هل تصبح مصر اشتراكية؟
الاشتراكية في الواقع اشتراكيات متعددة وليست باشتراكية واحدة، والاشتراكيون جملة هم أكثر الناس اختلافًا على تفاصيل مذهبهم وأكثرهم اتهامًا لمن يخالفونهم، فيكفي أن يتصرف بعضهم في نصوص المذهب بعض التصرف ليقال: إنه «دسيسة» من أصحاب رءوس الأموال، وأنه يرمي من وراء مخالفته إلى غرض ينتفع به على حساب الحركة! ومنهم من يعتبر تشويه سمعة المخالفين — بالحق أو بالباطل — واجبًا محتومًا يفرضه الدعاة على أنفسهم، وفي مقدمتهم زعيم الاشتراكية الأكبر «كارل ماركس» الذي يدين له الشيوعيون بالولاء.
لكنك على كثرة المذاهب الاشتراكية، وكثرة التهم التي يتقاذفها المختلفون عليها تستطيع أن تقسمها جميعًا إلى معسكرين اثنين يدور بينهما أكبر الخلاف، وهما المعسكر الذي يوافق الديمقراطية والمعسكر الذي يحاربها ولا يوافقها بحال من الأحوال.
فالاشتراكية التي تحارب الديمقراطية وتسعى إلى هدمها هي مذهب كارل ماركس ومن والاه، ولا بد فيها من عناصر ثلاثة، لا تقوم بغيرها، وهي الإيمان بالتفسير المادي للتاريخ وتغليب طبقة واحدة على المجتمع كله، واستخدام العنف لا محالة لتعجيل الانقلاب المطلوب … فمن لم يؤمن بالمادية المطلقة في جميع مظاهر الحياة، وبإلغاء جميع الطبقات ما عدا طبقة الأجراء، وضرورة الثورة الدموية لتحقيق المذهب، فليس هو من الماركسيين، وقد يتم التفاهم بينه وبين الديمقراطية على نحو من الأنحاء.
ومصر بعيدة جدًّا عن الاشتراكية الماركسية، وبعيدة على درجات من البعد عن الاشتراكية الديمقراطية.
لأن الاشتراكية — حتى الديمقراطية منها — تستلزم خطوة سابقة لظهورها، وهي الخطوة التي يسمونها بالوعي الاجتماعي أو بوعي الطبقات، ومعنى هذا الوعي أن تشعر طبقة الأجراء والصناع خاصة بوجودها، وانعزالها عن سائر الطبقات الاجتماعية الأخرى، ولا يتفق ظهور هذا الوعي إلا بعد شيوع الصناعات، وازدحام المدن بجماعات الصناع، وتعاقب بينهم وبين أصحاب الأموال.
ومصر لم تعرف وعي الطبقات على هذا المعنى، ولم يبد من بوادره فيها إلا أثر ضعيف لا يعتمد عليه في توجيه الحركات الاجتماعية.
فالعاملون في الزراعة لا تتألف منهم وحدة كالوحدة التي تتألف من ألوف العمال الذين يشتغلون في مصنع واحد ومدينة واحدة، ولا يندر في الريف المصري أن يكون العامل في الأرض من أبناء عمومة المالك الكبير أو من ذوي قرباه، ومعظمهم يعتزون بنسبهم هذا أكثر من اعتزازهم بعصبية الطبقة الفقيرة، التي لا يحسبون أنفسهم منها، وإن كانوا فقراء.
والعاملون في المدن لا تتألف منهم تلك الوحدة القوية التي توجد مع الصناعات الكبرى، واتصال تلك الصناعات بمرافق الأمة بأسرها، وقد ظهرت بينهم البوادر التي لم تظهر بعد بين عمال الزراعة، فهم يشعرون بطبقتهم ويبحثون عن حقوقهم، ولكنهم لم ينتظموا في حركتهم على النحو الذي يهيئ لهم ولاية الحكم أو المشاركة فيه.
إذن نحن في مصر بعيدون عن الاشتراكية الماركسية، وبعيدون شيئًا ما عن الاشتراكية الديمقراطية.
ولكن لا تنس مع هذا أن الاشتراكية تجيء إلينا إذا جلسنا في أماكننا وانتظرناها، ولا نعرف طريقها إذا نحن سبقناها إلى منتصف الطريق.
فبعد الحرب الحاضرة لن تبقى أمة واحدة على وجه الأرض بغير تسوية مشروعة بين العمال وأصحاب الأموال، وستفرض هذه التسوية فرضًا بالنظم الدولية التي تقرها كبار الأمم وتتفق على تنفيذها، وربما كان إنصاف العمال شرطًا من شروط الانتظام في جماعات أمم الحضارة، كما كان الاعتراف بالنقابات شرطًا من شروط الدستور الذي قامت عليه عصبة الأمم بعد الحرب الماضية.
وخير لنا أن نفرض هذا الإنصاف على أنفسنا قبل أن تفرضه النظم الدولية علينا.
فإن لم يكن ذلك فإن تعميمه بالنظم الدولية أنفع لنا من التفرد بين الأمم بتجاهل مطالب العمال، والإغضاء عن حقوق العمل في صوره المختلفة؛ لأن هبوط مستوى المعيشة بين الطبقة العاملة في بلادنا يسوق إلينا الأموال الأجنبية، التي يطمع أصحابها في استغلال مرافقنا، لرخص الأجور عندنا.
فعلينا إذن أن نسبق الاشتراكية إلى منتصف الطريق، وإلا جاءتنا الاشتراكية، وفتحت أبوابنا على الرغم منا.
