أنه «كان — رضي الله عنه — يخطب بالمدينة خطبة الجمعة، فالتفت من الخطبة ونادى: يا سارية بن حصن … الجبل الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.»
«فلم يفهم السامعون مراده، وقضى صلاته فسأله عليٌّ رضي الله عنه: ما هذا الذي ناديت به؟ قال: أوَسمعته؟ قال: نعم، أنا وكل من في المسجد، فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج مني هذا الكلام.»
وإنه «جاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتًا يشبه صوت عمر يقول: يا سارية بن حصن … الجبل الجبل! فعدلنا إليه ففتح الله علينا.»
ثم عقبنا على القصة قائلين: «إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهورًا بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية؛ إما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد.»
وهذه — كما هو ظاهر — حالة من حالات التلباثي، التي يسأل عنها الأديب صاحب الكتاب الذي اقتبسنا منه ما تقدم.
هذه التجارب يقول بها ويسجلها، ويعلنها في الكتب السيارة رجل قلنا: إنه لا يقصد من كلامه تبشيرًا بعقيدة أو خدمة لمذهب اجتماعي؛ لأن مذهبه الاجتماعي يقوم على «الفهم المادي» للتاريخ، ولا يحوجه إلى التبشير بهذه الهبات النفسية، بل لعله ينفره منها ويحبب إليه السكوت عنها.
واعتقادنا في «التلباثي» أنه هبة نفسية جائزة لا تناقض العقل، ولا يمنعها العلم بدليل.
لأنها تستند إلى الحس، ولا فرق بينها وبين هبات الحس التي نباشرها كل يوم إلا في طول المسافة، وهو فرق اعتباري غير قاطع بين حالة وحالة، إذ من ذا الذي يستطيع أن يقول: إن الحس ينتهي عند هذه المسافة، ولا يجوز عقلًا أن يتعداها ويذهب إلى ما وراءها!
إننا نرى كل يوم في العصر الحاضر أن صوتًا يصدر من أمريكا أو اليابان، ويسمع في مصر كما يسمع فيها حديث الجلساء، ولولا المذياع لعددنا من يزعم هذا الزعم ممخرقًا يعبث بعقول سامعيه.
فإذا جاز سماع الصوت على هذه المسافات الشاسعة بجهاز من الأجهزة المصنوعة، فلماذا يمتنع على قوي الذهن أو قوي الشعور أن تحس على هذه المسافة، أو تتصل بنفس أخرى وذهن آخر متى تهيأت لها أسباب اتصال؟
فالتصديق بالتلباثي لا يدعونا إلى اختراع حس جديد أو ملكة غيبية من وراء الطبيعة، ولكنه يدعونا إلى تصديق هذا الحس الذي نباشره كل يوم في مختلف شئون الحياة، مع السماح له بالامتداد والتكبير، وهما غير ممنوعين ولا مناقضين للمعقول أو المشهود.
والحس نفسه لا يقل في غرابته عن «التلباثي»، كما يقول بها أشد الغلاة المؤمنين بها من النفسانيين.
فأنت تفتح عينيك فترى.
شيء بسيط جدًّا في حسابنا، بل هو أبسط شيء يخطر على بالنا … افتح عينيك تر! … أي شيء أبسط من ذلك وأبعد من الغرابة؟
نعم هو كذلك؛ لأننا نعالجه ونرى الألوف ممن يعالجونه كل لحظة، ولا يخطر لنا أننا نأتي بشيء غريب.
ولكننا إذا رجعنا إلى أنفسنا فسألناها: ما هي الرؤية؟ وما هو معنى القوة العجيبة التي تحيط بشيء على مسافة منك، وتعرف ما لونه وما شكله وما أثره وما حركاته وسكناته، ولا صلة بينك وبينه إلا الضياء؟
نسأل أنفسنا في هذا ونفكر مليًّا في معناه فنستغرب النظر من قريب، كما نستغرب النظر من بعيد، ونعلم أن معجزة الحس حاصلة قبل أن نسمع بالتلباثي والتليفزيون وما إليها من وسائل الإحساس.
وما قربنا المسألة حين نقول: إننا ننقل الأشياء إلى حسنا بالنظر؛ لأن بيننا وبينها الضياء، إذ ما هو الضياء؟
ولماذا يكون حتمًا لزامًا متى وجد الضياء أن يكون هناك نظر، وأن يكون النظر على نحو ما وعيناه؟
فالتلباثي غريبة جدًّا من تنسيه الألفة اليومية غرابة النظر والسمع والذوق وسائر المحسوسات.
والتلباثي جائزة جدًّا عند من علم أن النظر جائز، ثم سأل نفسه في معنى هذا الجواز.
وأحسب أن الكثيرين من القراء قد جربوا هبة التلباثي كما جربتها، ووقفوا منها على مبادئ تدل على نهايتها القصوى، إن لم يكتب لهم أن يملكوا هذه الهبة على أقصاها.
فإنني لا أقول بجواز التلباثي معتمدًا على العقل والقياس دون التجربة والمشاهدة، ولكنني أقول بذلك لأنني «جربت» بعض الوقائع التي تقربني من تصديق «التلباثي»، وتنفي الغرابة عنه أو تنفي استحالته على أيسر تقدير.
