هل الحياة «لوترية»؟
ما هي «اللوترية» قبل كل شيء؟
إن كان الغرض من «اللوترية» أنها مصادفات بغير سبب، فاللوترية نفسها ليست بلوترية على هذا المعنى.
لأنها ليست مصادفات بغير سبب.
ولأن المصادفات شيء لا وجود له في هذا العالم، ولن يكون له وجود.
ولكل خطوة من خطوات «اللوترية» سبب مفهوم.
فلماذا ربحت هذه الورقة ولم تربح الورقات الأخرى؟
لأن الأرقام التي أخرجها دولاب السحب توافق الأرقام التي كتبت من قبل على هذه الورقة.
ولماذا حصل هذا الاتفاق بين الأرقام؟
لأن الرجة التي نشأت من تحريك الدولاب كافية لإخراج هذه الأرقام، وغير كافية لإخراج أرقام غيرها، ولو زادت الرجة قليلًا أو نقصت قليلًا لخرجت منها أرقام غير تلك الأرقام، وكان لهذا الاختلاف سبب معقول لا يرجع إلى المصادفات.
ولماذا كتبت الأرقام على الورقة قبل ذلك؟
إنها لم تكتب مصادفة بغير سبب؛ لأن العدد ٥٥٥٥ لا يقع بعد العدد ٥٥٥٤ وقبل العدد ٥٥٥٦ من باب المصادفة أو الرجم بالغيب، ولكنه واقع هناك بترتيب لا يقبل التقديم والتأخير.
ثم نرجع إلى الورقة نفسها فنسأل: لماذا أصبحت ورقة؟ ولماذا طبعت ووزعت؟ ولماذا اتبع في طبعها وتوزيعها ذلك النظام؟ وكل جواب على كل سؤال من هذه الأسئلة يرينا أنها ورقة كسائر الأوراق، وأنها لم تتحول من إحدى حالاتها إلى الحالة الأخرى إلا لسبب كسائر الأسباب التي تدور عليها حوادث الوجود.
فلا مصادفة في اللوترية.
ولا مصادفة في الحياة.
وغاية ما هنالك أنها ترجع إلى أسباب لا نعرفها، أو لا نسيطر عليها إذا عرفناها.
أما أنها مصادفات لا سبب لها، فذلك غير ممكن وغير معقول.
لكننا نقصد معنى من المعاني حين نقول: إن الحياة لوترية، ويغلب أن يكون المعنى الذي نقصده أنَّ نصيب العاملين في الحياة لا يساوي مجهودهم في جميع الأحوال، فتارة ينقص وتارة يزيد، كما يشتري الإنسان ورقة واحدة بقرش واحد فيربح ألف جنيه، أو يشتري مائة ورقة بمائة قرش فيضيع ثمن ما اشتراه.
وهذه من وقائع الحياة التي لا سبيل إلى نكرانها، فقد يولد المرء غنيًّا، ولا فضل له في غناه، وقد يولد فقيرًا ولا ذنب له في فقره، أو يولد صحيح الجسم وهو لم يعمل قبل ولادته شيئًا يستحق به هذه النعمة، أو يولد سقيمًا عليلًا وهو لم يعمل قبل ولادته شيئًا يستحق به هذه النقمة، وقد يولد في بلاد حرة أو بلاد مستعبدة بغير اختياره، وقد يولد عبقريًّا نافعًا أو غبيًّا لا نفع فيه لأسباب لا تقع في حسبانه ولا حسبان أبويه.
ونهبط من هذه الفوارق الكبيرة إلى فوارق أصغر منها، وأقل منها خطرًا في نتائجها وعوارضها، فيولد المرء في قرية تعوزها وسائل التعليم، أو يولد في العاصمة الكبرى إلى جانب المكتب أو المدرسة، فلا يتساوى حظهما من التعلم، وإن تساويا في الثروة والاستعداد للعلوم.
وقد يولد المرء وينشأ في كنف أبويه إلى أن يستوفي نصيبه من التربية، وقد يحرم أمه أو أباه أو يحرم الوالدين معًا وهو طفل صغير.
هذه وأمثالها فوارق كثيرة نشاهدها في هذه الدنيا كل يوم وبين كل قوم، وهي غير الفوارق الكثيرة التي يتعرض لها الناس بعد المولد، وبعد النشأة الأولى في جميع أدوار الحياة.
ولا شك أنها جميعًا من أكبر المصاعب التي تصادف الإنسان في دنياه، وتضطره إلى العمل لاستدراكها بجهود الأفراد والجماعات.
ولكنها مع هذا لم تخلق بغير حالات فردية أو اجتماعية توازنها، وتصلح آثارها وتتحول بها من الإجحاف إلى الإنصاف.
وليس في وسعنا أن نسرد جميع هذه الموازنات التي نستدرك بها تلك الفوارق والمفارقات.