ونعني بسبق الاشتراكية إلى منتصف الطريق أن نؤمن بتعاون الطبقات، فنقضي على حرب الطبقات قبل احتدامها.
ولا بد من تعقل الأغنياء هنا في مواجهة الحقيقة، بل لا بد من فرض هذا التعقل على جهلائهم بهداية الزعماء الذين يعرفون الخطر قبل وقوعه، ويعطون الحق قبل أن يغصبوا عليه.
ومن آيات هذا التعقل أن يقبل أصحاب الأموال زيادة الضرائب على ثرواتهم الكبيرة لنشر التعليم، وتحسين الصحة العامة، وضمان العيش للشيوخ والعجزة، وضمان التربية وسلامة البنية للأطفال الصغار المحرومين من العائلين.
ومن آيات هذا التعقل أن يتبرع الأغنياء بالأموال لبناء المستشفيات والملاجئ والمدارس الشعبية، وإقامة المصانع وإصلاح الأرض البور تيسيرًا لوسائل العمل، وتوفيرًا للسلع والخيرات، فلا يكون قصاراهم من خدمة المجتمع أن يرضخوا من الضرائب طائعين أو كارهين.
وفي اعتقادنا أن الأمم تستطيع أن تحول الحركة — حركة الاشتراكية — عن مجراها الذي رسمه لها كارل ماركس، إذا هي قضت من البداية على حرب الطبقات بتعاون الطبقات.
وكارل ماركس يزعم أن هذا التعاون مستحيل؛ لأنه يؤمن بالضرورة المادية ولا يصدق أن أصحاب الأموال يتعقلون، أو ينزلون عن جزء من أرباحهم — ولو يسير — بغير الاضطرار والإكراه.
ولكن التجربة الإنجليزية والتجربة الأمريكية تدلان كلتاهما على إمكان التعاون بين الطبقات في ظرف من الظروف.
ونحن على أيقن اليقين أن الإنجليز والأمريكيين يقيمون إنصاف الطبقات اليوم على أساس أعدل وأبقى من الأساس الذي يقام عليه في بلاد الشيوعيين.
ولولا أن نبوءات الغيب مجازفة لا يضبطها الحساب في كل حين لقلنا: إن الروسيا ستكون بعد عشرين أو ثلاثين سنة أقل البلاد الاشتراكية في القارة الأوروبية؛ لأنها ستحتاج إلى خلق الطبقات التي أخذت منذ اليوم تتدرب على التعاون في الأقطار الأخرى، وستحتاج أن تتعلم من تلك الأقطار دروسًا في الوعي الاجتماعي الجديد، بعد أن قصرته على طبقة واحدة تحارب كل من عداها.
والتجارب الإنجليزية والأمريكية — ومثلها تجارب الدانمارك والسكندناف — توفق بين طبائع الأفراد وطبائع الأمم ومبادئ الحرية العامة في نظام معقول ضحاياه أقل كثيرًا من ضحايا الانقلاب الشيوعي حيث كان وكيفما كان.
لأن التنافس لازم لاستنهاض همم الأفراد إلى طلب الكمال، والتعاون لازم لتحقيق المصلحة العامة، ومبادئ الحرية هي الفارق بين الإنسان والحيوان الذي يقنع بالمعيشة المادية، كما يعيش القطعان في الحظيرة، أو على أحسن الأحوال كما يعيش المذنبون في السجون.
ونظام الديمقراطية كما يطبق الآن — وبعد الآن — في تلك البلاد الأوروبية يسمح للأفراد بالتنافس، ويعطي المجتمع حقوقه النافعة، ولا يجور على مبادئ الحرية العزيزة على بني الإنسان.
وفي وسعك أن تقرر — وأنت صادق كل الصدق — أن المرافق الكبرى في تلك البلاد ملك للأمة بأسرها، وأن الأفراد فيها أجراء لا يملكون شيئًا منها؛ لأن صاحب المصنع الذي يعطي الأمة سبعين أو ثمانين — أو تسعين في المائة من أرباحه — لا يتقاضى أكثر من مدير موظف يستأجر لإدارة دفة المصنع على حساب الدولة، ولكنه في ظل النظام القائم يملك همة المنافسة، ونشاط الرغبة الفردية، ويشعر بالحرية ويعمل للجماعة وهو يحسب أنه يعمل لنفسه ويغار عليها.
أما المدير الذي يعمل كالموظف في غير ملكه، فلا يحقق حرية الفرد ولا مصلحة الأمة، ولا يلبث التنافس المعطل فيه وفي غيره أن يبدي عواقبه الوخيمة على مصالح المجتمع ومصالح الأفراد.
هذه الاشتراكية الديمقراطية نتمناها لمصر ولا نخاف عليها منها، ونعتقد أننا سائرون إليها بالقدوة الدولية، وإن لم نمر بأطوارها الصناعية كما مرت بها الأمم من قبلنا، ولكن القدوة الدولية لن تغنينا عن ولاية الأمر بأيدينا كما يوافق مصالحنا وآدابنا وتقاليدنا، ولن تعفينا من السبق الآن إلى لقاء الاشتراكية الديمقراطية، دون أن ننتظرها لنبتلى بتجاربها ونمتحن بمغامراتها.
أما الاشتراكية الشيوعية فلا نرى من دلائل الحاضر أن بلادنا سائرة إليها، بل لا نرى أنها باقية في بلادها إلى أمد طويل، وقد يرى من يعيشون اليوم أن بلادها ستصبح في يوم غير بعيد أقل بلاد الحضارة اشتراكية … أو أقل بلاد الحضارة توفيرًا للعمل وإنصافًا للعمال.