المقترحون والمؤلفون
بين جمهرة القراء في اللغة العربية طائفة لا ترضى عن شيء، ولا تكف عن اقتراح، ولا تزال تحسب أنها تفرض الواجبات على الكتاب والمؤلفين، وليس عليها واجب تفرضه على نفسها.
إن كتبت في السياسة قالوا: ولم لا تكتب في الأدب؟
وإن كتبت في الأدب قالوا: ولم لا تكتب في القصة؟
وإن كتبت في القصة قالوا: ولم لا تكتب للمسرح أو للصور المتحركة؟
وإن كتبت للمسرح والصور المتحركة قالوا: ولم لا تحيي لنا تاريخنا القديم، ونحن في حاجة إلى إحياء ذلك التراث؟
وإن أحييت ذلك التراث قالوا: دعنا بالله من هذا وانظر إلى تاريخنا الحديث، فنحن أحق الناس بالكتابة فيه.
وإن جمعت هذه الأغراض كلها قالوا لك: والقطن؟ وشئون القرض الجديد؟ ومسائل العمال، ورءوس الأموال؟ وكل شيء إلا الذي تكتب لهم فيه.
وقد شبهت هذه الطائفة مرة بالطفل المدلل الممعود: يطلب كل طعام إلا الذي على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض.
إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن قدمت له صنفًا من الحلوى رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه الأصناف تركها جميعًا، وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر المبذول.
سر هذا الاشتهاء السقيم في هذه الطائفة من القراء معروف، سره أن الجمهور في بلادنا العربية لم «يتشكل» بعد على النحو الذي تشكلت به الجماهير القارئة في البلاد الأوروبية، وإنما نعد الجمهور القارئ متشكلًا إذا وجدت فيه طائفة مستقلة لكل نوع من أنواع القراءة، وإن ندر ولم يتجاوز المشغولون به المئات.
وسنسمع المقترحات التي لا نهاية لها، ولا نزال نسمعها كثيرًا حتى يتم لنا «التشكيل» المنشود، وهو غير بعيد.
ولسنا لهذا نستغربها كلما سمعناها من حين إلى حين؛ لأنها مفهومة على الوجه الذي قدمناه.
ولكن الذي لا نفهمه أن نتلقى تلك المقترحات من كاتب نابه يعرف حاجة الأمة العربية إلى كل نوع من أنواع القراءة، ولا سيما تاريخها القديم مكتوبًا على النمط الحديث.
… حسن جدًّا هذا السابق وقد أجدتما الجري في ميدانه، ولكن هل نسيتما أن أبا بكر وعمر كتب عنهما مائتا كتاب؟ وأن في عصرنا الحاضر موضوعات قومية ووطنية وتاريخية ومالية واجتماعية تستحق منكما نظرة، ومن قلميكما التفاتة؟ وأن أكثر طلابنا لا يعرفون عن تاريخ بلادهم الحديث حرفًا، وأن صدر الإسلام بحمد الله قد وفاه أئمته وأدباؤه وشعراؤه من العرب حقه، فلم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وفوها وشرحوها وفصلوها، وبقي تاريخ مصر الحديث والقديم بغير بحث ولا تحليل؟
غريب هذا الرأي من «المسئولين» كما نسميهم في لغة السياسة، وإن لم يكن غريبًا من غير المسئولين.
وتتم غرابته لأنه يجمع من الأخطاء في بضعة أسطر ما يندر أن يجتمع منها في صفحات.
فبالأمس سمعنا دعوة إلى انفراد كل جنس بالكتابة عن جنسه، فلا يكتب عن المرأة إلا المرأة، ولا عن الرجل إلا الرجل، ولا يسمح للرجال أن يكتبوا عن الحوادث التي تدور وقائعها بين الرجال والنساء.
واليوم نسمع دعوة أخرى إلى انفراد كل جيل بالكتابة عن جيله الذي يعيش فيه، ولا يتعداه إلى جيل آخر، فلا يسمح لنا نحن أبناء العصر الحاضر أن نكتب عن شيء يتجاوز القرن التاسع عشر راجعًا، أو القرن العشرين متقدمًا إلى الأمام.
رأي غريب لو صحت مقدماته وأسبابه. وإنه لأمعن في الغرابة حين نرجع إلى المقدمات والأسباب، فلا نرى مقدمة منها أو سببًا يقوم على ركن صحيح.
إذ ليس بصحيح أن أبا بكر وعمر قد كتب عنهما مائتا كتاب إلى الآن؛ لأن الذي كتب عنهما إنما كتب عن الحوادث والأخبار في عصرهما، وهو مع ذلك لا يزيد على أصابع اليدين.
أما «الصور النفسية» التي تصوِّر لنا كلًّا منهما على حقيقته الإنسانية، فلم توصف قط قبل هذا الجيل، ومتى وصفت صورة نفسية عن إنسان في زمن من الأزمان، فهي صورة عصرية تهم الإنسان حيث كان من أول الزمان إلى آخر الزمان.
بل الواجب المفروض على كل أمة تنبعث إلى الحياة أن تجدد فهم تاريخها، وتعقد الصلات الوثيقة ما بينه وبينها، ولا تقتصر على فهمه كما كانوا يفهمونه قبل مئات السنين.
وعلى أنه لو صح أن المصنفات التي كتبت عن عظماء التاريخ العربي فيها الكفاية، التي تغني عن المزيد من التصنيف والتصوير، فليس في ذلك حجة تتجه إلينا وتسوغ الملامة علينا.