- أولًا: إن الفوارق لا تحول بيننا وبين السيطرة على جميع الأسباب، وإن حالت بيننا وبين السيطرة على بعض الأسباب، وإن الأسباب التي نسيطر عليها هي التي تفسح أمامنا المجال للكفاح والنضال، وإبراز الفضائل والخصال، فلو كان كل فرد من الناس يؤتى حقه كاملًا من تدبير الطبيعة أو تدبير المجتمع لَمَا بقي للمزايا الفردية عمل يستدعيها ويبرزها، ويبلغ بها إلى تمامها، ولكانت الدنيا أشبه بالملجأ الذي توزع فيه حصص المأكل والمسكن، ولوازم المعيشة بورقة مكتوبة، لا تحتاج إلى عمل ولا مرانة ولا مراس.
- وثانيًا: أن المجتهد لا يفوته نصيبه كله، وإن فاته بعضه قبل أن يناله
بالاجتهاد.
«ولكل مجتهد نصيب.» حكمة صادقة لم تخطئ كل الخطأ في ميدان من ميادين الحياة، فكثيرًا ما يجني العامل ثمرة سعيه بعد حرمان، وكثيرًا ما يضيع تراث العاجز الذي جاءه رخيًّا سخيًّا بغير عناء.
- وثالثًا: إن الخير المكتسب أنفع لصاحبه وأمته له من الخير الموهوب، وإن الحظوظ التي تورث لا تساوي الحظوظ التي يستحقها المرء بسعيه، ويتدرب على تحصيلها باستخدام حيلته وحوله، ولو أننا وزنا ألف جنيه يرثها الغافل الساهي من أبويه، وألف جنيه يستحقها العامل اليقظان برأيه وتدبيره لما كان من الإنصاف أن نسوي بين الصفقتين في القيمة الحيوية أو القيمة النفسية، ولكنهما سواء في حساب المصارف والأرقام.
- ورابعًا: إن تفاوت الفرص امتحان صادق لكفاءة المجتمعات الإنسانية، بل هو امتحان لفضيلة الإنسان التي امتاز بها على جميع الأحياء، وهي قدرته على تنقيح الأوضاع الطبيعية، وعلاج الأمور بالتفكير والتدبير ووحي الخلق والضمير.
فإذا ولد الأفراد متفاوتين في القسم والجدود لم ينته بذلك كل شيء في مقادير البشر وموازين الحياة، بل تبدأ هنالك فضائل المجتمعات المهذبة، وتجارب العقول البشرية، وينصب الميزان للمجتمع الصالح، فتكون قدرته على التسوية بين الفرص مقياسًا لصلاحه، وارتقائه على غيره من المجتمعات.
وللحكم على حالة موجودة ينبغي أن نعكسها، ونتخيل الحالة التي تناقضها، ثم نوازن بين الحالتين لنخلص من الموازنة إلى الرأي الصواب في النقد والتماس التغيير.
فلنوازن بين حياة فيها الفوارق الكبيرة والصغيرة، ونحن نعالجها بجهود الأفراد والجماعات، وبين حياة خلت من جميع الفوارق، ولا حاجة فيها إلى جهد من الفرد أو جهد من الجماعة.
نوازن بين هاتين الحياتين وننظر بعدها أي الحياتين أشبه بمعنى الحياة، وأيها أشبه بالآلة الصماء.
وأحسب أن الجواب المجمع عليه غير مجهول، وأننا لا نتمنى أن يصبح الناس كلهم على مثال واحد، كتماثل القوالب والمصنوعات، ولا نتمنى أن يتفاضلوا بغير عمل من الفضلاء يصححون به من دنياهم ما يحتاج إلى التصحيح.
هل الحياة لوترية؟
كلا، ليست الحياة لوترية وليست اللوترية نفسها لوترية إذا فهمنا من هذه الكلمة أنها مصادفات خالية من الأسباب.
وإنما الحياة أسباب نعرف بعضها ونجهل بعضها، والذي نعرفه من تلك الأسباب يخضع لنا تارة، ونخضع له تارة أخرى.
وعلينا — إذا أردنا أن نحقق معنى الحياة في أنفسنا — أن نعالج ما نستطيع، ولو كان قصارى الأمر أن نعلم في نهاية العلاج أننا لا نستطيع.
فهذه هي الحياة.
وهي على ما يتبقى فيها من العيوب بعد كل علاج ومحال خير من القسمة التي يطاف بها على الأحياء كما يطاف على نزلاء الملاجئ بجراياتهم المكتوبة في البطاقات.
فمن اختار هذه، فالحياة عنده حسبة آلية لا خير فيها، ولا شر ولا طعم لها ولا مذاق.
ومن اختار تلك، فالحياة عنده حياة.