لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا
لم نخدع أنفسنا حتى خدعنا الأوروبيون عنها فانخدعنا!
ثم صدقنا أننا أهل عاطفة ولسنا أهل عقل، وأننا أهل خيال ولسنا أهل حس، وأننا أهل روح ولسنا أهل مادة، وأننا لذلك مخفقون.
وأنا مع الذين يقولون: إننا لسنا أهل عقل ولا أهل حس ولا أهل مادة، ولكني لست ممن يقولون: إن هذه «الليسية» توجب لنا نقيضها وتعطينا ما يقابلها، فنصبح أغنياء في الروح لمجرد أننا فقراء في المادة، ونصبح نفاذين في الخيال لمجرد أننا محجوبون عن الحس، ونصبح و«العاطفة» فياضة من نفوسنا لمجرد أننا مستريحون من العقل، أو واقفون منه عند ينبوع جديب.
فجائز جدًّا أننا لا عاطفيون ولا عقليون، ولا روحيون ولا ماديون، ولا خياليون ولا حسيون؛ وأننا على نصيب نزر من جميع هذه الصفات، فلا تستلزم القلة في إحداها كثرة في نقيضها؛ لأن الصفات الإنسانية لا تمشي عدلين عدلين متلازمين يعلو أحدهما حيث يهبط الآخر ضربة لازب، بل قد ينعدم العدلان والبعير معهما في كثير من الأحيان …!
•••
واليقين عندي أننا منذ زمن طويل فقراء في العاطفة محتاجون إليها أشد من حاجتنا إلى العقل والعلم والحكمة وسائر مشتقاتها.
وكان هذا رأيي يوم ناقشني فيه فقيد العراق الأكبر جميل صدقي الزهاوي المصلح الحكيم، وكان — رحمه الله — يسألني: بماذا عبر لندنبرج المحيط الأطلسي: أبالعقل أم بالعاطفة؟ فأجيبه: «بالعاطفة» … فإن العاطفة لا العقل هي التي أركبته الطيارة بعد أن فرغ العقل من تركيبها في المصنع، وتركها حديدًا لا تتحرك ولا تأتي بالفلق إلا أن تقدم بها عاطفة مجازفة لا تبالي العقل، ولا تحفل بالسلامة.
والذي كان يسمعه — رحمه الله — يقسم حسبة الطيارة إلى كومين: كوم العاطفة وكوم العقل، يخيل إليه أننا — نحن الشرقيين — قد ظفرنا منها بكل ما فيها من عاطفة وهمة وطموح ومغامرة واستطلاع، ولم يبق منها للغربيين غير حفنة من مسامير ومطارق وأرقام، هي التي يرتع فيها العقل ما يشاء!
•••
والآفة كلها من أوروبة نفسها.
فقبل اتصال أوروبة بالشرق لم يقل أحد من الشرقيين: إن الشرقيين أهل أحلام وخيالات، وإنهم من رجال العاطفة وغيرهم من رجال العقل والواقع.
ولكن الأوروبيين وصفونا هذه الصفة فاغتررنا بها ومضينا فيها، ولا سند لها على الأرجح أقوى من ألف ليلة وليلة وما جرى مجراها من القصص والنوادر، وهي كما نعلم ليست «بالخيال» في أي سمة من سماته، ولكنها «واقع» مع إيقاف التنفيذ كما يقولون في لغة القانون! أو هي أحلام الجائع في سوق الطعام، لا فرق بينها وبين الواقع إلا أن الجائع يستطيع الأكل فعلًا، وهو عاجز عن الأكل؛ لأن الأكل غير موجود!
فالخيال المزعوم عند الشرقيين هو «واقع ناقص» لا يحسب له فضل الواقع، ولا يحسب له فضل الخيال.
ولو كان خيالًا حقًّا لكان ابتكارًا وخلقًا وسعيًّا إلى عالم جديد، ولم يكن واقعًا في كل شيء إلا في أنه غير موجود.
فنحن واقعيون مفرطون في الواقعية.
وكل الفرق بيننا وبين الأوروبيين أن الأوروبيين واقعيون يجدون المائدة التي يأكلونها، ولكننا نحن واقعيون نمضغ مائدة من الهواء … ومن الخطأ جد الخطأ أن نسمَّى من أجل ذلك خياليين أو حالمين.
أخياليون وحالمون لأننا نعيش في عالم ألف ليلة وليلة؟ فما عالم ألف ليلة وليلة إذن؟ عالم قصور وموائد وكنوز وفتيات حسان … عالم واقع ملموس تراه العيون وتذوقه الأفواه إلا أنه لا ينال، وليس هذا هو الخيال.
بل الخيال هو فكرة يبيع الإنسان في سبيلها متاع الدنيا وكنوز الأرض وبهرج الحياة.
أو هو مثل أعلى لا تعرفه شهرزاد، ولا يتبعه صائغ البصرة، ولا تراه في ديوان من دواوين تلك القصص التي هي وسوق الرقيق سيان.
وبودنا ألف ود لو يعظم نصيب الشرق من هذا الخيال.