يحدث مرات أن أذكر إنسانًا بعد سهو طويل عنه، فإذا هو ماثل أمامي في اللحظة التي ذكرته فيها.
ولو كان هذا الإنسان صاحبًا، يعاودني التفكير فيه حينًا بعد حين لقلت الغرابة في تذكره ولو بعد السهو الطويل.
ولو كان المكان الذي ذكرته فيه متصلًا بإقامته أو بالمقابلات بيني وبينه لقلت الغرابة كذلك في إثارة ذلك المكان لذكراه.
ولكنه لا يكون أحيانًا ممن طالت الصحبة بيني وبينه، ولا يكون الموضع الذي أذكرني به موضعًا تقابلنا فيه قبل ذلك، أو تحدثنا به يومًا من الأيام. وكل ما هنالك أنه إنسان جمعت بيني وبينه المصادفات فترة من الزمن، ثم انطوت عني أخباره سنوات لا أراه ولا يعرض لي ما يدعوني أن أشتاق إلى رؤيته، ثم يمر بخاطري فما هو إلا أن أثبته وأستعيد ذكره حتى أراه في عرض الطريق.
ويحدث مرات أن يتولاني انقباض شديد تتخلله صورة إنسان عزيز يكرثني جدًّا أن يصاب بمكروه، ويلج بي هذا الانقباض حتى كأنما الذي أخشاه قد وقع أو هو مرقوب الوقوع، فأبادر بالكتابة من طريق البرق أو البريد، ويحدث في هذه الحالة أن يجيئني خطاب قبل وصول سؤالي إلى وجهته يدعو إلى الطمأنينة، أو يرد إليَّ الجواب بعد قليل وفيه إشارة إلى خطر زال.
وأحسب أن هذه العوارض أشيع من أن تحصى في عداد النوادر والفلتات، فقد سمعت ما يشبهها من بعض الأصدقاء المصدقين، وقد أخبرني بعضهم بقلقه على غائب يعزه وهو لا يعرف سببًا واضحًا للقلق الذي يساوره حتى فاتح فيه غيره، ثم تبين أنه لم يقلق يومئذ بغير داعٍ معقول.
إلا أن النوادر والفلتات في التلباثي هي العوارض التي تشبه قصة سارية فيما روي عن عمر بن الخطاب.
فالذين يشعرون على البعد بمثل هذه القوة والوضوح قليلون، ولكن المسألة — بعد — مسألة فرق في القوة والوضوح، وليست بفرق في أساس الشعور يماثل الفرق بين من يبصر ومن لا يبصر، وبين من يسمع ومن ليست له أذن للسمع، وبين من يحس ومن ليست له قابلية للإحساس.
فالشعور على البعد كالشعور على القرب جائزان، ووسيلة الشعور على البعد ليست بأصعب من وسيلة الشعور على القرب بالعيون والآذان، وإن كنا لا نستغرب هذه كما نستغرب تلك لطول الألفة وتكرار المشاهدة بين جميع الأحياء.
وحدُّ التصديق عندي لهذه العوارض هو وجود الأساس الذي تعتمد عليه.
فإذا كان كل ما في الأمر أنه تكبير للحس الذي تعودناه، أو مضاعفة له وتقريب لأبعاده ومسافاته فلا مانع من صدقه، وإذا كان في الدعوى ما يحوجنا إلى فروض لا أساس لها من المشاهدات والمعقولات، فهنالك موضوع للتردد والاشتباه.
وعلى هذا أقبل دعوى التنويم المغناطيسي — مثلًا — إذا ادعى النائم أنه يبصر شيئًا موجودًا على مسافات بعيدة، ولكني لا أقبل منه هذه الدعوى إذا تعدى ذلك بما سيكون بعد عام أو بعد شهر أو بعد يوم، وليس له وجود قائم الآن.
وكذلك أقبل دعوى الشعور البعيد، أو النظر البعيد إذا كان بمثابة السمع المضاعف أو البصر المضاعف؛ لأن امتناع ذلك يحتاج إلى مانع قاطع، ولا سبيل إلى القطع فيه؛ ولأن القول بجوازه لا يتعدى كثيرًا أن نقول بجواز رؤية العيون وسماع الآذان.
وينبغي للعقل أن يتمهل في قول «لا» كما يتمهل في قول «نعم» كلما سمع بما يشككه ولا يوافق معهوده، فإن العقل ليكون خرافيًّا بقول «لا» في غير موضعها كما يكون خرافيًّا بقول: «نعم» في غير موضعها؛ وإنما هذه خرافة تثبت بالباطل، وتلك خرافة تنفى بالباطل، ولا فرق في الباطل بين نفي وإثبات.
الشعور على البعد جائز ما جازت الصلة بين الإنسان وموضوع شعوره، وقد رأينا أن هذه الصلة لا تنقطع في طريق صوت كالهمس على مسافات الألوف من الفراسخ والأميال، فقبل أن ننفي الصلة بين نفسين ينبغي أن نتمهل طويلًا حتى نوقن من وجه الاستحالة والامتناع؛ ولن يكون هذا اليقين إلا ببرهان قاطع، والقول بهذا البرهان القاطع قبل أن يوجد ويتقرر هو أجرأ على العلم والعقل من التصديق بغير برهان اعتمادًا على المروي والمشاع.