لأننا لم نترك جيلنا الحاضر معرضين عن أبطاله وزعمائه وأصحاب الأثر في حياته القومية والوطنية؛ بل كتبنا عن «سعد زغلول» مجلدًا ضخمًا يساير الحركة الوطنية من الثورة العرابية إلى اليوم الذي تمت كتابته فيه، وساهمنا بحصتنا في هذا الباب إن كانت هناك حصة مفروضة على كل كاتب في موضوع من الموضوعات.
•••
ولكننا في الواقع لا نعتقد أن هناك واجبًا مفروضًا على الكاتب غير الإجادة في موضوعه الذي يتناوله كائنًا ما كان.
وليس هناك موضوع يكتب كتابة حسنة، ثم لا يستحق أن يقرأ، ولا يفيد إذا قرئ قراءةً حسنةً.
فالبطل القديم الذي يدرس على الوجه الصحيح هو موضوع جديد في كل عصر من العصور.
والبطل الحديث الذي يساء درسه خسارة على القارئ والكاتب والبطل المكتوب عنه؛ لأن العبرة بتناول الموضوع لا بالموضوع، والعبرة بأسلوب العصر الذي تتوخاه وليست بالسنة التي يدور عليها الكلام.
فالكتابة عن سنة ١٩٤٣ بأسلوب عتيق هي موضوع عتيق، والكتابة عن آدم وحواء بأحدث الأساليب العلمية أو النقدية هي موضوع الساعة الذي لا يبلى.
وأولى من الاقتراح على الكتاب أن نقترح على القراء أن يقرءوا كل ما ينفعهم كيفما اختلفت موضوعاته، لا أن نشجع «الولد المدلل الممعود» على رفض كل ما على المائدة، وطلب كل ما عداه.
•••
وقد قال الكاتب النابه في ختام كلمته: «سلوا الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي كيف راجت كتبه أدبيًّا ومعنويًّا وماديًّا، وكيف انتفع بها النشء الحديث في دنيا تأليف مصرية صميمة كلها قحط وجدب وإملاق.»
وقد يفهم القارئ من هذا أننا نغري بالرواج للكتابة في الموضوعات التي اختارها الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك.
ولا شك عندنا في أن الرافعي بك لم يكتب في هذه الموضوعات لرواجها، ولكنه كتب فيها لأنها تروقه ويحسنها، ومهما يكن من رواج الكتب في مصر، فإن المحامي الذي يبلغ في عالم المحاماة مكانة الرافعي بك يكسب من قضاياه أضعاف ما يكسبه من كتبه، ولا يحتاج في دراسة مائة قضية إلى الوقت الذي يشغله بمراجعة المصادر التاريخية لكتاب واحد.
وكذلك نحن لم نؤلف «عبقرية محمد» لرواجه؛ لأننا طبعنا منه في الطبعة الأولى أقل مما طبعناه من كتب أخرى ألفناها، ولم يكن في وسعنا بداهة أن نعدل عن تأليفه إذا لم تنفد الطبعة الأولى بعد أسابيع معدودة!
وإننا لنعرف موضوعات شتى يقبل عليها عشرات الألوف من القراء، وتستغني عن الإعلانات والترويج.
فرواية من الروايات المكشوفة تترجم أو تؤلف قد تطبع منها عشرات الألوف، وقد تباع للصور المتحركة، وقد تستهوي من القراء والقارئات من ليس يستهويهم تاريخ أمة أو سيرة عظيم …
وهذه الروايات أسهل في تأليفها أو ترجمتها من الكتب، التي تراجع من أجلها المصادر الكثيرة بين عربية وأوروبية، ولا تخلو من عنت في التمحيص والتحضير.
ولكننا نعدل عنها إلى الموضوعات التي هي أصعب منها، وأقل رواجًا بين قرائنا.
بل نعدل عنها ونحن نعلم أن المدجلين بالروايات المكشوفة يسوقونها مساق الفتوح العصرية، والجرأة الفكرية، ويعدونها من دلائل النزعة الحديثة والنهضة المقبلة، والتحرر من التراث العتيق، والطلاقة من القيود، وإننا لا نسلم من اتهام هؤلاء الأدعياء لنا بالجمود أو مصانعة الجامدين إذ نكتب في سيرة الصديق والفاروق.
فلو كان الرواج مغريًا لنا لكانت الكتابة في هذه الأغراض المقبولة أولى وأجدى.
ولو كان الرواج مغريًا لنا لما حاربنا المذاهب التي وراءها دول ضخام تكافئ من يدعو إليها ويبشر بأناجيلها. ولا نظن أن الكاتب النابه ينكر علينا أن تلك الدول تعرف قيم الأقلام التي تستخدمها في دعوتها، وتحب أن تستخدم منها ما ينفعها.
فنحن نكتب ما نريده ولا يعنينا أن يروج أو لا يروج، وواجبنا الذي نلتزمه في الكتابة — ولا نعرف واجبًا غيره — هو أن نعنى بالموضوع الذي نتصدى له، ونحس القدرة عليه.
ولسنا نقترح على الكاتب النابه أن يعدل عن اقتراحه إذا كان مؤمنًا بصوابه؛ ولكننا نقول: إننا لو عملنا به لما عدمنا مقترحًا آخر يقول: ما هذه الحوادث اليومية التي تخوضون فيها، وقد رأيناها أو سمعنا من رآها؟ دعوا هذا واكتبوا لنا شيئًا من عجائب المجهول …
ويومئذ لا تكون حجته أضعف من حجة الكاتب النابه صاحب الاقتراح.