•••
وقريب من هذا اعتقادنا أننا — نحن المشارقة — أهل السماحة والبر؛ لأننا لا نصول ولا نجول، أو لا نصنع اليوم السلاح الذي نصول به ونجول!
فماذا يوم كنا نصنعه، أو يوم كان سلاحنا الذي نصل إليه كفيلًا بالنصر على أعدائنا وعلى العزل المستضعفين من جيراننا؟
كنا نتغنى بالسيف كما لم تتغنَّ أمة قط بسلاح، وكنا نعيب «رذيلة» السلم كما يعيبون اليوم رذيلة الكفاح.
ولعل الأموال التي بذلت في الخير بين الغربيين لا تقل عن الأموال التي بذلت فيه بين الشرقيين، ولعل جهودهم فيه لا تقل عن جهودنا، وثمرات أعمالهم فيه لا تقل عن ثمرات أعمالنا، وعلامات البر في عصرنا الحديث لا تقل عن علاماته في سائر العصور.
فالإنسان إنسان حيث كان.
ذلك أصدق ميزان للخلائق الإنسانية في كل أمة وفي كل أوان.
•••
وأحرى بنا فيما نعتقد أن ننجو بعقولنا من أحلام الأوروبيين التي أفرغوها علينا لا من أحلامنا نحن، فليست لنا بحمد الله أحلام من القوة بحيث تتقاضانا النجاة منها.
إن أناسًا من هؤلاء الأوروبيين أفزعتهم بلادهم في القرن الثاني عشر وما بعده، فحلموا بالشرق كما يحلم آكل الأفيون بما يراه في غيبوبة الخدر والجمود، ونحلوه صفات ليست منه وليس منها، فأعجب الشرقيون بما كتبوه.
أو أن أولئك الكتاب الأوروبيين قد تخيلوا أبطالهم من الشرقيين، كما نتخيل الأبطال الذين ننحلهم في الروايات شمائل نتمنى أن نراها في عالم الحس فيعيينا طلابها.
أما الواقع فلا.
الواقع أننا — نحن الشرقيين — لسنا عاطفيين ولسنا مأخوذين بالروح، ولا مفتقرين إلى من يسوق لنا المواعظ بالإقبال على المادة والانصراف كما يقولون عن الخيال، ونحن أفرح من طفل بالدرهم وأعجز من طفل عن كسبه في سوق الابتكار.
أنحن أهل خيال؟
سمع الله منكم أيها القوم!
لقد عشنا عصرنا الحديث نضرب المثل «بالجرسون» الرومي في الحرص على المليمات، ولو رأينا معاهده في بلاده وفي بلادنا لعرفنا من صاحب الحرص، ومن صاحب الأريحية وإن اختلفت العوارض والأشكال.
وربما ألقينا بقطعة اللحم من الفم لنزدرد قطعة اللحم التي في الماء …!
أخيال هذا؟
كلا! ولا النُّحاس الذي يستحيل ذهبًا ولا الصفقة التي يدركها الصعود في سوق القطن، فتفتح الكنز كله بعد يوم.
ما في شيء من هذا خيال وإنما هو كله واقع العاجزين.
•••
وبعد فنحن في عصر اضطراب الثقافات وارتجاج الأخلاق والمزايا لا جرم يخطر لنا أن ننظر فيما يصلح وفيما لا يصلح، وفيما تعز به النفوس وفيما تهون، وأن نسأل أنفسنا ماذا نأخذ وماذا ندع مما يتمخض عنه عراك الأمم والدولات.
فلنكن على يقين — سواء كنا من طلاب الحرية أو طلاب القوة — أن النخوة مطلب لا غنى عنه في الحالتين وأننا محتاجون إليه، وأن الخيال عدة لا محيص عنها في المعسكرين، وأننا — نحن الشرقيين — عُزَّل منها، وأن أمة من الأمم لن تصاب في سلمها ولا في حربها بمصاب هو أفدح عليها وأقبح بها من مصاب الانحصار في واقعها؛ لأن الانحصار في الواقع خلة حيوانية وليس بخلة إنسانية، وكلما ضاق أفق النفس عز عليها أن تخرج من الواقع القريب إذا أرادت الخروج منه، ولا مناص لها أن تريد ذلك في بعض حالاتها.
تريد ذلك لتعلو على أثرتها؛ ولتعلو على ضنكها؛ ولتعلو على حاضرها في انتظار مستقبلها أو مستقبل بني قومها، وتريده لتشعر بأن الواقع الذي هي فيه دون الواقع الذي تبغيه.
وهذا هو الخيال الذي يرتفع بالنفس عن واقعها.
أما الخيال الذي هو ظل اللحم في الماء فذلك هو الواقع مشوبًا بالعجز والغفلة.
وأما «الواقعية» التي يقولون: إنهم ينقذون الشرق بها، ويردون الشرق من أحلامه إليها فحذارِ حذارِ منها … هي داء الشرقيين أجمعين، وإنهم لأئمة الواقعيين بين العالمين.